هجرة درامية مبكرة لحاتم علي
راشد عيسى
عثرتُ في أرشيفي على خبر
صحافي قديم يعود للعام 2006 يتعلّق
بالفنان الراحل أخيراً حاتم علي يعلن فيه أنه يفكّر بـ «هجرة درامية» إلى
ساحة أخرى تضعه في المكان الذي يستحقه، كساحة الدراما المصرية أو الخليجية.
كان ذلك رداً على استبعاد أعماله من برمجة العروض الرمضانية
في التلفزيون الرسمي، حيث لم تشهد تلك الشاشة للمخرج السوري حينذاك سوى عمل
وحيد «في وقت ميت، وغير مناسب، لأسباب خاصة بمديرة التلفزيون السوري».
ويفسّر: «إن ما يجري على الساحة الفنية في سوريا يبدو
مؤسفاً، ويدعو إلى التوقف والتأمل، وهو إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على
انعدام الضوابط، ويفصح عن رغبة البعض في إقصاء عدد من العاملين في هذه
المهنة، خاصة إذا تسلّح البعض بسطوة المال والسياسة والمناصب، فأنا أذكر
جيداً ما حدث مع المخرج هيثم حقي في المواسم الرمضانية الماضية من تهميش
متعمد، هو جزء من تصفية حسابات قديمة، لاختلاف في الرأي أو الهوى، وما يحدث
الآن من قبل شريحة الإنتاج هذه هو جزء من ذلك، ويبدو أننا جميعاً مدعوون
لدفع مثل هذا الثمن».
ويتساءل المخرج «أي معايير تلك التي خضعت لها هذه المسلسلات
سوى معايير العلاقات الشخصية، والمصالح والتكتلات الفنية، والرغبة في إقصاء
البعض، حتى لو أضرّ ذلك بمصالح التلفزيون العربي السوري نفسه. من الواضح
أنني شخصياً، مع آخرين غيري، أدفع ثمن موقفي من مسلسل «نزار قباني» الذي
أخرجه باسل الخطيب».
حاتم علي: إن ما يجري على الساحة الفنية في سوريا يبدو
مؤسفاً، ويدعو إلى التوقف والتأمل، وهو إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على
انعدام الضوابط، ويفصح عن رغبة البعض في إقصاء عدد من العاملين في هذه
المهنة، خاصة إذا تسلّح البعض بسطوة المال والسياسة والمناصب.
لا يذكر الخبر علامَ يعترض حاتم علي بالضبط في مسلسل «نزار
قباني» ولكن معلوم أن المسلسل جاء تماماً على مزاج الرقابة، إلى حدّ اعتُبر
أنه جعل من نزار شاعراً بعثياً!
لا ندري بالضبط كيف مرّت السنوات الخمس التالية على الفنان،
لكن الأسماء المشار إليها بقيت في مناصبها حتى وقت هجرته بعد الثورة، ولكن
يمكن القول إن لديه سلفاً من الأسباب ما يكفي للهجيج، فما بالك حين تجتمع
أسباب أكثر قسوة بعد العام 2011!
لذلك، لو كان هناك من يسأل اليوم عن الموقف الأعمق للنظام
من حاتم علي وجنازته، فربما عليه أن يسأل المخرج باسل الخطيب والمديرة
السابقة للتلفزيون، أن يسأل عن موقفهما الأعمق.
ولربما نجد الجواب في مقابلة مع الفنان عباس النوري في
«خيمة» عزاء حاتم علي، عندما قال إن جنازة المخرج الراحل، مثل جنازة الشاعر
نزار قباني، خرجت غصباً عن الجميع، رغم ثقافة الإلغاء! فمن هم هؤلاء الحراس
الذين أرادوا إلغاء نزار وحاتم علي؟ هل هناك من يحكم البلاد سوى بشار الذي
لم يقصّر النوري في مناصرته؟!
جدار الصمت
الموقف مما يجري في سوريا بات معياراً أساسياً، إن لم يكن
الأوحد، عند كثير من السوريين للترحّم على أي من الغائبين! مع غياب حاتم
علي اجتمعت الغالبية على الحزن عليه ورثائه، فقد كانت أعمالٌ تلفزيونية له
محفورةً في الذاكرة، إلى جانب أنهم لم يجدوا في مقابلاته وتصريحاته وأعماله
ما يستفزّ السوريين على الضفّتين. هذا أيضاً أتاح لمن شاء أن يفسّر على
هواه، وأن يسحب الفنان بالاتجاه الذي يريد، مع أن الأرجح أن يكون فنانٌ
تركَ البلاد منذ العام 2012 ومفصول من «نقابة الفنانين» غيرَ راض عن
النظام، وإلا لعادَ ولو على سبيل الزيارة، بعد استقرار الأحوال نسبياً في
السنوات الأخيرة.
ألا يكون الناس أكثر رأفة بضحاياهم، أولئك الذين قتلوا تحت
التعذيب فقط لأنهم خرقوا جدار الصمت، أو حاوَلوا.
كثيرون من معارضي النظام وضحاياه اكتفوا بذلك الصمت كعلامة،
هذه المرة عن عدم رضا حاتم علي. لقد تفهّموا صمت المخرج الراحل، لم يكونوا
في وارد المطالبة بأكثر. لكن آخرين من بين الضحايا أنفسهم راحوا يمجّدون
الصمت، صار الصمت فجأة فضيلة ووعداً بإبداع، على غرار ما نلاحظ في بيان
حركة «ضمير» (والقول نفسه تقريباً تكرّر عند آخرين): «حاتم علي يشبه الثوار
الأوائل الأنقياء بما أرادوه لسوريا من كرامة وحرية. وأما عن صمته فكل من
يعرفه يعرف كم كان صمته أبلغ من صراخ، وكم كان فيه تحضير لعمل إبداعي يفجّر
الصمت ويحرّك الوجدان».
الحديث هنا هو عن فنان له المنابر كلها خارج سيطرة النظام،
والناس ينتظرون من نجومهم كلاماً أكثر من«التباس الخيط الأبيض بالأسود»
و«تأثير مبالغ به للفنان» كما قال المخرج في
إحدى مقابلاته.
لن يلوم أحدٌ الفنان بعد رحيله، فالفجيعة طغت على كل شيء آخر. لكن لمَ
المبالغة بمديح الصمت، إلى حدّ بدا معه كل من رفع صوته آثماً!
ألا يكون الناس أكثر رأفة بضحاياهم! أولئك الذين قتلوا تحت
التعذيب فقط لأنهم خرقوا جدار الصمت، أو حاوَلوا. |