في كتابه، يكتب الناقد صلاح سرميني في تمهيد رقم
2 عودة عن السينما التجريبيّة، وحولها:
"ما هي السينما التجريبيّة، ولماذا تُعتبر نوعاً
منفصلاً بحدّ ذاته؟
ويتابع: تتطلب الإجابة على هذا السؤال كتاباً، أو
بالأحرى كتباً، وهي بالفعل متاحة تحت هذا العنوان (ما
هي السينما التجريبيّة؟)، أو غيره من عناوين أخرى تبحث
في بداياتها، روّادها، تطوّرها، تأثيراتها، تأثراتها،
ممارساتها، وأشكالها...
ولهذا، فإنه من الأفضل قراءة ما كُتب عنها بالعربية
أولاً (والكتابات الجادة عنها نادرة جداً)، ومن ثمّ
باللغات الأخرى، والتدرّج في تذوقها".
لنذكر في هذا السياق، أنه صدرت في سلسلة الفنّ
السابع/دمشق أربعة كتب، من ترجمة عبد الله عويشق،
لمؤرخ السينما، والمنظر جان متري:
"السينما التجريبيّة "، و"علم نفس، وعلم جمال السينما"
في كتابين، أما كتابه "المدخل إلى علم جمال، وعلم نفس
السينما / 2009"، فهو "إعادة صبّ الجزأين في كتاب
واحد".
في نظرات أساسية، يتناول متري المفاهيم الخاصة حول
السينما، والإبداع: السينما والكلمة، حول بنية الصورة،
وإدراك الصورة الحسي.
كذلك، يتطرّق إلى الإيقاع، والمونتاج، ويتناول تلك
المفاهيم، التي تُعرّف الصورة، وقدرات وظيفتها، وتمهّد
الأسس لجمالية السينما.
يضيف سرميني أيضا: "الاقتراح الأفضل لكلّ من لديه فضول
التعرّف على السينما التجريبيّة، أن يشاهد نماذج منها،
لأنه لا فائدة من قراءة عشرات الكتب عنها بدون
المُشاهدة".
وهو ما يضع امام من يريد التعرف على السينما
التجريبيّة صعوبات بالغة ؟!
نقرأ بداية عند مارسيل مازيه "السينما التجريبيّة
سينما أُخرى، حرّة، ومُتحرّرة":
"قبل كلّ شيء، هي مُتحررّة من البناء الروائيّ
التقليديّ المُقدّس، فهي لا تحكي بالضرورة قصصّاً،
وحكاياتٍ بمُقتضى السيّاق الأكاديميّ: موضوعٌ، فعلٌ،
وتطوّر، والادّعاء بتقديم الحقيقة من خلال سردٍ
مُتخيّل(...)الشكل هو الأكثر أهميةً.
ونقرأ عند دومينيك نوجيز "ما هي السينما التجريبيّة
(1) ":
"السينما التي نريد الاحتفاء بها هنا صعبة التصنيف،
ولكن، في الحقيقة، هي ليست بحاجةٍ إلى أيّ تصنيفاتٍ،
إذّ هي السينما نفسها، حيث بدءاً منها ـ ما هو حيٌّ،
وجوهريٌّ في فنّ الصور المُتحركة، والصوت ـ علينا أن
نقارن الأفلام الأخرى معها، كما الحال عندما تصبح
أعمال رامبو، سيزان، وباخ مقياساً لروايات المحطات،
ورسومات الرسامين في الأماكن السياحية، والأغاني
الخفيفة (...) ومع ذلك، عبر الفترات الزمنية
المُتعاقبة، منحتنا هذه السينما في العشرينيّات أسماء،
مثل :
(سينما ـ فنّ)، أو (سينما الفنّ)، وأيضاً (سينما
صافية/خالصة)، (سينما كاملة/تامّة)، (سينما مُطلقة)،
(سينما ذاتيّة/جوهريّة/أساسيّة/أصيلة)، ونستدلّ منها
على رغبةٍ واحدةٍ بالاقتراب من جوهرها (...) كما
اُستخدمت تصنيفات (سينما تجريديّة)، أو (إيقاعيّة) حول
أعمال هانز ريشتر، أو جيرمين دولاك، وذلك للإشارة إلى
الأعمال غير الشكلية الأولى (أو الأولى تقريباً).
من جهته، تحدث غريغوري ماركوبولوس عن (فيلمٍ إبداعيّ)،
أو (الفيلم كفيلم)، والذي يُقرّبنا من (السينما
الصافيّة)"·
مع ذلك، ومنذ العشرينيّات، وحتى يومنا هذا، يُستخدم
مصطلحان أكثر من أيّ تسميّات أخرى:
(سينما: فيلم طليعيّ)، و(سينما: فيلم تجريبيّ).
وبينما تقاوم هذه المعادلات اختفاء المذهب الطبيعيّ،
وتتجاوز مجال الرواية، خمسون سنة فيما بعد، سوف نجدها
قد عادت إلى الحياة، في النصوص التنظيريّة لـ دزيغا
فيرتوف.
(منهج "السينما ـ عين" هو منهج الدراسة العلميّة ـ
التجريبيّة للعالَم المرئيّ).
بينما وُفقاً قاموس روبير، ولاروس، تجريبيّ (ما يعتمد
على التجربة العلمية).
في نهاية المطاف، وبالاستفادة من إشارتنا إلى الرواية
الطبيعيّة الشابّة، أو الـ Kinoglaz الثورية، كلمة
(تجريبيّ) تصبح عن حقٍّ، أو خطأ - وبشكلٍ دائمٍ -
المرادف لـما هو (جديدٌ)، و(طليعيّ).
الإشكاليّة هنا: كيف تخطينا هذا المعنى المنهجيّ إلى
الجماليّ الذي يشغلنا؟
إذاً، النشاط التجريبيّ هو، مزيجٌ من الجرأة، والعمى،
لنجد هذه الطريقة المغامرة في التوجّه بعماءٍ، وإبداعٍ
بدون قصد، في أصل بعض الأعمال الأكثر أهميةً في تاريخ
السينم ،
كما هو الحال في فيلم "المواطن كين"، حيث قال أورسون
ويلز يوماً:
ـ لم أباشر عمداً كي أكتشف أيّ شيءٍ، فقط، قلتُ لنفسي،
لِمَ لا ؟ بإمكان الجهل أن يصبح منقذاً كبيراً، وهذا
ما قدمته لفيلم "المواطن كين"، الجهل···
لنلخص: من وجهة نظر أولى جمالية، تجريبيّ، هو كلّ
فيلم تقوده الانشغالات الشكلية (ونعني بـ"انشغالات
شكلية"، أيّ همّ يرتبط بالمظهر المحسوس، أو بناء
العمل، بدون الأخذ بعين الاعتبار المعنى الذي يتضمّنه).
عادةً، يُستخدم مفهوم السينما البحتة، أو الصافية في
أدبيات الكتابة عن السينما التجريبيّة عندما يتخلى
الفيلم عن البُنى السردية المعهودة في السينما
السائدة، ويتحول إلى "قصيدة سينمائية"، على اعتبار أنّ
السينما البحتة، أو الصافية تبتعد ما أُمكن عن
الحكاية، وتنتصر للشكل، حتى أنّ المعالجة الشعرية
لفيلم ما لا تجعله سينما صافية، أو بحتة إلاّ إذا تحول
الفيلم بالذات إلى "قصيدةٍ من الصور، والأصوات".
صاغ تودوروف مصطلح "علم السرد" لأول مرة عام 1969 في
كتابه ' (قواعد الديكاميرون)، وعرّفه بـ(علم / الحكاية
/ القصة) .
تسجل مادة الصورة الواقع في حركته، التي هي ليست
بالمادة السهلة الطيّعة، إنها مادة يتوجب استمالتها
وإخضاع مزاياها، لأن وضع مادتها الواقعية تحت رحمة
الاستنساخ التقني لعملية التصوير، تُقيّد العمل
الفنّي، وتنتزع حيويته.
على هذا، يجب أولاً تحرير الواقع من ربقة الاستنساخ
الآلي، وإخضاعه لقوانين الإبداع الفنّي، ففي الحقيقة
لا بد لكل اكتشاف فنّي تقني جديد، كي يتحول إلى حقيقة
فنّية، أن يتحرر، سلفاً، من آليته التقنية.
لقد انطلقت إضافات هيتشكوك من قدرته على استعمال
عناصر، ووسائل تعبير كلاسيكية، وظفها بشكل حرفي،
ومًتَميز في سرد حكاياته المثيرة، لنذكر فقط تجربته
الجذرية التي فتحت الأبواب على تنوع زمن سرد الحكاية،
فهو أول من استطاع في تاريخ السينما أن يصنع فيلماً
روائياً تجريبيّاً بلقطة واحدة مدتها 90 دقيقة «الحبل
» .
كذلك استطاع أن يصنع مقطع «سكوينس » جريمة الدوش
المشهورة في فيلم «سايكو» عام 1960 بمدة لا تتجاوز
الدقيقة الواحدة لكن في 70 لقطة!
وما من شك في أن السينما الحديثة تدين للمبدع أرسون
ويلز، خاصة في فيلم "المواطن كين -1941" الذي يُعَدُّ
نقطة تحول هامة في تقاليد التعبير السينمائي، وكان
تأثيره حاسماً على سينما ما بعد الحرب العالمية. وربما
لا يزال واحداً من أغنى الأعمال الفنّية في تاريخ
السينما، تمكن فيه ويلز، من إنجاز ثورة درامية في
بنائه الروائي.
غير أن الأهم في هذا العمل النموذجي ليست بنيته غير
المألوفة في سرد الحكاية، إنما أيضاً تجاربه الفنّية
المبتكرة في الصوت، وفي المونتاج، وفي موقع الكاميرا،
وحركتها، وفي تصميم الأجواء الدرامية. |