الصورة هي الأصل
ثمة اتهام موجه لمحمد خان بأنه مخرج شكلي، يهتم بالجانب التقني (الصورة) أكثر من
اهتمامه بالمضمون (الحدوتة). هذا بالرغم من أن محمد خان نفسه لا يعتبر هذا اتهاما،
بل ويعلن صراحة حبه واهتمامه بهذا الجانب، ويرى بأن السينما أصلاً هي صورة ولا بد
من تطوير هذه الصورة والبحث من خلالها. ويضيف في قوله: (إن هناك استهتار بشع
بالتكنيك في السينما المصرية(...) لن تتقدم السينما عندنا أبداً لأنها لا تهتم
بالشكل (...) لن تكتمل عندنا سينما جديدة إلا لو أعطت اهتماما أكثر بالصورة !!)[1]*
وفي مكان آخر يقول: (إنني موافق بأن الصورة لن تكون مهمة إذا كان المضمون عبقرياً
في السينما. إذا وجدت مضموناً قادراً على التهام الصورة، فأنا مستعد لأن أضع
الكاميرا وأصوره فوراً، ولكن العثور على مثل هذه المضامين مسألة نادرة جداً،
وبالتالي تبقى للصورة الأهمية الكبرى !!)[2]*
وبالرغم من كل ذلك، فإننا نرى العكس، فما يميز خان أكثر هو طرحه لمضامين وشخصيات
جديدة ومبتكرة لم تعهدها السينما المصرية، وهذا ما جعلنا نقوم باستعراض كامل وموسع
لأفلامه.
ربما لا يكون هناك اهتمام واضح من خان بالحدوتة التقليدية في أغلب أفلامه، إلا أنه
يهتم كثيراً بشخصياته والتوغل في أعماقها، وذلك للكشف عن جوانب هامة في تركيبتها،
وإضفاء أبعاد إنسانية عميقة وصادقة عليها، يطرح من خلالها قضايا فردية، إنما تعكس
مجتمعاً بكامله.
أما بالنسبة لاهتمامه بالصورة، فهذا أمر يحتاج منا لتوضيح. فصحيح بأن محمد خان في
معظم أفلامه قد أعطى للصورة السينمائية مكانة بارزة، بل وأكد على إظهار إمكانياتها
في التعبير التأملي عن الحدث الدرامي، واكتفى بحوار مركز وعميق ساهم في توصيل
المعاني الدرامية لهذه الصورة ـ وهذا بالطبع مجهود يحسب لصالح محمد خان ـ إلا أنه
لم يركز اهتمامه على إبراز الجوانب الجمالية في تكوينات كادراته السينمائية،
باستثناء فيلمه (أحلام هند وكاميليا)، علماً بأن أفلامه الأخرى قد احتوت على بعض
الكادرات الجميلة والمتفرقة هنا وهناك، لكنها لم تشكل أسلوبا مميزاً وموحداً
لأعماله السينمائية.
المتفرج وحرية الفنان
إن أهم ما يميز محمد خان كمخرج كونه لا يفكر في المتفرج أثناء تنفيذه لأي من
أعماله، بل أنه لا يضعه في اعتباره. وصلته بالمتفرج لا تتعدى متابعة ردود أفعال
أعماله على هذا المتفرج.. (عامة أنا لا أفكر في المتفرج، هل الرسام يفكر فيمن
ستعجبهم لوحته !!)[3]*
وهذا بالطبع قد جعل من محمد خان فناناً يمتلك بعض الحرية في التعبير عن قضايا
ومشاكل تشغله وتخصه هو بالذات كإنسان وفنان، كما جعله يتخلص من قيود هذا المتفرج
الكسول وقيود السينما التقليدية بشكل عام، وبالتالي إطلاق العنان لخياله الفني
لاستحداث وابتكار أشكال فنية جديدة.. (هناك مسائل صغيرة شغلت بالي، وشغلت بال
السينما منذ بدايتها، ومازالت السبب الرئيسي الذي من أجله أحقق الأفلام وأعمل في
الإخراج، بل هي ما تجعلني
مستمراً.. أحاول أن أسيطر على تقنيتي تماماً وعندما أشاهد فيلماً جيداً أشعر
بالغيرة ويدفعني ذلك لتحقيق فيلم جيد!!)[4]*
أفلام ذاتية.. وشخصيات غير متوائمة
محمد خان يصنع أفلاماً ذاتية، بمعنى إن هذه الذاتية تشكل طريقاً وهدفاً حقيقياً
للتعبير بصدق وأمانة عما يشعر به الفنان تجاه مجتمعه. وإن الذين يصرخون (المضمون ..
المضمون)، ويطالبون بما لم يقدمه خان لهم، إنما يسعون ـ في واقع الأمر ـ إلى تناقض
بين ما في داخل محمد خان وما عليه أن يقدمه. فهو يقوم دائماً بكتابة قصص أفلامه
ويشارك في كتابة السيناريو لها، حرصاً منه على أن تتضمن أفكاراً وشخصيات هي في
النهاية عبارة عن مجموعة من الهواجس الذاتية. لقد أعطى شخصيات أفلامه الكثير من
شخصيته هو نفسه (كما جاء في تصريحاته الصحفية )، فشخصياته هي غير القادرة على
التأقلم مع مجتمعها، تعيش في صراع دائم بين الحلم والواقع، في بحث دائم عن الذات
والحرية الشخصية. ففارس في (طائر على الطريق) يبحث عن الحب والحنان والأمان
الاجتماعي، ونوال في (موعد على العشاء) تبحث عن شخصيتها وحبها المغتصب، وفارس في
(الحريف) يبحث عن موقعه في هذا المجتمع المليء بالصراعات والتناقضات، وعطية في (خرج
ملم يعد) يبحث عن التغيير وخلق أسلوب جديد للحياة، أما هند وكاميليا في فيلم (أحلام
هند وكاميليا) فهن يبحثن عن أحلامهن وحريتهن الشخصية. وبشكل عام فإن أبطال محمد خان
شخصيات حزينة وحيدة متمردة وغير منتمية، وتمثل خليطاً مركباً من المشاعر والأحاسيس
المتناقضة.. بين الجد واللامبالاة، النقاء والتردد، التواضع والكبرياء، الحلم
والإحباط، الغربة والانتماء. هذه هي طبيعة شخصيات محمد خان، فهي أبعد ما تكون عن
الأنماط الاجتماعية المتوائمة مع مجتمعها. فهو ـ كما ذكرنا في مكان سابق ـ لا يبحث
عن نوعية محددة من الأفلام، وإنما يبحث عن شخصيات مميزة وغير نمطية .. (إن شخصياتي
نبيلة وتريد تحطيم القيود التي تكبلها في حياتها اليومية.. حتى الموظف الذي أصوره
في أفلامي موظف ثائر على وضعه ويسعى للخروج من حالة الركود التي يعيشها)[5]*
الكاميرا في الشارع
تتميز أفلام محمد خان بخاصية المتعة السينمائية، وإن تفاوتت من فيلم إلى آخر، وذلك
لأن أهمية تجربته تكمن في أنه يتناول في أفلامه الشخصيات العادية البسيطة والمهن
الشعبية، والتي يتجاوزها غيره من المخرجين. وحتى لو تناولوها فإنهم يلامسونها
سريعاً وبشكل سطحي غير عميق. وذلك لسببين، إما لعدم امتلاكهم للإمكانيات الفنية
الكافية لمعالجتها، أو لأنهم لا يمتلكون الجرأة الفنية للنزول بكاميرتهم إلى
الشارع.
أما محمد خان، فهو يلتقط الشخصية التي غالباً ما تستوقفه من الشارع ليعيد صياغتها
وتطويرها في مخيلته، محملاً إياها إسقاطات وإيحاءات وأبعاد إنسانية واجتماعية
عميقة، ومن ثم إضافة الرؤية والفكر الخاص به والعاكس لما يختمر في ذاته. يساعده في
ذلك عشقه للتصوير في الشوارع والأماكن الطبيعية.. فهو الذي جسد عشقه لشوارع القاهرة
من خلال متابعته لمغامرات بطله الصحفي في أول أفلامه (ضربة شمس)، لدرجة أنه أصر على
تصوير مشهد كامل ومعقد في مطعم قريب من سينما مترو، بالرغم من استعداد المنتج لبناء
نفس المقهى في الأستوديو .. (قلت لا سأصور هناك حيث كنت أذهب وأتناول العشاء مع
والدي ونذهب إلى السينما، لقد عنى ذلك شيء مهم بالنسبة لي (...) أنا أحب المدينة،
لقد ولدت ونشأت في وسط المدينة، وأحب أن أصور في الأماكن التي أتذكرها، أو التي
كنت قد زرتها !!)[6]*
وهو الذي جعل من حياة سائق تاكسي موضوعاً سينمائياً، وخلق جواً خاصاً في تنقله بين
الطرق الطويلة المتميزة بين المدن في فيلم (طائر على الطريق).. وانتقل في فيلمه
(موعد على العشاء) إلى الشوارع الخلفية والجانبية ذات الملامح الخاصة بالإسكندرية..
وأثبت عشقه للقاهرة بحواريها وأزقتها الضيقة متناولاً لعبة كرة الشراب الشعبية في
فيلم (الحريف).. واستغل جو المطاردات في فيلمي الثأر، نصف أرنب لتصوير مشاهد
لمناطق جديدة في القاهرة لم يسبق أن شاهدناها في الأفلام المصرية.. وتابع رحلة عطية
وعمر لتصوير الريف المصري في فيلمي خرج ولم يعد ، مشوار عمر.. وقدم عالم الخادمات
وجسد إحباطاتهم في فيلم (أحلام هند وكاميليا). إنها حقاً مهمة صعبة وتجربة فنية
مثيرة، جسدها محمد خان من خلال أفلامه. صحيح بأن هناك البعض من المخرجين المصريين
ممن قدموا المدينة في أفلامهم، إلا أن محمد خان تميز عنهم بأنه قد أعطى للمدينة
شخصية مستقلة وشكلاً خاصاً وجديداً، هذا لأنه قد أدرك الكيفية التي تستطيع أن تلعب
المدينة فيه دوراً درامياً فعالاً وهاماً، بدل بقائها كخلفية فقط للحدث الدرامي.
هذا هو أسلوب محمد خان الفني، ذو اللغة السينمائية المركزة للتعبير عن مواقف وأحداث
خارجة عن كل تقليد.. ميدانه المدينة والواقع، وخياله مستمد منهما، يصيغهما في إطار
تقنية جديدة ومبتكرة، وفرتها له ثقافته السينمائية الغربية.
جمهور ومثقفٍ
أراد محمد خان، ومن خلال جميع أفلامه، خلق جمهور واعي ومثقف سينمائياً ومتذوق لهذا
الفن.. وذلك حين يقول: (هدفي الأساسي أن أعمل فيلماً تتلقاه كل العيون، خصوصاً عين
ابن بلدي. لذلك يتهموني بأنني أصنع أفلاماً (خواجاتية) وشكلية. وحقيقة الأمر، هو أن
عيوننا لم تتعود بعد أن تكون الكاميرا هناك، لأنهم يريدونها في مكانها الدائم.
وعندما غيرت قليلاً مكان الكاميرا، قالوا هناك نوع من الغربة بالنسبة للعين. إيماني
كبير بأن عين المتفرج ستعتاد على هذه اللغة السينمائية، وبالتالي سيصبح الأمر
طبيعياً!!)[7]*
وقوله هذا يؤكد لنا بأنه لا يريد أن ينصاع لرغبات الجمهور، بل ويريد أن يعوده على
ما يقدمه له، حيث يقول: (أنا لا أستطيع أن أعمل كل شيء لكي يفهمه الجميع، عليهم أن
يبذلوا بعض الجهد(...) لا أستطيع أن أصنع أفلاماً لكل الناس، هناك أشياء صغيرة
أمررها في أفلامي وأتمنى أن تفهم من قبل الآخرين!)[8]*
السينما لا تبحث في الحلول
وبالرغم من أن محمد خان قد تناول الكثير من القضايا التي تشد انتباه هذا الجمهور،
إلا أنه يرفض معالجة هذه القضايا وطرح الحلول لها، وذلك إيماناً منه بأن الفنان ليس
مشرفاً اجتماعيا أو خبير سياسي، ومهمته كسينمائي وفنان تكمن في إثارة مثل هذه
القضايا وترك الحلول للمتفرج يهتم بها ويتناقش حولها.. يقول خان في هذا الصدد:
(أريد أن يخرج المتفرج من أفلامي وهو يفكر في المشكلة المطروحة أمامه في الفيلم.
والحقيقة إن الجمهور هنا معتاد على المعالجة الفجة، وأنا أرفض هذا الأسلوب. وقد
يكون هذا هو سبب الصعوبة التي تلقاها بعض أفلامي في الوصول إلى الجماهير العريضة.
وأنا مدرك لهذا وواعٍ له تماماً، ولكني مصر على أن العين ستعتاد تدريجياً على هذا
الجديد، وإن المتفرج سيفهم الصورة.. فمثلاً (الحريف) فيلم يتكلم عن الفقر، ولكنه لا
يقول إنه يعالج مشكلة الفقر. إنني لا أقول يجب عمل هذه الأشياء للقضاء على الفقر،
ليست هذه هي مهمتي !!)[9]*
السينما فريق عمل متجانس
يتمتع محمد خان بأسلوب عمل مختلف فهو صارم وشديد الحساسية في آن واحد أثناء
التصوير، فبالرغم من أنه يكتب قصص أفلامه ويشارك في صياغة السيناريو لها، إلا أنه
يرفض الاستماع لآراء الآخرين أثناء التصوير، بل ويرفض حضور أي شخص لعروض الفيلم
أُثناء العمل، حيث يقول: (أنا ديكتاتور في هذا المجال، حتى سعاد حسني لم تحضر موعد
على العشاء إلا في العرض الصحفي. فما دام السيناريو قد انتهى وتم الاتفاق عليه،
فإنني لا أحب أن أسمع أي ملاحظات على عملي من أحد!!)[10]*
كما أن له فلسفة ورأي خاص بالنسبة للسيناريو.. فهو يرى بأن هناك مخرج منفذ
للسيناريو ومخرج مؤلف أو خالق، له فكره الخاص، والنوع الثاني يتعامل مع كاتب
السيناريو كشخص مطلوب منه أن يحقق لهذا المخرج بعض أفكاره، إلى جانب أفكار الكاتب
نفسه. والاثنان يندمجان لتقديم العمل. وهو بالتالي يرى بأن السينما أساساً هي سينما
المخرج مائة بالمائة، حيث ينسب الفيلم لمخرجه ويكون مسؤولاً عنه مسؤولية كاملة..
(صناعة الأفلام بالنسبة لي مسألة شخصية.. ليست مسألة أنني أصنع أفلاماً والسلام،
ولكنني أساساً أصنع السينما الخاصة بتركيبتي.. وفي نفس الوقت هذا لا يعني تجريد
الكاتب من إضافاته. فمثلاً لو جاءني سيناريو عبقري فلن أخرجه، لأن سيناريو عبقري
معناه أنه سيناريو كامل متكامل، فهو إذاً لا يحتاج إلا إلى شخص ينفذه.. وهذا ما
أرفضه، لأن شغلتي مع السيناريو هي أن أضيف إليه، أعطيه الصورة في النهاية وأجعلها
تنطق بجوار الفكر اللفظي الموجود في السيناريو وهذا مهم جداً)[11]*
ولأنه يرفض أن يقوم بتنفيذ أي سيناريو جاهز، فقد أًصبح تعامله مع الوسط الفني
معروفاً .. (...إنني أقوم بالتحضير لمشاريعي وأقدمها للسوق وهي كاملة، أي أنني
أتقدم للمنتج بالسيناريو وبالموافقة المبدئية عليه من الممثلين. وكما يختار المنتج
المخرج الذي يتعامل معه، فإن للمخرج الحق ذاته، فالمنتج ليس فقط من يملك الفلوس)[12]*
هذا إضافة إلى أن محمد خان يصر على اختيار فريق العمل من فنيين وفنانين بنفسه. وهذا
ـ بالطبع ـ من حق أي فنان حريص على عمله، لأن العمل الفني عبارة عن انسجام وتجانس
للعناصر الفنية للوصول إلى أرقى مستوى إبداعي وجمالي للعمل الفني. لذلك يلاحظ
المتتبع لأفلام خان تكرر أسماء ارتبط بها في أكثر من عمل، مثل المونتيرة نادية شكري
(التي قامت بمونتاج جميع أفلامه)، مدير التصوير سعيد شيمي (ثماني أفلام)، الموسيقار
كمال بكير (سبعة أفلام)، السيناريست بشير الديك (ستة أفلام)، مدير التصوير طارق
التلمساني (ثلاثة أفلام)، السيناريست عاصم توفيق (أربعة أفلام)، والسيناريست رؤوف
توفيق (فيلمان). ولم يأتي هذا الارتباط الفني اعتباطيا، بل جاء نتيجة للتجانس
والتشابه الكبير بينه وبين هؤلاء الفنانين بالتحديد، حيث جمعتهم مواقف وآراء حول
مفهوم وجماليات السينما التي يصنعونها. فعن تجربته مع سعيد شيمي، يقول محمد خان:
(هو صديق الطفولة، كنا نذهب إلى السينما معاً، وحققنا أفلام 8ملي و16 ملي معاً،
والذي كان دائماً يريد أن يصبح مدير تصوير وكنت دائماً أريد أن أصبح مخرج أفلام،
وهو دائماً يفهم ما أريد، أعني إنه عندما أشير إني أريد اللقطة بطريقة معينة فإنه
يفهم سريعاً أية لقطة وأية طريقة أعنيها، وعندما أنظر من خلال الكاميرا تكون هي
ذاتها اللقطة المطلوبة. ربما لأننا ذهبنا إلى السينما معاً وتذوقناها معاً.. إنه لا
يقول لا لشيء بل يحاول تحقيقه مهما كانت الظروف، وأعتقد إني فتحت المجال أمام سعيد
لكي يطلق ما في داخله في الوقت الذي أتاح لي كذلك بأن أقدم ما أريد تقديمه كمخرج،
وكان تعاوناً مثمراً !!)[13]*
وعن افتراقه عن سعيد شيمي واختياره لطارق التلمساني، يقول: (أنا وسعيد وصلنا لمستوى
الاستغناء وإمكانية العمل منفردين لا مانع طبعاً من العودة، فما بيننا هو صداقة
العمر كله. اختياري لطارق التلمساني جاء من خلال عملي في أفلام روائية قصيرة عن
تنظيم الأسرة مع خيري بشارة وعاطف الطيب، اقتنعت به ووجدت أنها فرصة للانطلاق به
كمدير تصوير جيد)[14]*
أما عن تجربته مع المونتيرة نادية شكري، فيقول: (أنا محظوظ بها، لأنها تسمعني
جيداً، ولأنها حساسة وتترجم كل ما أريد بميكانيكية المونتاج الذي لا أعرفها، وهي
محظوظة لأنها وجدت نفسها في مجال جديد وسينما ذات شكل جديد وحققت نفسها!!)[15]*
هذا إضافة إلى أن محمد خان قد كون مع بشير الديك وسعيد شيمي ونادية شكري وعاطف
الطيب وخيري بشارة وداود عبدالسيد، كوّن مع هؤلاء الفنانين جماعة سينمائية أطلق
عليها (جماعة أفلام الصحبة)، جمعتها رابطة الصداقة ومجمل القضايا والهموم الفنية
والثقافية بشكل عام.. يقول خان: (بدأنا نناقش بعضنا ونشتم بعضنا ونغضب وتتأزم
العلاقات، في الوقت نفسه كنا نحب بعضنا البعض بشكل كبير !!)[16]*
وكان الهدف من إنشاء هذه الجماعة هو إنتاج أفلام ذات مستوى جيد وتقدم جديداً،
والفيلم الوحيد الذي قامت الجماعة بإنتاجه هو (الحريف)، بالرغم من معارضة محمد خان
نفسه على ذلك، حيث يرى بأن جماعة الصحبة يجب أن تنتج السيناريوهات التي تواجه مشكلة
إنتاجية، ومن الصعب تمويلها إلا من خارج الجماعة، وفيلم (الحريف) سينتج في كل
الأحوال لتناوله كرة الشراب الشعبية ووجود عادل أمام كنجم شباك. ولكن ضعف الجماعة ـ
كما يقول محمد خان ـ يكمن في أنه : (ليس بيننا تاجر واحد، وإلا كان في إمكاننا
المساومة بشكل أفضل والتسويق بصورة أجود. لكننا عامة راضون عن تجربة الحريف !!)[17]*
ثم لا ننسى عند الحديث عن تجربة محمد خان من التطرق إلى تلك الدقة الشديدة
والمتناهية التي يتمتع بها في اختيار ممثليه، وأسلوبه في التعامل معهم. فقد عمل خان
مع عادل إمام ونور الشريف وأحمد زكي وسعاد حسني وغيرهم من نجوم السينما، إلا أنه لا
يسعى بالضرورة وراء النجوم، فهو يبحث عن الشخصية التي تناسب الدور، ويرى أنه قد وضع
مبدأً هاماً جداً في السينما المصرية، وهو إصرار المخرج على أبطاله مهما كانت
الظروف. فهو عندما أصر على يحيى الفخراني للقيام بدور (عطية) في فيلم (خرج ولم
يعد)، رغم معارضة أغلب الموزعين بحجة إبداله بنجم شباك. ولكن حصول الفخراني فيما
بعد على جائزة أفضل ممثل في مهرجان قرطاج الدولي، قد عزز موقف محمد خان وموقف من
ينتمي إلى نفس أسلوبه. فبعد الفخراني حصل أحمد زكي على جائزة أفضل ممثل في مهرجان
دمشق الدولي عن دوره في فيلم (زوجة رجل مهم)، ونجلاء فتحي بجائزة أفضل ممثلة في
مهرجان طشقند الدولي عن دورها في فيلم (أحلام هند وكاميليا). وليس هذا إلا دليلاً
على توفيقه في اختيار ممثليه وقدرته على إدارتهم. كما أنه يمتلك أسلوباً خاصاً في
العمل، فهو يفاجأ الممثل بتغيير في الحركة أو الديكور، إذا وجد أن الممثل يستعد
لأداء الشخصية، وفي هذه الحالة يعيد الممثل التصاقه ومفهومه للشخصية. ثم أن علاقته
بممثليه علاقة زمالة وتقدير، فهو ضد العلاقات الشخصية وضد السهرات الليلية.. (هناك
حاجز شفاف بيني وبين الممثل الذي لا أعرفه جيداً، هو ينظر إليّ باحترام مثلما أنظر
إليه باحترام، وبالتالي هو يسمعني باهتمام وعلى استعداد لأن يعطيني كل ما عنده، هذا
الاستعداد يكون موجوداً منذ البداية !!)[18]*
محمد خان لا يريد ممثلاً يتصور بأنه سيعمل في فيلم فحسب، بل يريده أن يعطي للعمل
قيمته، فهذا كما يرى خان مهم جداً في العلاقة بين المخرج والممثل، وذلك لأنه يعتقد
بأنه مخرج ديكتاتور نوعاً ما. ويتحدث محمد خان عن أسلوب تعامله مع الممثل، فيقول:
(حينما يبدأ مخرج ما العمل مع ممثل مبتدئ على الأقل يعرفه كإنسان، ثم يحاول التعرف
عليه خلال التجهيز للفيلم.. لي موهبة مضافة إلى موهبة الإخراج، هي أن الناس تأتي
إليّ لتحكي لي أشياء لم أطلبها منها، فأستثمر هذه المعرفة بالإنسان الموجود أمامي،
كيف يفهمونك وكيف تفهمهم هذا هو أساس سياسي في الإخراج. الرجل الذي أنظر إليه أعرف
من خلاله ما ينقصه.. أنا لا أطلب من الممثل أن يفعل بالتحديد ما أطلبه منه، إلا إذا
كانت هناك ضرورة ما قد تساعدني في شيء أريده تحديداً.. ما أقوم به هو أن أشرح له
اللحظة، ولو كنت أعرف أشياء عنه فيساعدني ذلك كثيراً للوصول إلى داخله)[19]*
إن هذا الأسلوب في التعامل مع الممثل، لهو جدير بأن يجعل منه طاقة فنية خلاقة،
بإمكانها أن تثري الشخصية التي يقوم بتجسيدها بتفاصيل مهمة، وتجعلها أكثر مصداقية
وواقعية، وبالتالي أكثر وصولاً للمتفرج.
نحن هنا أمام مخرج فنان.. حريص جداً على تقديم فن جاد وصادق.. فنان يعيش السينما
التي يصنعها، ويقف على أرضية فنية صلبة. وبالرغم من غزارة إنتاجه السينمائي، إلا
أنه مصر على تقديم الجيد والجديد دائماً.. (اليوم أعلم جيداً ما يستهويني، لكن
صراعي هو التكنيك. أريد الوصول لشكل يتوحد مع المضمون.. شكل كامل !!)[20]*
بعد التعرف على أسلوب خان السينمائي، تبقى الإشارة ضرورية إلى أن هذا الفنان يمتلك
إصراراً عميقاً على صنع السينما التي يريدها والتي تعبر عنه بصدق، رغم تواجده في ظل
عجلة إنتاج سينمائي فقير ومتخلف. وهو بذلك يعيش في صراع دائم وغير متكافئ، ويقف
صامداً ـ مع قلة من زملائه الفنانين ـ أمام تيار السينما التقليدية السائدة. هذا
لأنه مؤمن تماماً بأن السينما التي يصنعها هو وزملاؤه، سيكون لها ـ وبالتدريج ـ
تأثيراً كبيراً على عين وذوق المتفرج العادي، والذي بدأ بالفعل الارتقاء باهتماماته
الفنية وحسه الجمالي.