ليسَ من زماننا، عبدالله حبيب
مسعود أمرالله
"كتب الشاعر، والسينمائي الإماراتي "مسعود أمر الله" هذا النصّ
عن الشاعر، والقاصّ، والكاتب، والسينمائيّ العُماني عبد الله
حبيب في سياق فوزه بـ "جائزة الإنجاز الثقافيّ البارز في عُمان
لعام ٢٠١١" المُقدمة سنوياً لشخصيةٍ واحدة من قِبل "مبادرة
القراءة نور، وبصيرة"، وذلك للتميّز في الانتاج الإبداعيّ،
والعمل الناشط في الميدان.
هذه المبادرة مؤسّسة أهلية، وليست رسمية، وتهتمّ خصيصاً
بالاحتفاء بمن يُقصيهم الفضاء الرسميّ إلى الهامش.
وبمناسبة تقديم الجائزة (التي لا تتضمّن أيّ شقٍ ماليّ) يتمّ
إصدار كتابٍ عن الفائز متضمناً حواراً مطوّلاً معه، وشهاداتٍ
يقدمها أصدقاؤه، ورفاقه في الميدان، وزملاؤه في الإبداع.
في هذا السياق، كانت شهادة مسعود أمر الله.
فصدر الكتاب بعنوان "ليس من زماننا، عبد الله حبيب"، وهذا
العنوان هو جملةٌ وردت في شهادة الشاعر البحريني قاسم حدَّاد
عنه الواردة في ذات الكتاب الصادر بتحرير سليمان المُعمري، دار
الانتشار العربي، بيروت، ٢٠١٣"
***
لم أعد أتذكّر تماماً متى؟ وأين؟ وكيف؟ ولماذا؟ التقيت بصديقٍ
عزيز، ومثقفٍ مختلف، وسينمائي نهم، ومنظّر عميق، وقاصٍ متميّز،
وكاتبٍ استثنائي يُسمى عبد الله حبيب من سلطنة عُمان. المهم في
الأمر أنني التقيته، ولحسن الحظ.
كنتُ قبل اللقاء، عرفته شاعراً، وقاصاً، وكاتباً، وسينمائياً،
وبعد اللقاء عرفته إنساناً، وصديقاً، وأخاً، ومرجعيةً لي في
قراءة أفكاره، وحواراته، وأسئلته الوجودية المحيّرة، التي
أدهشتني كثيراً، وفتحت لي أفق التفكير، والتحرّر من الزوايا
الضيقة، الأحاديّة، والسائدة.
ماذا يُمكن الكتابة عن إنسان مثله؟ هي ورطة ذات أبعاد مختلفة:
ألن تكون مجاملة لشخصٍ تحبُه؟ ألا نكتب دائماً فيمن نفتقده قبل
أن نكتب عنه وهو يتنفّس؟ ألن أفضح نفسي في كتابةٍ مثل هذه،
وأنا المتحفّظ دائماً في إبداء رأيي الشخصي تجاه الأصدقاء؟
لا يهم إن كانت الورطة بهذا الجمال؛ هو تشريف، وفرصة لأن أحكي
عن علاقتي معه أكثر من الكتابة عنه. سأعتبر هذا من باب الدردشة
مع أصدقاء آخرين، عبد الله ليس بينهم، فيما هو محور الحديث.
إذن بعد أن التقيته في زمنٍ ما، ربما كنتُ قد شاهدت أفلامه
القصيرة التي صنعها أثناء الدراسة، أو ربما هو أهداني إياها
بعد لقائه. ظللت أحتفظ بفيلم "هذا ليس غليوناً" في ذاكرتي
–التي شاخت الآن- ولكن لن أنسى مشهد الرجل الذي يتصفّح الغليون
على أنه كتاب، ربطته من غير وعي، بفيلم "كلب أندلسي" للمخرج
لويس بونويل وكاتب السيناريو سلفادور دالي، وبالأخص مشهد النمل
في الكف المثقوبة.
هذا الربط الأولي، كان مدخلاً مهماً لي لمعرفة شخصية عبد الله
الذي أجده واقعياً أكثر منه سوريالياً، وحالماً أكثر منه
واقعياً. ومنطقياً أكثر منه مشوشاً، وعبثياً أكثر منه نظامياً؛
وراكزاً أكثر منه جدلياً، وبالتأكيد إن قلبنا كل المفردات
وعكسناها، سنجد ذات الشخصية، عبد الله.
هذه المعرفة -التي قد تبدو ضبابية- هي التي أسرتني، وجعلتني
أفهمه، ولا أفهمه. الشخصية التي جعلتني أرى فيلمي القصير
الأوّل "الرّمرام" (1994)؛ بعينٍ جديدة عندما كتب عن الفيلم.
أدهشني؛ كيف فهمه أكثر مني؟ كيف أعطى الفيلم بُعداً مغايراً،
ولوناً باهياً، وتحليلاً علمياً، وأراني كيف لي أن أتذوّق ما
صنعتُ، وما صَنعه صديقنا الجميل كاتب السيناريو إبراهيم الملا؛
الذي كنّا أثناء الكتابة نلغّزه، ليأتي عبد الله ويفكّكه.
عرفته عاشقاً للسينما، وللسينمائيين: بازوليني، بالتأكيد لا،
ليس وحده. بريسون، لا لا. جبريل مامبيتي، لا أيضاً. تاركوفسكي؛
لا وألف لا. عبد الله يعيش في كلٍ منهم؛ وهم يسكنون فيه. ما
يفعله عبد الله غير ما نفعله نحن. أظن أننا نشاهد الأفلام؛
ولكن هو يعيشها. يعرفهم جميعاً عن قرب، يعرف شخصيات أفلامهم،
وحواراتهم، ولونهم، وفلسفتهم، وعندما يكتب أو يترجم أو يحكي؛
فهو يستشهد بهم لأنه عايشهم، ولا يكتب من وحي الخيال؛ وهذه
ميزة نادرة عرفتها مثلاً لدى المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي
الذي يخرج من فيلم صامت، لم يعاصره، وكأنه خارج للتو من موقع
التصوير.
ربما يتقاسم عبد الله معي في شيءٍ واحدٍ حتمي، وأشياء أخرى
كثيرة؛ وهو بُعدنا القسري؛ ولنقل بعد تخفيفه: الاختياري
المرحلي، عن صُنع الأفلام. في العام (1996)؛ كتب عبد الله نص
سيناريو فيلم وثائقي، قمت بإخراجه هو "الغرفة القزحية: مائة
عام من السينما". هذا الفيلم يقع في (90) دقيقة، وكان من
المفترض أن يفتتح الدورة الثانية من "ملتقى السينما لدول مجلس
التعاون لدول الخليج العربية" في الشارقة.
الفيلم الذي لم يرَ النور للآن، ولم يشاهده عبد الله أيضاً...
للآن، ربما يكون آخر ما كتبه للسينما صانعاً، وليس مراقباً أو
عاشقاً؛ وربما قمتُ أنا ببعض المحاولات في الإخراج بعدها؛
ولكنها ظلت خجولة؛ ومختبئة.
كنتُ أتمنى أن أتقاسم مع عبد الله شيئاً أكثر بقاءً؛ ووضوحاً،
وبروزاً طالما أننا مرضى بالسينما؛ (17) سنة مرّت على الفيلم
المشترك بيننا؛ والذي بالمناسبة: لا أثر له إطلاقاً.
لم يصنع عبد الله السينما التي يُجيدها؛ ويَفهمها؛ ويَعشقها،
ويُروّضها. اكتفى بالغوص، وترك السباحة. وأعاتبه بقدر عتابي
لنفسي. لذا؛ عليّ أن أنسحب هنا من أصدقائي لأتوجه بالحديث إليه
شخصياً:
نُريدك مخرجاً أيضاً. ونُريدك كاتب سيناريو أيضاً، ولن نكون
بعدها طامعين.
لن نعيش في الغياب كثيراً يا عبد الله؛ وتكريمك هذا مستَحقٌ
جداً؛ لنا بالدرجة الأولى.
وتأكّد، أن الغليون لا يزال مشتعلاً... وإن كان في ذاكرتي
المنطفئة؛ فهذا دليلٌ آخر على أصالة ما صنعت! |