|
الصدفة وحدها هي التي قادت النجم الهندي (أمير خان) إلى التنحي قليلاً
عن دوره كممثل كي يخرج فيلمه الأول(Taare Zameen Par/
نجومٌ على الأرض) من إنتاج عام 2007, فقد بدأه (Amole
Gupte) عن سيناريو كتبه بالتعاون مع زوجته(Deepa
Bhatia), ولكن المنتج/الممثل لم تُعجبه نتائج المشاهد الأولى التي تمّ
تصويرها, فلم ينتظر طويلاً كي يحسم الأمر, ويقف خلف الكاميرا لتوقيع أول
أفلامه كمُخرج.
مغامرةٌ سينمائيةٌ حقيقية محفوفة بالمخاطر المادية, والمعنوية,
تحمّلها النجم لوحده, ولم تخذله تجربته الثرية كممثلٍ, وموهبته الفطرية
كمخرج, وتخطت النتيجة كلّ التوقعات بفيلمٍ عاديّ يُضاف إلى الكمّ الهائل
للإنتاج السينمائي الهندي, بل كان فيلماً استثنائياً حصد نجاحاً جماهيرياً,
ونقدياً, وحصل على جوائز محلية مُعادلة للأوسكار الأمريكية, والسيزار
الفرنسية .
وأكثر من ذلك, رشحته السلطات السينمائية الهندية ليُمثل الهند رسمياً
في جوائز الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
الصبي إيشان (Darsheel Safary)
في الثامنة من عمره, يعيش عوالم مُتخيلة, أحلام يقظة, ويُجسدها المخرج
بطريقةٍ جميلة, مبتكرة, وجديدة تماماً على السينما الهندية, وفيها ينظر
إيشان إلى الأسماك الصغيرة التي جمعها في الزجاجة, ويستغرق في خيالاته التي
تتحول إلى رسوم متحركة...
عندما تطلب منه المُعلمة الصارمة قراءة سطراً من كتابٍ مدرسيّ,
يتلعثم, ويرتبك, ولكنه يردّ بدهشة:
ـ الأحرف ترقص يا آنسة...
تغضب المُعلمة, وتطرده من الصف, وربما يفضل إيشان هذه العقوبة عن حبسه
داخل حجرة, يخرج من المدرسة, تُصاحبه أغنيةٌ جميلة, يستمتع برحلته اليومية,
ويتأمل كلّ التفاصيل المُلونة حوله, عاملٌ يصعد إلى بناية قيّد البناء,
أخرٌ يروي عطشه, صبيّ يأكل البوظة المحلية, يحمله والده على كتفيه, طفلٌ
نائم, آخرون يلعبون, كلبٌ يتثاءب...
وفي نهاية الأغنية, نكتشف بأنه كان نائماً في الحافلة, ينتظر خروج
رفاقه من المدرسة,
معلمته التي تشتكي منه دائماً تتحدث مع عائلته :
ـ تبدو كتابته باللغة الإنكليزية, وكأنها روسية.
يقرر الوالدان تسجيله في مدرسةٍ داخلية .
يقف إيشان أمام بوابة المدرسة يبكي, ومع مغادرة سيارة العائلة, تنطلق
موسيقى خفيفة, تكاد تختلط بالمُؤثرات, وتبدأ أغنيةُ من خارج الكادر, تتكون
من تتابعات حركات كاميرا "ترافلينغ" والعائلة داخل السيارة, " الأم, والأب,
والأخ الأكبر" في لقطة واحدة يُخيم عليهم الصمت.
مرةً أخرى, يضربه أحد المعلمين على أصابعه, يتوجع إيشان, وتعبر الصورة
عن احتقانه, وألمه, تتداخل الحروف في مخيلته, وتتحول إلى عناكب, الموسيقى
صاخبة بطابع غربي, أظافره تحفر سطح السبورة, انتقاماً, أو تحطيماً للحروف,
ويتحول حرف
S
إلى أفعى.
بعد ساعة, وعشر دقائق, يظهر(أمير خان) في دور المعلم"رام شانكار
نيكوم", مُختلفٌ إلى حدّ بعيدٍ عن زملائه, يدخل حجرة الدرس مرتدياً ملابس
مهرج, وحالما يستدير نحو الكاميرا, ويطلب من التلاميذ الصمت, يتوقف الفيلم"
استراحةُ مُعتادة في الأفلام الهندية" عند لقطة كبيرة لصورته تشبه كثيراً
الفنان " سلفادور دالي", وتعكس شخصيته السوريالية.
يدخل "أمير خان" قلوب الأطفال بطرافة, وسلاسة, ونعومة, وبالموسيقى,
والغناء يثير البهجة, والفرح, والضحكات.
ويغني لهم أغنية ربما كانت الأكثر شعبية, وانتشاراً, واستقبالاً
مدهشاً عند الأطفال فترة عرض الفيلم في الهند.
منذ الدرس الأول, يطلب منهم بأن يرسموا ما يشاءون,...
يقدم المعلم "أمير خان" جانباً إنسانياً فريداً, يحاول الاقتراب من
الأطفال, وخاصة إيشان الذي يثيره صمته, وانطوائه, وتقوقعه على نفسه, يحاول
فهم عالمه الداخلي, ويلتقي بوالديه ليشرح لهما حالته الفريدة, إنه بعاني من
مرض عسر قراءة الحروف, وفهمها.
يقدم المعلم أمثلة عن عباقرة, كانوا يعانون في طفولتهم من مشاكل
مماثلة, مثل :
ألبرت أينشتاين, ليوناردو دافنشي, توماس أديسون, بابلو بيكاسو, والت
ديزني, آجاتا كريستي, وحتى أبيشيك باشان ابن الممثل الهندي أميتاب
باشان....
وفي لقاءٍ منفردٍ مع الصبي "إيشان" يعترف له بأنه لم يذكر واحداً آخر
اسمه "رام شانكار نيكوم", ـ ويقصد نفسه ـ كان يعاني من نفس المشكلة .
أخيراً, وفي ورشةٍ وسط الطبيعة, يصنع (ايشان) قارباً من الأشياء التي
كان يجمعها, وفي
مسابقة للرسم, يتحول المعلمون أنفسهم إلى أطفال, ويشاركوهم الرسم.
يفوز "إيشان", ويصعد إلى المنصة مندهشاً, ومنبهراً, ويرتمي بين ذراعيّ
المُعلم, وهو يبكي من الفرحة هذه المرة.
تترافق العناوين النهائية للفيلم بلقطاتٍ تسجيلية في أحياء فقيرة تظهر
مجموعة من الأطفال يعيشون حياتهم اليومية.
ما الذي يجعل هذا الفيلم مختلفاً, ومُغايراً ؟
اعتمد الفيلم على فكرةٍ إنسانية, أصيلة, ونادرة تجسّدت من خلال قصة لم
تقربها السينما الهندية من قبل, ومعالجة سينمائية حاذقة, وابتعد السيناريو,
والإخراج عن كلّ المُشهيات الدرامية التقليدية, ولم يسقط في مصيدة
الميلودراما المُفجعة, وسلك دروباً مختلفة عن السائد في الأفلام الهندية
الجماهيرية.
اختطف (أمير خان) الجمهور بذكاءٍ, ونبل, فكان تواجده في الفيلم كافياً
لجذب الملايين من المُعجبين, وبعد الدقائق الأولى, نسيّ الجمهور ممثلهم
النجم, وتعاطف كلياً مع(Darsheel Safary)
وأدائه المُبهر, والمُختلف, وتجسيده الخارق لشخصية الطفل إيشان, ومحنته,
لقد دخل قلوب الصغار, والكبار, فحصل بجدارةٍ على جوائز عديدة .
تجنبت الأحداث أيّ قصة حبّ تقليدية, ودخيلة, كي لا تُبعد المتفرج عن
الجوهريّ في الأحداث, وكان الطفل(إيشان) بطلاً حقيقياً للفيلم, جسد دوره
بإتقانٍ مبهر بعيداً عن الأشكال النمطية التي عودتنا عليها السينما
الهندية, وتعاطف المتفرج معه إلى أقصى حدٍ جعلنا ننسى (أمير خان) نفسه, حتى
ظهر بعد 70 دقيقة تقريباً من مجموع 165 دقيقة هي المدة الزمنية للفيلم.
احتفظ الفيلم بالأغاني, أهم العناصر الجاذبة للمتفرج, وتضمّن 7
أغنيات, وتخيرت الصياغة السينمائية تجسيدها عن طريق شريط الصوت فقط متضافرة
مع الموسيقى التصويرية.
لم يلجأ شريط الصوت إلى موسيقى مُصاحبة تطغى على أيّ مؤثراتٍ صوتية
مضافة في الفيلم, وتستخدم عادةً لجذب الانتباه, أو إثارة الحزن, الفرح, أو
الضحك.
وامتلكت كلمات الأغاني وظيفة درامية, وتعبيرية جوهرية تربط بين
الأحداث, تعلق عليها, وتستخلص نتائجها.
ابتعدت الأغاني عن الديكورات المُبهرة, والجغرافيا السينمائية
المُتخيلة, وكانت تصاحب مشاهد من الحياة اليومية المألوفة للمتفرج(ترافقت
الأغنية الأولى مع مشاهد الأم, وهي تحضر طعام الإفطار لزوجها أولاً, ثم
ابنها الأكبر يوهان, ثم إيشان الأصغر, وأخرى صاحبت احتفال أطفال من ذويّ
الاحتياجات الخاصة,...).
ظهرت موهبة المخرج(أمير خان) بصياغة سينمائية مزجت بعفويةٍ ما بين
الأحداث المروية, أحلام اليقظة المُتجسدة عن طريق مشاهد التحريك, ولقطاتٍ
تسجيلية للحياة اليومية في الشوارع.
تجسدت عفوية مدهشة في تصوير الأطفال, وكأننا نشاهد فيلماً تسجيلياً
يخلو من التمثيل, والممثلين.
اقتربت الأحداث من الواقع المُعاش, وابتعدت عن القصص
الخيالية/المُتخيلة والتي يعرف المتفرج مسبقاً بأنها لا تمت للواقع بصلة.
أنجز (أمير خان) فيلمه بميزانيةٍ محدودة بالمُقارنة مع الأفلام
الهندية الجماهيرية المُعتمدة على النجوم, وأماكن التصوير الخارجية,
والديكورات المُبهرة, ومشاهد الغناء, والاستعراضات, ....
في سياق حديثه, وتعبيراً عن إعجابه الشديد بالفيلم, كتب أحد نقاد
السينما الهنود :
التقاعس عن مشاهدة (Taare Zameen Par/
نجومٌ على الأرض) خطيئةٌ مدنسة.
هامش :
عُرض الفيلم في الدورة ال16 لمهرجان دمشق
السينمائي الدولي/2008 في قسم (سوق الفيلم الدولي).
الشرق الأوسط في 13
فبراير 2009
|
|