جنازة الذاكرة أو نهاية سوريا حاتم علي
محمد سامي الكيال
يصعب على معظم «السوريين» تكوين فكرة عامة عن الأحداث
السياسية والاجتماعية، التي تجري حالياً في سوريا، فباستثناء عدد من
المتخصصين بالشأن السوري، من صحافيين وباحثين وسياسيين، يبدو كثير من
السوريين فاقدين الرغبة والقدرة على استيعاب الوقائع السياسية والميدانية
المتفرّقة، وتذكّر أسماء وانتماءات الميليشيات المتحاربة المتعددة، ومتابعة
التعقيدات الإقليمية والدولية، المتعلّقة بالمسألة السورية. فضلاً عن أن
تعبير «سوريين» إشكالي للغاية، ما يستلزم وضعه دوماً بين قوسين، فنحن نتحدث
هنا عن مجموعة من السكان، يعيشون ظروفاً شديدة التشتت والاختلاف، وانعدام
أدنى مقومات المتحد السياسي، ويشارك عدد منهم في حرب أهلية طاحنة، ضمن
البقعة الجغرافية التي ما زالت تُعرف، في الوثائق الرسمية للأمم المتحدة،
بـ«الجمهورية العربية السورية» إضافة إلى مئات الآلاف من النازحين
واللاجئين حول العالم، الذين يحملون وثائق، تدلّ على أنهم كانوا، يوماً ما،
من مواطني تلك الجمهورية.
ما يجعل تعبير «سوريين» أقرب لمصطلح إداري، من كونه مفهوماً
سياسياً أو اجتماعياً. وضمن هذا الشرط تلعب الثقافة واللغة، والذاكرة على
وجه الخصوص، الدور الأساسي في الإبقاء على مدلول ما لكلمة «سوريين» ولكن أي
ذاكرة؟
يكتسب السؤال الأخير أهمية بالغة لدى الحديث عن وفاة المخرج
السوري حاتم علي، وردود الأفعال، التي اتسمت بنوع من الإجماع على رثائه
ورثاء زمنه، فالذاكرة الجمعية مفهوم يتسم بكثير من النسبية، وهي لا توجد
إلا عبر عملية استرجاع معينة، تقوم بها كل فئة من موقعها الاجتماعي الخاص،
خاصةً عندما تغيب المؤسسات الأيديولوجية المهيمنة، المعنية بإعادة إنتاج
الذاكرة والموروث الشعبي، وبالتالي فإن ذاكرة «السوريين» عن بلادهم وحياتهم
فيها، قبل عام 2011، شديدة التناقض والاختلاف، ويجب بالأحرى الحديث عن
ذاكرة سورية متعددة ومتناحرة. إلا أن المنتجات الثقافية، التي لاقت في
زمنها كثيراً من الإجماع والشعبية، تصلح لأن تكون وثائق عن الذاكرة
السورية، أو بالأصح، كيف قدمت فئات معينة، كانت منظوراتها الأيديولوجية
ومزاجها الثقافي سائداً في يوم من الأيام، عوالمها وذواتها، فنياً وثقافياً
واجتماعياً، وكيف تسترجع هذه الفئات الآن، ومع اختلاف الظروف، منظورها
القديم عن الذات، وترثي، بكثير من الحنين، زمنها وعالمها الضائع. وربما
تكمن هنا الأهمية الأساسية لعمل حاتم علي وذكراه.
قدّم علي في أوج شهرته، واحدة من أفضل الصياغات، وأكثرها
إتقاناً، للتصور الذاتي لفئات سورية معينة، عن وجودها الاجتماعي، وموقفها
من السلطة والتاريخ والحاضر، إلا أنه من الخطأ، في الوقت نفسه، اختزال
أعماله بوظيفتها الأيديولوجية، فهي تتسم بدرجة من الغنى الفني، الذي يتيح
لها اتخاذ مسافة كاشفة عن الأيديولوجيا، التي صدرت عنها. فما الذي يمكن
لمسلسلات حاتم علي أن تكشفه عما تبقى من الذاكرة والثقافة السورية
المعاصرة؟
أحلام خائبة
نال علي جانباً كبيراً من شهرته العربية، مثل عدد آخر من
المخرجين السوريين، بوصفه مخرجاً بارعاً للأعمال التاريخية، إلا أنه حقق،
إضافة لهذا، إنجازاً صعباً في الشرط السوري، وهو تقديم أعمال اجتماعية
معاصرة. والصعوبة تكمن في كيفية صياغة دراما عن الحياة اليومية، في بلد تم
إغلاق حيّزه العام بشكل كامل، ولا يمكن فيه طرح أي قضية شائكة بحرية. الحل
السائد، آنذاك، كان الأعمال الاجتماعية الكوميدية الخفيفة، التي تناقش بعض
القضايا الأسرية والمعيشية، للفئة الوسطى المدينية، بشكل «نقدي» وقد برع
علي في هذا النوع من الأعمال، رغم أنه لا ينتمي، من حيث النشأة، إلى تلك
الفئة، فقدم مع الفنان ياسر العظمة، نسخة عام 1998 من مسلسل «مرايا» الذي
يعبّر، بشكل كاركاتيري، عن نظرة بقايا البورجوازية الدمشقية لنفسها، ولبقية
فئات المجتمع السوري، كما أخرج مسلسل «الفصول الأربعة» الذي يقدم عائلة،
تتحدث اللهجة السورية «البيضاء» تعيش في مكان ما وسط العاصمة دمشق، ويسود
بينها، رغم كل المشاكل، نوع من التضامن والمحبة. إنها «العائلة السورية»
كما تحب أن ترى نفسها، والتي يتمنى أن يؤسس مثلها، أو يعيش فيها، كل من
ينشد الترقي الاجتماعي والطبقي. وربما كان الحنين المعاصر لهذه العائلة
توقاً لمثال، أكثر مما هو تذكر لشرط اجتماعي واقعي، عاشته فئة سورية، كان
لديها بعض الملكية المالية والعقارية والأمن الاجتماعي.
إذا وافقنا على أن أعمال حاتم علي تعبّر عن الذاكرة
السورية، الأقرب للتيار الأساسي، فهي قد تمتلك إذن القدرة على توحيد
«السوريين» في ظروفهم الحالية الصعبة، على الأقل على الصعيد الثقافي.
في «أحلام كبيرة» المسلسل الأكثر تعقيداً وتراجيدية، يفارق
علي نسبياً كليشيهات الفئة الوسطى، ليتحدث عن ثيمات مثل انكسار وقتل الأب،
وثنائية الابن البار والابن العاق، من خلال تقديم سيرة أبناء تاجر دمشقي
مُفلس. ورغم أن المسلسل امتلأ بالصراعات والمواقف غير المثالية، ولمّح بقوة
للتعقيدات الطائفية، والعنف الأسري في سوريا، إلا أن علي استمر فيه بتقديم
تصورات مرضية عن الذات، للسوريين الأقرب للتيار الأساسي، ممتزجة بكثير من
الشجن والحساسية المفرطة، فهم أصحاب أحلام كبيرة وخائبة دوماً، وضحايا
لظروفهم الصعبة، ويسلكون غالباً بمنطق رد الفعل، في عالم لم تعد قيمه واضحة
للغاية. ولعل دور المرأة – الأم، الذي جسّدته الممثلة سمر سامي باقتدار،
أفضل نموذج عن صورة الذات المشتهاة، فنرى امرأة شديدة الرقة والحنان، لا
خصوصية أو ذاتية لها سوى العناية بالرجال الخمسة، الذين يحيطون بها طيلة
الوقت، والخوف عليهم، رغم أنها لا تفتقر للذكاء والثقافة، إنها الأم –
المثال، وربما الوطن، الذي حلم به كثير من سوريي حاتم علي.
من الظلم اعتبار أعمال علي بسيطة، أو ضعيفة الشكل والمحتوى،
ولا يمكن نقده، بالتأكيد، لأنه لم يعالج أوضاع طبقات وفئات اجتماعية أخرى،
ولكنه قدم صوراً سهلة الهضم، ومنزوعة الأشكلة، لعالم سوري انتهى الآن، وقد
يكون الحزن الشديد عليه حنيناً لصورة هذا العالم، ولزمن كان من الممكن فيه،
لمن وجدوا في الفن سبيلاً للترقي الاجتماعي والثقافي، أن يعيشوا حياتهم،
ويقوموا برثاء ذاتهم، بدون مواجهة أسئلة شديدة الصعوبة، مثل التي يعيشونها
اليوم.
الأندلس تضيع دوماً
ما أثارته وفاة حاتم علي من مشاعر الفقد، ورثاء بلد وزمن
ضائعين، يتفق مع ثيمة عمل عليها كثيراً في مسلسلاته التاريخية، وهي الأرض
المفقودة، سواء كانت الأندلس، الفردوس الضائع في الأيديولوجيا القومية
العربية المعاصرة، أو فلسطين ما قبل النكبة، أو حتى ديار الإسلام في زمن
قادة عرب ومسلمين، بالغي العدل والجبروت، مثل عمر بن الخطاب وصلاح الدين
الأيوبي. وعلى الرغم من أن علي لم يسقط في معالجات مبسّطة للأزمنة الخالية،
بل استطاع، بالتعاون مع كتاب سيناريو مميزين، تقديم صور متعددة الجوانب عن
الأرض الضائعة، إلا أنه كان من أهم من أعادوا إنتاج التصورات الأيديولوجية
السائدة عن الماضي، في الثقافة الجماهيرية العربية في العقود الأخيرة.
وعلى الرغم من أن الفردوس المفقود ثيمة أساسية في الفكر
الإنساني، ومن المتوقع أن تزداد أهميتها في السياق العربي، الذي لم تنقطع
فيه موجات النزوح واللجوء منذ عقود طويلة، إلا أن إعطاءها أهمية مركزية، في
السياقات السورية المعاصرة، قد لا يكون أفضل فعل ثقافي ممكن، لأنه قد يعطّل
القدرة النقدية لثقافة، شهدت ظروف التحلل الاجتماعي، والحرب الأهلية،
والاطلاع على ثقافات وتجارب مجتمعات أخرى. بهذا المعنى فإن التذكر، غير
النقدي، لفراديس حاتم علي الضائعة، قد يساهم في بقاء الإنتاج الثقافي، لمن
كانوا «سوريين» في حالة الجمود والتكرار، التي يراوح فيها منذ سنوات.
موحّد السوريين؟
إذا وافقنا على أن أعمال حاتم علي تعبّر عن الذاكرة
السورية، الأقرب للتيار الأساسي، فهي قد تمتلك إذن القدرة على توحيد
«السوريين» في ظروفهم الحالية الصعبة، على الأقل على الصعيد الثقافي.
إلا أنه من الممكن نقد هذا الطرح من عدة جوانب، أولها أن
تلك الذاكرة إقصائية إلى حد كبير، تستبعد ذاكرات أخرى عن البلاد وتجربة
الحياة فيها؛ وثانيها أن مساحة المسكوت عنه فيها شاسعة للغاية، وستبرز
دوماً أصوات تعكّر سلامها الداخلي؛ وثالثها أن الحرب السورية نفسها اندلعت
نتيجة تراكم إقصاءات شبيهة، وهي لم تنته حتى الآن.
لا يمكن لوفاة حاتم علي، أو غيره، أن توحّد «السوريين» على
أي صعيد، والأجدى أشكلة أعماله، والبحث في تناقضاتها الكامنة، أو بالأصح،
ما أخفته كي تبني استقرارها وثباتها الظاهري، وربما يكون هذا أفضل تكريم
للراحل، فهو قد خلّف لنا تراثاً غنياً من منتجات الثقافة الجماهيرية،
الصالحة، نظراً لمستواها الجيد، لإعادة القراءة والتأويل، للتوصل لاستعادة،
أكثر نقدية، للذاكرة السورية، التي لا ينقصها الميل لرثاء الذات والماضي،
بقدر ما تنقصها القدرة على طرح الأسئلة. كما أن الحديث عن أحادية التصورات،
التي قدمها علي، ليست إهانة لذكراه، بل قد يساهم بجعل عمله واحداً من أسس
جدل عمومي، لا يسعى لتوحيد «السوريين» بقدر مساهمته بفتح مجالات ثقافية
أرحب لهم. |