لم يكن محمد الأخضر حمينة مخرجًا عاديًا، بل كان سينمائيًا
متفردًا، امتلك رؤيا خارقة، سمحت له بتجاوز حدود الموهبة، افتك بها واحدة
من أهم وأعرق وأكبر الجوائز في مهرجانات السينما العالمية (جائزة مهرجان
كان)، بل هو العربي الوحيد الذي نالها، ولم يكن هذا الفوز تكريمًا ولا
تعظيمًا عابرًا لشخصه بوصفه جزائريًا أو عربيًا أو أي منطلق آخر، بل أخذها
عن جدارة واستحقاق وكفاءة سينمائية يشهد لها البعيد قبل القريب، وبغالبية
أصوات أعضاء لجنة التحكيم التي تشكّلت من أهم وألمع الأسماء في تلك
المرحلة، إضافة إلى المنافسة القوية بين الأفلام المشاركة، إذ كانت متقدمة
جدًا، دخلها الكثير من المخرجين المتحمسين، من الذين تسيدوا المشهد
السينمائي العالمي بعدها.
ورغم مرور نصف قرن كامل على هذا التتويج النادر، إلا أن
الجائزة بقيت حكرًا عليه هو وفقط عربيًا، وقد شهد مهرجان كان السينمائي من
بعده، مشاركة العشرات من المخرجين العرب، لكن لم ينلها أي واحد منهم،
ليرتبط اسم الجائزة دائمًا في المدونة السينمائية العربية، باسم محمد
الأخضر حمينة.
الجائزة التي حصل عليها اسمها "السعفة الذهبية"، ونالها من
مهرجان كان السينمائي سنة 1975، في الدورة الـ28 التي عُقدت من 9 إلى 23
أيار/ مايو في السنة المذكورة، وهي الجائزة التي تعتبر حلمًا لكل مخرج
سينمائي، ومن لم ينلها سيحس دائمًا بأن مشواره السينمائي لم يكتمل، لهذا
فإن هذا الإنجاز الذي تحقق لا يمكن الاستهانة أو الاستخفاف به مطلقًا، لأنه
يعكس جهدًا ومسارًا وموهبة وعملًا دؤوبًا، وأحلامًا كبيرة، توحي بأن صاحبها
يملك عينًا فنية، ترى ما لم يره غيره، لهذا فقد تقدم بخطى ثابتة، يتقد
حماسة وثقة بنفسه وبعمله، حتى وصل إلى ما وصل إليه، بفضل ما كان يؤمن به،
وانتقامًا لما حصل له في مهرجان كان السينمائي سنة 1967، وهو معطى سنعود له
لاحقًا.
وقائع سنوات كان وأثرها على حمينة
أفلام كثيرة ومهمة وبارزة تنافست مع فيلم حمينة "وقائع
سنوات الجمر"، من أجل الفوز بالسعفة الذهبية في تلك السنة، وهي لمخرجين
مهمين من مختلف أنحاء العالم، مثل فيلم "أليس لم تعد تعيش هنا" للمخرج
مارتن سكورسيزي، وفيلم "لغز كاسبار هاوزر" للمخرج فيرنر هرتزوغ، وفيلم "قسم
خاص" لكوستا غافراس، كما شارك المخرج الياباني شوچي تيراياما بفيلم "الموت
في الريف"، والمخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني شارك هو أيضًا بفيلم
"المهنة مراسل"، إضافة إلى العديد من الأفلام المهمة. كما عُرض في تلك
النسخة فيلم المخرج السويدي الكبير إنجمار بيرغمان خارج المسابقة الرسمية،
وهو "الناي السحري".
حصل بعدها على العديد من الجوائز العالمية خارج كان، من
بينها جائزة "البافتا" في بريطانيا سنة 1976، كما ترشح لجائزة الأوسكار
لأفضل فيلم أجنبي، إضافة إلى العديد من الجوائز الأخرى.
وقد ضمّت لجنة التحكيم أسماء متنوعة بارزة، جاءت من عوالم
السينما والأدب والصحافة، مما أضفى على تقييم الأفلام طابعًا دوليًا
وثقافيًا غنيًا، ولقد ترأستها جان مورو (ممثلة فرنسية)، وضمت في عضويتها
كلًا من أندريه ديلفو (مخرج بلجيكي)، وأنتوني بورجس (كاتب بريطاني)، وجيرار
دوكو- روب (منتج فرنسي)، وجورج روي هيل (مخرج أميركي)، وليا ماساري (ممثلة
إيطالية)، وبيير مازار (صحافي وناقد فرنسي)، وفرناندو ري (ممثل إسباني)،
وبيير سالينجر (كاتب وصحافي أميركي)، ويوليا سولتسيفا (مخرجة وممثلة
سوفياتية).
وبعد انتهاء المنافسة الشرسة بين الأفلام، ومداولة لجنة
التحكيم المتنوعة، تم منح جائزة "السعفة الذهبية" لفيلم "وقائع سنوات
الجمر" لمحمد الأخضر حمينة، وهو عمل سينمائي عبارة عن ملحمة، خط من خلاله
حمينة تاريخ الجزائر النضالي، ويروي العمل حسب ما جاء في ملخصه، قصة
"الجزائر بين عامي 1939 و1954 مرورًا بمراحل عمرية تروي حالة الجفاف الرهيب
الذي أصاب الأراضي الزراعية، وقتل المواشي، ودفع الفلاحين إلى الهجرة نحو
المدن، ثم ما حدث للجزائريين إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، ثم حكاية
الانتخابات بين الحرب، والاختيار الصعب الذي واجه الجزائر".
وقد كتب الناقد السينمائي البريطاني روي آرمز (Roy
Armes) مقالًا
نقديًا مهمًا عن الفيلم، رغم أنه عاب عليه الموسيقى التصويرية، والتي رأى
أنها لا تعكس الهوية الجزائرية: "إنه فيلم مصوَّر بجمال، يتمتع ببريق أفلام
هوليوود الملحمية، لكن لتحقيق هذه النتيجة، اضطر المخرج إلى التضحية
بالكثير من الخصوصية الوطنية، على وجه الخصوص، كان النقاد معادين للموسيقى
الأوركسترالية الفخمة التي وضعها المؤلف الفرنسي فيليب أرتوي، والتي لا تمت
بصلة للتقاليد الموسيقية الجزائرية، ويمكن القول إن الأخضر حمينة يحقق
شيئًا من الجودة الملحمية التي تميز بها لاحقًا ديفيد لين. وهذا إنجاز رائع
في بلد لا يتجاوز عمر تاريخه السينمائي اثني عشر عامًا (وقت التتويج)؛ ولكن
في الوقت نفسه، هذا النهج قابل للتساؤل من حيث أولويات بلد من العالم
الثالث مثل الجزائر، التي بدأت في السبعينيات تلعب دورًا دوليًا متزايد
الأهمية".
من البندقية إلى الكاميرا: المسافة تتقلص والطموح يزيد
ولد محمد الأخضر حمينة يوم 26 شباط/ فبراير 1934، وفي رواية
أخرى سنة 1930، وهو المعطى الذي ثبّته بيان نجليه، من خلال البيان المشترك
الذي أصدراه، ويتعلق الأمر بكل من مليك وطارق حمينة، حيث ذكرا بأنه توفي
وهو في سن الـ95 سنة، ما يؤكد بأنه ولد سنة 1930، على عكس معظم المصادر
التي ذكرت التاريخ الأول، لكن وبدون أي شك، وقد توفي يوم 23 أيار/ مايو
2025.
ولد محمد الأخضر في منطقة المسيلة، وهي مدينة مهمة توصل بين
الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولقد مكث فيها حمينة إلى غاية سن الـ15 من
العمر، حيث خزّن من خلالها الكثير من الذكريات المهمة التي عكسها في معظم
أفلامه السينمائية.
بعدها التحق حمينة بخلية السمعي البصري التابعة للثورة
الجزائرية بتونس، ثم تنقل إلى الغابات الجزائرية، وهناك بدأ يتعلم ويصنع
الأفلام، رفقة مجموعة من المخرجين المحليين والأجانب، من بينهم جمال الدين
شندرلي وأحمد راشدي، والفرنسيان رونيه فوتيه وبيار كليمون وغيرهم.
وقد شارك وقتها في إخراج وتحقيق العديد من الأفلام التي
ساهمت في التعريف بالصورة الجزائرية عالميًا، وبيّنت للعديد من الدول بأن
الثورة الجزائرية هي حرب من أجل الاستقلال والحرية، وليست تمردًا قام به
قطاع طرق، كما ادّعت فرنسا في منابرها الإعلامية.
ومن بين تلك الأفلام القصيرة وربما أبرزها، الفيلم
الوثائقي/ الروائي، 20 دقيقة، "ياسمينة" 1961، الذي أخرجه رفقة جمال الدين
شندرلي، من خلال سيناريو مرتجل، وتعليق صديق الثورة الجزائرية سيرج ميشال
الذي ساعد أيضًا في كتابة النص، بالإضافة إلى شراكة إخراجية أخرى مع
شندرلي، وبيار شولي ورونيه فوتيه، وهذا في الفيلم الوثائقي، 25 دقيقة
"جزائرنا" 1961، وقد تم عرض العملين بالأمم المتحدة، للتعريف بالثورة
الجزائرية، إذا كان الأول خياليًا موجهًا للقلب والعاطفة، والثاني كان
وثائقيًا موجهًا للعقل، ناهيك عن أعمال أخرى، من بينها الفيلم الوثائقي، 20
دقيقة، "بنادق الحرية" 1961، الذي أخرجه رفقة شندرلي، والوثائقي/ الروائي،
20 دقيقة "صوت الشعب" 1961، مع شندرلي مرة أخرى.
وقد واصل بعدها حمينة دراسته السينمائية في دولة
تشيكوسلوفاكيا، إضافة إلى دراسته في معهد الزراعة بمدينة قالمة الجزائرية.
بعد الاستقلال شغل العديد من المهام الإدارية في مراكز
الأخبار والأحداث، ولكنه لم يتخل عن إخراج الأفلام، حيث أخرج سنة 1966 فيلم
"ريح الأوراس" الذي أنتجه المركز الوطني للسينما، والديوان الوطني للتجارة
والصناعة السينماتوغرافية، وقد كتب السيناريو كل من حمينة وتوفيق فارس،
وتصوير بوزيان، أما التركيب والموسيقى التصويرية فقد قام بها على التوالي
كل من سيلفي بلان وفيليب أرتيوز، وأدى أدوار البطولة، كلثوم، حسن الحسني،
ومحمد شويخ في أول ظهور له.
ولقد شارك الفيلم في المسابقة الرسمية بمهرجان كان
السينمائي سنة 1967، وقد اقترب وقتها من حصد "السعفة الذهبية"، غير أن
المخرج السنغالي صنبان عصمان الذي كان عضوًا في لجنة التحكيم، امتنع عن
تقديم صوته الذي كان سيصنع الفارق لصالح حمينة، لكن حمينة لم يخرج من تلك
المسابقة خاوي الوفاض، بل تحصل على جائزة العمل الأول، والتي تعادل اليوم
جائزة "الكاميرا الذهبية".
ويروي الفيلم حسب ما جاء في ملخصه قصة "عائلة جزائرية
دمرتها الحرب، تخشى الحياة بشكل طبيعي، يجد الأب نفسه في دوامة عقب مقتل
أبيه أثناء هجوم لقوات الاحتلال، ينضم الابن إلى جيش التحرير الوطني ويتولى
مسئولية الأسرة، في النهار يمارس عمله الوظيفي وفي المساء يعبر الجبل
محملًا بالمؤن للجنود".
رئيس الجمهورية يعزي والمواقع تنشغل بخبر وفاته
من المفارقات العجيبة والغريبة، أن يتصادف توقيت موت المخرج
الجزائري الكبير محمد الأخضر حمينة مع الاحتفالية التي أقامها مهرجان كان
السينمائي، بمناسبة اليوبيل الذهبي على فوزه بسعفة كان الذهبية، أي بمناسبة
مرور 50 سنة على هذا التتويج، حيث تم ترميم نسخة فيلم "وقائع سنوات الجمر"
وتم عرضه في العديد من القاعات السينمائية الفرنسية في نفس يوم الوفاة،
ليتم بعدها نشر الخبر.
بمعنى أن حمينة اطمأن بأن عمله الخالد ما زال يحتفى به،
وعرف بأن الأعمال الكبرى لا يمكن أن تموت، بعدها أسلم روحه، لكن أعماله
ستبقى دائمًا خالدة، مثل "ديسمبر" و"العاصفة" و"الصورة الأخيرة" و"ظلال
الغسق" و"ريح الأوراس".
وقد نزل خبر وفاة حمينة كالصاعقة على رؤوس الكل، مسؤولين
وصنّاع سينما وحتى مواطنين عاديين، داخل الجزائر وخارجها، خاصة وأن لديه
مكانة خاصة في قلوب الكل، ولقد تم تكريمه في العديد من المرات والمناسبات
وهو على قيد الحياة، وقد كان بمثابة الملك الذي لا يرفض له طلب، حتى أن
رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون كتب على اسمه المعهد الوطني العالي
للسينما وهو على قيد الحياة، أي سنة 2023، ولقد دشن هذا المعهد المهم من
طرف مجموعة من الوزراء والمسؤولين سنة 2024.
كما نعاه الرئيس تبون ببرقية حزينة ومؤثرة، وجاء في نصها:
"ببالغ الحزن والأسى تلقى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون
فاجعة رحيل عملاق السينما العالمية المخرج الكبير محمد الأخضر حمينة عشية
احتفال الإنسانية بالذكرى الخمسين لظفره بالسعفة الذهبية بمهرجان كان
السينمائي عن رائعته 'وقائع سنوات الجمر' التي فتحت عيون العالم على قطعة
من معاناة الشعب الجزائري خلال فترة الاستعمار.
الفقيد وقبل أن يكون مخرجًا عالميًا مبدعًا ترك بصمة خالدة
في تاريخ السينما العالمية، كان مجاهدًا أبيًا، ساهم في تحرير بلاده بما
نقل من صور ومشاهد عرفت البشرية ببطولات الثورة التحريرية المظفرة.
الفقد موجع، وبهذه المناسبة الأليمة يتقدم السيد الرئيس إلى
أسرة الفقيد وإلى الأسرة الثورية، وإلى عائلة السينما الجزائرية والعالمية
بخالص التعازي وصدق المواساة داعيًا الله عز وجل أن يتغمد الراحل بواسع
رحمته ويسكنه فسيح جناته ويلهم ذويه والشعب الجزائري جميل الصبر وحسن
السلوان".
بذلك تفقد السينما الجزائرية والعالمية اسمًا مهمًا كتب
اسمه بماء الذهب، في سجل الخلود السينمائي، بعد أن قدّم مجموعة من الأفلام
المهمة، التي تعكس موهبته ومكانته وأسلوبه السينمائي البارز. |