.... في الحقيقة، يمكن للسينما أن تكون "حكاية"، أو
"وسيلةً" لتقديمها، ولكن، يمكن لها أن تفعل أفضل من
ذلك بكثير، بأن تمنح المتفرج إمكانية "الفُرجة"، وهذا
يعني تقديم الواقع، أو التعبير عنه (لا نسخه).
ولنتساءل: من أين يأتي مصدر "الألم" الذي يُحدثه
"الملل" الذي تخشاه النسبة العُظمى من متفرجيّ
السينما؟
يمكن اعتبار الضيق بمثابة لسعة حارقة يصيبنا بها
"الزمن" الذي يمضي، منذ اللحظة التي نمنحه انتباهنا،
وتُجبرنا السينما بدورها على أن نكون في حالة تيّقظ،
فهي مرآةٌ/تجسيدٌ للزمان، والمرآة تُخيف أحياناً عندما
تعكس صوراً لا نحبها، أو لا نحب مشاهدتها، ولكن،
لنعترف أيضاً، بأنّ هناك الكثير من المتفرجين لا
يحسّون بالملل، أو الضيق، وعلى العكس تماماً، فهم
يستمتعون بمشاهدة أفلام لفيليب جاريل، أو فيلم مثل
"جين ديلمان، 23 رصيف التجارة - 1080 بروكسل"، "دعني
لوحدي" لجيرهارد تورينغ، أو "أغنية هندية" لمارجريت
دوراس، وفي هذه الأفلام، فإنّ الفترة الزمنية هي التي
تحظى بالدور الأكبر، ولا يشعر هؤلاء بالملل، أو الضيق،
لأنّ هذه المرآة الفيلميّة تعكس أنفسهم، وفترتهم
الزمنيّة الخاصّة بهم، وبالمُشاهدة العقلانيّة، فإنّها
لا تبدو لهم شنيعة، ومقيتة.
صحيحٌ أنّ هذه "السينما" (المقصود السينما التجريبية)
تلسعنا في البداية بحروقها الأولى، ولكنها تمنحنا بعد
ذلك الفطنة، الاعتدال، والعقلانية، وقد ذكر جوناس
ميكاس يوماً بمناسبة عرض أحد أفلام أندي وارول:
ـ لو افترضنا أنّ كلّ الناس يستطيعون تحمّل الجلوس
لثماني ساعاتٍ بشكلٍ متواصلٍ من أجل مشاهدة
Empire State Building
لوارول، وفكروا كثيراً بهذا العمل، سوف لن يكون هناك
حروباً، كراهيةً، أو رعباً، ولسوف تعود السعادة إلى
الأرض.
هذه الفرضيّة التنبؤيّة ليست بريئةً، أو ساذجة كما
يبدو للوهلة الأولى، فالسينما التجريبيّة هي امتحانٌ
جيدٌ للتسامح، التحمّل، والصبر .
إنها تكشف بشكلٍ جيدٍ، عن طريق الصراخ، الضجيج، الهروب
الذي ُتحدثه في بعض المرات، كراهية "الاختلاف"،
استحالة تخيّل، وقبول "الآخر"، حيث يرى بارت بنباهةٍ،
وذكاءٍ بأنّها من طبيعة "البورجوازيّ الصغير".
من كتاب "احتفاء بالسينما التجريبية"، دومينيك نوجيز.
*****
في الأدبيات النقدية، وخاصةً الكتابات الإنشائية، نقرأ
كلماتٍ، وجُملٍ، وفقراتٍ عن الإيقاع غامضة المعنى.
في هذه الكتابات، المونتاج/التوليف مرتبطٌ دائماً
بالإيقاع، مع أن المونتاج كتابة شبه أخيرة للفيلم،
تشمل إعادة صياغة كلّ عناصره البصرية، والصوتية، ومع
أنّ الإيقاع يشمل عناصر كثيرة في الفيلم، صوتاً،
وصورةً، ولكن، دعونا نتوقف عند المفهوم السطحي
للإيقاع، ونفحص فيلماً ما تتسارع فيه اللقطات القصيرة،
والتي من المفترض أنها تُزيد من إيقاع الفيلم، أو نفحص
فيلماً ما تتباطئ فيه اللقطات، ومن المفترض أنها تُبطئ
إيقاع الفيلم.
حسناً، هذا هو المفهوم السائد في الكتابات النقدية
الإنشائية عن الإيقاع.
ولكن، دعونا نتساءل إذاً:
ـ لماذا يشعر متفرجٌ بالملل عند مشاهدته فيلماً يتضمن
لقطاتٍ قصيرة، وسريعة، ومن المُفترض أنها كذلك كي
تُبعد إحساس الملل عنه؟
وبالتوازي، دعونا نتساءل إذاً:
ـ لماذا لا يشعر متفرجٌ آخرٌ بالملل (الذي أحسّه
المتفرج الأول) عند مشاهدته لنفس الفيلم الذي يتضمن
لقطاتٍ قصيرة، وسريعة؟
إذاً، الإيقاع في الفيلم ليس سبباً في إحساس المتفرج
الأول بالملل، ولا عدم إحساس المتفرج الثاني بالملل.
وهنا، يجب أن نتوقف قليلاً عند تلك الكتابات النقدية
الإنشائية (وحتى الانطباعات الفيس بوكية) التي تتحدث
عن الإيقاع، والملل (أو العكس)، ونعاتب من يكتبها
بلطفٍ، أو بحزم، ونقول
:
ـ لماذا تريد فرض/أو نقل إيقاع مشاهدتك للفيلم على
الآخرين؟
ـ هل إحساسك بالملل، أو العكس، نقدٌ سينمائيّ؟
هذه المشاعر، والأحاسيس الخاصة التي يشعر بها، أو
يحسّها كلّ واحدٍ منا عند مشاهدته لفيلم ما، هي مشاعر،
وأحاسيس شخصية، ولا يجب أن ننقلها إلى قارئٍ/أو متفرجٍ
آخر إلاّ في حال كتابة نصوص إنشائية مدرسية من أجل
تقديمها في دروس، أو امتحانات مادة اللغة العربية في
المراحل الابتدائية من تعلمنا القراءة، والكتابة.
*****
بعيداً عن العناصر التقنية، والفنية التي تُشكّل في
مجموعها إيقاع الفيلم، أيّ فيلم مهما كان نوعه، هناك
مسألةٌ/حالةٌ شعوريةٌ جوهريةٌ لا يمكن إغفالها في
تحديد الإيقاع لا علاقة لها بالعناصر التقنية/الفنية
الأساسية، وهي بالتحديد:
إيقاع المُشاهد نفسه، أو إيقاع المُشاهدة.
وهو إيقاعٌ شخصيٌّ تماماً يختلف، ويتباين من متفرجٍ
إلى آخر، ويظهر في حالاتٍ، ويختفي في حالاتٍ أخرى، حتى
أنه يتباين من فيلمٍ إلى فيلمٍ مع نفس المتفرج.
أيّ أن المتفرج نفسه يُساهم بطريقةٍ ما (معقدة،
ومتشابكة) في إيقاع الفيلم، يضيف، أو ينقص منه، أو
أحياناً يُزيله، أو يدمرّه.
يرتبط إيقاع المُشاهد/أو المُشاهدة بحالاتٍ كثيرة،
ومتنوّعة.
على سبيل المثال (بدون حصرّ):
ـ يختلف إيقاع المُشاهد/أو المُشاهدة في حالة مُشاهدة
الفيلم في صالةٍ سينمائية عن مُشاهدة نفس الفيلم عن
طريق شاشة الكمبيوتر، أو التلفزيون.
ـ في الحالتيّن، أيّ المُشاهدة في صالة سينما، أو عن
طريق شاشة الكمبيوتر، أو التلفزيون، يختلف إيقاع
المُشاهد/المُشاهدة إذا كان المتفرج يشاهد الفيلم
وحده، أو بصحبة شخص آخر، أو أشخاصٍ آخرين.
أيضاً، تثبتُ التجربة بأن إيقاع مشاهدة شاب لفيلم ما
بصحبة صديق شاب، أو أصدقاء شباب، تختلف تماماً عن
إيقاع مُشاهدة هذا الشاب لفيلمٍ ما بصحبة فتاة، أو حتى
إن كان يجلس بالقرب من فتاة، أو فتيات.
في كلّ الأحوال، إيقاع المُشاهدة الفردية، سواء في
صالة سينما، أو عن طريق شاشة كمبيوتر، أو التلفزيون
تختلف اختلافاً كلياً.
ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، بأنّ إيقاع المُشاهدة
المنزلية، الفردية، أو الجماعية في النهار، تختلف عن
إيقاع المُشاهدة المنزلية، الفردية، أو الجماعية في
الليل.
*****
ومن أجل فهم آليات الإيقاع في فيلمٍ ما، تلك الخاصة
بإيقاع المُشاهد/أو المُشاهدة، من المفيد الاعتماد على
التجربة الفعلية لمجموعةٍ من المتفرجين.
وهنا مثالٌ افتراضيّ:
أنا، على سبيل المثال، وغيري ملايين، مغرمٌ بالسينمات
الهندية (المُحتقرة من المتفرج العربي الجادّ)، وعلى
الرغم من الأطوال الزمنية المتوسطة لهذه الأفلام من
ساعتين إلى ثلاث ساعات، فإنني لا أشعر بالملل إطلاقاً
مهما كانت طبيعة الفيلم، ونوعيته، أيّ بغضّ النظر عن
جودة الفيلم، والسبب في ذلك، غير الشغف، هي عملية
التدريب المُستمرة على مشاهدة هذه الأفلام، ومعرفة
"رموزها" بدون الدخول في تفاصيل ضرورة الانفتاح على
كلّ سينمات العالم مهما كانت جودتها.
دعونا نقترح فيلماً هندياً على متفرج لا يحب السينما
الهندية، ولديه فكرةً مسبقة منقولةً عن طريق العنعنة
(عن، وعن، وعن...)، لن يتحمّل هذا المتفرج مشاهدة هذا
الفيلم، وسوف يقدم تبريراتٍ لا علاقة لها بإيقاع
الفيلم، ولكن بإيقاعه الخاص.
وهنا مثالٌ افتراضيّ آخر.
أنا، على سبيل المثال، وغيري ملايين (أجانب، نعم أجانب
لا يوجد خطأ)، من الدارسين، والمروّجين، والمشاهدين
العنيدين للسينما التجريبية، هذا المُصطلح الذي
"يولول" كلما استخدمه متفرجٌ عربيٌّ في غير محله (نعم
عربيّ، لا يوجد خطأ)، أكان هذا المتفرج شخصاً عادياً،
أو محترفاً.
من يعرف القليل عن السينمات الهندية، وأقلّ القليل عن
السينما التجريبية سوف يدرك التعارض المضموني، والشكلي
الهائل بينهما.
هذه سينمات (الهندية) تستدرّ العواطف قبل العقل، وهذه
سينما (التجريبية) ذهنية تخاطب العقل قبل العواطف.
هذه سينمات (الهندية) حكائية، جماهيرية، سائدة، وهذه
سينما (التجريبية) تدميرية، غير حكائية، نخبوية.
ومع ذلك، أشاهد هذه السينمات(الهندية)، وتلك
(التجريبية)، وأتكيّف إيقاعياً مع كلّ واحدةٍ منهما.
نعم، هنا (السينمات الهندية) أتابع قصةً بكائيةً حتى
النخاع (والسينمات الهندية ليست كلها بكائيات)، وهنا
(السينما التجريبية) أتابع ألواناً، وخطوطاً، وأضواء،
وحركات كاميرا، وايقاعات (والسينما التجريبية ليست
كلّها هكذا).
وبنفس الطريقة، دعونا نقترح على متفرجٍ لا يعرف عن
السينما التجريبية شيئاً، لن يصمد أمام الفيلم أكثر من
دقائق، وسوف يقذف في وجهي توصيفاتٍ من نوع: الفيلم دا
مش فيلم.
لن أذهب بعيداً أكثر في شرح آليات تذوّق الأفلام،
واختلافاتها بحسب العمر، والجنسية، والخبرة، والثقافة،
والتفضيلات، لأنّ ذلك سوف يُعتبر نوعاً من التعالي على
الذوق السائد. |