(1)
قبل الغوص في تفاصيل الفيلم التسجيلي (دُعاء .. عزيزة)
للمخرج المصري سعد هنداوي، وكتابة ملاحظاتٍ نقدية
تحليلية مُتسلسلة، وهو المنهج الأفضل برأييّ لجذب
انتباه القارئ نحوه..
قبل الكتابة، لفت انتباهي مُلصق الفيلم (البوستر)، وهو
الواجهة الإعلانية، الدعائية لأيّ فيلم، ويمكن أن
نبالغ، ونعتبر ملصقات الأفلام ملخصاتٍ بصرية مُركزة
للأحداث، بالإضافة إلى أنها أعمالٌ تصميميّة تستحقّ
الدراسة من طرف المُختصين.
تلفّ العتمة ملصق فيلم (دُعاء.. عزيزة)، وتغمر الألوان
الزرقاء الداكنة وجهيّ شابتيّن، كلّ واحدةٍ منهما تنظر
في اتجاهٍ مختلفٍ عن الأخرى، أجواءٌ ليليّةٌ،
وحنينيّة.
في أسفل المُلصق صورتيّن ضبابيتيّن، الأولى في باريس،
والثانية في القاهرة، وعلى الرغم من اللون الأصفر
الداكن إلاّ أنهما لا تقلا عتمةً عن وجهيّ الشابتيّن،
والمُلصق بشكلٍ عام.
الجزء الوحيد من الملصق، شريطٌ مائل، الحدود الفاصلة
بين وجهيّ الشابتيّن، وصورتيّ المدينتين، هو بلونٍ
أصفر فاقع نقرأ عليه عنوان الفيلم.
في أعلى الملصق اسم مدينتيّن، باريس، والقاهرة كما
نراهما عادةً في اللوحات الإعلانية المُنتشرة في
المطارات، ولكن، رُبما يلاحظ قارئٌ/متفرجٌ
مُدققٌ(خبيثٌ)، بأنّ المُصمّم وضع باريس في الأعلى،
وتحتها القاهرة، ولكن أيضاً، نفس هذا (الخبيث) ورُبما
غيره، سوف بلفتُ انتباهه إشارةً نحو الأعلى بجانب
باريس، بينما إشارة تتوجه نحو الأسفل بجانب القاهرة.
من المُثير للانتباه، بأنّ وجهيّ الشخصيتيّن
الرئيسيتيّن في الفيلم يتوجهان نحو وجهاتٍ متعارضة،
وكأنهما خصمان مع أنني سوف أصل في ملاحظاتي اللاحقة
إلى تأكيد فكرة بأنهما شخصية واحدة على الرغم من
اختلاف وجهتيّهما، سوف نكتشف بأنّ كلّ واحدة "قرينٌ"
للأخرى، وهما في مواجهةٍ ذهنية مشتركة.
الأولى، تعيش في باريس، وتريد العودة إلى القاهرة.
والثانية، تعيش في القاهرة، وتريد الهجرة إلى باريس.
ولهذا، فإنه ليس من قبيّل الصدفة أن يختار المخرج
عنوان الفيلم (دُعاء.. عزيزة)، وليس (دُعاء، وعزيزة).
إنهما شخصيةٌ واحدة، منشطرة بين مدينتيّن لا تشبه
الواحدة الأخرى: باريس، والقاهرة.
وليس صدفة أيضاً أن تكون ألوان الملصق غامقة، كئيبة،
وحتى جنائزية....
ولولا الشريط الأصفر، لكنا اعتقدنا بأنه ملصقٌ لأحد
أفلام ديفيد لينش، أو أنجمار برجمان.
*****
في صيف عام 1996، تعرّض المخرج رومان بولانسكي إلى
مصيبةٍ غير متوقعة، قبل بعض الأيام من التصوير اضطر أن
يهجر مشروعه
The Double
المُقتبس عن رواية ديستوفسكي، وكان من المُفترض أن
يصوره في باريس مع إيزابيل آدجاني، وجون ترافولتا بعد
اعتذاره المُفاجئ.
في صيف عام 2014، صوّر المخرج ريتشار أويادي
The Double
آخر مع جيسي آيزنبرغ في دور موظف بخيل تتغير حياته
عندما يصل إلى الشركة شبيهاً له، وبينما كان المخرج
يرغب بأن يطبع فيلمه بأجواءٍ كافكاوية، كان ذاك الشبيه
يتشرّب بشكلٍ خاصّ من فيلم "المُستأجر"(1976) للمخرج
بولانسكي.
في فيلم
Enemy
للمخرج دوني فيلنوف تواجه الشخصية الرئيسية بالآن ذاته
شبيهاً، وعيوبه، والشخصيتان هما في حالة مواجهة مباشرة
أقلّ من التشابهات.
ونحن، جمهور السينما، ألا نواجه دائماً أشباهنا في
السينما؟
أليسَ الفنّ السابع مرآة مشوّهة من وجودنا؟
أليست ردود أفعالنا أمام عملٍ ما مرتبطة بتاريخنا
الحميميّ؟
في هذه اللعبة، وجهاً لوجه مع أنفسنا، هناك الذين
نتفرج عليهم، وأولئك الذين يتفرجون علينا، هذا الذي
يُغضبنا، وذاك الذي يحرك مشاعرنا، مع القليل من كلّ
واحدٍ منا في الحالتين.
السينما، هي أكثر من تشابهٍ بسيطٍ (أو اختلاف)، وأكثر
من ازدواجية،.. هي عددٌ لانهائي من الإمكانيات.
في (دُعاء...عزيزة) فيلم المخرج "سعد هنداوي" شخصيتان
:
الأولى، تعيش في القاهرة، وتريد الهجرة إلى باريس.
والثانية، تعيش في باريس، وتريد الهجرة إلى القاهرة.
أليست حقاً لعبة مرايا؟
تشابهٌ، وتعارض؟
أو بالأحرى شخصيةٌ، وقرينتها، تجسد بوضوحٍ علاقةً
مزدوجةً تتضمّن الكثير من التشابهات كما الكثير من
الاختلافات.
هناك حاجزٌ زجاجيٌّ شفافٌ، وهشٌّ بينهما، وكلّ واحدة
تتطلع أن تجتازه، وتحظى على مكان الاخرى بدون أن
يتحطم.
نفس الحاجز الشفاف، والهشّ (الشاشة) التي تفصل بين
الفيلم (الشخصيتيّن)، والمتفرج الذي سوف يحتار، هل
يتعاطف مع هذه الشخصية، أو تلك، ورُبما ينقسم تعاطفه
بين الشخصيتين على الرغم من اختلاف تطلعات كلّ واحدة
منهما.
إنهما بالأحرى شخصيةٌ مزدوجة، الواحدة تشبه الأخرى،
وفي الوقت نفسه، تتعارض معها، وبدون هذه الازدواجية
التراجيدية (التشابه، والاختلاف) لن يحدث أيّ صراع،
ولن يكون هناك أيّ حدث.. |