كان أستاذي في مادة السينما الوثائقية بجامعة نانتير
(باريس 10)، تلك الجامعة التي أتت جرّاء انتفاضة
الطلبة عام 68 من القرن الماضي، والتي انتصبت في ضاحية
باريس الشمالية ذات المناخ العماليّ المُتعدّد
الجنسيات، والأيديولوجيات اليسارية… كان أستاذي مع
أساتذة آخرين منهم التونسي ـ الفرنسي "ألبير مامي"،
والفرنسييّن "جان بودريار"، و"جان روش"، و"هنري
لانغلوا"، وغيرهم، قبل أن أنتقل إلى جامعةٍ أخرى…
إنّه الايطالي، ومن صقلية تحديداً، الراحل
"انريكو
فولكينيوني"، صديقٌ حميميٌّ لروسوليني، وملازمٌ لأعمال
فيسكونتي، وفلليني، ودي سيكا، وغيرهم، صاحب أيام قرطاج
السينمائية حينما كان المهرجان "يعبّر" في الساحة
العالمية تحت إدارة الراحل الطاهر الشريعة بالتحديد،
والتفصيل.. فولكينيوني كان حينها، كما المُؤرخ جورج
سادول، والنقاد جان لوي بوري، وميشيل كلوني، وغيرهم،
ينظر إلى قرطاج كمنبع لصورةٍ عربية، وليس تجديداً لها…
كما لو أنّ هذه الصورة لم تُوجد قطّ.
بعد ذلك، وتحديداً في عام 1975، أصبحنا زملاء في
برنامج "بانوراما" لإذاعة "فرنسا الثقافية"، وكنا
نلتقي يومياً على الهواء مباشرةً في نقاشاتٍ عن مواضيع
عدة، وبعضها عن إشكاليات الأدب، والسينما، والمسرح،
والفنون التشكيلية، والسياسة الخاصة بالدول العربية
التي عرفها الراحل من ألفها إلى يائها لجهة عمله
باليونسكو، ورئاسته المجلس الأعلى للسينما، والتلفزة
بهذه المؤسّسة أيام الأرستقراطي الأفغاني نجم الدين
بمات.
وحينما كان الأمر يتعلق بالسينما العربية، وبالصورة
السينمائية تحديداً، كان أنريكو فولكينيوني برصانة
الحكيم الذي ذاق حلوّ، ومرّ النهضة الأوروبية، وزعزعة
فلاسفة الأنوار، يواجه "أدلجة" الثائر الهوائي الذي
كنتُ بجملةٍ أتذكر معناها تحديداً: "يا عزيزي خميس، لا
تنزعج…
لقد أعطيتم، أنتم العرب، للعالم الشعر، يكفيكم أن تكون
لديكم الكلمة في جميع مفاتيحها… إلاّ أنكم لم تمرّوا
بنهضةٍ قلبت الموازين، وفتحت الآفاق، وبفلاسفةٍ هزّوا
المفاهيم… وبالتالي، الصورة لديكم هي البلاغة
بمضامينها المتعددة… أما الصورة المرئية، فذلك عالمٌ
مازال بعيداً عنكم"...
الريبة، والتوجّس
كان الحوار يحتدّ بتدخل أطرافٍ أخرى من حضاراتٍ،
وأديانٍ، ومعتقداتٍ مختلفة، ويصل حدّ سوء الفهم
دائماً، ولولا معرفتي، وممارستي الشخصية، والقديمة
بالمُتدخلين، لاستخلصت المنحى العنصري، والتفوّق
الثقافي اليهودي ـ المسيحي ـ البوذي ـ الكنفوشيوسي،
وغيره… ومهما جاهدت في الدفاع عن السينما العربية
لمنتصف الثمانينات، ومشروعها النهضوي، إلاّ وجابهني
فراغ الحضارة العربية ـ الإسلامية من زاوية الصورة
المرئية (بغضّ الطرف عن المنمنمات الفارسية ـ الشيعية،
طبعاً)… فمقابل التراكم الأوروبي من هذا الجانب منذ
استلهام فناني العصور الوسطى الأوروبيين الإرث
اليوناني، لا نجد في الثقافة العربية ـ الإسلامية إلاّ
الريبة، والتوجّس من الصورة المرئية المُجسّدة للحالة
الإنسانية ما لم تعتمد على الكلمة…
وبالتالي، حينما يقوم مخرجٌ "غربيٌّ" بالعمل على
مناخاتٍ من العصور الوسطى، وما قبلها، أو بعدها قبل
وجود الصورة الشمسية، فإنه يجد المرجعيات اللازمة
للتصوّر، ويكون نتاج عمله، إن لم يكن صادقاً، فهو لا
يتضمن تصوراتٍ تاريخية خاطئة… في حين نجهل نحن
(بصرياً) ما كنا عليه في العصور السابقة إلاّ ما أتت
به ريشة، ورسومات الفنان الغربي، سواء من كان مع
بونابرت في حملته المصرية، أو من كان مع الجيوش
الفرنسية في حملتهم الاستعمارية للجزائر…
عند مشاهدة الأفلام، والمسلسلات التاريخية، أتعجب من
براعة أجدادنا، وأُعجب بهم، لأنهم غزوا العالم حينها
وهم على تلك الهيئة من اللبس، والشعر، واللحية.. إنّ
تحريم الصورة في الإسلام (كما حصل كذلك لفتراتٍ قصيرة
في الديانات السماوية الأخرى) من جهةٍ، وقلة معرفة ـ
أو جهل مخرجينا السينمائيين كما التلفزيين ـ بأمهات
النصوص الفلسفية ـ الأدبية العربية للقرن الرابع
الهجري وما بعده، على سبيل المثال، أصابت، وتصيب
الصورة المتحركة العربية بالفقر العضويّ… لقد كتب مرةً
الشاعر اللبناني "صلاح ستيتيه" نصاً في منتصف الستينات
زبدته هي: إذا أردنا البحث عن مخرجٍ سينمائيّ "مسلم"
بالمعنى الحضاريّ للكلمة، لوجدنا أنّ الفرنسي "آلان
ريني"، أو الإيطالي "بيار باولو بازوليني" هما مخرجان
مسلمان لتجسيدهما مقومات الصورة من جانب تسلسل الزمن،
وترابط الأحداث، ونسق الإضاءة، وحتى زاوية الكاميرا…
الجانب الآخر من الوجه
الفرضية التي أتى بها ستيتيه، ودَعَمها فولكينيوني،
ونشاهدها يومياً في الغالبية الغالبة لما ننتج في
سينماءاتنا، وفضائياتنا، وحتى على مستوى المنتوج
المُستلهم للأحداث الدينية فرضيةً تجبرنا على إعادة
النظر، وغربلة إنتاج قرنٍ من الصور المتحركة العربية
على امتداد العالم العربي… وذلك حتى تخرج من حصار
التحريم العقائدي، الذي، وإن ليس له مفعولٌ ظاهريّ،
فقد كوّن زاويةً للرؤية لا ترى في الصورة إلاّ
واقعيتها مثل ذلك الفلاح المصري الذي أمام رسم
"بروفيل" له من وضع أحد مرافقي بونابرت، تحول وراء
الصورة بحثاً عن الجانب الآخر من وجهه…
فلنتذكر تلك الحيلة التي وجدها في فيلم
"الرسالة"
الراحل مصطفى العقاد في "اللقطة الذاتية" للرسول وهو
فوق الناقة.. لقد استعمل العقاد، وهو الذي عاش بين
أحضان السينما التجارية الأمريكية، أحد الأساليب
السردية لمُجانبة تحريم التجسيد… وهذا ممكنٌ في لقطةٍ
اعتراضيةٍ قد لا يتفطن لها المُشاهد في غمرة الحماس
الايمانيّ، ولكن، كيف سيكون الأمر مع ساعةٍ ونصف
الساعة من الحكي المرئي الفيلمي؟ كيف سيكون الأمر
حينما يتعلق بمسلسلٍ به 30 حلقة… وهو ما يحصل الآن
لمسلسل "الاسباط" الذي لم يجد حتى هذه الساعة بلداً
يحتضنه، لا لسببٍ إلاّ لأنه "قد" يُجسّد الحسن،
والحسين"….
قال الشاعر ماياكوفسكي إنّ "السينما فنٌ جديد، ولن
يترعرع إلاّ عند أمة جديدة".. ونحن أمةٌ قديمةٌ،
أصيلةٌ، لها عروقٌ ضاربةٌ في التاريخ… وبالتالي،
الصورة…
ألم يقلّ صديقي الصقلي فولكينيوني أننا، نحن العرب،
خارج تاريخ الصورة المتحركة… كان ذلك في منتصف
الثمانينات…
اليوم، ونظراً للانغلاق الثقافي، والعقائدي الذي
يتراءى من الآفاق الأربعة، لسنا خارج الصورة فقط… بل،
تماماً خارج التصوّر، أيضاً.