لم أتوقع أن يكون فيلم البؤساء الفرنسى والبعيد تماما قصته
عن رواية فيكتور هوجو؛ بهذا المستوى الفنى الراقى، والذى نال إعجاب
واستحسان كل مشاهديه فى مهرجان الجونة.
وبعد مشاهدة الفيلم فهمت وجهة نظر المخرج "لادج لي" عندما
دعا الرئيسَ الفرنسي لمشاهدة الفيلم؛ فالعمل وإن كانت أحداثه لا تدور حول
مطالب حركةِ السترات الصُفْر؛ ولكنها توضح الأسباب التى أدت إليها؛ بل وأنه
يشير إلى تفسير أسباب الغضبِ فى الضواحي في عام 2005؛ وأن لا شيءَ تغيّر
منذ ذلك الحين.
فالمخرج أعلن مررا فى أحاديث له أن السترات الصُفر عانت
كثيرا من عُنف الشرطة. الرائع أن هذا العمل نال أهتمام كبير ايضا فى مهرجان
كان واستقبل ممثليه بالتصفيق والإعجاب وهم يسيرون على البساط الأحمر؛ من
قبل نقاد السينما الذين شاهدوا الفيلم ،بل ونافس على السعفة الذهبية في
المهرجان بدورته الثانية والسبعين.
وفى الواقع أن المخرج الفرنسي لادج لي أستطاع بأقتدار العزف
على الغضب الذي يشتعل تحت جلود الفرنسيين من أصل أفريقى وعربى، وكان لا
يبدو على السطح الفرنسي الهادئ، فالعالم لا يعرف شيئا عن حياة المهمشين في
ضواحي باريس الفقيرة، والتى تتعامل معها الشرطة بمنتهى القسوة؛ وعلى الجانب
الآخر هؤلاء المهمشين،من بينهم يتواجد المتطرفين المتشدديين، ومنهم اللص
والمجرم، ومنهم أعين الشرطة والمتعاونون معها.
ولكن للأسف إن الأجيال الجديدة منهم أشد عنفا وقسوة.
والفيلم ينطلق بنا إلى منطقة تشابك فيها الحكايات والثقافات، ويبرز فيها
دور الأخوان المسلمون، بكل ما لهم من سطوة يحاولون السيطرة على هؤلاء
المهمشين بأفكارهم المتطرفة التى كانت دوما سببا فى الاحتقان بتلك المناطق؛
بل أن أحدهم يدعم الذى سرق شبل الأسد من السيرك؛ مدعيا أن الأسد عندما يزأر
يذكر اسم الله؛ وأنه خلق فقط ليعيش فى البرية.
ولأن فيكتور هوجوكتب روايته الشهيرة في مونفرماي (سين سان
دوني)، البقعة التي جري بها الأحداث؛ لذلك اتخذ المخرج هذا الأسم لفيلمه؛
المستعرض لثلاثة عناصر من الشرطة المحلية (داميان بونار وألكسيس ماننتي
وجبريل زونجا) الذين يواجهون سلسلة مشاكل في منطقتهم؛ وينبغي لهم التعامل
معها وإيجاد حلّول لها. أحد هؤلاء الثلاثة.
جاء من منطقة أخرى ليشكّل فريقا مع اثنين معروفين في
المنطقة وينشطان منذ زمن فيها، ولكنه الأكثر أنسانية، والطرف الذى يؤكد من
خلاله المخرج أن هناك وجهات نظر عاقلة وقلوب رحيمة فى الشرطة الفرنسية.
وكانت وجهة نظر موفقة للمخرج بداية الفيلم حيث الاحتفال
بحصول فرنسا على كأس العالم؛ ليؤكد أن الجميع يتوحد فى تلك اللحظات؛ بل أن
الفرنسيين من أصول أفريقية وعربية ربما هم الأكثر إعطاء للحفلات روحها؛
وأنهم يملكون فى تلك اللحظات الكثير من الفخر والشعور بالمجد الوطني.
فبطل الفيلم الصبي الأسمرالذى سيتسبب فى تصاعد الأحداث فى
تلك اللحظة التاريخية يلتف بالعلم الفرنسي، ويشارك الجموع الغفيرة فرحتهم
قرب قوس النصر في باريس، بعد فوز فرنسا بكأس العالم عام 2018.
هذا المشهد ذابت فيه الفئات والطبقات والألوان، وسط السعادة
الغامرة بفوز فرنسا بالكأس. فى تلك الضاحية الباريسية الفقيرة، تدور
الاحداث المولدة من «الكراهية» و الاحتقان والغضب تعبيرا عن المناطق
الباريسية المهمشة؛ هذا الغضب الممتزج بتجبر الشرطة ، وعنف المهمشين.
وبايقاع سريع لا يعرف الملل فجر المخرج قضيته، بأستعراض
صورة مجسمة وواقعية أبرزتها مشاهده للفقر والإحباط والجماعات غير المتناغمة
ورغبة كل جماعة أن تفرض سطوتها على الحي، وكراهية الجميع المشتركة للشرطة.
وكأن الفيلم يقدّم صورة شاملة لمآسى المهمشين اليومية، رصدا تحركاتهم في
مناخ شديد التوتر والضغط.
ولكن الرائع أنه يدير القضية باحتراف الفنان صاحب الرؤية
فهو لاينتصر لهم تماما، بل يستعرض حياتهم بكل تجاوزاتهم ومزاجيتهم. وخاصة
مع المتطرفين الذين يمارسون نشاطهم ويفرضون أفكارهم بعيدا من منطق
الجمهورية، لا تمنحهم أي سبب تخفيفي لأفعالهم.
ولم
يكن غريبا أن نسمع جملة «أنا القانون»، من ضابط الشرطة مستعرضا قوته في حي
مونتفرمي الذين يحوى المساكن البائسة التى توفرها الدولة، ومع أن المخرج
يقدم أحد افراد الشرطة جوادا (جبريل زونجا) المنحدر من المنطقة، ويعرف
أهلها وتقيم أسرته فيها، وبالتالى يفهم للتركيبة العرقية والسكانية
والاجتماعية للمنطقة، إلا أنه تحت وطأة ضغط العمل يتجاوز القواعد الموضوعة
لعمله، وينجرف نحو العنف؛ عندما يصيب الصبى الافريقى سارق شبل الأسد.
ويكتشفوا أن صبى أفريقى آخر قام بتصوريهم عبر طائرة صغيرة
للتصوير. لتبدأ رحلة البحث عن كارت الميمورى قبل رفع الفيلم على السوشيال
ميديا؛ والطريف هنا هو التأكيد على خطورة تلك الوسائل التى من خلاله يعرفون
ايضا من الذى سرق الأسد .وتبدو رحلة سيارة الشرطة داخل الحي وتركيبته
الاجتماعية والعرقية المعقدة المتشابكة.
فنرى المراهقون الفقراء الذين لا تستوعب الدولة طاقتهم
فيعبثون في الشوارع والطرقات وسطوح البنايات، وتأثيرالجماعات الإسلامية
المتطرفة عليهم هؤلاء الأشخاص العائدون من «الجهاد» في الشرق الأوسط، الى
جانب أسر الغجر بعنفهم الشديد ؛والجميع مشترك فى كرهه للشرطة،ورغم أن
المراهقين يملكون التكنولوجيا التي تمكنهم من الاحتفاظ بمعلومات قد تدين
الشرطة. إلا انها تصبح سببا فى تفجر العنف لسوء استخدمها.
ومن منطلق أن الضغط يولد الانفجار تتصاعد أحداث الفيلم؛
فبطش الشرطة يؤدي إلى عنف مضاد وتتبدل الادوار وهنا يصبح السيطرة بعيدة عن
العقل ؛ فالغضب المرعب يسيطر على مراهقي الحي.
ولا يحسم المخرج الصراع ويترك النزاع بين الجانبين، ونتيجته
مفتوحين للتأويل. ولكن الحقيقة المؤكدة هي أن الصراع مستمر وأن المواجهات
بين الجانبين لن تنتهي سريعا. وينتهى الفيلم بنهايته المفتوحة ؛والصبى يحمل
بيديه ما يشعل الحى من جديد فى دورة عنف كبيرة ؛ وتجئ كلمة النهاية على
الشاشة بأقتباس رائع من رواية فيكتور هوجو ؛وكأن المخرج يقول وجهة نظره فى
أحداث العنف الأخيرة فى فرنسا: «لا توجد نبتة سيئة ولا يوجد رجل سيئ، ولكن
ثمة فقط زارع سيئ». |