خلال الثمانينيّات، وبعد أن أُثيرت مراراً، وتكراراً
فكرة موت السينما، فإنّ العقد التالي، سيُثبت لهذه
الألسنة السيئة العكس تماماً.
تتبدّد
الكآبة، على الأقلّ جزئياً، وسوف يمرّ الفنّ السابع
بالعديد من التغييرات، التجديدات، ما بعد المُنمّق
(التكّلف)، ما بعد الحداثة، وتحوّل الأنواع ...
لا يهمّ كيف نصفها، في هذا السياق الغامض، يظهر
كوينتين تارانتينو كعابثٍ، متهكمٍ، ومحرضٍ مراهق.
على الرغم من تحوّله نحو الأشكال الماضية، إلاّ أنّ
سينماه ستنزع فتيل أيّ حنينٍ إلى الماضي، ويختار بدلاً
من ذلك نزهةً سينيفيليةً مثمرةً بشكلٍ مخيف، تمرينٌ
لذيذٌ لأخذ عيناتٍ من خلالها تدع للتأمل جزءاً مهماً
من تاريخ السينما العظيم (ويسترن، تشويق، فيلم دعائي،
Blaxploitation(أفلام
استثمار الأمريكان من أصولٍ أفريقية)، الواقعية
الشعرية، ثقافة العرض المزدوج "فيلمان بثمن تذكرة
واحدة"...).
***
في حفنةٍ من الأفلام، وبدقةٍ أكثر، ستة (حتى تاريخ نشر
النصّ الأصلي ديسمبر 2009) - إذا اعتبرنا بالطبع
فيلميّ
Kill Bills
واحداً، وتجاهلنا مشاركاته في Four Rooms
و Sin City
كمخرج ضيف - التي تحققت بتناسقٍ كبير على مدار السبعة
عشر عاماً الماضية، أصبح كوينتين تارانتينو "ملكًا"
بلا منازع لسينيفيليةٍ غير قابلة للاختزال، يُظهر لنا
مع كلّ قربانٍ جديدٍ (فيلمٍ جديد) أكثر فأكثر من الشره
المرضيّ الذي لا يشبع، في وقتٍ تُعاني فيه السينما من
نقصٍ صارخٍ في الإلهام، والموهبة الجديدة.
ـ في مايو 92، كتب تييري جوس، بعد عودته من مهرجان
كان:
"ماتت السينما بموتها الجميل، لكنها بالفعل في ولادةٍ
جديدةٍ كاملة على خلفية تكاثر الصور، تبدو سياسة
المؤلفين بالية حتى النخاع، وهذا ليس خطيراً جداً"-
يأتي تارانتينو، وكأنه انتهازيّ إلى حدٍّ ما، ويبرز في
وقتٍ مبكرٍ جداً بسبب سعة الاطلاع الاستثنائية، وخاصةً
بلا حدود، إن لم يكن، كيف يمكن لنا تفسير هذه
التشابهات المُؤسفة بين
Reservoir
Dogs
و
City on Fire
لرينجو لام؟
أقلّ من مسألة موهبة عن اعتقادٍ واضحٍ في فنّه، يتولى
هذا الأخير عن طيب خاطرٍ مكانه وريثاً، بل وحتى ناقلاً
(لكن لمن؟) لأسطورةٍ سينمائيةٍ أمريكية صحيحة (خطّ
بالماـ لوكاس ـ سبيلبيرج ـ سكورسيزـ كوبولا) الذي من
خلاله تعود المهمّة العظيمة لملء الفراغ المحيط.
وبتزامنٍ تامّ مع هذا الميلاد الجديد الذي توقعه جوس،
مع
Reservoir Dogs،
يظهر الشاب الأمريكي في أفق السينما كشخصيةٍ رمزيةٍ
لسلطة ما بعد الحداثة الجديدة، مسترخياً، وصارماً في
نفس الوقت، وليس بأيّ حالٍ من الأحوال واعظاً، ومع ذلك
مانحاً عظيماً للدروس ...
"سينما أسلوبية"، لا يُقاوم أيّ شيءٍ (ثقافة الجونك،
والموسيقى، والتاريخ، والتلفزيون ...) ولا أيّ نوع
(فيلم إثارة/بولار، ويسترن، فيلم حربي، كونغ فو)، يقود
تارانتينو حياته المهنية كمخرج أفلامٍ مثل نزهةٍ
رائعة، ملونةٌ بالمراجع، والغمزات/الإحالات،
والتداخلات المُركبة (مع شخصية إيرل ماكجرو على وجه
الخصوص).
فيلموجرافيا قوية - كي لا نقول مُدوّخة – محددة من أجل
منطقةٍ واحدة الكيان/الجسد السينمائي
(Kill
Bill،
Death Proof،
Inglourious Basterds).
ولكن، مثل أيّ نزهةٍ محترمة، يسبقنا صوتٌ يمكن التعرّف
عليه بسهولة، يحدد المسار الذي يجب اتباعه.
السينما التارانتونية ليست استثناءً، دعونا نعزو هذا
رُبما إلى المُعجزة، ومع ذلك، فإن شعبية تارانتينو
ستُصحح وجهة نظرٍ معينة شائعة عن هوليوود، وهو إعادة
تموضعٍ/تغييرٍ يقودنا إلى الاعتقاد بأنه لا يزال هناك
بالفعل عددٌ قليل من صانعي الأفلام الشباب (كم؟ مان،
جارموش، فان سانت، بورتون، الأخوين كوين، جرايّ،
سودربرج، ..) يمتلكون السلطة اللازمة للتحدّث بصيغة
المتكلم.
هل يجب أن نتفاجأ حقاً عند رؤية
Reservoir Dogs
مرةً أخرى؟
على شاشةٍ سوداء، يبدأ الفيلم بصوت تارانتينو، وليس
أيّ صوت، في شخصية السيد براون، موضحاً نظريته حول
المعنى الخفيّ لأغنية مادونا (Like
a Virgin).
كمشهدٍ افتتاحيّ، من الصعب القيام بإنجازٍ أفضل من
ذلك، كعملٍ أولٍ لصانع أفلام، بينما نسبح وسط جوّ
عصاباتيّ؛ يحدد تارانتينو، من اللقطة الأولى، منطقته
التي تُهيمن عليها فلسفات الشباب (مناقشة البقشيش)،
والمظاهر، والإيماءات اليومية، والصدى المُدويّ
للموسيقى -تلك اللغة التي يتمّ الاحتفال بها بمرح،
والتي استشهد بها عنده.
منذ البداية، سيُثبت المخرج المُبتدئ أنه كاتب حوارٍ
جيدٍ، وحيويةٍ مثيرة.
هو يعترف:
"أحبّ رقصة اللغة، أحبّ تأرجح الكلمات".
الكلمات عنده ملوّنة ("I am a little touché")،
إيقاعيةٌ، وبها حمّى موسيقية جميلة
("
Am I scaring you ?/ Yes / Is it my scar ?/ No it’s
your car..").
حجر الأساس لسينماه، هذه الكلمات، هذا الفعل المُفرط
نادرٌ للغاية بين المخرجين الأمريكيين، يحتل مكاناً
أساسياً في تتابع قصصه (هذا التشويق الكامن في المشهد
الافتتاحي لـ
Basterds).
أليس هذا كلّ ما يدور حوله الأمر مرةً أخرى في إطلاق
النار في نهاية
Reservoir Dogs
، وهو إثباتُ مخفيّ بشكلٍ رفيع لأسلوب
John Woo،
ولكن بتكلفٍ أسلوبيّ أقلّ؟ تمّ استدعاءهم للتفسير،
وإلقاء بعض الضوء على مأزق سرقتهم الفاشلة، سوف يُماطل
الأبطال بتهديداتٍ قاتلة حتى يندفع نايس إيدي، خلال
سيل كلماته، ويضغط على الزناد.
يمكن أيضا تسجيل مثل هذه النهاية المُفاجئة، من خلال
هذا الفائض، الانفجار تقريباً، للكلام على
الفعل/الحدث، في أحد فصول
Pulp Fiction،
الفصل الذي قتلَ فيه فينسنت ميرفين عن طريق الخطأ.
تلعب الكلمة المنحرفة من محيطها دوراً مهماً بنفس
القدر في خاتمة
Kill Bill،
خلال هذا المشهد الذي لا يُنسى حيث تتبادل بياتريكس،
وبيل الكلمات معاً، "يسحبان" حواراتهما مثل تبادل
إطلاق النار في أفلام الوسترن.
من خلال براعة سينماه، والخفة الواضحة لمعالجته
السردية، رسّخ تارانتينو نفسه كمُستكشفٍ ثمين، وعنيدٍ
للحدود.
من خلال هذه الرغبة الشديدة في قلب المنطق العارم كله،
لإحباط ما يُسمّى بالأشكال التقليدية للحكاية، يلاحق
حالات التألق (مذبحة مثل
Kill Bill،
تكريماً للأفلام اليابانية)، حيّل الإخراج (حالة حقيبة
النقود منظمة من ثلاث وجهات نظرٍ مختلفة في
Jackie Brown
، وتدمير الطابع الرسمي التاريخي في
Basterds)،
والألعاب المنحرفة (مثل ذلك المشهد الطويل غير
المُعتاد في نفس الفيلم، حيث يبدأ الجنود الألمان في
لعبةٍ من نوع "من أنا؟") في مزيجٍ مفترضٍ من الصرامة،
والمرح ...
سيكون من السهل علينا الإعجاب به، لأنه متقدمٌ على
الجميع، وكما مُثله الأعلى سام فولر، أو جان لوك
جودار، يشعر بأنه حرٌّ تماماً بأن يقفز، وينتهك كما
يحلو له.
علاوةً على ذلك، وبالفعل، يظهر هذا الانتهاك ببراعةٍ
في الفيلم الناجح
Reservoir Dogs،
وهي حكايةُ مبسّطة تتطابق تماماً مع رموز فيلم
الإثارة/بولار (أو فيلم السرقة)، ولكن، مع اختلافٍ
صغير، وهو قراره بعدم إظهار السرقة، فكرة الفيلم
نفسها، وبصرف النظر عن اللجوء إلى بعض مقتطفاتٍ من
المعلومات حول السرقة، حيث يتولى الصوت السرد، يُفضّل
تارانتينو، بدلاً من ذلك، اختطاف هذا "القيد"
الدراميّ، مما يُجبر المُشاهد على التفكير، والمُشاركة
الفعالة...
وكما ستشهد أفلامه اللاحقة، تتولد المتعة، بالنسبة له،
من خلال الطاقة التفكيرية (واضحة جداً في
Basterds)،
والقوة الحسيّة للصورة، والتجزئة الزمنية (التي لا
ندركها دائماً من البداية، كما هو الحال في
Pulp Fiction)،
والأنظمة المصقولة في إنشاء مسافة (مشهد قطع الأذن
بعنفٍ لامعقول مصحوبة بألحانٍ جميلة لـ
Stuck in the Middle with You).
على مرّ السنين، تحوّل تارانتينو إلى مفسرٍ شارحٍ
-عالم آثار لسينيفيليةٍ قديمةٍ تقريباً (الإحياء
الفيلمي للولع تجاه ترافولتا، وديفيد كارادين، وروبرت
فورستر، وبام جرير المرغوبة للغاية، المُشار إليها
بالفعل في عناوين فيلم
Reservoir Dogs)،
كفاءةٌ يصبح من خلالها التنويه لا ينفصل عن التعبير
الشخصي.
من أجل شرح حوارٍ جوداري بحتّ، عنده نلعب معه دائماً
في السينما، سواء كانت عودة ظهور، على سبيل المثال،
لمخرجٍ مثل مونتي هيلمان، المثل الأعلى المُوقر، الذي
سيقدم له المخرج الناشئ مشاركةً كمنتج في
Reservoir Dogs،
وتكريماً جميلا في
Basterds،
فليكن تمزيقاً إلى أشلاءٍ للأنواع في عمله، أو ما إذا
كان تقديسه الذي لا يمكن دحضه لجودار إلى درجة تسمية
شركة إنتاجه
Bande à part
، فإن السينما تحكم حياة صانع الفيلم دون قيدٍ، أو
شرط، لذلك، فقد كان بالفعل يبشر بفضائله منذ سبعة عشر
عاماً، كمثاليّ نهائي! هذا الفن أكبر، وأقوى من أيّ
شيء (حتى التاريخ) في نظر المخرج، وهناك شيءٌ يتحرك في
هذا الأمر تقريباً، في هذا الصدد، سيكون
Inglourious Basterds
أكثر براهينه/إثباتاته اكتمالاً، وتأثيراً حتى الآن:
«سوف أنجز فيلماً عن الحرب العالمية الثانية، وينتهي
بي المطاف بكتابة رسالة حبٍّ إلى السينما! ».
Gnaba, S. (2009). Quentin Tarantino : chacun cherche
son cinéma. Séquences, (263), 15–16.
المصدر
Gnaba, S.
(2009)، "كوينتين تارانتينو: كلّ واحدٍ يبحث عن
سينماه "مجلة
Séquences
،
(263 العدد )، 15–16. |