|
فرحتُ كثيراً عندما عثرتُ (بالصدفة, كما الحال في أفلام بوليوود) على نسخةٍ
DVD
لفيلم هنديٍّ بعنوان(Aatma),
من إخراج (Deepak
Ramsay),
وإنتاج عام 2006.
الفيلم مغلفٌ بمُلصقٍ يختلف تماماً عن باقي الأفلام المعروضة أمام أحد
المحلات الهندية المُنتشرة في الدائرة العاشرة من باريس.
في الصورة, وجهٌ نسائيّ تجمّعت أجزاءه بخيوطٍ طبية واضحة, وكأنه وقع فريسة
شبكة صيدٍ شيطانية, وانتفضٌ لتوّه من المشرحة, وعلى الرغم من دموية
الألوان, إلاّ أنّ التحديق فيه بعنايةٍ يجعلنا نشفقُ على تلك المرأة
الغارقة في العتمة, أكثر من خوفنا منها (وهو الأمر الذي سوف نكتشفه فيما
بعد من خلال أحداث الفيلم) .
توقفتُ قليلاً عند هذا الغلاف المُتنافر مع باقي الأشرطة المُصطّفة حوله,
تنتظر بإرهاقٍ زبائنها المُغرمين من الهنود, والعرب, والأفارقة, ....
صورةُ تذكرنا بـ(Cinéma
gore),
وهي نوعيةٌ من أفلام الرعب التي تتخيّر أقصى حالات العنف, وتُحدث عند بعض
المتفرجين حالةً من القرف تصل إلى حدّ الغثيان.
معقول ؟ فيلم رعبٍ هنديّ ؟ ولِمَ لا, وأنا أكتشف مُتأخراً أفلاماً هنديةً
تاريخيةً, أسطوريةً, حربيةً, دينيةً, وجاسوسية,.. بالإضافة لتُراثها الزاخر
بالأفلام الميلودرامية, الاجتماعية, العاطفية, والإنسانية, ... ولكن, أفلام
رعبٍ, وهلعٍ, وأرواح, وأشباح,..هذا ما لم أتوقعه من سينما بوليوود الرقيقة,
الناعمة, الحالمة, العاشقة, والمُنحازة دائماً للخير,....
ولكن, يبدو بأنها تُعاند في منافسة السينما الأمريكية بكلّ أنواعها, وربما,
قريباً, سوف أعثر (بالصدفة أيضاً) على أفلام رعاة بقر, وخيال علميّ, ..قبل
أن أجد فيها أفلاماً تجريبيةً, طليعيةً, تجريديةً, سورياليةً, بنائية,....
ما هو الجديد الذي تطمح بوليوود تحقيقه, خاصةً, وأنّ تاريخ السينما
الأمريكية, والأوروبية, والأسيوية زاخرٌ بهذه النوعية من الأفلام (القائمة
طويلة جداً, بدءاً من
Le Manoir du diableلجورج
ميلييس في عام 1896, وحتى
Diary of the Dead - Chronique des morts vivants
لجورج أ. روميرو عام 2008)؟
وعلى الرغم من كلّ التفاصيل التي شاهدها المتفرج في أفلامٍ سابقة : بيتٌ في
الخلاء, قمرٌ ساطعٌ, أشياء تتحرك لوحدها, صحونٌ تتكسر, نومٌ مضطرب, ساعة
حائط, إضاءةٌ متقطعة, موسيقى حادة, أصواتٌ متحشرجة,.. والمرجعيات الفيلمية
الواضحة : قصةً, ومعالجةً, وشخصيات, ..والحصيلة النوعية المقبولة, درامياً,
وسينمائياً, ... يبقى الفيلم مثيراً للاهتمام, ويمتلكُ (مذاقاً هندياً),
تختلط فيه الحلاوة, بالمرارة من خلال تبادل الفيلم بين مشاهد الإثارة
الحسيّة, والرعب, وتضاعف لذة التلصصّ .
وكما يتسامح المتفرج المُغرم بالسينما الهندية مع مُبالغاتها, فإنه سوف
يشاهد (Aatma)
فضولاً, ويتابع أحداثه مبتسماُ, وفي مشاهده الساخنة, سوف ينسى بأنه يشاهد
فيلم رعب, على العكس تماماً, سوف تنتفض رغباته المكبوتة, وهو يُحدّق ملياً
في الصور, ليتمكن من حفرها في ذاكرته, واستعادتها في أحلامه, بدون الخوف من
صرخات روح(Avinash)
المُعذبة .
الموتُ يتجوّل في منتصف الليل
في الجانب الأيسر من المُلصق, كلماتٌ بالإنكليزية تُلخص الفيلم (وهي تنطبق
على أيّ فيلم رعب) : الموتُ يتجوّل في منتصف الليل .
وقبل أن يحدث ذلك, يتمهل السيناريو كثيراً ليقدم شخصياته على طريقته
الخاصة, مُشهياتٍ بوليوودية بانتظار الهلع, والأشباح, والدماء.
البداية طريفةٌ للغاية, اللصوص في كلّ مكان, حتى عند بائع الحلوى, حيث
تشتري الممرضة(آرتي) قالباً بمناسبة العيد الأول لزواج أختها(نيها) زوجة
الطبيب الشرعيّ(آمان).
وبعدها, لن نعرف بالضبط أيهما أثار لُعاب اللصوص, محفظتها العامرة بالنقود,
أم فستانها القصير جداً ؟
وما أن تخرج من المحل, حتى يتلقفها الأشرار, يطمحون بالنقود, والقليل مما
تُخبئه تحت فستانها, هكذا فهمت, وإلاّ لما أجبرها أحدهم على الاستدارة
منحنيةً نحو باب سيارتها (كما يفعل رجال الشرطة عندما يرغبون تفتيش أحد
المُشتبهين) .
من لا مكان, يظهر شابٌ جميلٌ, وشهمٌ ليُخلصها, يقاتل الأشقياء بمهارةٍ
فائقة, ويضربهم على وجوههم, ومؤخراتهم واحداً بعد الآخر, ولن ننتظر طويلاً
كي نفهم بأنه (سيدارت), ضابط الشرطة, وحبيب (آرتي) .
في بوليوود, تختلطُ الأفلام ببعضها, وغالباً ما يتخيل المتفرج بأنه شاهد
هذا المشهد, أو ذاك في فيلمٍ آخر : فتاةٌ حلوة, أشرارٌ, لصوصٌ, بطلٌ,
معركةٌ, وبداية قصة حبّ...
على أيّ حال, لقد كان مشهد السرقة, ومحاولة الاغتصاب, والعراك,... بهدف
إثارة شهية المتفرج قبل أن يغوص في العتمة, وتظهر الأرواح, وتلمع السكاكين,
وتنفجر الدماء,. ... ويكون بطلها, وضحيتها الطبيب الشرعيّ آمان(Kapil
Jhaveri),
وزوجته نيها(Neha),
ولكن, قبل ذلك أيضاً, يدعونا السيناريو للتلصصّ على احتفالهما بذكرى العام
الأول لزواجهما.
مشهدٌ/ مفاجأة حقاً, فنحن نعرفُ مُسبقاً بأنّ بوليوود خجولةٌ على الرغم من
وفرة الأجساد العارية فيها.
رسمياً, العلاقات الجنسية ممنوعةٌ في السينما الهندية, ولتجسيدها
سينمائياً, لا يستخدم (Deepak
Ramsay)
استعاراتٍ بلاغية نمطية : إقفال بابٍ, غليان حليب, لهب نار, أو إسدال
ستارة,... كما يحدث عادةً في السينما العربية (المُحتشمة بالمُقارنة مع
السينما الهندية), ولكنه يلجأ إلى إحدى الاستخدامات الجمالية الشائعة,
الأغنية التي تتخفى في كلماتها كلّ الرغبات المُتأججة في جسديّ الزوجيّن,
تختلط بحركاتٍ شبقية راقصة للزوجة (نيها), وتُحدث تأثيراتٍ شهوانية عظيمة,
أكبر بكثيرٍ من لقاءٍ جنسيّ صريح, كما تفعل السينما الأمريكية, والأوروبية.
وحتى تلك اللحظات المُلتهبة من حياة الزوجيّن السعيدين, لا يوجد أيّ إشارة
لمُنغصاتٍ خارجية, وإنما إثارة, وإغراء, وشهوانية.
في الواحدة, وإحدى عشرة دقيقة من بعد منتصف تلك الليلة, بإلحاحٍ, يدق رجلٌ
غريبٌ باب المنزل, ويطلب من الطبيب (آمان) بأن يكون صادقاً في كتابة تقريره
عن الجثة التي سوف يفحصها في المستشفى, ويتوجب عليه التأكيد بموت القتيل
مسموماً, وإلاّ.....
في اليوم التالي, يقطع نزهة الزوجيّن بالقرب من الشاطئ, رجلٌ, وامرأةٌ
حسناء, يُهددا الطبيب, ويطلبا منه الإشارة في تقريره إلى موتٍ طبيعي
للرجل(أفيناش) الجاثمة جثته في المشرحة, وإلاّ أيضاً ..
لم ينتظر أفراد العصابة طويلاً, يخطفون زوجته, ويهددونه بقتلها, يُذعن
الطبيب لرغباتهم, ويقدم تقريراً كاذباً بدون أن يفحص الجثة.
المُفاجأة, يكتشف فيما بعد بأنّ الجثة هي لنفس الرجل الغريب الذي طرق باب
بيته ليلاً, ما هي تفسيرات ما يحدث ؟
في مثل هذه الأفلام, لا يبخل شريط الصوت بالموسيقى الحادّة, والمؤثرات
الصوتية الشبيهة بالرعد, والبرق تمهيداً لمُفاجأةٍ ما, أو لرعبٍ قادم, كما
حال الإضاءة المُتقطعة المُصاحبة لقطاتٍ بعينها.
وكما هو أول فيلم رعبٍ هنديّ أشاهده في حياتي, فهو الأول أيضاً الذي تتجرأ
فيه إحدى شخصياته النسائية على تخطي الخطوط الحمراء تعرّياً .
في مشهد الحلم, نشاهد المُمرضة (آرتي), حبيبة الضابط (سيدارت) غارقةٌ في
نومها, تقترب منها الكاميرا/الروح, وتسحب الغطاء عنها, هي لا ترتدي أكثر من
قميصٍ أحمر يغطي أعلى جسدها, تقترب منها الكاميرا/الروح أكثر, وتفكّ أزار
قميصها.... (كلماتٌ محذوفة رقابياً).
ويبدو بأنّ الرقابة الهندية بدأت تتسامح مع جرعاتٍ زائدة من العريّ, كما
أصبح الجيل الجديد من الممثلات أكثر فخراً بأجسادهنّ, وأقلّ التزاماً
بالعادات, والتقاليد, والأهمّ, تبدل الجمهور, وأصبح يتطلعُ نحو الأفكار
الغربية, وأكثر تطلباً .
لا يتأخر السيناريو كثيراً في الكشف عن اللغز, ومن خلال مشهدٍ
استرجاعيّ(فلاش باك) نفهم بأنّ الأخ الأصغر قتل أخاه الأكبر ليستولي على
ثروته, حدث ذلك في حفلةٍ عامرة بالنساء, والخمرة, دسّ له السمّ في كأسه,
ولفظ (آفيناش) أنفاسه في الساعة الواحدة, و11 دقيقة من بعد منتصف تلك
الليلة, وسوف تتكرر هذه الإشارة الزمنية على طول الأحداث اللاحقة تمهيداً
لسلسلةٍ من جرائم انتقاميةٍ بشعة .
قبل ذلك, كان الأخ الأكبر (آفيناش) في علاقةٍ متواصلة مع الأرواح, وبعد
مقتله بدون ذنب, بقيت روحه هائمةً تهدف العدالة, أو الانتقام (كان بإمكان
روح أفيناش الانتقام من الأخ الأصغر, وأفراد العصابة, بدون الحاجة لخدمات
الطبيب الشرعيّ, وتقريره الحقيقي, أو الكاذب).
بدأ شبح (آفيناش) يظهر بين الحين, والآخر ليُثير الهلع في بيت الطبيب,
والمُستشفى حيث يعمل, وفي كلّ مكان يتواجد فيه أفراد العصابة, وذهب في
انتقامه بعيداً, وسكن جسد الزوجة (نيها).
في الفيلم, تتجاوز جرأة الإيحاءات الجنسية مداها, وبالتحديد في مشهد وصول
الضابط (سيدارت) بدراجته النارية أمام المُستشفى الذي تعمل فيه حبيبته,
تهبط (آرتي) السلالم بملابس قصيرة جداً, وتطلب منه قبلة (لقد تخلّت بطلات
بوليوود عن حيائهنّ), يتدللّ (سيدارت), ويُمانع (كان الدلال, والمُمانعة من
صفات البطلات), وهنا, ينطلق المشهد في اتجاهٍ مغايرٍ عما عرفناه عن الحياء
الهندي, والتقاليد, والانتظار حتى الزواج,..
تمنح (أرتي) حبيبها قبلةً صريحةً, ومُختصرة, وعلى الرغم من فستانها
القصير..جداً, تمتطي الدراجة النارية كحصان, وتجلس أمام حبيبها, وجهاً
لوجه(هل تخيّلتم اللقطة؟), وينطلق بها في شوارع المدينة (لم ألتقٍ بعاشقيّن
مثلهما حتى في أكثر المدن الأوروبية تحرراً) .
والحقيقة, أو الكذب لا فرق, تهدف تلك اللقطات المُثيرة إلى تخفيف أجواء
القلق المُسيطرة على أحداث الفيلم, وتحاول إيجاد توازنٍ ما بين مشاهد
الرعب, والإثارة الحسية.
وهذا أول فيلمٍ هنديّ أشاهد فيه واحدة من شخصياته النسائية (ليلى, إحدى
أفراد العصابة) تستمتعُ بحمامٍ ساخن, وترتدي ملابس سباحة أكثر سخونةً, هي
التي سوف تدفع ثمن جرأتها(وضعت السمّ في كأس أفيناش), وتموت بعد لحظاتٍ قبل
أن تهرب من المدينة, وروح (أفيناش) الباحثة عن الانتقام .
(تفادى المخرج استنساخ مشهد الجريمة تحت الدش من خلف ستارة, كما شاهدناه في
فيلم
Psycho
من إنتاج عام 1960, وإخراج العبقري هيتشكوك).
يموت أفراد العصابة, الواحد بعد الآخر, شيفا, ثمّ ليلى, ...وبالطبع, لا
داعي بأنّ نتوقع مقتل الآخرين, لأنّ روح (آفيناش) الساكنة في جسد زوجة
الطبيب, تُصرح عن نيّتها بوضوح, وهكذا, يفقد السيناريو متعة مفاجأته
اللاحقة, وقدرته التخيليّة, حيث يقتل (آفيناش) ضحاياه بطرقٍ مختلفة, ولكنها
ليست مبتكرة,.....
الحلول المُتوقعة دائماً في أفلام الأرواح, والأشباح, والموتى الأحياء, هي
اللجوء إلى الدين, وهنا, يكفي تهديد شبح (أفيناش) بالإشارة البوذية كي
يرتعد, ويرتجف أكثر من كلّ الخوف الذي عاشته الشخصيات سابقاً, وللتخلص منه
نهائياً, يجب إحراق الجثة كي ترحل الروح مع الجسد, وتستقر هانئةً في
السماوات, وربما لهذا السبب يحرق الهندوس موتاهم,..
لم يتدخل القانون كما كانت ترغب الروح عندما طرق (أفيناش) باب بيت الطبيب
(آمان), وطلب منه الإشارة إلى الجريمة في تقريره, وتخيّر السيناريو حلاً
قدرياً, بانتصار الخير على الشرّ عن طريق الانتقام الفرديّ.
ومهما كانت الوسيلة, فإنّ الأهم بالنسبة للمُتفرج البوليووديّ انتهاء
الفيلم بأحداثٍ سعيدة, وهو ما حدث فعلاً.
تعترف المُمرضة الحلوة (آرتي) لحبيبها ضابط الشرطة(سيدارت) بأنها لم تعدّ
قادرةً على التحمّل (إيحاءاتٌ جنسية واضحة), فيقررا الزواج .
بينما يُكمل الطبيب (آمان), وزوجته (نيها) احتفالهما بالذكرى الأولى
لزواجهما (هل تريدون بأن أسترجع مرةً أخرى تفاصيل ذلك المشهد المثير؟ ).
البحث عن الثراء إذاً هو المُحرك الأساسيّ لأحداث (Aatma),
وهو أول فيلم هنديّ أشاهده يُحطم مقدسات العائلة (يقتل الأخ أخاه للاستيلاء
على ثروته), وواحدٌ من الأفلام الجماهيرية القليلة التي يتقلص فيها عدد
الأغنيات( أغنيتان فقط).
في الفيلم لا مكان للكوميديا للتخفيف قليلاً من أجواء الأحداث المُرعبة
(كما الحال مثلاً في
Anjaane - The Unknown
لمخرجه
Harryy W. Fernaandes,
وإنتاج عام 2005).
ولكن, ما فائدة الكوميديا, وجرعة الشهوانية فيه تجعل أيّ متفرجٍ يتخلى
طواعيةً عن الضحك, ويصبح ظهور, واختفاء شبح (آفيناش) طرفةً لا تستحقُ
ابتسامةً واحدة.
سينماتك في 18
يوليو 2008
|
|