أما
في فيلمه الرابع (طائر على الطريق)، فيبدأ محمد خان مرحلة جديدة في سعيه
لتقديم سينما مختلفة، فهو هنا يحاول كسر بعض التقاليد القديمة والمستهلكة
للسينما المصرية، ويضعنا أمام أولى ثمرات بحثه الدائم عن شخصيات وأنماط
جديدة للفيلم المصري.
ففي هذا الفيلم يلجأ محمد خان إلى عالم سائقي التاكسي، لينتقي منه شخصية
فارس (أحمد زكي) .. شخصية تجسدت فيها صفات النقاء والتردد والخجل والجرأة
والتواضع والاندفاع .. شخصية غير قادرة على الانتماء الشكلي، ورافضة لأية
تشكيلات أو تكوينات جاهزة .. شخصية يعتمل في داخلها تكتل رهيب من القلق
والألم والاكتئاب، رغم إنها لا تعاني من أية ضغوطات مادية في حياتها
اليومية.
فارس شاب منطلق يحب أن يملك ويعيش عالمه الخاص والمنفصل لممارسة حريته
الشخصية. فهو غير متزوج، ويحاول أن لا يربط نفسه بأحد. لذا نراه يتهرب من
الارتباط بسيدة متزوجة، متحججاً بتفادي أية مشاكل مع زوجها. لكنه يرتبط
بعلاقة وجدانية عميقة بالفتاة البسيطة الذكية عصمت (آثار الحكيم). يلتقيان
في أشياء كثيرة، إلا أنه يتردد كثيراً عندما تفاتحه في الزواج. بالرغم من
أنه لا يجد نفسه إلا معها، إلا أن لديه شعور بأنه مجرد طائر محلق ومنطلق
بالنسبة لها، ورافض لأي شكل من أشكال القيود. هي فتاة تعيش الواقع وملتزمة
به، وتريد أن تربطه بهذا الواقع، وهو يرفض هذا الارتباط باعتباره أحد
القيود. لذا يكتفي بأن تكون له الأخت الحنون والصديقة الوفية، ويظل على
اتصال بها حتى بعد خطوبتها. ولكن، بالرغم من تمرد فارس على الواقع، إلا أنه
يقع أسيراً له في النهاية. فهو موجود ويعيش هذا الواقع ، ولابد أن يخضع له
مهما كانت درجة تمرده عليه، فقد (آن لهذا الفارس أن يترجل).
يتعرف فارس ـ بحكم عمله ـ على فوزية (فردوس عبد الحميد)، المرأة التي تعيش
حياة زوجية أحادية الجانب وغير مخصبة مع الإقطاعي جاد (فريد شوقي). فيدفعه
إحساس غريب، ويتحرك في داخله انجذاب خفي نحو هذه المرأة. ربما لمعرفة سر
ذلك الحزن ومسحة الأسى التي تعلو جبينها، أو ربما للدخول في ما وراء تلك
العيون التي تعكس كل تعاسة العالم. إن شيئاً ما يشده إلى هذه المرأة، وهو
لا يعرفه في البداية، ولكنه يتحول فيما بعد إلى عشق مجنون تشاركه هي فيه،
بعد مقاومة عابرة منها. أولاً، لأنها لا تستطيع مقاومة شخصية جريئة ومتمردة
كشخصية فارس، وثانياً، لأنها وجدت في فارس نظيرها الحقيقي في عالم الرجال،
والذي ـ حسب تصورها ـ سيخلصها من كل هذه التعاسة والهموم التي تعيشها.
تتطور العلاقة بين الاثنين بسرعة، وتثمر جنيناً في أحشاء فوزية، رغم
معرفتهما بأن علاقتهما هذه تعتبر أمراً مستحيلاً في ظل وجود ذلك الزوج
القاسي والشرس. ليجد فارس نفسه في موقف جديد عليه، يشده إلى أرض الواقع،
ويجد نفسه سلبياً وعاجزاً عن القيام بأي تصرف إزاء طبيعة وضعه الجديد هذا.
فنراه يذهب لأقرب الناس إلى قلبه ـ إلى عصمت ـ ليحكي لها عن همومه ويطلب
منها المساعدة في محنته هذه. لكنه يجدها قد تغيرت كثيراً، وأصبحت خاضعة
لواقع مجتمعها، عندما تتكلم عن هذا الواقع وتصفه كونه سجناً كبيراً من
الصعب الخروج منه، والموت هو مصير كل من يحاول الخروج منه. يعيش فارس حالة
من التردد والقلق والتحفز ، ويحاول مقاومة تلك القوى الخفية التي تشده
للواقع. وعندما يتخلى عن سلبيته وتهربه من مواجهة الواقع، يكون كل شيء قد
انتهى .. تكون نهاية فوزية بانتحارها، ونهاية فارس اللامنتمي تحت عجلة
سيارة.
في المشهد الأخير ـ الذي كتبه بشير الديك ـ يؤكد تماماً على أن فارس يجب أن
يموت، لأن طبيعته المتمردة تطلب المستحيل، عندما يريد من الإقطاعي أن يترك
له زوجته. ويأتي هذا التأكيد عندما ينجو فارس من حادث التصادم بين سيارته
والشاحنة ـ في لقطة ذكية تضاف لرصيد المخرج ـ لكنه بعد ذلك مباشرة يضيع في
حادث آخر، وكأن هذا هو قدره المحتوم.
في فيلم (طائر على الطريق)، نلاحظ بروز بوادر سينما جديدة، تحاول التخلص من
الأنماط والشخصيات التقليدية المستهلكة، حيث يصر محمد خان على إبراز مكانة
الصورة السينمائية في التعبير عن الحدث الدرامي، والاكتفاء بحوار مركز
وعميق إذا لزم ذلك. هنا تكون لقطة سقوط البرتقالة ـ بعد نضوجها ـ من الغصن
كتجسيد معبر ذو دلالة درامية عن بروز ثمرة العلاقة بين فارس وفوزية. ونحن
نفهم ذلك دون الحاجة إلى كلمة حوار واحدة، فالصورة جسدت هذا المعنى ولا
داعي للتكرار. أما مشهد فارس وهو يلهو بالطائرة الورقية، ومحاولته العقيمة
للإمساك بها، فهو تعبير عميق وموحي يمثل رغبة فارس بالانطلاق في الأجواء
الرحبة، والوصول إلى المستحيل.
يتحدث محمد خان عن فيلمه هذا، فيقول: (طائر على الطريق هو بدايتي أنا،
الثلاثة السابقون كنت أبحث فيهم عن شكل خاص. فكرة الفيلم جاءت حين تأملت
سائقاً معيناً وأحسست به. منذ ضربة شمس وأنا أحب سينما الفرد، لكن هنا
المضمون أقوى، أقصد فهماً وتأملاً أعمق للشخصية !!) *9
إن محمد خان بهذا الفيلم يرتقي أكثر بأسلوبه وفهمه لمفهوم وماهية السينما،
متوصلاً إلى السينما التي تعبر عنه كفنان، وبعيداً عن ذوق ومزاج المتفرج
الكسول والتقليدي.