نعود لنتساءل، ونحن نحاول الاقتراب أكثر من الفيلم
التجريبيّ أن لا نبتعد عن الحكاية، فمنذ الأهمية التي
حددها أرسطو في "فنّ الشعر"، فأن الحكاية حتى يومنا هي
غاية السرد الدرامي، ولنذكر، بهذا الخصوص، أن بريشت في
مخالفته لأرسطو أعلن، وسعى لتبقى الحكاية، كما عند
أرسطو، قلب الدراما: كتب أرسطو: «روح المأساة هي
الحكاية»، وكتب بريشت:
«إن الحكاية عند أرسطو، ونحن هنا نفكر مثله – هي روح
الدراما».
والحقيقة أن منهج بريشت كان يقصد به تفتيت الواقع،
وتفكيكه للبحث في آلية تشكُّله، وطرح على المتفرج هذه
الآلية، وهي بحالة التشكّل.
لذلك، فإن الحكاية لديه، وهي سيرورة، أو مسار، وليست
تشابك مصائر، وأحداث، بقيت موجودة، وبقيت أساس المسرح
الملحمي الجديد ..
يُصنّف السرد بأنه نشاط زماني يوضّح كيفية إدراك
السّارد للوقائع بالاستناد على محور الزمن؛ فإذا كان
الزمن متصلاً بحلقات متتالية متسلسلة، فإننا نجد أنّ
الزمن يسير بنظام يسمح بتداخل الأحداث، والتوائها،
ولهذا، يُصنّف الزمن على أنه عنصر أساسي عند دراسة
السرد للتمييز بين أشكاله المختلفة، خاصة في السرد
المُتقطّع: حيث يُبنى على مخالفة التسلسل المنطقي
لوقوع الأحداث، إذّ يبدأ السارد في تقديم الحكاية من
آخر الأحداث، ثم ينتقل بعدها إلى أول حدث، مُعتمدا على
تقنيات كتابية متعددة، مثل: الحذف، والاسترجاع،
والتلخيص، والوصف، وغيرها.
هل السينما التجريبيّة هي فنّ السينما المفهومة في
إطار ما تمتلكه من الجوانب الأكثر فنّية، أيّ الأكثر
شكلية، والأكثر ذاتية، وهكذا، الأكثر تهديماً (...)
إذاً، سوف نكون بالقرب من الوظيفة الشعرية المنتصرة،
وهذا يعني، بالقرب من السينما التجريبيّة نفسها.
في هذا المعنى، يمكن أن يقول جاكوبسون بأنّ الوظيفة
الشعرية، وعن طريق تكرار
منتظم لوحداتِ متساوية"، يُدخل في السلسلة المحكية
"تجربة متشابهة مع الزمن الموسيقيّ".
من هنا نعثر على الحدس الذي شعر به الكثيرون من
السينمائيين التجريبيّين في العشرينيّات الذين منحوا
أعمالهم اسم "دراسة"، أو "قطعة موسيقية"، أو "إيقاع"،
أو "سيمفونية" : فمن المفيد معرفة أن السينما
التجريبيّة تبدأ من استبدال النموذج
الروائيّ ، أو المسرحي، بالنموذج الموسيقي (...)، أو
من الأفضل القول، القطب التجريبيّ للسينما، تُظهر لنا
في وضوحها : إنها نتاج إقصاءٍ، أو تراجع، يتمّ إنجازها
بطريقةٍ صنايعيّة أكثر منها تجارية، مكانٌ للفنّ
بامتياز (بمعنى، الشكل، والذاتية)، انتصارٌ للوظيفة
الشعرية، وعلاقةٌ مع الزمن تتخطى الحكاية بكلّ معاني
الكلمة...
لكن، يبدو انه من الافضل أن نعتبر إن انتصار الوظيفة
الشعرية لا يجب أن يعني تخطي الحكاية بكلّ معنى
الكلمة، بل العكس، إن نعني بأن الحكاية الشعرية هي
حكاية سيميائية لا حكاية مغلقة، ولا حكاية مفتوحة، وإن
الفيلم التجريبيّ يتخطى هاتين الحكايتين ليندرج تحت
مصطلح الحكاية السيميائية.
لنتوقف ختاماً عند المفهوم النيّر الذي يعرضه صلاح
سرميني في تمهيد رقم 4 كجواب على سؤال:
متى يكون الفيلم تجريبيّاً، ومتى لا يكون؟:
"من أجل استخدام المُصطلح (السينما التجريبيّة) بشكلٍ
أدقّ، أقترح على النقاد مشاهدة أفلاماً تجريبيّة
كثيرة، ودراسة هذا الجانب السينمائي منذ بداياته،
وتطوراته المُستمرة حتى اليوم، كي لا يتورط أحدهم في
استخدام مصطلحاتٍ في غير محلها، والمُساهمة ـ بدون
قصدٍ ـ في تضارب مفاهيمها، ومعانيها.
تكتب الباحثة، والسينمائية الفرنسية فريدريك دوفو:
"حسناً، في البداية، وبالنسبة لي، أرغب بأن لا أستخدم
كلمة "تجريبيّ"، لأنها تتضمّن معنىً أولياً بما يكفي،
يُحيلنا مباشرةً إلى "التجريب" في جانبه التبسيطيّ،
وأُفضّل القول، بأنّ هناك "سينما بحث"، بمعنى، كانت في
البدايات، تاريخياً، تبحث، وغالباً بالعلاقة مع
الفنّون التشكيلية (فرنان ليجيه ، وأقرانه ،...)،
ولاحقاً ، تكتشف مكوّناتها الخاصة، أيّ العناصر التي
تتكوّن منها : إطار الصور، الضوء، الإيقاع، إلخ
...(...) نعم، لأنّ "سينما البحث" التي يُقال عنها
"طليعية" كانت مرتبطةً بالفنّون التشكيلية : رينيه
كلير، شوميت، ليجيه ....
وتتوافق الأعمال الحكائية ـ روايات، حكايات مصورة،
أفلام ، إلخ ....ـ مع جرعاتٍ متنوّعة من هذا النوع من
الوظائف.
ستأتى سرعات متنوعة: كلّما امتلكنا وظائف أساسية أكثر
(مع القليل جداً من الوظائف التحفيزية)، كلّما تقدمت
الحكاية بسرعة، وكلّما امتلكنا وظائف تحفيزية، كلّما
تباطأت الحكاية.
إلى حدّ أن تكاثر الوظائف التحفيزية يمكن أن يوقف
الحكاية تماماً.
ولهذا السبب، نتجرأ القول بمنطقٍ بطوليّ كبي، بأنّ
التحفيز هو في قلب الوظيفة المرجعية نفسها، هي حصان
طروادة للوظيفة الشعرية.
ففي السينما، كما في أماكن أخرى، تسيطر هذه الوظيفة
المرجعية منذ قرون على الحكاية، تُملي عليها قوانينها
الخاصة بالاختزال، والشفافية: هناك شيءٌ ما علينا أن
نحكيه، ويجب أن نفعل ذلك بأسرع ما يمكن، وبطريقةٍ
مباشرة ما أمكن.
تتمثل مهمة التحليل السيميائي في تعريف الفيلم
باعتباره نظامًا خاصًا للتواصل، والرموز، والتمثيل،
وتمييزه عن أنظمة الفنّون، والرموز الأخرى.
يتمّ استكشاف إمكاناته للتمثيل، والشكل في كلّ من
نظرية الصورة، والتحقيق في الهياكل النصية.
سيفتح جان متري بداية الطريق أمام السيميائية: "إن
مأثرة السينما الكبرى، تتلخص في أن معطاها الواقعي، هو
عنصر حكايتها الخاصة، بمعنى، أن يصبح الواقع ما هو غير
موجو ، لان الواقعي يصبح أيضاً حكاية ما هو غير واقعي.
وسيرى ميتز، بعدئذ، كيف يتحول الواقع إلى علامة ! إن
تركيبية الأنظمة السيميائية، والترميزات المتعددة
للنص، والتعددية الدلالية الفنّية التي تنتج عنها، كلّ
ذلك يعطي الفيلم المعاصر تركيبة تشبه تركيبة المادة
الحية التي تعدّ هي الأخرى تكثيفًا لعدد من المعلومات
المعقدة التنظيم.
إن الناقد معنيّ أساساً في ما يصنع ليس حكاية الفيلم
الجيد، بل الكيفية التي تُروى بها الحكاية، فالناقد
أولاً يتابع حركة حبكة مضمون الفيلم السردية ؟! لأن
هدف حبكة الحكاية أساسا أن تقوم بالتنظيم الشامل
لأحداث الحكاية المرتبة في وحدة بنائية مترابطة، لتكون
بالتالي "الكيف" التي تسرد زمن أحداث الحكاية، وكيف
تحدث بدافع تشويق المشاهد، وتحدد نوعية نظام ترتيب
الأحداث في نسيج الحكاية طبقاً لقانون السبب والنتيجة.
وأن يحلل الناقد، بعدئذ، عناصر الشكل السردية، أي إن
على ناقد أي فيلم، إن أستطاع، أن يبين في الحكاية ‘كيف
يتم فيلمياً سرد ماذا.
يشير الفيلم التجريبيّ إلى الأفلام التي تستكشف طرقا
جديدة في التعبير، وكما يبدو، فإن الحدود بين الفيلم
التجريبيّ، والفيلم غير التجريبيّ ليست واضحة، ومن
المفارقة، مع ذلك، أن نتعرف، عادة، على الفيلم
التجريبيّ، عندما تشاهده.
يضع أمامنا مترجم، ومؤلف الكتاب الزميل صلاح سرميني
حتى في متابعتنا قراءة الكتاب صعوبة يمكن أن
نسميها صعوبة ممتعه، وهي التي رافقته دون شك، أثناء ما
كان يترجم الكتاب، ولا يسعني إلاّ أن أتمنى لكتاب،
فِرِيد من نوعه، أن يجد العناية اللازمة لكي يصل إلى
قارئيه من السينمائيين، والنقاد، ومحبّي السينما، وأن
يأخذ مكانته اللائقة في المكتبة السينمائية العربية ؟! |