عندما يسخر إسماعيل يس من نفسه
صلاح سرميني/باريس
في الفيلم المصري اللطيف، الخفيف، والظريف "بيت
النتاش" (إخراج حسن حلمي، إنتاج عام 1952)، وبالتحديد،
في الدقيقة من 121 إلى 124، وخلال حفل زواجه، يقف
الصديق اللبناني ليمون (إلياس مؤدب)، وهو السكرتير
الخاص لرجل الأعمال سُكر بيه (إسماعيل يس)، وسط
المدعوّين، ويقول مبتهجاً باللهجة اللبنانية المطعمّة
ببعض الكلمات المصرية:ً
ـ سُكر بيه وضّب مفاجأة عظيمة كتير كتير، بتعرفوا شو
هي؟
ينتظر ثواني، ويُكمل:
ـ رح يقلد زعيم مونولوجست الشرق الأستاذ إسماعيل يس.
الضيوف: ح يقول إيه؟
ليمون: اللي تطلبوه.
الضيوف: عاوزين مونولوج بقّو (فمه).
.............
في معظم أفلامه، لم يكن إسماعيل يس ينتظر أحداً كي
يسخر من مظهره الجسدي (الرائع، والجميل بالنسبة لي).
ومن وجهة نظرٍ تنظيرية، يمثل المشهد السابق (حفل
الزواج) إحالةٌ مباشرةٌ إلى السينما نفسها من خلال
إسماعيل يس نفسه، في الواقع، وفي المتخيّل (السينما).
ومن وجهة نظرٍ تنظيريةٍ أخرى، يُعتبر هذا المشهد
تحطيماً للجدار الرابع الذي يفصل أحداث الفيلم عن
الجمهور، أو تغريباً بريختيّاً بسيطاً، مشاركة ضيوف
الحفل داخل الفيلم، ودعوة الجمهور إلى نفس الحفل، كما
تذكيره، بأنّ ما يُشاهده ليس أكثر من فيلم، بينما
تتماهي الشخصية التي يمثلها إسماعيل يس مع الممثل
إسماعيل يس.
ولكن، الأكثر أهميةً في هذا المشهد، والأقرب إلى
القلب، الأحاسيس، المشاعر، والعواطف، هي سخرية الشخصية
نفسها من نفسها، كما سخرية إسماعيل يس نفسه من نفسه،
ورُبما هي طريقةٌ سينمائيةٌ مباشرة للتطهير، والتخلص
من عقدة القُبح، والجمال التي كرّستها السينما نفسها
مع معظم نجومها من الجنسين، بحيث وضعت الجمال في
مكانٍ، وفي شخصياتٍ، والقُبح في مكانٍ آخر، وشخصياتٍ
أخرى، ولكن إسماعيل يس حطم هذه الحواجز باقتدار، كما
فعلها غيره بالطبع، ولكن ربما أنه تميز بسخريته
الضمنية، والمباشرة منها، وهكذا أصبح الجمهور يحبه،
ويتعاطف معه، وسكن عواطفه أكثر من أيّ ممثل يتمتع
بجمال لا يمتلكه إسماعيل يس باعترافه بنفسه.
تماماً كما حدث مع المئات من العباقرة في تاريخ
السينما، شارلي شابلن، باستر كيتون، الثنائي لوريل،
وهادري، لويس دي فينس، بورفيل، الثنائي دريد لحام،
ونهاد قلعي، عادل إمام...
رُبما "الكوميديا" هي التي منحت هؤلاء جواز المرور إلى
قلب المتفرج، ورُبما "الجوانب الإنسانية" التي
يجسدونها في شخصياتهم، وربما لأنهم أكثر قرباً
"جسدياً" إلى المتفرج، ورُبما لأنهم عاديون، وليسوا
أنصاف آلهة.
في نفس الفيلم، "بيت النتاش"، ومن الدقيقة 40 وحتى 45،
حيث يتابع المتفرج مشهداً مؤثراً، عندما تسأله خالته
نفوسة (زينات صدقي) سكر عن الأسباب التي منعته، أو
تمنعه من الزواج، مع أنه تاجر موالح وثريّ، يردّ عليها
سكر بحلاوة مريرة، ولكن، بتواضعٍ، وصدقٍ، ونزاهة:
ـ أنا شايف إني عدم الجواز ليا أفضل، الناس كلهم يا
خالتي في الحقيقة بيقولوا إني أنا شكلي مشلفط، يعني مش
ولابدّ.
في تلك الأثناء، كانت ملبِّسة (شادية) ابنة خالته التي
تحبه بصمتٍ تسمعه من خلف ستارة، ويحزنها إجابته.
في المشهد التالي، مشهد مُصارحة، وكشف عن المشاعر بين
الطرفين، حول طاولةٍ في كافتيريا، يدور بينهما الحوار
التالي، ولاحظ التقارب بين اسم كلٍّ منهما، ملبسة،
وسُكّر:
ملبسة: انتَ ما تعرفش قيمة نفسك.
سُكر: ماعرفش إزاي، هو ما فيش مرايات في البلد.
ملبسة: المرايات ما تظهرش إن كانت الروح صافية، ولا لأ
سُكر: يا ستي، الله يخليكي، إيش دخل الروح بالشلاكين
المنيلة على عينها دي.
..ملبسة:
الإنسان يكون حلو لما تكون روحو حلوة
سُكر: دا كلام جديد ما سمعتوش قبل كدا.
ومن خلال كلمات الأغنية المُتبادلة بينهما، تستمرّ
شادية في رفع معنوياته الجمالية، ولكن، يبدو بأنه لم
يفهم بعد ما تكّن له من محبة.
سُكر: أنا الحقيقة لغاية دلوقتي في منتهى الغباوة.
وفي مشهدٍ لاحقٍ رائع، يؤدي الاثنان أغنيةً معاً هي
جزءٌ أصيلٌ من دراما الأحداث، مفصلية تحوّل الأحداث في
منحى إيجابي تماماً لصالح الطرفين.
كلماتٌ بسيطةٌ، رقيقةٌ، وسهلة، تتسرّب إلى القلب
مباشرةً، ومنها أختار الآتي:
ملبسة: بتحب مين، قول بصراحة، أوصفهالي.
سُكر: خدودها زيّ التفاحة قلبت حالي، وعينيا لو جت في
عينيها، تعملني فتةٍ ملوخية، ورموشها سكاكين وكذلك،
دبحتني، وأنا راضي بذلك، ومين بقا اللي حبيتيه، قولي
الصراحة، وإوصفيه.
ـ ملبسة: بحب واحد شكلو لطيف، بس عقلوا شوية خفيف،
بحبو كتير، كتير جداً، وبقو كبير، كبير جداً
سُكر: طيب إسمو إيه؟
ملبسة: سُكر، إنت، إنت، ولا إنتاش داري، بُقك انتَ
ممرّ تجاري....
وبدون سردّ الأحداث اللاحقة، نتوقع مُسبقاً بأنّ سُكر
(إسماعيل يس) سوف يتزوج من ملبّسة (شادية)، وسوف
يعيشان في تباتٍ، ونباتٍ، ويخلفان صبيان، وبنات. |