حكايات وأسرار سيدة الشاشة العربية (2-2)
القصة الكاملة لهجرتها من مصر لخمس سنوات في فترة حكم عبدالناصر
القاهرة - أحمد الجندي
فاتن حمامه سوف تظل رمزاً من رموز الفن المصري والعربي الرفيع على مدار
عصوره وقيمة عظيمة ساهمت في الارتقاء بالوعي العربي واقترن اسمها بتاريخ
مصر الرائد في النهوض بالفنون بالعالم العربي بهذه الكلمات كان رثاء د.نبيل
العربي الامين العام لجامعة الدول العربية.. وعلى نفس المستوى والمعنى كان
الرثاء لهذه الفنانة الاسطورية الخالدة من رئاسة الجمهورية في مصر ومجلس
الوزراء والعديد من الهيئات والمؤسسات الرسمية في مصر والعالم العربي..
وهذا يؤكد ان فاتن حمامة لم تكن مجرد فنانة عادية او نجمة استمر عطاؤها
الفني لحقب زمنية طويلة فقط بل اصبحت بالفعل نموذجاً لكل من يبحث عن القيمة
والجمال والابداع والاحترام والالتزام في اي مجال من مجالات الحياة.
وفي هذا الجزء الثاني والاخير من الحديث عنها بعد ايام قليلة من رحيلها
نواصل استعراض بعض المواقف الانسانية والفنية التي- ربما- لا يعرفها
الكثيرون عن النجمة الرائدة الغائبة جسدا الحاضرة ابداعاً وفنا واثرا
وروحاً
في عام 1946 كانت فاتن قد بلغت الخامسة عشر من عمرها رصيدها الفني ثلاثة
افلام بورسعيد ورصاصة في القلب ودنيا الفيلمان الاول والثاني مع المخرج
محمد كريم والفيلم الثالث مع المخرج عزالدين ذوالفقار.. في هذا العام ايضا
تم افتتاح المعهد العالي لفن التمثيل العربي الذي يعد النسخة الثانية
والمنقحة من معهد التمثيل الحكومي التي انشاته وزارة المعارف عام 1930 ثم
سرعان ما اغلقته الحكومة المصرية بنفسها تحت دعوى انه مخالف للتقاليد
والآداب!!
المهم هنا ان فاتن ولشدة حبها للتمثيل ولرغبتها في ان تسلح موهبتها
المتدفقة بالعلم التحقت بالفعل للدراسة بالمعهد رغم انها كانت وكما اشرنا-
قد بدأت مشوارها الفني وحققت الكثير من النجاح وغيرها لم يفكر مطلقا في
خطوة الدراسة.. لكن هذه هي فاتن بثقافتها وحبها لفنها والمساحة الهائلة
لوعيها رغم سنها الصغيرة
وعن اليوم الاول لها في المعهد العالي لفن التمثيل يقول الفنان والرائد
الكبير زكي طليمات احد اهم المؤسسين للمعهد في كتابه ذكريات ووجوه يقول:
كان اليوم الاول للدراسة في المعهد في عامه الاول وانتظم الطلبة في احد
الفصول بعد نجاحهم في امتحان القبول ودخلت الفصل.. وكان عدد الشباب اكثر من
عدد الشابات.. وكان مستوى جمال الشابات او الفتيات محدوداً واستقر بصري
وانا انظر اليهم على فتاة وسيمة وجه صغير بالغ الوسامة كالعرائس الغالية..
تتحرك فيه عينان واسعتان بقلق وفضول.. واشرت الى هذه الوسيمة قائلاً: تعالي
هنا ياعروسة.. ووقفت صاحبة الوجه الذي يشبه العروسة قائلة: انا مش عروسة يا
استاذ فسألتها اسمك ايه؟ قالت: فاتن حمامة
ويكمل زكي طليمات: طلبت منها ان تصعد الى المنصة وتؤدي اي دور يحلو لها مما
حفظته.. ووجدت صوتها ضعيفاً لكنه ثاقب وساخن ينفذ من الاذن الى القلب..
وتحس ما تقوله احساساً صادقاً يظهر في كل حركاتها وجسدها.. ولكني لاحظت ان
بها لثغة باريسية تنطق حرف الراء كحرف الغين وبما ان الالقاء والنطق الصحيح
من اهم الدروس وان لثغتها تعد عيبا في النطق قلت لها صائحا طلعي لسانك..
فما كان منها الا ان اغلقت فمها وتؤكد ان لسانها مش ناقص حته!!
نكتفي مما قاله زكي طليمات في كتابه عن لقائه الاول مع فاتن حمامه لكن ما
نريد ان نؤكد عليه هو اصرارها على النجاح رغم هذه اللثغة التي كان من
الممكن ان تعيق اي فنان في بداية طريقه لكنها كانت منذ البداية وطوال
مسيرتها الفنية بداخلها اصرار هائل على النجاح واثقة من موهبتها وقدرتها
وبلا اي تنازلات تشق طريقها بنجاح حتى اصبحت نجمة السينما المصرية وهدف كل
منتجيها ومخرجيها والتزمت الصرامة والجدية ليس في فنها فحسب بل في حياتها
الخاصة كإنسانة فلم تسمح لشائعة ان تطولها ولا لهمسة تمس سمعتها ان تطلع..
عندما احبت تزوجت وكان المخرج عزالدين ذوالفقار اول ازواجها عام 1947
وانجبت منه ابنتها نادية وعندما عصفت المشاكل بينها وبين زوجها انفصلت عنه
وظلت تربطها به صداقة وعمل استمرت حتى وفاته واكتفت بتعليق صغير عند طلاقها
منه قال: اكتشفت ان حبي له كان حب تلميذة لاستاذها ولم تطل في الحديث اكثر
من ذلك عندما احبت للمرة الثانية كان زواجها الثاني من عمر الشريف عام 1955
وانجبت منه ابنها طارق.. وانفصلت عنه في بداية السبعينيات وبعدها كان
زواجها الثالث والاخير من د.محمد عبدالوهاب.. وكل زيجاتها كانت في العلن
مثل اي سيدة عادية في مجتمع شرقي محافظ وهذا ما اكسبها الاحترام الزائد من
الجميع فهي تتصرف في حياتها الخاصة مثل اي امرأة تحافظ على سمعتها وتقاليد
مجتمعها
ظلت فاتن على نجوميتها ومكانتها وعندما فازت لثلاث سنوات متتالية بلقب افضل
ممثلة في العالم العربي اطلق الصحافي اللبناني الكبير رئيس تحرير مجلة
الموعد اللبنانية صاحبة الاستفتاء لقب سيدة الشاشة العربية وهكذا كانت
الالقاب تأتي اليها ولا تطلقها هي على نفسها مثلما فعلت غيرها من الفنانات
الباحثات عن الالقاب الوهمية
وفي مسيرة فاتن حمامة الفنية لا يخلو الامر من مواقف طريفة.. ومن هذه
المواقف انها ابدا ورغم كل موهبتها الاسطورية كممثلة لم يكن لها علاقة
بالغناء على الاطلاق سوى مرة واحدة عندما غنت الدويتو الشهير الو.. الو..
احنا هنا مع شادية في فيلم موعد مع الحياة عام 1953 وكانت الاغنية من كلمات
الشاعر فتحي قورة والحان منير مراد ورغم ان فاتن كانت بدايتها في السينما
مع مطرب هو محمد عبدالوهاب وشاركت مع نجوم الطرب والغناء بطولة عدد من
الافلام منهم فريد الاطرش وعبدالحليم حافظ ومحمد فوزي وفيلم وحيد مع المطرب
عبدالعزيز محمود وتعد من اكثر نجمات السينما المصرية التي غنى لها هؤلاء
النجوم في عالم الطرب والسينما في الافلام التي جمعتها بهم وبلغت هذه
الاغنيات التي غنوها لفاتن يتغزلون فيها في جمالها ويبثونها اشواقهم
وعواطفهم 23 اغنية.. والطريف هنا انه نظرا للمنافسة الفنية الشديدة التي
كانت بين عبدالحليم وفريد في الخمسينيات والستينيات شعر فريد بشيء من
الغيرة عندما غنى عبدالحليم لفاتن عدداً كبيراً من الاغنيات في افلامهما
معا فما كان منه الا ان قرر مشاركة سيدة الشاشة في فيلم آخر يغني لها فيه
وكان فيلم حكاية العمر كله عام 1965 وغنى لها اغنيته الشهيرة ابو ضحكة جنان
ومن المواقف الطريفة الى واحد من اصعب المواقف الانسانية والفنية التي مرت
في حياة هذه الفنانة العبقرية وهو قصة هروبها وهجرتها من مصر في السنوات
الاخيرة من فترة حكم عبدالناصر ومكوثها في الخارج لـ5 سنوات كاملة ولم تعد
الى مصر الا بعد وفاته.. وتعد هذه القصة او هذا الموقف من اكثر المواقف
غموضا في حياتها واثير حوله جدل هائل لكن قبل الدخول الى هذه القصة لابد
وان نشير الى ان فاتن كانت ترى ان من بين ادوارها كفنانة في مجتمعها ان
تقدم القضايا السياسية والاجتماعية لهذا المجتمع وقدمت بالفعل العديد من
الافلام التي واكبت الواقع السياسي والاجتماعي
في بدايات عام 1966 تركت فاتن حمامة مصر ولم تعد اليها الا في عام 1971
وظلت طوال هذه السنوات الخمس تعيش متنقلة ما بين بيروت ولندن وفي بيروت
قدمت خلال هذه السنوات عدداً من الافلام لكن لماذا هاجرت من مصر او بتعبير
اكثر دقة لماذا هربت من مصر؟! وبعيدا عن الجدل وكل ما قيل في هذه القصة
تدخل مباشرة في الاجابة على السؤال من خلال ما قالته هي بنفسها في حوار
صحافي نشر لها بمجلة المصور القاهرية عام 1991 قالت فيه انها كانت من اشد
المؤيدين لثورة يوليو 1952 الا انها بدأت تشعر ان عبدالناصر مخادع عندما
حدد الملكية بواقع 200 فدان ليخفضها في العام التالي الى 100 فدان ورأيت في
هذا ظلماً كبيراً.. وظلماً اخر يقع على ناس يؤخذون من بيوتهم للسجن في
منتصف الليل اما فيما يخصني كنت اعيش في كبت وحبس لانني كنت لا استطيع
السفر دون مراجعات لا لزوم لها وظروف المتحكمين في البلد من مخابرات
ومضايقات
وتدخل فاتن حمامة الى صلب الموضوع بشكل اكبر وتوضح السبب الاهم لمغادرتها
مصر وتقول: جاءني رجل من المخابرات ومعه كتب غريبة عن الجاسوسية وطلب مني
قراءتها وقال لي: اننا ومن اجلك لم نؤذ احداً
وتضيف خلال نفس حوارها مع مجلة المصور ما حدث من هذا الرجل كان تهديداً
مباشراً ورفضت ما يعرضه علي ورفضت بشدة بسياسة ولباقة وبعد ذلك عندما كنت
اسافر اجد من يسألني من الضباط في الجوازات لماذا تريدين السفر؟ رغم ان
الجميع يعلم انني ذاهبة الى مهرجان سينمائي دولي لهذا كرهتهم جداً وبعدها
بقليل خططت للسفر وسافرت
انتهى كلام فاتن في هذا الحوار لكن الذي لم تقله واكدته مصادر اخرى.. ان
الضغوط زادت عليها بشدة من هذه الاجهزة السيادية التي طلبت منها التعاون
معها مثل غيرها من الفنانات في ذاك الوقت ورفضت بشدة بناء على نصيحة من
صديقها المنتج والمخرج حلمي حليم الذي كان بسبب مواقفه السياسية المعارضة
ضيفاً دائماً على سجونهم ومعتقلاتهم.. وهو الذي طلب منها ضرورة مغادرة مصر
لانهم لن يطيقوا رفض تعاونك معهم.. خصوصا انهم بداوا بوضع اسمها ضمن قوائم
الممنوعين من السفر ومغادرة البلاد وتؤكد المصادر ان الصحافي والكاتب
الكبير مصطفى امين والذي كان من اصدقائها المقربين هو الذي ساعدها ودبر لها
خطة محكمة للهروب من مصر
وهنا نتوقف لنشير الى ان عبدالناصر عندما علم بهروبها وهجرتها من مصر طالب
بضرورة عودتها وقال عنها: انها ثروة قومية ولابد ان تعود واكد انه لم يكن
يعلم ما تعرضت له وانه من شدة تقديره لها منحها وساما في بداية الستينيات
تقديرا لها
ووسط عبدالناصر عدداً من مشاهير الكتاب والسينمائيين والنقاد على راسهم
الراحل الكبير سعد الدين وهبة من اجل اقناعها بالعودة الى مصر دون جدوى
وبالفعل لم تعد فاتن الى مصر الا في عام 1971 بعد وفاة عبدالناصر وهنا نشير
الى ان فاتن عاصرت 6 رؤساء لمصر.. اولهم اللواء محمد نجيب ولم تكن هناك
اراء لها فيه او لقاءات معه لان فترة حكمه كانت قصيرة جدا ولم تستمر سوى
عام واحد او اقل.. وكانت علاقتها ورايها في عبدالناصر كما اشرنا وفي عصر
السادات كانت ترى ان مصر اثناء حكمه كانت اكثر انفتاحاً والناس تنفست وغنت
وتحدثت بحرية وفتحت البيوت والنوافذ وتحسنت احوال الناس وكانت ترى في
السادات الذي قابلته في اكثر من مناسبة خصوصا بعد ان اقام عيدا للفن انه
كان رجلا متفتحاً وانساناً طيباً وترى ان الامر لم يختلف كثيراً في عهد
مبارك التي احزنها كثيرا ما تعرض له من بعد ثورة يناير وكانت ترى انه مهما
حدث منه من سلبيات اثناء حكمه لا يجب ان ننسى انه من ابطال اكتوبر.. اما في
فترة حكم محمد مرسي فقد كرهت فاتن حمامه الاخوان والسنة التي حكموا فيها
مصر وعبرت عن غضبها بقوة وصراحة في اكثر من حديث اعلامي ورفضت دعوته لها
لحضور اجتماعه بالفنانين.. وهو ما تغير بنسبة 360درجة بعد ثورة 30 يونيو من
خلال ارتياحها الشديد للرئيس السيسي ومقابلتها معه اثناء فترة ترشحه
واشادتها الدائمة به واحترامها الشديد له ولوطنيته واخلاصه وحبه لبلده
ولشعبه وهذا الحماس هو ما جعلها تتنازل وتشارك في الاستفتاء على الدستور
وفي انتخابات الرئاسة واكدت انها اعطت صوتها للسيسي
ونعود الى عودتها لمصر عام 1971 بعد غياب 5 سنوات كاملة.. لنرى انها بمجرد
عودتها سعى اليها المنتج الكبير رمسيس نجيب ووقع معها عقد بطولة اول فيلم
تقدمه بعد العودة وافقت فهي قدمت معه من قبل سلسلة من الافلام الرائعة وطلب
منها ان تختار الفيلم الذي تريده فطلبت منه ان تكون رواية احسان عبدالقدوس
الخيط الرفيع هي اول فيلم لها بعد عودتها لانها معجبة بشدة بالرواية منذ
صدورها واشترى المنتج القصة من احسان وبدأت التحضيرات للفيلم لكن فجأة ظهر
المنتج صبحي فرحات واكد انه صاحب القصة وسبق ان اشتراها من احسان وان سعاد
حسني سوف تقوم ببطولة الفيلم وكاد الامر يصل الى القضايا والمحاكم.. واكد
احسان ان فرحات اشترى القصة منذ اكثر من 5سنوات ولم ينفذها ومن حقه ان
يبيعها ويفسخ اتفاقه معه.. وهنا تدخلت سعاد حسني وحسمت الامر واعلنت انها
تتنازل عن القصة والفيلم احتراماً لفاتن حمامة وتقديراً لها ورفضت اقتراح
المنتج صبحي فرحات بالسفر الى بيروت وتنفيذ الفيلم هناك
ولفاتن حمامة غرام خاص بالروايات الادبية التي يتم تحويلها الى افلام
سينمائية فقد قرات رواية الحرام ليوسف ادريس في ليلة واحدة وفي اليوم
التالي وافقت على تحويلها لفيلم سينمائي وعندما تحمست لتقديم فيلم
امبراطورية ميم عن رواية قصيرة لاحسان عبدالقدوس كان البطل رجلاً وطلبت من
احسان ان يحول البطل الى امرأة وان يكتب حوار الفيلم بنفسه وتمنت ان تقدم
فيلما عن رواية لنجيب محفوظ ولم يحدث ذلك طوال مشوارها الفني
وما قد لا يعرفه الكثيرون ان الكاتب الكبير الراحل اسامة انور عكاشة كان
يريد تكرار تجربته التلفزيونية معها بعد مسلسل ضمير ابلة حكمت وعرض عليها
مسلسل امرأة من زمن الحب لكنها اعتذرت عن المسلسل لتقوم ببطولته سميرة احمد
وايضا كان هناك مشروع فيلم عرضه عليها السيناريست الشاب خالد دياب وعرض
عليها المعالجة الدرامية للفيلم فوافقت عليها خلال اتصال تليفوني وكانت
القصة انسانية تدور حول رجل وامرأة في مثل عمرها وطلبت بعض التعديلات
والتفاصيل في المعالجة واستمرت النقاشات بينها وبين خالد دياب وكاد المشروع
يخرج للنور وتعود فاتن لشاشة السينما وكان هذا في نهايات عام 2010 لكن قيام
ثورة يناير وعانت بعدها من الم جعل المشروع كله يتأجل ولم يتم
ولا اجد ما اختم به هذا الموضوع عن هذه الفنانة والنجمة الاسطورية سوى
كلماتها هي التي قالتها في سطورفي مقال نادر كتبته في جريدة الجيل ونشر عام
1953 وكان بعنوان قيراط حظ قالت فاتن: انها لا تؤمن كثيراً بما يقوله البعض
من ان النجاح لا يأتي الا بالجهد والاجتهاد والجدية والعمل الدؤوب .. بل
تؤمن وبشكل كبير بالراي الذي يقوله آخرون بان الحظ الجيد هو الذي بيده كل
شيء والانسان المحظوظ وصاحب البخت الجيد هو من يحقق النجاح اكثر وان الحظ
يتدخل كثيرا في حياتنا يرفع اناساً يذل اناساً آخرين.. واستشهدت على هذه
القناعات وعلى ما تؤمن به بقصتين من واقع الحياة لعب الحظ فيهما دور
البطولة.. ولا شك ان ما قالته يؤكد على مساحة هائلة من التواضع الذي هو سمة
العظماء دائماً. |