أصبح من الصعب تحديد معنى "السينما المُستقلة" في
الولايات المتحدة، مع إنتاج أكثر من ألف فيلم كلّ
عامّ، وتقلص أعداد الأفلام التي تُنتجها الاستوديوهات،
يمكن لأيّ شخصٍ الادّعاء بأنه "مستقلّ"، وبسبب هذا
التوسّع، فقد المُصطلح معناه.
عندما بدأ مفهوم "السينما المُستقلة" بالظهور في
ثلاثينيّات القرن العشرين - تمّ تطبيقه على حركاتٍ
متنوّعة غير الأفلام، مثل (تجمّع السينما، والتصوير
الفوتوغرافي)، وأول سينما طليعية - كان يشير إلى
أعمالٍ تختلف جوهرياً عن تلك التي كانت تنتجها السينما
التجارية في هوليوود:
ـ أشكال إنتاجٍ مختلفة.
ـ استراتيجيات توزيعٍ مختلفة.
ـ أشكال عرضٍ مختلفة.
ولكن، الأهمّ، وقبل كلّ شيء
ـ الأشكال الجمالية، والسياسية المختلفة.
قليلٌ من العناوين التي يمكن الإشارة إليها بالسينما
الأمريكية المُستقلة اليوم، تشبه أيّ شيءٍ آخر غير
الإنتاج الأقلّ تكلفةً مادية لما يُمكن أن نجده
بسهولةٍ في التلفزيون، أو في المجمّعات السينمائية.
لحسن الحظ، لا تزال الروح الأصلية للسينما المُستقلة
تعيش اليوم، وفي أغلب الأحيان في الأعمال التي تمرّ من
"تحت أجهزة رصد" وسائل الإعلام الكبرى، والمهرجانات
الرئيسية.
(الدليل الفصلي للسينماتيك الفرنسية، خريف 2018،
ريتشارد بينا، وليفيا بلوم إنغرام، بمناسبة الحلقة
الثالثة من برنامج عروض استعادية تحت عنوان: نظرة
جديدة على السينما الأمريكية المُستقلة).
*****
في صباح يومٍ فيسبوكيّ، كحال كلّ الأيام، والليالي
الفيسبوكية، أثار مخرجٌ عربيّ في صفحته موضوع السينما
المُستقلة، ومن بين تعليقاتي:
أعتقد بأننا لو كتبنا منذ الآن، وحتى الغد، تعليقاتٍ
مُقتضبة، أو مُسهبة، أو حتى دراساتٍ، لن تغيّر من
المفهوم السطحيّ، والتسطيحي للمعنى الجوهري لمصطلح
السينما المُستقلة، والذي، كحال أيّ موجة جديدة في
السينما، ظهر في فترةٍ معينة، في الستينيّات، وتطوّر
مفهومه إلى سينما بديلة، وموازية، وطليعية، وشخصية،
وتجريبية...
وبعده، اختفى المُصطلح، أو كان عليه أن يختفي، أو
ننساه، لأنّ السينما السائدة، وكعادتها، استوعبته،
وكعادتها أيضاً، استحوذت عليه، وأصبح بالإمكان مشاهدة
أفلاماً مختلفة، وطليعية، وتجريبية في إطار السينما
السائدة نفسها.
هناك مثالٌ منسيٌّ، ونسبيٌّ في السينما المصرية، وهو
فيلم "حكاية الأصل، والصورة في إخراج قصة (نجيب محفوظ)
المُسمّاة (صورة)" للمخرج مدكور ثابت، وأيضاً فيلمه
التسجيلي القصير "ثورة المكن".
وهناك مثالٌ آخرّ نسبيّ في السينما السورية،
"اليازرلي" للمخرج العراقي قيس الزبيدي...وكانت هذه
الأفلام من إنتاجٍ حكوميّ...
في الولايات المتحدة، كانت الاستقلالية تعني إيجاد
بدائل من أجل مواجهة سيطرة الأستوديوهات الكبرى....
والموضوع طويلٌ، ومتشعبٌ....المهم، أن يفهم المخرجون
العرب الجدد بأن التمويل الذاتي، أو الفقير لا يعني
الاستقلالية....
مثال آخرٌ من لبنان، المخرج اللبناني غسان سلحب ينجز
أفلاماً شخصية مستقلة، وبالآن ذاته، أفلاماً روائية في
إطار السينما السائدة...
السينما المُستقلة مفهومٌ اقتصاديٌّ، وجماليّ.
إذا كان المخرجون العرب الجدد يستخدمون مصطلح السينما
المُستقلة لأنهم يمولون أفلامهم بأنفسهم، أو لأنها
فقيرة الإنتاج، فهذا يعني بأن كلّ هؤلاء : يوسف شاهين،
شادي عبد السلام، داود عبد السيد، خيري بشارة، رضوان
الكاشف، وعشرات غيرهم، مخرجون غير مستقلين، بينما
حضرة، وجناب، ومعالي المخرج المبتدئ، الفقير، الغلبان،
الذي موّل فيلمه القصير الأول، أو الثاني بنفسه، مخرجٌ
مستقل، والأهم، يعتقد بأنه توصيفٌ إيجابيّ، بينما هو
في الحقيقة، مخرجٌ لم يتمكن من العثور على تمويلٍ
لأكثر من سبب، فاضطر مرغماً تمويل فيلمه بنفسه، أو
اعتمد على خدماتٍ تطوعية، وهذا المنهج الاقتصادي لن
يوصله إلى شيئ إذا لم يكن مستقلاً حرفياً، أيّ يهجر عن
طواعيةٍ آليات السينما السائدة، وينجز أفلاماً أخرى
مختلفة تماماً.
اليوم، لم يعدّ هناك ضرورة لاستخدام هذا التصنيف
"السينما المُستقلة"، لأنه، كما أشرتُ أعلاه، ظهر في
فترةٍ تاريخيةٍ معينة، وفي بلدٍ معين، وبعد سنواتٍ فقد
معناه، أو أصبح فاقد الصلاحية، لأنه، ليس الشرط الوحيد
للسينما المُستقلة أن تنتج خارج إطار السينما السائدة،
ولكن، هناك شروط التوزيع، والعرض، والأهمّ، الشروط
الجمالية...
وهذا ما يتوّجب أن يدركه أيّ مخرج عربي (يدّعي
الاستقلالية)، حيث أن المشهد السينمائي الحالي
(العالمي)، تجاوز هذا المفهوم القديم، واستوعبه، وحتى
احتضنه.
يعني، حالياً، وعلى سبيل المثال، مخرج فيلم تجريبي
خالص سوف يجد أماكن عرض في كلّ مكان بدون أيّ مشكلة،
بينما كان الأمر مختلفاً في سنوات ظهور، وصعود مفهوم
"السينما المُستقلة"، وما كان ينتج من أفلام تحت عنوان
"الأندرغراوند" بأليات إنتاج، وعرض، وتوزيع مختلفة عن
أفلام الإستوديوهات الكبرى، يمكن إنتاجها اليوم، أو ما
يشابهها، بأليات إنتاج، وعرض، وتوزيع (في وضح النهار)
إن صحّ التعبير.
نفس حال "بيان الدوغما 95" الذي لم يصمد لأنّ المشهد
السينمائي استوعبه، وهضمه (ويعود الفضل إلى الأداة،
أيّ الفيديو).
ونفس حال ما ناضل من أجله السينمائيون العرب، وسموه
"السينما البديلة" التي لم يعدّ لها معنى، ...
حتى السينما التجريبية التي كانت تُوصف بأنها
"بيتوتية/منزلية"، أصبح بإمكان أيّ شخص إنجاز فيلم
بطريقةٍ "بيتوتية/منزلية".
إذاً، هل يُعيد المخرجون العرب النظر في استخدام
مصطلحاتٍ، وتوصيفاتٍ بدون أن يفهموا معناها؟ |