في زمنٍ اشتدّت في بلادنا هيمنة قوى رأس المال
الطفيليّ على كافة مفاصل الإنتاج، والعرض، والتسويق
السينمائي إلى مستوياتٍ غير مسبوقة؛ وفي الوقت الذي
أصبح هذا الواقع متجسداً في احتكارٍ شبه كاملٍ لأسواق
السينما المحلية، وعلى الإعلام المرئي، والمكتوب،
والمهرجانات من قِبل متمولين كبار مرتبطين بشكلٍ أو
بآخر بدوائر القرار في بعض الدول العربية الغنية
بالغاز، والنفط، والتي هي بدورها متفاعلة مع شركات،
ورؤوس أموال الشركات المُتعددة الجنسيات.
ضمن هذه الاجواء السلبية في ظاهرها العام، تزداد
نشاطات فئاتٍ جديدة من السينمائيين الجدد، والمخضرمين
على السواء باتجاه العمل ضمن أطرٍ إنتاجية، وتوزيعية
مغايرة تفسح المجال لهم للتعبير عن أولوياتهم،
واتجاهاتهم الفنية، والثقافية، والسياسية المستقلة،
والخاصة بهم.
أ
-سياقٌ
عامٌّ للطروحات
نعيش اليوم في مرحلةٍ غدت فيها تكلفة صُنع الفيلم
السينمائي الأكثر استقلاليةَ
)لا
وجود لشيءٍ اسمه فيلم مستقل بشكلٍ مطلق(
أقلّ من كلفته في أوائل الألفية
بنسبةٍ تفوق أحياناً على ٨٠ بالمئة، وأكثر توفراً،
وسهولةً من النواحي التقنية بنسبة ٩٠ بالمئة، ويدفع
واقع الدمج التفاعليّ بين وسائل الاتصال التسجيلي،
والسمعي، والبصري الأقلّ كلفةً نسبياً، مع وسائل
التواصل الاجتماعي الهائلة في مروحة ربطها للإنسان إلى
الانسان في كلّ أنحاء الأرض، إلى تجذر أشكالٍ غير
مسبوقة "للتعبير" السينمائي، والتي تجعله أكثر اتاحةً
لفئاتٍ اجتماعية، وطبقية، وجندرية مهمّشة،
وديموغرافياتٍ لم يكن هذا متوفراً، أو ممكناً لها منذ
حوالي العقدين.
وتصبح امكانيات القوى السياسية، والاجتماعية المُهيمنة
على كبت قدرة الفئات المهمّشة في مجتمعاتنا على
التعبير عن قضاياها، واهتماماتها بصوتها، ورؤيتها
الخاصتيّن، أقلّ قوةً، وفعالية، وتصبح أشكال الرقابات
التقليدية
)الرسمية
منها، والاجتماعية(
أكثر عجزاً عن التعامل مع الفيض الكميّ غير المسبوق من
الانتاج السمعي البصري المتوفر على شبكات الانترنيت
المختلفة، وبهذا، تزداد بشكلٍ غير مسبوق امكانيات
مشاركة عرض الأفلام بشكلٍ خاصّ، أو عبر منصاتٍ أكثر
استقلاليةً، مما يوفر المُشاهدة الواسعة لها عبر
الانترنيت، وبنسبٍ لم يكن ليحلم بها مبدعين سينمائيين
مثل رينوار، وفاردا، وجودار، وبازوليني، وبونويل،
وراي، ورينيه، وسامبين، وبولانسكي، وتروفو، وسولانس،
وغيرهم.
وفي عالمنا العربي، لم يتخيل سينمائيو "الموجات
الجديدة"، و"السينما الثالثة" الذين خاضوا تجاربهم
الأولى في مصر، وسورية، ولبنان، وفلسطين، والمغرب،
وغيرها في ستينات، وسبعينات القرن الماضي أن يكون
بحوزتهم مثل هذا "الغنى" على صعيد امكانيات الإنتاج،
والتوزيع، والتسويق لمشاريعهم السينمائية.
ضمن هذا الواقع، إذاً، فإنّ القدرة على "الإبداع"
السينمائي الشخصي، أو الجماعي، تصبح اليوم، نظرياً،
وعمليا، أكثر توفراً من السابق بما لا يُقاس، بيّد أن
التناقض المتزايد بين طموحات الأجيال الجديدة، و
"المُستقلة" التوجّه من السينمائيين العرب لابداع
الأفلام الخاصة بهم، وتوفر الكثير من الامكانيات
التقنية، والعملية لإنتاج، وتسويق، والدعاية لأعمالهم،
من ناحية، وبين واقع التآكل المُستمر لمساحات التعبير
المسموح بها من قِبَلِ قوى رؤوس الأموال المهيمنة على
مفاصل العمل السينمائي، والتلفزيوني، والدعائي من
ناحيةٍ ثانية، يضعنا
)بالمُفارقة(
أمام فترة حبلى بفرصٍ جديدة، وفي
نفس الوقت، بتحدياتٍ ناجمة عن ازدياد أشكال، وقوة
الهيمنة الرأسمالية على الصناعة ككل، في خضمّ هذه
المعمعة، وفي ظلّ هذه التناقضات القائمة محلياً،
واقليمياً، وعالمياً، يطرح هذا المانيفستو أطراً
فكريةً عامة، واقتراحات ممارسة محددة قد تساعد في دعم
الابداع الفني الذي يطمح لأن يكون أكثر أصالةً، وصدقاً
ضمن الواقع الحالي للثقافة السينمائية العربية. فما هي
هذه الأطر التي يمكن أن تساعد في دعم بروز اتجاهاتٍ
سينمائية جديدة مغايرة لما هو مهيمن حالياً؟
ب-
أطر، وتوجهاتٍ فكرية عامة
ـ لا ابداع، ولا تميّز من غير ثقافة فنية عامة دائمة
التطوّر في استيعاب تاريخ الفنون البصرية، والموسيقى،
والفلسفة، والأدب، والسياسة، ومناحيها، فالقراءة،
والاطلاع على ثقافاتٍ، وأفكارٍ مختلفة، ومتباينة ليس
عيباً، أو حراماً، أو "دقة قديمة"، بل هو في صلب فرز،
وتكوين الرؤية الخاصة، والمستقلة للسينمائي، وللفنان
المُعاصر.
-
تاريخ الابداع في السينما، ومنذ نشأتها، هو تاريخ
أولئك الذين تجرأوا على السباحة عكس التيار، والذين
تحدوا ما هو تقليديّ، وسائد، والذين رفضوا المُساومة
على رؤاهم الخاصة، حتى، وان كانت مرفوضة من قبل
المهيمنين على "الصناعة السينمائية".
كنّ من تريد أن تكون، ولا تقلص، أو تقزّم من رؤيتك
لتتناسب مع ما "يريدونه" لها أن تكون.
-الانحياز
لقضيةٍ، أو فكرةٍ، أو طبقةٍ هو شيء طبيعي، فلا وجود
لشيءٍ اسمه "الحياد" في الفن، أو في أيّ شيءٍ في
الحياة، فكرة "الحياد في الفن"، هي واحدةٌ من الأوهام
الايديولوجية غير العلمية التي تُحاكي ما دأبت الطبقات
المهيمنة على استغلالها للترويج "لثقافاتٍ"، و "فنونٍ"
منعزلة عن واقعها الاجتماعي، والسياسي، والفكري.
-
قمّ دائماً باختيار الموضوعات
التي تؤرقك، تستفزّك، تثيرك، تخجلك، تجعلك تبكي، أو
تضحك من داخلك، وتلك التي تنبع من عمق غرائزك
الحيوانية الغير مروضة.
-لا
تشارك في قمع، وفرض رقابة على نفسك، وعلى ابداعك
(السورياليون كانوا على حقّ)...فهناك الكثيرون ممن
سيحاولون فرض ذلك عليك فيما بعد، فلماذا اضافة قمعك
الذاتي إلى هذه المعادلة القمعية الشائنة!! أطلق
العنان لمُخيلتك كما يطلقها لا وعيّك في ذروة نشوة،
وشفافية أحلامك، وكوابيسك، لا تدع الأفكار الرجعية،
"والمثاليات" التي تزعم لنفسها "السموّ"، و"الاخلاق"،
و"القدسية" (وهي بالنهاية لا تعدو كونها مركبات،
ومكونات تاريخية، واجتماعية، وايديولوجية من صُنع
الانسان ليس إلاّ) تهيمن على عملك، وتقيده، لا تخف من
أن تكون "وسخاً"، أو "خادشاً للحياء" إذا تطلب الامر،
هذا ليس هدفاً بحدّ ذاته، لكنه يبقى تعبيراً طبيعياً
عن تحديك لما تعوّدت أن تقمعه من أفكار، ومطامح،
وهواجس، ومخاوف.
ـ ابتعد عن أسلوب "التبشير" الديني، و"الاخلاقي"، أترك
هذا "لرجالاته" (وهؤلاء "أكثر من الهمّ على القلب" كما
يقولون في لبنان)، حين تحاول التعبير عن وجهات نظرٍ
محددة، حاول أن "ترسم" ما تريد قوله من خلال الغوص في
رؤيةٍ تجسد الفكرة في قالبها الإنساني، البصري،
واللغوي العشوائي، والنابع من عفوية تفاعلها،
"الخطابات"، والحوار المُصطنع، والمباشر يُبعدك حتى عن
ما تريد أن تقوله.
ـ حاول دائماً أن تصارع هوس النجومية، وحب الظهور،
والأنا المنتفخة، وهدف الربح المادي، ففي حين من
الطبيعي أن تشغل هذه الأمراض حيزاً من وعيك، ولا وعيك،
لكن، أن تسمح لها بأن تتحول إلى قيّد يحدد أطر، وأشكال
رؤيتك الفنية، والفكرية، يضع نهايةً سريعةً للممارسة
الابداعية التي تطمح إلى تطويرها، وصقلها.
ـ مشاهدة الأفلام السينمائية قدر الإمكان، وبشكلٍ شبه
يومي، هي ممارسةٌ لا غنى عنها بالنسبة لأيّ سينمائي،
وهذا يعني مشاهدة أفلامٍ من كافة المدارس، والحقب،
والخلفيات، والأنواع، أكثر الحالات خطورة تكمن في
سينمائيّ يقنع نفسه بأنه قد شاهد "كلّ ما هو بحاجةٍ
اليه"، فالسينما هي أفقٌ غير محدودٍ من الابداع، وما
قد تراه في أعمالٍ بسيطة، ومن داخل ثقافات مختلفة،
يغني، ويُحفز طاقاتٍ، ورؤى جديدة هي أضعاف غنى تلك
التي تفرض نفسها عليك من خلال ما توفره القوى المهيمنة
على عمليات الإنتاج، والتوزيع، والتسويق في بلادنا،
وفي العالم.
ـ سواء كنت مبتدئاً، أو كنت متمرساً في العمل
السينمائي، اجعل صناعة الفيلم القصير جزءاً متواصلاً،
وأساسياً، من عملك، فالعمل السينمائي القصير يصقل
قدراتك الإبداعية، ويكسبك مزيداً من الخبرة في فنّ
استعمال الثانية البصرية لكلّ لقطة، وفي جعلها تضيف
الجديد في أسلوب تعبيرك السينمائي، وتذكّر دائماً: أن
من لا يستطيع التعبير بوضوحٍ، وقوةٍ عما يريد قوله ضمن
فيلم قصير، لن يكون قادراً على قول الكثير حتى لو
توفرت لديه كلّ دقائق العالم السينمائية.
ـ الانفتاح في الحديث عن المشروع السينمائي، وفِي كلّ
مراحله، مع الأصدقاء، وذويّ الاختصاص، والخبرة،
والسينمائيين، هو شيءٌ ايجابيٌّ ... تبادل الأفكار،
والنقاش، هو شيءٌ ايجابيٌّ دائماً، تخلص من عقد،
ومقولات "سرقة الأفكار"، و"الإصابة بالعين"، وما شابه
من شعوذاتٍ اجتماعية بائدة.
ـ ابدأ دائماً من الشكل البصري لـ اللقطة، تخيل أن
العمل صامت، وأنك تحاول قول كلّ شيءٍ لديك من خلال
الصورة فقط، تخيّل عدم وجود أيّ دعم" صوتي، إن تطوير
قدراتك السينمائية، وصقلها، خصوصاً في مراحل عملك
الاولى، سيعتمد على هذا النوع من التمرّس، والتمرين.
-لا
تنسى أنّ الفيلم هو بالنهاية فيلمك، وأن مقياس نجاحه
بالنهاية هو في تعبيره الصادق، وغير المُهادن عما يجول
في وعيك، ولاوعيك.
ج-اقتراحات
بنيوية للعمل السينمائي المُغاير
ـ حافظ، بقدر الامكان على الاستقلالية الإنتاجية،
والتوزيعية لأعمالك بوجه منتجي "المقاولات"، أو
المتاجرين بلقب "السينما المُستقلة"، وبوجه جاذبية
مهرجانات عروض الأزياء، وتجار "أفلام الجُملة"،
ومنظمات "دعم الفنون" التابعة لجهاتٍ تفرض بشكلٍ، أو
بآخر اجنداتٍ، ومواصفاتٍ خاصة لمصلحة الطبقات الحاكمة،
سواء محلياً اقليمياً، أو عالمياً.
ـ لا تُفصّل عملك على قياس المهرجانات، ومروّجيها،
وجماهيرها، ونقادها، فمعظم هذه المكوّنات في ثقافتنا
السينمائية (وخصوصاً تلك المرتبطة بمؤسساتٍ، وتركيباتٍ
تميل الى التركيز على التسويق التجاري) أصبحت ملاذاً
للذين يتعاملون مع السينما كمرآةٍ لرؤيتهم هم، وليس
كمساحةٍ حرّة للتعبير عن رؤية الآخرين للعالم.
ـ حاول الانخراط دائماً في مواقع، وأطرٍ مختلفة لعرض
أعمالك، وابدأ أولاً ضمن الأوساط المحلية، والتي أنت
جزءٌ منها، كثيرٌ من السينمائيين الشباب هذه الأيام
يصابون بخيبات أملٍ تؤدي في كثيرٍ من الأحيان
لانسحابهم الكامل من الممارسة السينمائية، ويأتي هذا
كثيراً نتيجة اصرارهم على حصر فرص عرض أفلامهم فقط
بالمهرجانات الكبيرة، أو الأوروبية، والعالمية، إن هذه
الممارسة مكلفة، وفي معظم الأحوال تتحول إلى مضيعة
للمال، والوقت الذي يمكن خلاله أن تعمل على الخوض في
تجربة فيلم جديد، ولا يجب النسيان أن السينمائي الذي
لا ينجح في التواصل مع جمهور البيئة التي هو منها،
يصعب عليه النجاح في التواصل، والتفاعل مع بيئةٍ هو
غريبٌ عنها، إلاّ إذا حاول أن يُفصّل أعماله على
مقاييس، ومستلزمات، وتوجهات البيئة الغريبة التي يطمح
لإرضائها، قمّ بعرض فيلمك على أصدقاءك، عبر نوادي
سينما، في الأحياء، في مهرجانات السينما المحلية،
والمستقلة، فأجواء هذه الأمكنة الأكثر حميمية قد تفيدك
تجربةً، وفكراً، ونقداً أكثر بكثير من الأجواء
الباردة، والمُدّعية في المهرجانات الاستهلاكية التي
تعتمد على دعم، وهيمنة رأس المال التجاري.
ـ ساهم في تكوين، أو دعم تكوين بُنى جديدة للعمل
التعاوني مع السينمائيين "المستقلين" الآخرين، وذلك في
الإنتاج، والتوزيع، والعرض، والدعاية، وغيرها، العمل
التعاوني يُوسّع من قدرات الأجيال الجديدة العاملة في
السينما، ويساعدها على تخطي الكثير من العوائق التي
تفرضها محدودية الامكانيات المادية المتوفرة
للسينمائيين المُستقلين، وستكتشف سريعاً، أن ما كان
يتماهى إلى سمعك عن "تقييد" مثل هذه البُنى لحريتك
الابداعية، لا يُقارن بحجم الضغوط، والقيود، والرقابة،
والتدخلات التي يعاني منها السينمائيون الآخرون الذين
يعملون ضمن البُنى السينمائية التقليدية المهيمنة،
وحتى أولئك الذين يعملون ضمن بُنى السينمات المدعومة
من قِبَلِ جهات، وجمعيات الدعم "الغير حكومي" العربية
منها، أو الأجنبية.
____________________________________________
*أ.د. مالك خوري، مدير برنامج السينما في الجامعة
الامريكية في القاهرة