عكست أفلام الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان
"كانّ" حالة
العالم، والمتغيرات التي يشهدها، بمساءلتها المسلمات، وبقرعها أجراس إنذار،
خالقةً جدلاً في أوساط المهرجانيّين. لكنّها كشفت أيضاً عن مواهب الغد،
وأوجدت لأصواتهم صدى يتجاوز حدود بلدانهم.
خلفت الفرنسية جولييت بينوش الأميركية غريتا غرويغ في رئاسة
لجنة تحكيم المسابقة، وهذا لم يحصل في 60 عاماً، حين توالت في المنصب نفسه
الممثلتان أوليفيا دي هافيلاند وصوفيا لورين في دورتي 1965 و1966 تباعاً.
منحت السعفة الذهبية، التي يحتفي المهرجان هذا العام بالذكرى الـ70
لميلادها، للسينمائي الإيراني المكرّس جعفر بناهي، في ختام دورة تميزت
بمستوى فني جيد، يعكس مجدّداً صحة السينما العالمية، عكس ما تدعيه أصوات
متنبئة بموتها كلما برز تطور تكنولوجي جديد، تجسّد هذه المرة في الذكاء
الاصطناعي.
خطان أساسيان
خطان برزا في شكل أفلام المسابقة وطرحها: التبئير المرآوي
على السينما بفضل جمالية "فيلم داخل فيلم"، والشطط البوليسي الحاضر ثيمةً
أساسية في أكثر من عمل. ما يدلّ على أنّ السينمائيين يضعون الردّة الحقوقية
ـ التي أعقبت صعود الحكومات
والأيديولوجيات اليمينية إلى
سدة الحكم في بلدان كثيرة ـ نصب أعينهم وفي قلب انشغالاتهم، ويرون في
السينما أداة فنية كفيلة بمقاومة كل أشكال الرجعية.
شاهدت لجنة الانتقاء لهذه الدورة 2909 أفلام طويلة، من 156
بلداً. هذا رقم قياسي، إذْ لم يتجاوز العدد 1500 فيلمٍ قبل عشر سنوات. 68%
من أفلام العام هذا أنجزها مخرجون، و32% لمخرجات. 1127 فيلماً أول، أي أكثر
من ثلث الأفلام، ما يعكس بوضوح حيوية الإنتاج العالمي.
اللافت للانتباه أن أفلاماً عدة في المسابقة انبرت، بشكل أو
بآخر، لثيمة فساد الأجهزة الأمنية واستبدادها. منها فيلمان قويان آثرت لجنة
التحكيم تلافيهما في لائحة التتويج:
"مدّعيان
عامان"، الذي سجّل عودة سيرغي
لوزنيتسا إلى
التخييل. حكاية تجري في فترة أوج التسلّط الستاليني عام 1937، يتناولها
الأوكراني بأسلوب عبثي في الحوارات واختيارات الديكور، بسخرية كلبية من
الأحداث، إذْ تفلت رسالة سجين سياسي من سيطرة الحائط الحديدي، فتقود إلى
كشف مُدّعٍ عام شابّ فسادَ جهاز المخابرات السوفييتي، ويصبح سعيه إلى تحقيق
العدالة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية رحلة خطرة في قلب نظام
يأكل نفسه من الداخل.
و"الملفّ 137" للفرنسي دومينيك مولّ، الذي اختار للمرة
الثانية على التوالي، بعد "ليلة الثاني عشر" (2022)، أنْ يخضع جريمةً لمشرط
التشريح السينمائي، وتمحيص روايات المتّهمين والشهود، على خلفية تحقيق في
قضية عنف بوليسي على متظاهر في انتفاضة "السترات الصفراء" في فرنسا، تقوده
محقّقة محنّكة، تحرص على تلمّس سبل الحقيقة بهوس واستماتة، حتى لو اقتضى
الأمر أنْ تُتّهم بالانحياز، وتلقى الجفاء وغياب الاعتراف من طرفي الدعوة.
هناك أيضاً فيلم السعفة، "حادث
بسيط" لبناهي،
ثالث مخرج ينال "غراند سلام السينما"، بفوزه بالجائزة الأرفع للمهرجانات
الأوروبية الكبرى (برلين، كانّ، فينيسيا)، بعد الإيطالي مايكلأنجلو
أنتونيوني والأميركي روبرت ألتمان: أفراد عُذّبوا سابقاً على يدي ضابط
تحقيق، بعد تظاهرهم للمطالبة بالديمقراطية. يتعرّف أحدهم مصادفة إليه من
خلال صوته ومشيته، فتبدأ رحلة تتنازعهم فيها نيران الشكّ، فنزوة الانتقام
الأعمى، ثم المبدأ المثالي في ألا تتحول الضحية إلى نسخة طبق الأصل من
الوحش. لكنّ الفيلم لا يخلو من مكامن ضعف، أبرزها خيوط حبكة غليظة تشوب
سيرورة تجمع الضحايا، وردات أفعالهم التي تعاكس نهج الواقعية المتّبع في
الفيلم (عكس سعيد روستائي، الإيراني الآخر المشارك في المسابقة نفسها
بجديده البديع "امرأة وطفل"، الذي ظلّ منسجماً مع أسلوبه الميلودرامي).
مكمن ضعف آخر يتمثّل في حوار ينهج، أحياناً، التصريح بدل
التلميح، الذي (التلميح) يُعدّ علامة مسجّلة للسينما الإيرانية. كما في
المشهد الذي يصف فيه أحدهم الفضاء القاحل، الذي اختاره المعتقلون السابقون
للانتقام من جلّادهم، بـ"فضاء مشابه للذي تقع فيه مسرحية "في انتظار غودو"
لصامويل بيكيت، بسبب وجود شجرة جرداء في وسطه"، مُقتحماً على المشاهد حقّه
في تمثل هذه المرجعية بنفسه، وفارضاً عليه الشعور بانتظار ما لا يأتي.
ليس "حادث بسيط" أفضل أفلام
بناهي،
لكن مُنجزه يستحق التكريم. وهذا يؤكد قولاً مفاده بأنّ السعفة الذهبية
ينالها أجدر السينمائيين لكنْ ليس على أفضل أفلامهم، في صورة تكرّرت مع
سينمائيين عديدين، آخرهم الفرنسي جاك أوديار والتركي نوري بيلجي جيلان.
اقتراحات جمالية
أفلام أخرى من أجمل ما قُدِّم بوصفها اقتراحات جمالية في
هذه الدورة، انخرطت في جمالية السينما من داخل السينما، أولها البديع "موجة
جديدة" للأميركي ريتشارد لينكلايتر، الذي خرج من المسابقة خالي الوفاض
بدوره: قصة تصوّر وتصوير عمل المخرج العبقري الراحل السويسري الفرنسي جان ـ
لوك غودار "منقطع الأنفاس" (1960)، وتَمثّل أجواء الموجة الفرنسية الجديدة
بإيقاع بالغ السلاسة، عماده حسّ كوميديا رفيع، واختيار موفّق يتحمّل عواقب
حكي أسطورة الفيلم، بدل السعي إلى محاولة فاشلة في المهد لإعادة خلق
الواقع، كما فعل الفرنسي ميشال هازانافيسيوس في "الرهيب"
(2017).
في هذا، تجسيد مثالي للقاعدة السينمائية الذهبية، التي عبر
عنها الأميركي جون فورد في نهاية "الرجل الذي قتل ليبيرتي فالنس" (1962):
"إذا غدا الواقع أسطورةً، فاطبع الأسطورة". أداء الممثل الشاب الفرنسي غيوم
ماربيك، في دور غودار، يخلب الألباب بصدقيّته وسخائه.
فيلمٌ كبير آخر يبئر بدور السينما في
مداواة الجراح: "قيمة عاطفية" للنرويجي يواكيم ترير. قصة مخرج منهك يسعى
إلى إنجاز فيلم سينمائي أخير، يتصالح فيه مع ذاكرة أمه وابنتيه. لكنّ أشباح
الماضي، وتقصير الوالد في التقرّب من ابنتيه في طفولتهما، يشوّشان سعيه إلى
المصالحة. إخراج خلّاق لفضاء المنزل، يتفاعل بشكل رائع مع أزمنة القصة
وتطور العلاقة بالأب. يستثمر الحكي مشروع الفيلم لاستثارة مشاعر مختلطة،
والتفكير في اختيارات تسائل الصدق في الفنّ، وتطرح أسئلة مهمة عن مستقبل
السينما (موقف المخرجين إزاء قوانين "نتفليكس"؛ مدى صدقية ممثلة غير مجرّبة
في السينما لكنّها قريبة من القصة، مقارنة بنجمة هوليوودية، إلخ).
حسّ الكوميديا اللاذع، ولحظات الصمت البليغ، وحوار النظرات،
تمتزج كلّها بالطابع الميلانخولي للشخصية الإسكندنافية، لخلق طرح
تراجيكوميدي بليغ عن تقاطعات الحياة والفنّ، وكيف تؤثر اختيارات الإنسان في
كل كفة منهما على الكفة الأخرى، ليستحقّ الفيلم الجميل الجائزة الكبرى.
عملٌ آخر أسدى تحية بالغة الجمال للفن
السابع:
"انبعاث"
للصيني بي غان (جائزة خاصة). الفيلم لم يُضَف إلى المسابقة إلا عشية الثامن
من مايو/أيار 2025، بسبب عدم جاهزيته، فعرض في اليوم ما قبل الأخير
للمسابقة، مُقدّماً مفاجأة سارة في ثوب ملحمة بصرية وتاريخية، تحكي قصة
عميلة (سو تشي) تعيش في عالم أبوكاليبتي، لم يعد للبشر فيه حق الحلم، بسبب
مسوخ متمرّدة مطموسة الحسّ تدعى "سارقو الأحلام". تقبض العميلة على أحدهم،
وتقرّر بدافع التعاطف أنْ تروي له قصصاً من التاريخ الصيني كل ليلة، فتوقظ
حواسه تدريجياً. عندما تنتهي من حكاياتها، يتعيّن عليها الاختيار بين
العودة إلى العالم الحقيقي، أو البقاء مع المتمرّد، بعد أن نمت لديها مشاعر
تجاهه.
يعبر بي غان، في حالة بين الحلم واليقظة، خمس لوحات تمثل كل
منها مرحلة من تاريخ السينما، وأحد أنواعها، بدءاً من السينما الصامتة
(إشارة مباشرة إلى "الساقي المسقي" للفرنسي لوي لوميير، الذي يعتبر أول
فيلم تخييلي في تاريخ السينما)، مروراً بـ"الفيلم نوار" في الأربعينيات،
فحلقة تأملية تدور في معبد بوذي، ثم قصة أب وابنته تنتمي إلى نوع التحايل،
ليختم بأروع الطرق بجمالية تشكل نوعاً ما اختصاصاً له: لوحة من مشهد متابعة
واحد، تناهز مدته 40 دقيقة، ينهل من فيلم مصاصي الدماء، مع لمسة كاراكسية
عن قصة حب مستحيل تدور في ليلة رأس السنة
(2000).
يتركنا "انبعاث" في حالة تطهير جمالي لا تبلغ سدّتها سوى
الأعمال الكبيرة. وينتهي بمشهد قاتم، يتخيّل موت السينما عبر ذوبان مجسّم
من الشمع، يجسّد صالة مليئة بالمشاهدين. لكنّ "انبعاث"، بحدّ ذاته وبدءاً
بعنوانه، رسالة أمل تتصوّر غداً مُشرقاً لفنّ لا ينفكّ ينبعث من رماده كل
مرة.
أفلامٌ تفضح
المثير للاهتمام أنّ أفضل أفلام المسابقة، ما عدا "نسور
الجمهورية" للسويدي (ذا الأصل المصري) طارق
صالح المتوسط
فنياً، تلك التي مزجت بين الخطين. أي أنّها تنطوي على فضح استبداد أنظمة
شمولية وممارسات شططية للأجهزة الأمنية، وتتمثل في الوقت نفسه بالسينما
داخل السينما. في مقدّمتها "العميل السري" للبرازيلي كليبير موندونسا فيليو
(العربي الجديد، 26 مايو/أيار 2025). فيلم كامل، يُقدم سينما شاملة، تتناول
بشجاعة وتحكم فني كبير، حاضر العالم الموبوء بأيديولوجيا اليمين، بموشور
البرازيل في نهاية سبعينيات القرن الـ20، عبر طرح بديع يجري في ثلاثة أزمنة
في مدينة "ريسيفي" المقاومة. إنّه أكثر أفلام المسابقة استحقاقاً للسعفة
الذهبية، بدل جائزة أفضل إخراج وأفضل ممثل (فاغنر مورا)، والأولى تُعدّ رغم
ذلك اعترافاً ضمنياً بتفوّق اقتراحه الجمالي، وتأكيداً للفورة الاستثنائية
التي تشهدها سينما "أرض النخيل وفرح الحياة".
في المسابقة أيضاً اقتراحات جمالية راديكالية، لعلّ أهمها
"صراط"، رابع فيلم طويل للإسباني أوليفر لاسي: مع ابنه، يبدأ لويس (سيريي
لوبيز) بحثه عن ابنته المختفية منذ شهور، بعد حضورها حفلة موسيقية
(Rave Party)
في
المغرب. يلتقيان أناساً غريبي الأطوار، ينظّمون تلك الحفلات الصاخبة في
فضاء صحراوي مفتوح، فتتحوّل رحلتهما في الأطلس
الكبير،
تدريجياً، إلى سعي تجريدي وميتافيزيقي، قوامه تجربة اندماج في رقص محموم
حَدّ الانصهار، بالمعنى الحرفي للكلمة. جسمٌ فيلمي غير مُحدّد المعالم،
ينطوي على مفاجآت وانقلابات درامية غير متوقّعة ومذهلة، تجري في طبيعة
صحراوية مغربية ساحرة ومخيفة في آن. إضافة إلى اشتغال مذهل على الشريط
الصوتي.
استحق لاسي جائزة لجنة التحكيم الخاصة (مناصفة مع "صوت
السقوط" للألمانية ماشا شيلينسكي)، في استمرار لمسار "كانيّ" لامع، تُوّجت
فيه كلّ مشاركاته الأربع بجوائز. |