لم يعد هناك اهتماما كبيرا بصناعة الأفلام الرومانسية، سواء
في مصر أو السينما الأمريكية الأضخم والأكثر انتشارًا، بالطبع لا تخلو هذه
الأخيرة من بعض أفلام هذا النوع، ويحقق عدد قليل منها نجاحًا مقبولًا، وإن
كنا لم نعد نشاهد أعمالًا تتحول إلى أيقونات رومانسية كما حدث في
الثمانينيات والتسعينيات.
في السينما المصرية الوضع أصعب إذ نشاهد بالكاد عملًا
واحدًا يمكن التوقف عنده كل بضعة أعوام مثل "هيبتا: المحاضرة الأخيرة"
(2016) والذي يعد أبرز الأفلام الرومانسية حتى الآن في العقد الأخير، بينما
حاول فيلم ”قصة حب“ الذي عرض في فبراير من العام الحالي أن يحجز له مكانة
أيضًا وإن لم يحقق نجاح أو زخم ”هيبتا“.
هكذا نجد أن فيلم ”لما بنتولد“ الذي شهد عرضه العالمي الأول
في مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثالثة ضمن القسم الرسمي خارج
المسابقة هو مغامرة يجب أن نقف عندها، إذ في أثناء غلبة الأكشن والكوميديا،
يقدم المخرج تامر عزت ثاني تجاربه الروائية الطويلة والذي كتبت له
السيناريو الراحلة نادين شمس. فهل ينضم الفيلم إلى الأعمال الرومانسية التي
ستميز هذه المرحلة؟
مسلم ومسيحية
يضم الفيلم ثلاثة خطوط تسير بشكل متوازي دون أن تتقاطع، إلا
من خلال مشاهد سريعة تربط الشخصيات ببعضها. في الخط الأول نتابع أمين (عمرو
عابد) الذي يعيش مع زوجته وأفراد عائلته في نفس الشقة ويعاني لتوفير
احتياجات الحياة حتي يأتيه عرض للعمل في الدعارة في مقابل مادي ضخم. الخط
الثاني يقدم لنا فرح (سلمى حسن) المسيحية التي تقع في حب أسامة (محمد حاتم)
الشاب المسلم، مع ما تحمله قصة حب لاثنين من ديانتين مختلفتين من مشاكل
متوقعة في مصر. بينما في الخط الثالث نتابع أحمد (أمير عيد) الذي يرغب في
تحقيق حلمه ليصبح مغنيًا محترفًا ويقابَل بالرفض الدائم من أبيه الذي يرغب
أن يعمل ابنه معه في شركته.
اختارت نادين شمس أن تقدم لنا تباينًا كبيرًا بين شخصياتها،
إذ نجد أن كل شخصية من طبقة اجتماعية مختلفة، ورغم وجود جانب رومانسي لدى
كل الشخصيات فإننا نجد تأثيره في الأحداث والشخصيات يختلف كما سنذكر.
يأتي الخط الخاص بفرح وأسامة في مقدمة الخطوط التي أخلصت
للفكرة العامة للفيلم، الحب الذي تعيقه الموروثات أو المعتقدات، لدينا
ثنائي منسجم تمامًا، يجد كل منهما في الآخر حب حياته لكن الدين يقف عائقًا
بينهما، والدين هنا لا نعني به فقط المعتقد، لكن ما يحمله بالضرورة من
الانتماء إلى الكثير من الشروط والأعراف الاجتماعية التي يحددها أتباع هذا
الدين، والتي يصبح كسرها بمثابة جريمة مجتمعية لا تغتفر، وهو الأمر الذي
حاول الفيلم معالجته بطريقة هادئة قدر الإمكان دون الإفراط في استخدام
كليشيهات مكررة، باستثناء الحوار الخاص بشخصية الأم (حنان سليمان) الذي
ظهرت كممثلة لشريحة المجتمع التي ترفض استمرار هذه العلاقة، إذ نجدها في
أحد المشاهد تخبر ابنتها بأن يوم عيد ميلادها -الابنة- هو نفسه يوم تعرفها
على أبيها الراحل، قد يكون هذا الحوار تلقائيًا في مناسبة غير متكررة عكس
عيد الميلاد، ولكن أن تحكي أم لابنتها التي تجاوزت منتصف العشرينيات عن
حكاية حميمية مثل هذه، فإن هذا بدا حلًا سهلًا حتى تفتح الأم حوارًا عن
فكرة الارتباط بشخص من دين مختلف.
استمر تدرج قصة الحب بين الطرفين في هذا الخط بشكل سلس،
لكننا عندما وصلنا إلى الأزمة الرئيسية المتمثلة في لحظة الكشف عن كونهما
مختلفين في الدين، وهو الأمر الذي لا نعرفه بوضوح منذ البداية، فإننا نجد
أن الموضوع يقدَّم للمشاهد بشكل عابر لا يليق بأزمة رئيسية بالنسبة
للشخصيتين ومخيفة في المجتمع المصري.
لكن بالرغم من المآخذ البسيطة التي ذكرناها عن هذا الخط،
فإنه يبقى الأكثر اختلافًا وتميزًا في الفيلم، وحتى إذا نظرنا له بعيدًا عن
الخطين الآخرين فسنجده يطرح أزمة من النادر التعرض لها في السينما المصرية.
ولا يمكن أن نذكر تميز هذا الخط دون أن نقف عند الأداء المميز من ممثليه
وخاصة سلمى حسن التي تعرفنا عليها في أدوار صغيرة في أعمال مختلفة من قبل
لكنها تقدم هنا مساحة أكبر تظهر فيها موهبتها.
من أسفل السلم
بعد الخط السابق، والذي يتقدم في الجودة الفنية بينما يأتي
ثانيًا في ظهوره على الشاشة، يأتي خط أمين الشاب الذي يأتي من أسفل السلم
الاجتماعي، متزوج ويعيش مع أمه وأخيه وجده الذين لدى كل منهم متطلباته فيجد
نفسه في تحدٍ غير عادي عندما يعرض عليه العمل في الدعارة. يمكن اعتبار
الميزة الأبرز في هذا الخط هي مشاهدة شاب يتعرض لهذا العرض مقابل المال،
عكس المعتاد في الأفلام المصرية من تسليط الضوء على الفتيات اللاتي يعملن
في هذه المهنة فقط.
لكننا في الوقت نفسه نجد أن طريقة سير الأحداث في هذه الخط
منذ بدايتها يمكن توقعها. إذ يمكن استنباط كيف سيسلك أمين تجاه هذا العرض
ثم ما سيلاقيه لاحقًا وكيف ستتطور الأحداث، وحتى العلاقة بينه وأفراد
عائلته أيضًا لم تأت بجديد، نفس المشكلات التقليدية مع الأخ الأصغر المراهق
الذي لديه متطلباته، والجد الذي يعاني من المرض ويتطلب أدوية غالية الثمن،
جميعها تفاصيل مكررة شاهدناها من قبل، جعلت الخط ينطفئ تدريجيًا قبل أن
تأتي نهايته التي بدت مبتورة نسبيًا أكثر من كونها مفتوحة.
اجتهد عمرو عابد في تقديم شخصية الشاب المغلوب على أمره،
وقد نجح في هذا نسبيًا خاصة مع وجود ابتهال الصريطي أمامه في دور عايدة
زوجته والتي كونت معه ثنائيًا جيدًا، فقد قدمت الدور بشكل مختلف عن الأداء
التقليدي للفتاة الشعبية، ولم تلجأ للمبالغة في استخدام لكنة مختلفة لتبدو
أقرب لهذه الطبقة بل قدمت الشخصية بشكل هادئ، حتى في علاقتها بأم أمين لم
تلجأ للكليشيهات المعتادة في الأداء.
يبقى أن نشير إلى أن اختيار عمرو عابد في دور الشخص المطلوب
جنسيًا من النساء كان اختيارًا غريبًا من المخرج بالتأكيد، إذ لا تتوافر في
عابد المواصفات الشكلية التقليدية في الجان الذي يظهر عادة كزير نساء،
وربما كان الرهان من الأساس على هذا الاختلاف ليصنع الفارق، لكن الأداء في
ما يخص مشاهد عابد بعيدًا عن بيته وزوجته لم يكن بنفس المستوى بل أقل مما
وضع حاجزًا أكبر في تقبله في هذه الشخصية.
موسيقى وأغاني
في الثلث الأخير من الفيلم تقريبًا يظهر الخط الثالث
والأخير، الخاص بأحمد وصراعه مع أبيه. يحتل هذا الخط المساحة الأصغر في
الفيلم، ودون مواربة هو الأضعف في الكثير من عناصره.
سنبدأ بعنصر التمثيل هذه المرة، لنجد أن اختيار أمير عيد لم
يكن في محله على الإطلاق، وإن كان اللوم يقع على المخرج بشكل أكبر، إذ أمير
المغني بالأساس كان يحتاج إلى تدريب أكثر حتى يظهر بالشكل المناسب، لكن ما
قدمه هو تعبير وجه ثابت في أغلب مشاهده، قريب من التعبير الذي يقدمه في
كليباته الغنائية، وإن كان تعبيره في الأغاني يرتبط بحالته وهو يغني، بينما
الأمر في الفيلم ليس بنفس الصورة بالتأكيد.
لكنه لم يكن المأخذ الوحيد على هذا الخط، فإن كنا ذكرنا في
الخط السابق أن الأحداث كانت متوقعة إلى حد كبير، فإننا هنا نجد الخط
بالكامل مكررًا وشوهد من قبل، فتيمة الأب الذي يتحكم في ابنه ويود تحديد
مصيره مستهلكة، ولم ينجح السيناريو في تقديم أي اختلاف يذكر باستثناء
تفصيلة رسائل الأب لزوجته المتوفاة.
يتراجع عنصر الحب في هذا الخط إلى الحد الذي يمكن الاستغناء
عنه، فنجد قصة حب من طرف واحد هو يارا (بسنت شوقي) التي تحب أحمد، وهي
القصة التي لا تلعب دورًا محوريًا بأي شكل داخل الأحداث، حتى مع تشجيع يارا
لأحمد على اتخاذ قرارته، إذ لا يمكن القول إنها كانت مؤثرة بشكل مباشر على
اختياراته.
رغم أن الخط هو الأخير كما ذكرنا، فإن أمير عيد كان أول
أبطال العمل ظهورًا على الشاشة إذ أنه منذ بداية الفيلم يشارك في الأحداث
من خلال أغنياته التي تأتي لتعكس الحالة الداخلية للشخصيات، وشكل بعضها
إضافة للحالة التي نشاهدها، خاصة في خط فرح، وإن كان يجب توضيح أننا لسنا
أمام فيلم غنائي تأتي فيه الأغاني محل الحوار، مثلما شاهدنا في
"La La Land"،
لكنها بمثابة تعليق على ما شاهدناه بالفعل.
لكن المخرج تامر عزت لجأ لخيار غريب في توظيف أمير عيد، إذ
يبدو كأنه شخص خارج الأحداث، بمثابة الكورَس الذي يعلق على الأحداث ولا
يشارك فيها في المسرحيات القديمة، أكد هذا طريقة ظهوره في المشاهد
المختلفة، إذ يظهر فجأة دون مقدمات، ولا يبدو أن أيًا من الشخصيات المحيطة
به تتفاعل معه بأي شكل. هذا خيار مفهوم ومستخدم، لكن الغريب كان ظهوره في
النهاية كشخصية داخل الأحداث، مما سبب ارتباك حول طبيعة ظهوره منذ البداية،
فهل هو يظهر بشخصية أحمد منذ البداية، بالتأكيد لا، فكما ذكرنا كان يبدو في
كل مرة خارج الأحداث، هكذا أفسد ظهور عيد في الثلث الأخير الفكرة الخاصة
بكونه يعلق فقط على الأحداث، وهذا من الناحية الإخراجية، إذ كان يمكن
الإبقاء على الأغاني منذ البداية دون ظهوره، أو ظهور ممثل آخر في الخط
الأخير.
هكذا نجد أن فيلم "لما بنتولد" كان محاولة لصناعة فيلم
غنائي ورومانسي، وجود ثلاثة خطوط كان في صالحه بالتأكيد إذ جعل المشاهد
لديه أكثر من فرصة للتفاعل مع الشخصيات، وإن احتوى على الكثير من الخيارات
التي كان من الممكن تفاديها بحلول بسيطة، وهكذا يمكن القول إنه محاولة جيدة
لتقديم شيء مختلف في النهاية، وإن كان من الصعب أن يحتل مكانة بارزة مثل
"هيبتا". |