الزمان عصرنا الحالي، والمكان كوريا الجنوبية،
بالتحديد بيت "كيم"، وبيت "بارك"، وما بين البيتيّن من
طريقٍ، وحكاياتٍ، وألاعيب هي محور أحداث فيلم
Parasite
آخر أفلام المخرج الكوري "بونج جون
هو". يقدم الفيلم حكايةً بسيطةً عن عائلةٍ فقيرة
"عائلة كيم" مكوّنة من أبٍّ، وأمّ، وابنيهما، وكيف
نجحوا بالذكاء، والتحايل، أن يجدوا لأنفسهم موطئ قدمٍ
للعمل عند عائلةٍ غنية "عائلة بارك"، يعمل الأب سائقاً
لربّ الأسرة، والأمّ مشرفة البيت، ويهتم الأبناء
بإعطاء دروس خصوصية لأبناء بارك، لكن هذه القشرة
الخارجية للحكاية تغلف طبقاتٍ من العطن، نحن أمام
أسرتان تمثلان الغنى، والفقر في العصر الرأسمالي
المعاصر، لا بالفجوة الكاملة بينهما، بل الانغماس،
وتغذّي كلٍّ منهما على الآخر.
ثنائية الصعود، والهبوط
في مستهل الحديث عن المجتمعات الصحية، بإمكاننا الوقوف
عند مفهوم "الحراك الاجتماعي"، أو
Social Mobility،
والذي يعني قدرة الأشخاص داخل المجتمع على التحرك إلى
الأعلى، والأسفل في الطبقة الاجتماعية في هرم التدرّج
الاجتماعي، يخلق هذا الحراك نظاماً اجتماعياً مفتوحاً
يسمح بتحقيق تكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية بين
الطبقات، لكن، ما علاقة نظريات علم الاجتماع تلك بفيلم
Parasite؟
على مدار أحداث الفيلم تتكرر مشاهد صعود، وهبوط درجات
السلم، الوصول إلى منزل بارك الذي يقع على ربوةٍ
عاليةٍ يتطلب الصعود، وفي المقابل، منزل كيم الذي يقع
في قلب حيٍّ شعبيٍّ يتطلب الدخول إليه الهبوط إلى
أسفل، هناك دائماً مراوحةٌ بصريةٌ بين الصعود،
والهبوط، كلّ ما هو بالأعلى غنيّ، وكلّ ما هو بالأسفل
فقير، وهذا التكرار يعيدنا للتفكير في المعنى المستتر
وراء الفيلم، وفي الدلالات الرمزية التي تختبيء في
تفاصيل الحكاية.
يفسر مخرج الفيلم الصور المتكررة للسلالم، بأنها تشبه
صورة الطريق في الأفلام، الانتقال من عالم الغنى إلى
عالم الفقر عبر الانحدار من السلم، السلم هو رمز الوصل
بين العالمين.
طفيليّ
تقودنا نهاية الفيلم المأساوية غير المتوقعة إلى
التفكير في أسبابها، ومآلاتها، لماذا يقتل كيم مرؤوسه
بارك؟ من هنا الشرير في الحكاية؟ الإجابة المُؤكّدة،
أنه ما من خيرٍ، وشرٍّ مطلقٍ هنا، وهذا ما يجعل الفيلم
مختلفًا، ولافتًا في معالجته لتفاوت الطبقات
الاجتماعية، لا مجال للتفكير في الأبيض، والأسود، فكلا
الطرفين يحلقان في غيومٍ معتمة، لكن، إذا أعدنا
التفكير في التصاعد الدرامي للأحداث، سنجد أن القتال
الأكبر لم يكن بين العائلة الغنية، والأخرى الفقيرة،
بل، يتمحور، وتمتد جذوره خلف جدران البيت، بين العائلة
الفقيرة، والأخرى الأشد فقرًا التي تسكن خفاءً في
جدران عائلة بارك، وأن كلاهما يتصارعان على الحياة في
عائلة بارك الغنية.
عند تتبّع الحياة السرية لمديرة المنزل، وزوجها الذي
يعيش خلف جدران منزل بارك، نقتفي الخيط الرئيسي الذي
يقودنا إلى "الطفيلي" في الحكاية، من هو؟ أو بالأحرى،
من هو الطفيلي في عالمنا الرأسمالي الحديث؟ وما هي
سماته؟ إن التعريف العلمي للطفيلي هو "كائنٌ حيٌّ يعيش
متطفلا على كائنٍ حيٍّ آخر في داخله، أو خارجه".
وهو ما ينطبق على كلّ شخصيات الفيلم بمختلف طبقاتهم
الاجتماعية، بدايةً من أسرة "كيم" التي تسكن في قبوٍّ،
وتتغذى على سرقة انترنت الجيران، وحتى مبيد الحشرات
الذي يرش في الشارع بالمجان، ثم مديرة المنزل، وزوجها
اللذان يتغذيان على الفتات المتبقية من عائلة بارك،
ارتضى الزوج بالاختباء، واختار أن يعبد بارك خفاءً،
لأنه يسكن في أحشائه، ويأكل من خيره، اختار أن يمحي
ذاته داخل جلد عائلة بارك بهدف العيش في تطابقٍ تامٍّ
مع تعريف الكائن الطفيلي، وفي المقابل، يتغذى بارك
أيضًا على الفقراء، على الموظفين، والعاملين عنده، ولا
يقوى على الاستمرار بدونهم.
تشترك عائلة كيم في رغبتها في التغذيّ الطفيلي على
قوام عائلة بارك، بعلاقة الحب، وجنيّ الأموال، وكسب
الثقة الكاملة، لكن الفارق هنا، أن عائلة كيم لا تطمح
فقط في التغذي الخفي، بل في التسلق، وحلمهم واضحًا في
الصعود ليحلو يومًا ما محل عائلة بارك، في المقابل
تتغذى عائلة بارك أيضًا على احتياجها للطبقات الأدنى،
أسرة تافهة، ومتعالية تبحث عن سائق، ومديرة منزل،
ومدرسين لأبنائهم، كلها أمور لا يجيدوا فعلها بأنفسهم،
اعتادوا الوقوف على حافة الخط الفاصل بينهم، وبين
الطبقات الدنيا ليفتشوا عمن يساعدهم في العيش، لكنهم
لا يسمحوا لأحد أن يعبر هذا الحدّ، بل سيدفعوا خارجًا
من يحاول تجاوزه، ما نتج عنه في النهاية تلاحم
الطبقتين في بقعةٍ واحدة تأكل بعضها البعض، لكن أسرة
بارك في النهاية وقعت بسهولةٍ في شباك مصيدة خادعة من
أسرة كيم التي تلاعبت بهم ليكونوا جزءًا منهم.
يكمن الخطر الأكبر في العائلة الأكثر فقرًا التي تسكن
جدران البيت، ويشكل وجود عائلة كيم خطرًا يهدد بقائها.
في الطبقة الدنيا؛ إذا أخذت أسرة فقيرة فرصة ما، فإنها
تؤثر بالسلب على فرصٍ أسرة أخرى - فقيرة- في الحياة،
وهو ما يفسر طعن زوج المربية لأبنة كيم في مشهد حفل
عيد الميلاد.
اللافت أيضًا، أن كلتا الأسرتين الفقيرتين تنظران إلى
عائلة بارك بإعجابٍ، وتقدير، ما من مشاعر غضبٍ،
وكراهية هنا، الأمر ليس حقداً مبطناً على ثراء تلك
الأسرة، بل، تطلع إلى احتلال مكانها، أن يكونا مثلهم
أنيقين، وأصحاب روائح ذكية، وحياة مترفه، تمامًا مثل
حلم الابن في نهاية الفيلم أن يصبح مثل بارك أنيقاً،
ناجحاً، وشديد الثراء، أن يكون مثل الصورة المثالية
المعتادة للطبقة الغنية بما تحمله من هيمنة ثقافية،
وسيطرة تتغذى على سائر طبقات المجتمع، محض حلمٍ يشوبه
الأمل.
حجرٌ اسمه الأمل
في اللحظة التي تتفجر فيها ذروة الفيلم، يطفو حجر
الأمل على السطح، تنهمر الأمطار على المدينة، وبيت
"بارك" القابع في الأعالي لا يتأثر بالمطر، سريان
الأمطار يتدحرج من الأعلى للأسفل، الشمس تشرق من جديدٍ
على ساحة البيت الخضراء، بينما الأسفل غارقٌ في الوحل،
والطين، بيت عائلة "كيم" دُمّر بالكامل، خرجوا منه
بوجوه تعيسة، وخيبة أمل، وحجر اسمه الامل.
في بداية الفيلم يزور ابن "كيم" صديقاً قديماً له،
يُحضر له هديةً هي حجر أثري يُقال إنه يجلب الثروة
للعائلة التي تمتلكه، محض خرافة لا يتعلق بها إلاّ
المُتشبث بالأمل، على أرض الواقع لا مجال للحفر في
الصخر، لكن في عالم الإيمان الماورائي، فإن هذا الحجر
هو الأمل الوحيد.
يتكرر تساؤلٌ على لسان العديد من الكتاب، والنقاد
"لماذا يجعلنا فيلم
parasite
خائفين؟"، هل لأنه يعرّي أمامنا حقيقةً اجتماعيةً من
خلال حكايةٍ عادية للغاية؟ أم لأنه يطرحها بقدرٍ من
الكوميديا السوداء؟ أرى أن كلاهما احتمالان يحملان
قدراً من الإجابة الحقيقية، وربما المفزع أيضًا أن
الفيلم ينتزع منه صفة المحلية، فهو يقدم فكرةً يستطيع
أيّ شخص في أيّ مكانٍ في العالم أن يتماهى معها،
ويفهمها، وأن يضاهيها مع الواقع الذي يعيشه.
عندما سًئل "بونج جون هو" عن مصدر الفكرة التي ألهمته
لكتابة فيلم
Parasite،
أجاب أن فكرة الفيلم جزء من أفكاره الشخصية، تلاحقه
منذ سنوات، كان يتخيل بيتاً غنياً، وبيتاً فقيراً،
لكن، كيف يجمع بينهما؟ من هنا تدفقت خيوط الحكاية.
يذكر بونج، أنه عمل كمدرسٍ خصوصي في بيت أحد الاغنياء،
كان حينها طالبٌ جامعي يُحسّن دخله بعملٍ إضافي، ثم
فكر كم سيكون ممتعًا أن يدعو أصدقاءه للتسلل إلى هذا
البيت واحداً تلوّ الآخر.
تبدو الحكاية مضحكة، وإن كانت متطابقة مع الخطّ الرئيس
لقصة الفيلم، وتخبرنا بشيءٍ من الدعابة أن بونج،
بشكلٍ، أو بآخر، متطفلاً في خياله، وأن حصوله بعد
أعوام على أوسكار أفضل فيلم هو أمرٌ غير مسبوق لفيلم
غير أمريكي، وإن وجده البعض شيئاً من التطفل، لكنه
مقبول، ومحببٌّ للنقاد، والجماهير أيضًا.