بحكم معرفتي بمدير التصوير العالمي عبد العزيز فهمي
كأستاذي في معهد السينما، فقد كنت من الدفعة الأخيرة
التي درّس لها فنّ التصوير، تطورّت علاقتي به، وأصبح
بيننا أحاديث فنية كثيرة، خاصةً حينما كنت أقله
بسيارتي المتواضعة من معهد السينما في الهرم إلى منزله
بميدان تريونف بمصر الجديدة، كان طوال الطريق يلفت
نظري إلى ظلال الاشجار على الجدران، أشكال الضوء
المختلفة، وتأثيرها على كلّ ما يمرّ أمام أعيننا،
وتفاصيل كثيرة جعلت عيني تتعوّد على رصد، وتأمل كلّ ما
تراه.
بالطبع، أثناء الدراسة عرض علينا فيلم «المومياء» من
أعظم ما صوّر من أفلام، إخراج الرائع شادي عبد السلام،
حيث قام الأستاذ عبد العزيز فهمي بتحليل، وشرح
استخداماته المُميزة للإضاءة في هذا الفيلم، وكان يترك
لنا مساحةً لنُدلي برأينا كي لا نكون مستمعين فقط، ومن
أهمّ النصائح التي وجهها لنا، والتي عملت بها طوال
مشوار الفني، أنّه كلّما كثرت المعدات، كلّما زاد
تشتيت الفنان، وقلّت قدرته على التحدي الإبداعي، وكان
له مثال شهير أتذكره إلى الآن في أحد مشاهد فيلم
«المومياء»، وهو مشهد استخراج المومياوات من مقبرة في
سفح الجبل، في مشهد توقيت تصويره لحظات الغروب، بدأت
الاستعدادات، وصعدت الكاميرا، وكشافات الإضاءة، ثم جاء
اسطى الإضاءة ليخبر أستاذ عبد العزيز فهمي.
أنّ الكابلات الكهربائية غير كافية للوصول الى الأعلى،
وبحنكة الفنان الهادىء ذو البدلة البيضاء التي تميزه
في كلّ أفلامه، نظر حوله، فوجد عامل البوفيه يضع وابور
الجاز داخل صفيحة لحمايته من الهواء، فطلب منه أن يأخذ
الصفيحة، ويقطعها لتصبح عبارة على لوح صفيح، وبالرمل
تمّ صنفرتها لتصبح عاكساً يعكس أشعة الشمس بنعومةٍ على
الممثلين، وكان في رأيه الشخصي أنّ هذا المشهد من ضمن
أفضل المشاهد في الفيلم، فلو أُضيء بكمّ الإضاءة التي
لم يصلها كابل الكهرباء لخرج بشكلٍّ مختلف، ولكنه معجب
جداً بالنتيجة التي خرجت من داخل مشكلّةٍ كان من
الممكن أن تتسبب في تأجيل التصوير ليوم آخر، وبتكلّفةٍ
أخرى .
أن يقابل الحظّ الفنان في مشواره الفني، ولو في عملٍ
وحيدٍ مثل ما حدث مع عبد العزيز فهمي في فيلم
«المومياء» بوجود مبدعين متفانين في حبهم لفنهم، وليس
محترفين فقط، وهذا ما توفر في فريق العمل بالكامل،
فالكلّ يعزف بأدواته أفضل معزوفاته السينمائية التي
حفرت اسمائهم في تاريخ السيمفونيات السينمائية
الخالدة.
تألق عبد العزيز فهمي في استخدام طرقٍ جديدة في
الإضاءة في فيلم «المومياء» لم تُستخدم من قبل في
السينما المصرية، وهي الإضاءة المنعكسة الناعمة، وليس
الإضاءة المباشرة كما هو معتاد في هذه الفترة، وكأنك
في يوم مقمر تستريح له العين، وتزيد قدرتها على التأمل
اللاشعوري التي أثارت كثيراً من التساؤلات عن مصدر
الإضاءة غير المُعلن صراحةً، كما لم يستخدم أيضاً
الإضاءة الخلفية
(Back Light)
المحددة للممثلين كما هو شائع
ليفصلهم عن الخلفية ليعطي احساساً بالبعد الثالث في
الكادر، ولكنه جعلهم كجزءٍ من عناصر اللوحة البصرية،
ليؤكد علاقة، والتصاق الأبطال بالمكان .
كما تألق أيضاً شادي عبد السلام في استخدام اللغة
العربية البسيطة لإعطاء البعد الأسطوري للأحداث،
وأيضاً استخدام لون مكياج الممثلين بدرجةٍ من درجات
طمي النيل، لتطفي طابعاً مميزاً له دلالاته، وأيضاً
نجاحه في ألوان الملابس، واختيار مكان التصوير لكلّ
مشهدٍ بعنايةٍ فائقة مع التكوينات الهندسية الجمالية،
والايقاع الحركي الرزين لأبطال الفيلم الذي أعطى هيبةً
لشخوص الفيلم، مما ساعد على خلق هذا العالم البصري
البسيط شديد البلاغة، والرقيّ.
وبالعودة لصعوبة أماكن التصوير التي لا تُضاء ليلاً،
واذا أُضيئت تصبح مصطنعة، ولا تعطي انطباعاً بالواقع،
مثل الجبال، والصحراء، والبحار، لعدم وجود مصدر إضاءة
صريح يبني عليه مدير التصوير عناصر اضاءة المشهد ليظهر
بشكلّ طبيعي، استخدم عبد العزيز فهمي في مشاهد الليل
في الصحراء، وبجرأة شديدة، ولأول مرة في السينما
المصرية أسلوب
(Day for night)
وهي التصوير بالنهار في أوقات محددة، واعطاء الإحساس
بالليل مع إضافة مسحة زرقاء على الصورة بدرجة محددة،
ومن الغريب أنه عند استخدام
Day for night
يتمّ التصوير، والشمس عامودية حتى
لا يحدث أيّ ظلالٍ غير طبيعة على أرض التصوير تُفقد
المشهد مصداقيته، وقد نجح عبد العزيز فهمي نجاحاً
مبهراً في تحقيق هذه المعادلة، ونجد ذلك واضحاً في
مشاهد الليل التي تحولت الى لوحةٍ فنية، وأصبح واجباً
تسجيل هذا السبق باسم عبد العزيز فهمي في السينما
المصرية .
معلومة هامة أخرى عن عبقرية هذا الفنان، من المعروف
للمصورين السينمائيين أن النيجاتيف السينمائي محدد
بمنطقتين للتعريض الضوئي، وهما أعلى منطقة للإضاءة
بعدها تضييع التفاصيل
(Over-exposed)
والحدّ الثاني هو أقل منطقة
للإضاءة تصبح بعدها الصورة مظلمة فاقدة المعالم
(Under-exposed.
اختار هذا العبقري المجازف منطقة الحدّ الأدنى لتسجيل
الإضاءة
Under-exposed
التي بعدها لا توجد صورة مسجلة على النيجاتيف لتكون
هذه المنطقة المعبرة عن رأيه البصري الجمالي، وللعلم،
لولا أن هذا النيجاتيف قد تمّ تحميضه في معامل
إيطاليا، لانتهى مستقبل عبد العزيز فهمي السينمائي،
حيث كانت المعامل في مصرفي تلك الفترة في حالةٍ سيئة
لا تستوعب مثل هذا التكنيك.
حاز عبد العزيز فهمي على جوائز محلية، وعالمية عديدة
عن فيلم «المومياء»، ليصبح أيقونةً في تاريخ السينما
المصرية.
أخيراً، استوقفني تساؤل، ولم أجد له إجابةً: لماذا لم
يتعاون شادي عبد السلام مع عبد العزيز فهمي في اعماله
التسجيلية التالية لفيلم «المومياء»، والتي كان
التصوير فيها ليس على مستوى ابداع صورة «المومياء»؟
سؤال أبحث عن اجابته؟
بسبب فيلم «المومياء»، وبفضل كلّ فريق العمل في هذا
الفيلم الذين عملوا بكلّ حبّ، وتفاني، أصبح شادي عبد
السلام واحداً من أبرز مخرجي العالم .. فقد تمّ
اختياره ضمن أهمّ 100 مخرج على مستوى العالم، خلال
تاريخ السينما في العالم من رابطة النقاد الدولية في
فيينا، واحتل فيلم «المومياء» المرتبة الأولى فب
استطلاع الأفلام الأجنبية الذي أجريّ في فرنسا عام
1944م.