قلائل من نجوم السينما جسدوا على الشاشة كثيراً من حياتهم، وفاتن حمامة هي
من هؤلاء القلة. صحيح أن التمثيل مهنة ولكن هناك فرق بين من يمتهنها لكسب
العيش فقط ومن يعتبرها أسلوباً في الحياة ورسالة إنسانية، وفاتن حمامة من
هؤلاء.
فاتن حمامة تختزل بأفلامها وحياتها مسيرة شعب مصر الحديثة وخصوصاً مسيرة
المرأة المصرية منذ الطفولة حتى الممات. صحيح أن فاتن في حياتها الفنية
محكومة بمفاهيم الحياة في كل مرحلة، وبالقائمين على صناعة السينما، وشخصية
العاملين بمن فيهم المنتج والمخرج والكاتب والسيناريست، والممثلون، والسوق،
والرقابة وغيرها، لكننا إذا تتبعنا مسيرة حياة فاتن الفنية وكذلك حياتها
الفعلية وخصوصاً بعد أن أصبحت مشهورة ومطلوبة، وبالتحديد في حقبة ما بعد
ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، وقبل الارتداد عليها، فإننا نلاحظ تدقيقاً في
اختيارها للأفلام والأدوار المعروضة عليها، بحيث تعكس دائماً رسالتها
ودورها المؤثر على الجمهور. وكما في السينما كذلك في الحياة سواء العائلية
الخاصة، حيث نلاحظ حبها للحياة من دون ابتذال، وكذلك في الحياة العامة، حيث
كرست شهرتها وتأثيرها الجماهيري الطاغي للتصدي للمشاكل التي تواجه الوطن
والشعب، وكذلك تحمل المسئولية في الدفاع عن ثورة يوليو، مع تصديها لنقد
الأخطاء والثغرات.
في مقابلة نادرة مع التلفزيون الفرنسي (موجودة على اليوتيوب) العام 1964
أثناء وجودها في لبنان لتصوير فيلم، تحدثت بطلاقة بالفرنسية وهو ما يكشف
شخصيتها المتعلمة، كما كشفت عن ثقافة واسعة بشئون المجتمع المصري والعربي،
وعبرت عن اعتزازها بالانتماء لثورة 23 يوليو 1952 وقيادة عبدالناصر،
وتشريحها للنظام الملكي الظالم قبل ذلك مؤكدة قيام العدالة والكرامة. ولقد
أتيح لي حضور عدد من أفلامها كما عمدت إلى مشاهدة أفلام من مختلف المراحل
على اليوتيوب وقراءة عدد من المقالات عنها.
يمكن تقسيم مراحل حياة فاتن الفنية والحياتية إلى أربع مراحل، الأولى تمتد
من تمثيلها لأول دور ثانوي كطفلة (9 سنوات) في فيلم (يوم سعيد) العام 1940
أمام موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952 وخصوصاً
بعد ترسخ الثورة وانعكاساتها على مجمل مناحي الحياة ومنها الفن وخصوصاً
الفن السابع.
من المهم إدراك أن شخصية فاتن نمت وتطورت من خلال السينما حيث دخلت التمثيل
باكراً في طور الطفولة ثم المراهقة فالنضج فالكبر. بالطبع كانت السينما قبل
ثورة يوليو، ذات لغة ساذجة ووعظية وكثير منها يدور حول قصص الحب الرومانسية
في أوساط الطبقة الراقية أو قصص البسطاء القانعين بالإرادة الإلهية أو
القدر. ولا يعني ذلك أنه لم تنجز أفلام جيدة فقد كان هناك هامش من الإبداع
وفنانون كبار. ولكن كان على فاتن، وخصوصاً وهي تحت وصاية أبيها أن تقبل بما
يعرض عليها من أدوار حتى لو لم تكن إبداعية، لكنها أظهرت موهبة استثنائية
في التمثيل بعفوية مقنعة. لكنها لم تقتنع بالموهبة والطلب عليها، فدخلت
المعهد العالي للتمثيل العام 1946، وعمرها 16 عاماً فقط وأكملت دراستها فيه.
أما المرحلة الثانية فقد كانت بعد ثورة 23 يوليو 1952 خصوصاً ما بعد العام
1954 عندما تسلم جمال عبدالناصر قيادة الثورة، وبدأت مصر تشهد تحولات عميقة
في كل شيء بما في ذلك الفن وخصوصاً الفن السابع كما شهدت إعادة هيكلة صناعة
السينما، بما في ذلك قيام المؤسسة العامة للسينما (القطاع عام) وتأميم
استوديوهات مصر (الأكبر من نوعها)، وبروز مخرجين كبار مؤمنين بالثورة
وقيمها مثل صلاح أبوسيف وبركات وخيري بشارة ويوسف شاهين، وهؤلاء جميعا
أخرجوا عدداً من الأفلام لفاتن.
كما أن تلك المرحلة شهدت تحويل أعمال أدبية لكتاب كبار مثل يوسف إدريس وطه
حسين، ونجيب محفوظ ويوسف السباعي إلى أفلام مثلت فاتن في عدد منها. ويطلق
على مرحلة عقدي الخمسينيات والستينيات، أي منذ ثورة يوليو حتى الهزيمة في 5
يونيو/ حزيران 1967، المرحلة الذهبية للسينما المصرية، حيث سادت الواقعية
والواقعية الاشتراكية النتاج الفني وخصوصاً الفن السابع، وكانت فاتن بارزة
في ذلك.
كما شهدت تلك الفترة دماء جديدة وممثلين وممثلات بارعين مثلت معهم مثل عمر
الشريف وكمال الشناوي وعماد حمدي، وشكري سرحان ومحمود مرسي وصلاح ذو
الفقار، ورشدي أباظة، وفريد شوقي، إلى جانب الممثلين المخضرمين مثل يوسف
وهبي وزكي رستم ومحمود الميلحي وحسين رياض وكذلك الأمر بالممثلات المخضرمات
مثل ليلى طاهر ومديحة يسرى وكذلك الممثلات الجدد مثل نادية لطفي، ويسرى،
وميرفت أمين، ونجلاء فتحي. وبالطبع كان هناك المطربون المشهورون الذين
مثلوا في عدد من الأفلام حيث يعتبر ذلك ضمانة لرواج الفيلم مثل عبدالحليم
حافظ إلى جانب المخضرمين ممثل محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ومحمود فوزي،
كما مثلت فاتن مع المخضرمين وهي يافعة، فقد مثلت مع المطربين الشباب مثل
عبدالحليم حافظ.
أما المرحلة الثالثة فتمتد من وفاة عبدالناصر في سبتمبر/ أيلول 1970، حتى
تخليها عن السينما وما تبعه من انقلاب السادات ثم مبارك على ثورة 23 يوليو/
تموز، وارتداد كل شيء في حياة مصر والمصريين. ومن أهم إفرازات ذلك، تراجع
دور القطاع العام وحل المؤسسة العامة للسينما وخصخصة استوديوهات مصر وغير
ذلك من مكونات قطاع السينما العام، وصعود ما يعرف بسينما أفلام المقاولين،
وهبوط مستوى السينما المصرية، وسيادة التطبيل. وكانت فاتن إحدى ضحاياها،
وهي الفنانة المعتزة بنفسها وفنها ورقيها ووطنيتها. ولذا نرى تذبذباً في
مستوى أفلامها، وكذلك محتوى هذه الأفلام. والمؤسف أنها اضطرت للتمثيل في
أفلام غير مقنعة مثل فيلم «حبيبي» مع محمود ياسين، وصور في لبنان، ويدور
حول قصة حب ما بين فنان (رسام) شاب (محمود ياسين) وامرأة غامضة (فاتن
حمامة) تكبره بعشرين سنة، ولقد حزنت أثناء مشاهدتي للفيلم.
أما المرحلة الرابعة فتبدأ منذ العام 1990 حتى وفاتها في 17 يناير/ 2015 عن
عمر 84 عاماً حينما تخلت عن تمثيل الأفلام واقتصرت على تمثيل المسلسلات
وخصوصاً مسلسلات شهر رمضان ومنها سلسل «ضمير حكمت هانم».
ما يلفت الراصد لمسيرة فاتن حمامة، إلى جانب تطور شخصيتها الفنية ونضوجها
وخبرتها، تلك الموهبة في التمثيل البسيط الممتنع، من دون افتعال وهي هادئة
الجمال وآسرة بلحاظها وصوتها ذات النبرة الحزينة والخافتة والآسرة. ولقد
نهجت نهجاً لم تحد عنه في رفض أدوار الابتذال أو الجنس والتعري، لكنها كانت
متحررة أيضاً.
مثلت فاتن خلال مسيرتها الفنية الطويلة شخصيات متعددة ومتناقضة مثل الطالبة
والموظفة، والأم، والزوجة، والجدة، كما مثلت دور الفقيرة والغنية،
والمتقشفة والباذخة، والارستقراطية والفلاحة، والمسئولة والعاملة، باقتدار
ومن دون افتعال، كما مثلت بمختلف لهجات مصر، القاهرة والصعيد والساحل.
حرصت منذ أن أضحت مطلوبة ومشهورة خصوصاً بعد ثورة يوليو 1952 على اختيار
أدوارها بعناية، بحيث توصل رسالة نبيلة. وحتى بعد الانقلاب على ثورة يوليو
حافظت على اختياراتها على رغم صعوبة ذلك وضيق الاختيار. وكان لتأثير بعض
أفلامها مثل «دعاء الكروان» و «الحرام» تأثير كبير على طرح مشكلة الولادة
خارج إطار الزواج، إذ تكون الضحية دائماً المرأة والفقيرة.
كما كان لفيلمها «أريد حلا» في العام 1975 حول معاناة المرأة المصرية
المطلقة، تأثير مهم في أوساط الرأي العام، ما ساهم في تعديل قانون الأحوال
الشخصية بحيث يحق للمرأة أن تطلب الطلاق (الخلع).
تناولت أفلامها قضايا حساسة مثل سطوة المخابرات كما في فيلم «ليلة القبض
على فاطمة»، ومصاعب الحياة الشعب المصري ومعاناته في فيلم «يوم حلو، يوم مر».
الحياة الخاصة لفاتن مستقرة نسبياً خلافاً للعديد من الفنانين والفنانات
فقد تزوجت لأول مرة وهي مراهقة (16 عاماً) المخرج الذي تبناها وهو عزالدين
ذو الفقار العام 1947 وظلت معه حتى 1954 وأنجبا أولى بناتها نادية.
أما الزواج الثاني فكان إثر قصة حب عنيفة مع الممثل عمر الشريف اللبناني
الأصل (ميشيل شلهوب) العام 1955 إثر تمثيلها معه في فيلم «صراع في الوادي».
واستمر زواجهما صامداً حتى العام 1974 حين أغرى التمثيل في هوليوود عمر
الشريف وجذبته الشهرة حتى وقع الطلاق، وأنجبا ابنهما الوحيد طارق.
وظلت فاتن مضربة عن الزواج حتى اقترنت بطبيبها محمد الوهاب العام 1999، وهو
الذي لازمها في مرضها وعزلتها، ويستحق كل الثناء حيث إنه من المؤسف تجاهله
من قبل من كتبوا عنها بعد وفاتها بينما هو الذي كان يبكيها بحرقة في التشيع.
لقبت فاتن حمامة بسيدة الشاشة العربية، وبالفعل فهي تستحق اللقب، ونالت
أفلامها جوائز عربية ودولية، وشاركت كمحكمة في مهرجانات سينمائية مشهورة،
كما أنها رعت العديد من الفنانين والفنانات في صعود سلم التمثيل والشهرة.
لم تكن حياتها هانئة دائماً كما هو حال صاحب المبادئ أن يلاقي المشاكل.
فاتن حمامة على رغم إيمانها بثورة يوليو وقائدها إلا أنها انتقدت علناً
تدخل المخابرات في شئون الناس ومصادرة الممتلكات للخصوم بدعوى التأميم. وقد
عمدت السلطات الإعلامية حينها من منعها من حضور المهرجانات والفعاليات
الفنية ما جعلها تغادر مصر لتعيش بين لبنان وموسكو من العام 1969 حتى 1971.
في ليلة 17 يناير/ كانون الثاني 2015، أسلمت فاتن حمامة الروح لباريها في
مستشفى الفؤاد، واضعة حداً لحياة فنية ووطنية حافلة، مخلفة وراءها تراثاً
فنياً غنياً، لكنها ستظل حاضره بإنجازاتها وسيرتها. |