سميحة أيوب.. حالة مصرية خاصة من إبداع اقترن بوعي الجمهور
ماجد كامل
رحيل سيدة المسرح العربي بعد سبعة عقود من هدمها للجدار
الرابع.
نعى المسرحيون العرب الفنانة المصرية سميحة أيوب، الملقبة
بـ"سيدة المسرح العربي"، التي رحلت عن 93 عاما، بعد سبعة عقود من العمل
المسرحي والأعمال الدرامية والسينمائية، لكنها لم تكن مجرد نجمة أو صورة بل
حالة فنية واعية، ما خولها لتصدر مكانة هامة في تاريخ المسرح والفن العربي
الحديث.
القاهرة
- جسدت
الراحلة سميحة أيوب رقما مهما في تاريخ المسرح المصري والعربي، وكانت حالة
فريدة من الإبداع الفني، وعكست أيوب التي غيبها الموت الثلاثاء عن عمر
يناهز الـ93 عاما، مفهوم المسرح كمقاومة فنية عتيدة، ونجحت في أن تجعل من
خشبته منبرا لمناقشة قضايا ثقافية واجتماعية وسياسية عديدة.
تمكنت سميحة أيوب من المزج بين الصرامة في الأداء والصدق
الإنساني، ما جعل كل شخصية قامت بتجسيدها كأنها تنبض فعليا بالحياة
الدافقة، كما مثلت حالة خاصة من الإبداع الفني المقترن بوعي توحد الفنان مع
جمهور المسرح من خلال إسقاط الجدار الرابع الوهمي بين الفنان والمشاهدين
على خشبة المسرح.
مسيرة فنية حافلة
عبر مسيرة فنية حافلة بالأعمال المسرحية والدرامية
والسينمائية امتدت إلى أكثر من سبعة عقود أقامت سميحة أيوب فلسفتها الفنية
على الوعي والثقافة والدور الحضاري والمجتمعي للفنان، انطلاقا من إيمانها
الراسخ بأن الفن أداة للتنوير، وليس للترفيه فقط، وللفنان دور حيوي لا يقل
أهمية عن دور السياسي والإعلامي.
سميحة أيوب رسخت لعقود فلسفتها الفنية القائمة على الوعي
والثقافة والدور الحضاري والمجتمعي للفنان بوصفه أداة للتنوير
هذه الفلسفة الواعية لخصتها سميحة أيوب بوضوح شديد في إحدى
مقابلاتها التلفزيونية في ستينات القرن الماضي، قائلة “لست مجرد ممثلة تقف
لتحفظ كلمات تنطقها على المسرح. أنا أفهم جيدا الدور الذي أؤديه ومساراته
ومآلاته، وما هي الرسالة التي يحملها العمل الذي سيعرض على الجماهير.”
ورغم مسيرتها الفنية الطويلة، والتي خطت أحرفها الأولى في
عالم السينما بفيلم المتشردة عام 1947 وما أعقبه من عشرات الأعمال
السينمائية التي ساهمت في انتشار صورتها الفنية، خاصة بعد تقديمها للدور
الشرير المركب في فيلم “شاطئ الغرام” عام 1951، إلا أن البصمة الأهم وربما
الأقوى في مسيرتها جاءت عقب انتقالها للعمل في المسرح القومي المصري في
خمسينات القرن الماضي لتقدم أول أعمالها على خشبته، وهي مسرحية “الأيدي
الناعمة” للأديب توفيق الحكيم، والتي لفتت نظر الجمهور والنقاد إليها بشدة،
وكانت علامة بارزة وضعتها في مقدمة الصفوف الفنية التي حفلت بها مصر في ذلك
الوقت.
واكب انضمام سميحة أيوب إلى المسرح القومي المصري اهتمام
بالغ من قبل أجهزة الدولة بتدشين مسرح جديد تتلاقح من خلاله أفكار كبار
الكتاب والأدباء المصريين والعرب والعالميين، مع اكتشاف طاقات إبداعية كانت
مهدرة في عالم السينما، وفي مقدمة هذه الطاقات الإبداعية سميحة أيوب، وشفيق
نورالدين، وحسن البارودي، إضافة إلى أسماء مهمة لمعت في مجال الإخراج
المسرحي، من أبرزها كرم مطاوع وكمال يس وسعدالدين وهبة وعدد من أهم كتاب
المسرح والمبدعين مثل ميخائيل رومان وألفريد فرج ونعمان عاشور وسعدالدين
أردش وكان زوجا لسميحة أيوب.
استطاعت هذه الكوكبة خلق حالة وعي جديدة لدى الجماهير التي
كانت ترتاد المسرح، مصحوبة بدعم الدولة الكامل، وإيمان أحد كبار المثقفين
المصريين وهو ثروت عكاشة وزير الثقافة المصري في ذلك الوقت برسالة الفن
المهمة في حياة الشعوب.
وهبة وسميحة
سارتر يصافح سميحة أيوب بعد أن شاهدها تقوم ببطولة مسرحيته
"الذباب" أثناء زيارته للقاهرة في فبراير 1967، وبينهما المخرج الراحل سعد
أردش
يصعب الحديث عن إبداع سميحة أيوب من دون الوقوف مليا أمام
المحطة الأهم في مسيرتها المسرحية، وهي تلك التي اقترن سطوعها الفني مع
إبداع الكاتب المسرحي الكبير سعدالدين وهبة، حيث قدما معا عددا من الأعمال
المسرحية، أهمها ثلاثية “كوبري الناموس” و”سكة السلامة” و”السبنسة”، وقدمت
في منتصف عقد الستينات من القرن الماضي، ومكنت سميحة أيوب من إبراز طاقاتها
الإبداعية.
وحملت الثلاثية رسائل لاذعة حول أوضاع المواطن المصري
وفقدان الرؤية السياسية السليمة للخروج من المأزق الذي شهدته الدولة، وهو
ما ظهر جليا في مسرحية “سكة السلامة”، وتدور حول تيه سائق حافلة في
الصحراء، من دون أن يعرف أي الطرق يسلك من أجل العودة إلى الطريق الصحيح
المؤدي إلى سكة السلامة، عبر تخفّ تاريخي بكون الأحداث وقعت قبل ثورة يوليو
المصرية 1952.
وتمكنت أيوب من خلق حالة فنية – مسرحية خاصة توحدت وأسقطت
من خلالها ما يسمى بالجدار الرابع الوهمي بين خشبة المسرح والمشاهدين
للتواصل وجدانيا مع الجماهير، وسط تصفيق حاد بسبب إحساسهم بوصولها إلى
أعماقهم، متمكنة بذلك من ايصال رسالة العمل المسرحي إلى الجماهير.
علاوة على النجاحات اللافتة في النصوص المصرية، تألقت سميحة
أيوب في عدد من الأعمال المسرحية العالمية، من أهمها مسرحية “الذباب”
لفيلسوف فرنسا الوجودي الأشهر جان بول سارتر، والذي حرص على مشاهدة عرضها
بنفسه على المسرح القومي خلال زيارته للقاهرة في فبراير عام 1967، وأشاد
بأداء سميحة أيوب الذي وصفه بـ”القوي والمؤثر”، وحرص على لقائها عقب العرض
بصحبة الأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار التي رافقته في رحلته المهمة
للقاهرة وأعلن خلالها تأييده للحق الفلسطيني في استرجاع أراضيه ورفضه
للممارسات الإسرائيلية.
حالة فريدة وصارمة من الانضباط الإبداعي
تكريمات وأوسمة
ولدت سميحة أيوب عام 1932 في القاهرة وبدأت رحلتها الفنية
في سن الخامسة عشرة، ووقفت على المسرح لأول مرة في أربعينات القرن الماضي
خلال دراستها في المعهد العالي للتمثيل الذي التحقت به فور تأسيسه عام 1949
على يد المسرحي المصري زكي طليمات، وأخرجت خمس مسرحيات.
وشغلت سميحة أيوب منصب مديرة “المسرح الحديث” بين عامي 1972
و1975، ثم تولّت إدارة “المسرح القومي” لفترتين متتاليتين من عام 1975 حتى
عام 1989.
حصلت الراحلة على عدد من التكريمات الرسمية، أبرزها “وسام
الاستحقاق” من الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر عام 1966، وشهادة تقدير
من الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1979.
أيوب تمكنت من خلق حالة فنية – مسرحية خاصة أسقطت من خلالها
الجدار الرابع بين خشبة المسرح والمشاهدين
كما منحها الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان وسام
الاستحقاق بدرجة فارس عام 1977، ونالت وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى،
وفي يناير 2024 وخلال مشاركتها في احتفالية عيد الشرطة، وجّه الرئيس المصري
الحالي عبدالفتاح السيسي تحية مباشرة لها من على خشبة المسرح.
وتعد سميحة أيوب أسطورة المسرح العربي، فما قدمته يمثل حالة
فريدة وصارمة من الانضباط الإبداعي، ولم تكن فقط مجرد نجمة تعتلي صهوة خشبة
المسرح بل معلمة لأجيال متتالية من كبار المبدعين ومُلهِمة لقضية المسرح
الحر في زمن التناقضات.
وفي لقاء أجرته على هامش مشاركتها مؤخرا في أحد مهرجانات
المسرح العربي، علّقت سميحة أيوب على تراجع المسرح العربي قائلة “المسرح مش
(لن) يموت، لأن الإنسان يحب الحكاية وجها لوجه. المشكلة مش (ليس) في
الجمهور، المشكلة في الإرادة الثقافية.” وبهذه الكلمات اختصرت الراحلة
الكثير من المسافات، وإذا كان ازدهار المسرح يحتاج إلى إرادة ثقافية، فلن
تكتب له حياة في غياب الحرية.
كاتب مصري |