|
إذا كنتَ مبهوراً بالهند, تنوّعها, ألوانها, طقوسها, عاداتها, تقاليدها,
بهاراتها, موسيقاها, ... ومُغرماً بأفلامها الطافحة بالألوان, ومُستسلماً
لأحداثٍ تخيّرها المُؤلف على مزاجه, ومُتسامحاً مع مبالغاتها الدرامية
الفاقعة, ومُتسلحاً بحكايات الأفلام المصرية, ومُتناسياً كلّ ما تعرفه عن
السينما العالمية, وصبوراً أمام الشاشة لمُدة 238 دقيقة, ..
فإنكَ سوف تستمتعُ حقاً بمُشاهدتك للفيلم الهنديّ (Sangam)
من إنتاج عام 1964, وإخراج(Raj
Kapoor).
يستوحي الفيلم عنوانه من (Sangam),
مكان اللقاء, أو المُلتقى, وهو مكانٌ مقدسٌ في (Allahabad),
يلتقي فيه الـ(Gange),
والـ(Yamuna),
النهران المُقدسان في الديانة الهندوسية, ويلتحق بهما النهر الأسطوريّ (Saraswati),
هناك يتجمع مرةً واحدةً كلّ إثنى عشر عاماً عشرات الملايين من الحجاج
الهندوس القادمين من كلّ أنحاء شمال البلاد .
ومثل الكثير من الأفلام الهندية, تبدأ أحداث الفيلم في منزلٍ فاخر, ومثل
مجموعةٍ أكثر منها, يعود غوبال(Rajendra
Kumar)
من الخارج بعد أن درس المُحاماة, وحقق رغبة والده القاضي (فيرما), وهو ابنه
الوحيد.
سوندار(Raj
Kapoor),
صديق طفولته, يكشف له عن حبه لصديقتهما المُشتركة رادا(
Vyjayantimala),
بدون معرفته بأنه يحبها أيضاً,..
يلتزم (غوبال) الصمت, يقمع مشاعره, ويقرر التضحية بحبّه من أجل صديقه.
في حفلة استقباله, يجتمع مع صديقيّ الطفولة : الشاب الفقير, واليتيم (سوندار),
والفتاة الثرية (رادا) ابنة ضابطٍ في الجيش, ويتبارى الثلاثة في إلقاء بعض
الأبيات الشعرية, ويبدأ (سوندار) بالغناء.
في هذا المشهد/الأغنية المُرتبطة تماماً بالحدث, تقتربُ (رادا) من (غوبال),
فيبتعد عنها كي يُشعرها بأنها مُجرد صديقة, وعندما يخطو (سوندار) نحوها,
تبتعد عنه, ..
ومن هنا تنطلق العقدة الحقيقية للفيلم, ومُتوالية الأحداث, والتضحيات .
ولكن الهوس بالسينما الهندية, لا يمنع من تقديم رؤية نقدية للفيلم, وتحليل
بعض مرتكزات السيناريو, والعقدة التي يستند عليها.
بدايةً, سوف أتجاوز منطقية صداقةٍ بين شابيّن, وفتاةٍ, منذ الطفولة, وحتى
الشباب, ولكن, من الغريب بأن تكون العلاقة بينهم غامضةً, ومُلتبسة .
لقد غاب (غوبال) عنهما فترة سنواتٍ, وكانت الفرصة سانحة لـ(سوندار)
لمُصارحة (رادا) بحبه لها, ولم يكن يحتاج لانتظار(غوبال) طيلة تلك المدة,
ليكشف له عن مشاعره نحو صديقتهما.
يُزيد التباس العلاقة بين الأصدقاء الثلاثة, بأنه, وعلى الرغم من صداقة
الطفولة بينهم, وبغرابةٍ, لم يلحظ (سوندار) أبداً إعجاباً متبادلاً بين (غوبال),
و(رادا), والمنطقيّ بأن يضحي بحبه الأنانيّ ل(رادا), وهو الذي كان على
استعدادٍ بعد ذلك للتضحية بحياته في سبيل الوطن ؟ ولكن, لو افترضتُ ذلك,
لما استمتعتُ بالأحداث التالية, ولتوقفَ السيناريو عند ذلك الحدّ.
تعاند ميكانيزمات السينما الهندية في اعتمادها على عقدةٍ لا تتوافق مع
المنطق العقلاني, وترتكز على افتراضاتٍ درامية خاصة بها لا علاقة لها
بالواقع, وهي بالتحديد ما يُثير اهتمام المُعجبين بها.
ومع ذلكَ, فليكن, ومن المُفترض تصديق الحكاية, وإلاّ كان من الأفضل لي
الامتناع عن مشاهدة الفيلم, أو الكتابة عنه .
المواطن الغربي(شاباً, أو فتاة) لن يستسيغ تيمةً كهذه, وأكثر من ذلكَ, لن
يقتنع بتطورات عقدةٍ يمتلك حلولها مسبقاً.
أيّ شابٍ غربيّ يحافظ على صداقة طفولةٍ, ويضحي بحبه لفتاةٍ من أجل عيون
صديقه ؟
وأيّ فتاةٍ غربية تقبل بتلك التضحية, وبالعلاقة المُرتبكة بين الثلاثة ؟.
كلّ من عاش في بلدٍ غربيّ, يدرك اختلاف مفهوم (التضحية) عما تربيّنا عليه
في بلادنا المُلتفة حول عاداتها, وتقاليدها, حيث يبني أفراد العائلة هرماً
عائلياً متيناً يمنح مكانةً عظميةً للأمّ .
بالمُقابل, فإنّ مفهوم (الفداء) من أجل الوطن متأصلٌ في الثقافة العربية,
ولا نجده بنفس القوة عند المُواطن الغربيّ, وربما لستُ بحاجةٍ للتذكير
بأقوال الجنود الأمريكان الذين يعبثون بالعراق, ويعتبرون مهمتهم
الاستعمارية(عملاً), وليس (فداءً) لوطن.
على عكس ما فعله (سوندار) عندما تطوّع للتحليق في طائرته فوق جبال كشمير
لإمداد مجموعةٍ من الجنود الهنود المُحاصرين .
وكما تخلى (غوبال) عن حبه لـ(رادا) لصديق عمره, ضحى (سوندار) بحياته لإنقاذ
رفقاء السلاح.
بعد ساعةٍ, وربعٍ من بداية الفيلم, تبدأ العقدة في تشابكها, ويُوحي
السيناريو بأنّ (سوندار) أصبح في عداد المفقودين بعد إصابة طائرته,
وسقوطها.
منذ ذلك الحدث المفصليّ, كان من المُفترض عودة الأمور إلى ما يجب أن تكون
عليه, فقد اختفى العائق الذي كان يحول دون علاقة حبٍّ مُتبادلة بين (غوبال),
و(رادا), وتدّخل القدر لمصلحتهما, ولكنّ مفاجآت الأفلام الهندية لا تنتهي,
وهي ـ بالضبط ـ سرّ نجاحها الجماهيريّ.
وكما العودة من الخارج, التباين الطبقي بين الشخصيات, المرأة المُستسلمة
لأقدارها, القابضة في نهاية الفيلم على مصيرها, الصداقة الوطيدة بين
الشخصيات, الأمّ الطيبة, ....تتكرر في الفيلم أيضاً فكرة الميراث, لقد حقق(غوبال)
أمنية والده القاضي, ودرس المُحاماة, وأصبح قاضياً بدوره,..
وفي الفيلم, الأبّ غائبٌ عن الشخصيات الرجالية (غوبال, سوندار), والأمّ
حاضرةٌ بقوة, ولكن, الأبّ حاضرٌ في حالة الشخصيات النسائية(رادا).
بعد عودة (سوندار) حياً(ولا تسألوني كيف نجا من الموت, وأين قضى أيامه خلال
تلك المدة التي اختفى فيها), يتزوج (رادا), ويذهبا لقضاء شهر العسل في
لندن, روما, فينيسيا, باريس, وجنيف, ولا تخفي الزوجة سعادتها, وكأنها تحبه
منذ زمنٍ بعيد, وكانت تنتظر اختفاء أحد أضلاع المُثلث كي تتأجج عواطفها
نحوه عندما يصدح مغنياً لها في جبال الألب السويسرية تلك الأغنية الشهيرة :
"Ich
liebe Dich, I love you, je vous aime"...
منذ ذلك التاريخ, لم تكتفِ السينما الهندية بجغرافيتها المُتجمّلة, بل خرجت
بأبطالها إلى أوروبا(سويسرا خاصةً) لتُزيد من جرعة الأحلام عند المشاهد
الفقير, وتقدم له بقليلٍ من الروبيات وجبةً دسمةً من القصص, الحكايات,
النصائح, والدروس الأخلاقية,... تتخللها الأغاني, والموسيقى, ..ولكن أيضاً
لقطاتٍ سياحية مجانية, لحظات إضافية, مُكلفة إنتاجياً حتماً, ولكنها تجذب
المتفرج, وتُنسيه أيامه القاسية, والله يعلم كم هي قاسية فعلاً .
الحياء يفرض نفسه في الأفلام الهندية, حتى ولو كانت الشخصيات منشغلةً
بالإطلال على باريس من برج إيفل, هناك, يتجاور الزوجان مع عاشقيّن يتبادلان
القبلات, فيحاول (سوندار) تقبيل زوجته, إلا أنها تتمنّع مُستحيةً, ويُلفت
هذا الموقف الاستثنائيّ انتباه سائحتيّن, فتصفقان ابتهاجاً, وتسألهما :
ـ هل أنتما من الهند ؟
في تلك اللحظة, وذاك الزمن, أتخيّل ردود فعل المُشاهد الهنديّ, وإحساسه
بالعظمة, والافتخار.
في (Sangam),
أعتقد بأنّ المتفرج سوف يتعاطف مع المسكين (غوبال) الذي ضحى بحبه من أجل
صديقه, وسوف يحزن من أجله, ولكنه لن يغضب أبداً من العاشق الطيب(سوندار),
ولا حنى من المُخلصة, المغلوبة على أمرها(رادا), ولن يفكر بأنّ ما فعلاه
خطيئةً بحقّ (غوبال).
بالصدفة, وهي إحدى خصائص السينما الهندية, يكتشف (سوندار) رسالةً غراميةَ
كتبها أحدهم ل(رادا) قبل زواجهما, وبمنطق التقاليد الهندية, من الطبيعي بأن
يتأثر(سوندار), ويشعر بالغيرة, وينفعل إلى حدّ الرغبة بقتل صاحب الرسالة.
الخيانة في السينما الهندية جريمةٌ لا تُغتفر, وهذه عقدةٌ أخرى دخلت في
سياق الأحداث, وقد مضى حتى الآن ثلاث ساعاتٍ منه.
المُلفت للانتباه هنا, بأنّ الإشكالية الكُبرى ليست اكتشاف الرسالة,
ومحاولة معرفة كاتبها, والتحقق من خيانة مُحتملة للزوجة, ولكن, مجرد الشكِّ
بخيانةٍ, أو بالأحرى بعلاقةٍ جسدية, حتى وإن كانت قبل الزواج.
وفي هذا الخصوص, يقول (سوندار) لزوجته :
ـ أرى الحبّ في عينيك, ولكن, عندما ألمسكِ, أشعر بأنّ أحداً قبلي قد لمسكِ,
وهذه الفكرة تجعل قلبي يحترق من الغيرة, ..الشكّ يختبئ في الجوانب المُعتمة
من قلبي, فأتمزق قطعةً, قطعة....
مشهدٌ كهذا يتناسب مع التقاليد الهندية, ولكنه لا يتفق مع قناعة المتفرج
الغربي, واحتراق قلب (سوندار), تمزقه, وحيرته سوف يثير تعاطف المتفرج
الهندي, ولكنه, سوف يحصد السخرية, الحنق, والضحك عند المتفرج الغربيّ ( لو
تسنى له مشاهدة الفيلم حتى نهايته).
في لحظات الغضب العارمة تلك, واعتقاداً من (سوندار) بأنّ إطلاق الرصاص على
نفسه سوف يخلصه من العذاب, تتدخل الزوجة (رادا), وتتحول الرصاصة إلى صورة (غوبال)
الموضوعة بين صورة الزوجين, وربما يكون قتل الصورة حلاً مثالياً لتلك
العقدة.
الأحداث تتلاحق إلى الدرجة التي ترغب (رادا) بقتل نفسها, وهي تشرح ذلك ل(غوبال)
الذي يمنعها, ويأخذ المسدس منها.
وفي اللقاء بين الأصدقاء الثلاثة, وعندما يعترف (غوبال) لصديقه بأنه صاحب
الرسالة, ويفسّر له علاقته النقية مع (رادا), وبأنهما فكرا بالزواج فقط
عندما عرفا بأنه مات في حادثة تحطم الطائرة, ولكن, عندما عاد حياً, فقد
تناسى حبه من أجل صداقته معه.
الاعتراف بين الثلاثة, مشهدٌ مسرحيٌّ بامتياز, أتقنته السينما الهندية,
وأدمنته طوال تاريخها, وخاصةً في المشاهد الأخيرة من أفلامها(وهو حال
السينما المصرية أيضاً).
لقطةٌ عامة, ديكورٌ مسرحيّ في بهوّ منزل (غوبال).
(سوندار) في يمين الصورة.
(غوبال) في اليسار منها.
(رادا) في الوسط, أصغر منهما حجماً, ترتدي ملابس بيضاء, رمز نقائها,
وعلاقتها المخلصة بزوجها.
في حالةٍ كهذه, يُحتمّ منطق الميلودراما بأن يختفي أحد أضلاع المثلث, يشعر
(سوندار) بالذنب, ويريد الانسحاب من حياة (رادا) كي تُكمل حياتها مع صديقه
الذي يحبها منذ الطفولة(تخيلوا), وترفض(رادا) بأن يقرر الاثنان مصيرها
لوحدهما, وهي تميل بوضوحٍ إلى علاقة الزواج المُقدسة التي تربطها مع سوندار(تخيلوا
أيضاً), ولكن, دعونا من خيالاتنا, حيث يُخبئ لنا الفيلم حلاً قدريّاً
تراجيدياً :
يُطلق (غوبال) على نفسه رصاصة الرحمة.
مصيرٌ متوقعٌ منذ بداية الفيلم, أو على الأقلّ, منذ أن ذهبت (رادا) إلى
منزله, وأخذ منها المسدس, وتركه في يده طيلة ذلك المشهد الختاميّ.
ماتَ (غوبال), وتوجّعَ صديقاه(سوندار), و(رادا), وذرفا دموعاً غزيرة,
وبإخلاصّ منحا مياه (الغانج) رماده, وغنى له (سوندار) ملتاعاً أغنيةً
حزينةً تتمزق لها القلوب, وتحمّر لها العيون.
حكايةٌ مؤثرة, دروسٌ أخلاقيةٌ عن الصداقة, الحبّ, والتضحية, وجولةٌ سياحيةٌ
في أوروبا, وتسعُ أغنيات.
ماذا يريد المتفرجُ أكثرَ من ذلك ؟.
سينماتك في 5
يوليو 2008
|
|