ملفات خاصة

 
 
 

خلاصة "كانّ الـ78":

جمال سينما وفساد شرطة

كان/ سعيد المزواري

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

عكست أفلام الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" حالة العالم، والمتغيرات التي يشهدها، بمساءلتها المسلمات، وبقرعها أجراس إنذار، خالقةً جدلاً في أوساط المهرجانيّين. لكنّها كشفت أيضاً عن مواهب الغد، وأوجدت لأصواتهم صدى يتجاوز حدود بلدانهم.

خلفت الفرنسية جولييت بينوش الأميركية غريتا غرويغ في رئاسة لجنة تحكيم المسابقة، وهذا لم يحصل في 60 عاماً، حين توالت في المنصب نفسه الممثلتان أوليفيا دي هافيلاند وصوفيا لورين في دورتي 1965 و1966 تباعاً. منحت السعفة الذهبية، التي يحتفي المهرجان هذا العام بالذكرى الـ70 لميلادها، للسينمائي الإيراني المكرّس جعفر بناهي، في ختام دورة تميزت بمستوى فني جيد، يعكس مجدّداً صحة السينما العالمية، عكس ما تدعيه أصوات متنبئة بموتها كلما برز تطور تكنولوجي جديد، تجسّد هذه المرة في الذكاء الاصطناعي.

خطان أساسيان

خطان برزا في شكل أفلام المسابقة وطرحها: التبئير المرآوي على السينما بفضل جمالية "فيلم داخل فيلم"، والشطط البوليسي الحاضر ثيمةً أساسية في أكثر من عمل. ما يدلّ على أنّ السينمائيين يضعون الردّة الحقوقية ـ التي أعقبت صعود الحكومات والأيديولوجيات اليمينية إلى سدة الحكم في بلدان كثيرة ـ نصب أعينهم وفي قلب انشغالاتهم، ويرون في السينما أداة فنية كفيلة بمقاومة كل أشكال الرجعية.

شاهدت لجنة الانتقاء لهذه الدورة 2909 أفلام طويلة، من 156 بلداً. هذا رقم قياسي، إذْ لم يتجاوز العدد 1500 فيلمٍ قبل عشر سنوات. 68% من أفلام العام هذا أنجزها مخرجون، و32% لمخرجات. 1127 فيلماً أول، أي أكثر من ثلث الأفلام، ما يعكس بوضوح حيوية الإنتاج العالمي.

اللافت للانتباه أن أفلاماً عدة في المسابقة انبرت، بشكل أو بآخر، لثيمة فساد الأجهزة الأمنية واستبدادها. منها فيلمان قويان آثرت لجنة التحكيم تلافيهما في لائحة التتويج:

"مدّعيان عامان"، الذي سجّل عودة سيرغي لوزنيتسا إلى التخييل. حكاية تجري في فترة أوج التسلّط الستاليني عام 1937، يتناولها الأوكراني بأسلوب عبثي في الحوارات واختيارات الديكور، بسخرية كلبية من الأحداث، إذْ تفلت رسالة سجين سياسي من سيطرة الحائط الحديدي، فتقود إلى كشف مُدّعٍ عام شابّ فسادَ جهاز المخابرات السوفييتي، ويصبح سعيه إلى تحقيق العدالة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية رحلة خطرة في قلب نظام يأكل نفسه من الداخل.

و"الملفّ 137" للفرنسي دومينيك مولّ، الذي اختار للمرة الثانية على التوالي، بعد "ليلة الثاني عشر" (2022)، أنْ يخضع جريمةً لمشرط التشريح السينمائي، وتمحيص روايات المتّهمين والشهود، على خلفية تحقيق في قضية عنف بوليسي على متظاهر في انتفاضة "السترات الصفراء" في فرنسا، تقوده محقّقة محنّكة، تحرص على تلمّس سبل الحقيقة بهوس واستماتة، حتى لو اقتضى الأمر أنْ تُتّهم بالانحياز، وتلقى الجفاء وغياب الاعتراف من طرفي الدعوة.

هناك أيضاً فيلم السعفة، "حادث بسيط" لبناهي، ثالث مخرج ينال "غراند سلام السينما"، بفوزه بالجائزة الأرفع للمهرجانات الأوروبية الكبرى (برلين، كانّ، فينيسيا)، بعد الإيطالي مايكلأنجلو أنتونيوني والأميركي روبرت ألتمان: أفراد عُذّبوا سابقاً على يدي ضابط تحقيق، بعد تظاهرهم للمطالبة بالديمقراطية. يتعرّف أحدهم مصادفة إليه من خلال صوته ومشيته، فتبدأ رحلة تتنازعهم فيها نيران الشكّ، فنزوة الانتقام الأعمى، ثم المبدأ المثالي في ألا تتحول الضحية إلى نسخة طبق الأصل من الوحش. لكنّ الفيلم لا يخلو من مكامن ضعف، أبرزها خيوط حبكة غليظة تشوب سيرورة تجمع الضحايا، وردات أفعالهم التي تعاكس نهج الواقعية المتّبع في الفيلم (عكس سعيد روستائي، الإيراني الآخر المشارك في المسابقة نفسها بجديده البديع "امرأة وطفل"، الذي ظلّ منسجماً مع أسلوبه الميلودرامي).

مكمن ضعف آخر يتمثّل في حوار ينهج، أحياناً، التصريح بدل التلميح، الذي (التلميح) يُعدّ علامة مسجّلة للسينما الإيرانية. كما في المشهد الذي يصف فيه أحدهم الفضاء القاحل، الذي اختاره المعتقلون السابقون للانتقام من جلّادهم، بـ"فضاء مشابه للذي تقع فيه مسرحية "في انتظار غودو" لصامويل بيكيت، بسبب وجود شجرة جرداء في وسطه"، مُقتحماً على المشاهد حقّه في تمثل هذه المرجعية بنفسه، وفارضاً عليه الشعور بانتظار ما لا يأتي.

ليس "حادث بسيط" أفضل أفلام بناهي، لكن مُنجزه يستحق التكريم. وهذا يؤكد قولاً مفاده بأنّ السعفة الذهبية ينالها أجدر السينمائيين لكنْ ليس على أفضل أفلامهم، في صورة تكرّرت مع سينمائيين عديدين، آخرهم الفرنسي جاك أوديار والتركي نوري بيلجي جيلان.

اقتراحات جمالية

أفلام أخرى من أجمل ما قُدِّم بوصفها اقتراحات جمالية في هذه الدورة، انخرطت في جمالية السينما من داخل السينما، أولها البديع "موجة جديدة" للأميركي ريتشارد لينكلايتر، الذي خرج من المسابقة خالي الوفاض بدوره: قصة تصوّر وتصوير عمل المخرج العبقري الراحل السويسري الفرنسي جان ـ لوك غودار "منقطع الأنفاس" (1960)، وتَمثّل أجواء الموجة الفرنسية الجديدة بإيقاع بالغ السلاسة، عماده حسّ كوميديا رفيع، واختيار موفّق يتحمّل عواقب حكي أسطورة الفيلم، بدل السعي إلى محاولة فاشلة في المهد لإعادة خلق الواقع، كما فعل الفرنسي ميشال هازانافيسيوس في "الرهيب" (2017).

في هذا، تجسيد مثالي للقاعدة السينمائية الذهبية، التي عبر عنها الأميركي جون فورد في نهاية "الرجل الذي قتل ليبيرتي فالنس" (1962): "إذا غدا الواقع أسطورةً، فاطبع الأسطورة". أداء الممثل الشاب الفرنسي غيوم ماربيك، في دور غودار، يخلب الألباب بصدقيّته وسخائه.

فيلمٌ كبير آخر يبئر بدور السينما في مداواة الجراح: "قيمة عاطفية" للنرويجي يواكيم ترير. قصة مخرج منهك يسعى إلى إنجاز فيلم سينمائي أخير، يتصالح فيه مع ذاكرة أمه وابنتيه. لكنّ أشباح الماضي، وتقصير الوالد في التقرّب من ابنتيه في طفولتهما، يشوّشان سعيه إلى المصالحة. إخراج خلّاق لفضاء المنزل، يتفاعل بشكل رائع مع أزمنة القصة وتطور العلاقة بالأب. يستثمر الحكي مشروع الفيلم لاستثارة مشاعر مختلطة، والتفكير في اختيارات تسائل الصدق في الفنّ، وتطرح أسئلة مهمة عن مستقبل السينما (موقف المخرجين إزاء قوانين "نتفليكس"؛ مدى صدقية ممثلة غير مجرّبة في السينما لكنّها قريبة من القصة، مقارنة بنجمة هوليوودية، إلخ).

حسّ الكوميديا اللاذع، ولحظات الصمت البليغ، وحوار النظرات، تمتزج كلّها بالطابع الميلانخولي للشخصية الإسكندنافية، لخلق طرح تراجيكوميدي بليغ عن تقاطعات الحياة والفنّ، وكيف تؤثر اختيارات الإنسان في كل كفة منهما على الكفة الأخرى، ليستحقّ الفيلم الجميل الجائزة الكبرى.

عملٌ آخر أسدى تحية بالغة الجمال للفن السابع: "انبعاث" للصيني بي غان (جائزة خاصة). الفيلم لم يُضَف إلى المسابقة إلا عشية الثامن من مايو/أيار 2025، بسبب عدم جاهزيته، فعرض في اليوم ما قبل الأخير للمسابقة، مُقدّماً مفاجأة سارة في ثوب ملحمة بصرية وتاريخية، تحكي قصة عميلة (سو تشي) تعيش في عالم أبوكاليبتي، لم يعد للبشر فيه حق الحلم، بسبب مسوخ متمرّدة مطموسة الحسّ تدعى "سارقو الأحلام". تقبض العميلة على أحدهم، وتقرّر بدافع التعاطف أنْ تروي له قصصاً من التاريخ الصيني كل ليلة، فتوقظ حواسه تدريجياً. عندما تنتهي من حكاياتها، يتعيّن عليها الاختيار بين العودة إلى العالم الحقيقي، أو البقاء مع المتمرّد، بعد أن نمت لديها مشاعر تجاهه.

يعبر بي غان، في حالة بين الحلم واليقظة، خمس لوحات تمثل كل منها مرحلة من تاريخ السينما، وأحد أنواعها، بدءاً من السينما الصامتة (إشارة مباشرة إلى "الساقي المسقي" للفرنسي لوي لوميير، الذي يعتبر أول فيلم تخييلي في تاريخ السينما)، مروراً بـ"الفيلم نوار" في الأربعينيات، فحلقة تأملية تدور في معبد بوذي، ثم قصة أب وابنته تنتمي إلى نوع التحايل، ليختم بأروع الطرق بجمالية تشكل نوعاً ما اختصاصاً له: لوحة من مشهد متابعة واحد، تناهز مدته 40 دقيقة، ينهل من فيلم مصاصي الدماء، مع لمسة كاراكسية عن قصة حب مستحيل تدور في ليلة رأس السنة (2000).

يتركنا "انبعاث" في حالة تطهير جمالي لا تبلغ سدّتها سوى الأعمال الكبيرة. وينتهي بمشهد قاتم، يتخيّل موت السينما عبر ذوبان مجسّم من الشمع، يجسّد صالة مليئة بالمشاهدين. لكنّ "انبعاث"، بحدّ ذاته وبدءاً بعنوانه، رسالة أمل تتصوّر غداً مُشرقاً لفنّ لا ينفكّ ينبعث من رماده كل مرة.

أفلامٌ تفضح

المثير للاهتمام أنّ أفضل أفلام المسابقة، ما عدا "نسور الجمهورية" للسويدي (ذا الأصل المصري) طارق صالح المتوسط فنياً، تلك التي مزجت بين الخطين. أي أنّها تنطوي على فضح استبداد أنظمة شمولية وممارسات شططية للأجهزة الأمنية، وتتمثل في الوقت نفسه بالسينما داخل السينما. في مقدّمتها "العميل السري" للبرازيلي كليبير موندونسا فيليو (العربي الجديد، 26 مايو/أيار 2025). فيلم كامل، يُقدم سينما شاملة، تتناول بشجاعة وتحكم فني كبير، حاضر العالم الموبوء بأيديولوجيا اليمين، بموشور البرازيل في نهاية سبعينيات القرن الـ20، عبر طرح بديع يجري في ثلاثة أزمنة في مدينة "ريسيفي" المقاومة. إنّه أكثر أفلام المسابقة استحقاقاً للسعفة الذهبية، بدل جائزة أفضل إخراج وأفضل ممثل (فاغنر مورا)، والأولى تُعدّ رغم ذلك اعترافاً ضمنياً بتفوّق اقتراحه الجمالي، وتأكيداً للفورة الاستثنائية التي تشهدها سينما "أرض النخيل وفرح الحياة".

في المسابقة أيضاً اقتراحات جمالية راديكالية، لعلّ أهمها "صراط"، رابع فيلم طويل للإسباني أوليفر لاسي: مع ابنه، يبدأ لويس (سيريي لوبيز) بحثه عن ابنته المختفية منذ شهور، بعد حضورها حفلة موسيقية (Rave Party) في المغرب. يلتقيان أناساً غريبي الأطوار، ينظّمون تلك الحفلات الصاخبة في فضاء صحراوي مفتوح، فتتحوّل رحلتهما في الأطلس الكبير، تدريجياً، إلى سعي تجريدي وميتافيزيقي، قوامه تجربة اندماج في رقص محموم حَدّ الانصهار، بالمعنى الحرفي للكلمة. جسمٌ فيلمي غير مُحدّد المعالم، ينطوي على مفاجآت وانقلابات درامية غير متوقّعة ومذهلة، تجري في طبيعة صحراوية مغربية ساحرة ومخيفة في آن. إضافة إلى اشتغال مذهل على الشريط الصوتي.

استحق لاسي جائزة لجنة التحكيم الخاصة (مناصفة مع "صوت السقوط" للألمانية ماشا شيلينسكي)، في استمرار لمسار "كانيّ" لامع، تُوّجت فيه كلّ مشاركاته الأربع بجوائز.

 

العربي الجديد اللندنية في

30.05.2025

 
 
 
 
 

«امرأةٌ وطفل»… دراما روستايي في المساحات الرمادية

سعيد المزواري

غالبًا ما يتمخّض استقبال الأفلام الميلودرامية عن انقسام حادّ يجعل فئة من المتلقّين ينفرون من حدّة تطوّر أحداثها أو يعتبرونها ضاغطة عاطفيًا. وربما هذا ما حدث عند عرض “امرأة وطفل”، فيلم سعيد روستايي (35 عامًا) الطويل الرابع، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته المنتهية رقم 78. ينبغي القول أيضا إن المخرج تعرّض لموجة انتقادات لاذعة من زملائه قبل بدء المهرجان، إذ اعتبروا أنه ساوم وتنازل بتصويره الفيلم تحت سقف القوانين الصارمة لطهران، وفي مقدمها تلك المتعلقة بوضع الحجاب. وهي انتقاداتٌ أجاب عليها روستايي بقوله: إن الأسوأ بالنسبة إلي هو عدم صنع أفلام، مؤكدًا على أهمية أن يتمكن الناس في بلده من مشاهدة أعماله في القاعات، وهو ما لا يمكن أن يتأتى دون الحصول على تصريح من السلطات الإيرانية، بالنظر لحاجته للتصوير في أماكن عامة مثل المستشفيات مع فريق تصوير كبير.

تلك وجهة نظر تنطوي على وجاهة وصواب، خصوصا أن روستايي دفع ثمن اتباعه الطريق الأخرى غاليا عند مُنع فيلمه “ليلى وإخوانها” (2022)، وحكم عليه بالمنع من مزاولة الإخراج

ليس كل السينمائيين يستطيعون أو يرغبون في صنع سينما تحاكي أسلوب جعفر بناهي في مراوغة الرقابة. لكن المقارنة بين موقف روستايي ومستوى التزام بناهي، السينمائي المخضرم المتوّج بسعفة ذهبية؛ أسالت مدادًا كثيرًا حول مدى أحقّيتها، ولم تكن بالتأكيد في صالح السينمائي الشاب.  

لم يحد المخرج الإيراني الشاب عن خط الميلودراما منذ أخرج فيلمه البوليسي المفعم بالزخم والانقلابات “فقط خمسة، ستة” سنة (2019)، ثم أتبعه بـ “ليلى وإخوانها” مقدّمًا لوحة جدارية عائلية كبيرة في بلد تعصف به أزمة اقتصادية طاحنة تهدّد حتى الطبقة الوسطى بخطر السقوط في براثن الفقر كل يوم، تقذف بامرأة وحيدة وسط أسرة من الذكور، في حالة من التّيه.

في “امرأة وطفل” أيضًا، يتمركز الحكي حول امرأة، لكنها ليست وحيدة، على الأقل في الفصل الأول من الفيلم. ماهناز ذات الـ 45 ربيعًا، تشتغل ممرضة تعيل أسرة من طفل مراهق وأخته الصغرى بعد وفاة والدهما، وتعيش في منزل والدتها برفقة أختها الأصغر ميهري. تستعد ماهناز لإعادة بناء حياتها عبر الارتباط بحميد، زميلها الذي يعمل سائقًا لسيارة إسعاف في المستشفى نفسها، لكن كل ما يشغل بالها وما يجعلها ربّما غير قادرة على قراءة مؤشرات محيطها، وفي مقدمتها صدق حميد في حبّه لها، هو بالضبط سلوك ابنها أليار، مفرط الحركة ومشاغبٌ الفصل، المتنمّر على زملائه، قليل التركيز في واجباته الدراسية، والذي يتصرف بشكل لا يليق بعمره حد مغازلة زميلة والدته في العمل من دون أن يجد غضاضة في مصارحة أمه بحقيقة حبّه لها. وحين تلمّح له الأم بأنها بدورها يمكن أن تحبّ زميلًا لها (حوارٌ داخل السيارة يذكرنا بفصل من رائعة عباس كيارستمي “10 على 10” بين أمّ وطفلها ذي شخصية استثنائية)، يغيّر أليار الموضوع على الفور معربًا عن استياء ضمني ورفض قاطع لهذه الفرضية.   

تتجلّى تعبيرية روستايي في روافد بصرية تعتصر طرح الفيلم. نرى في مشهد ماهناز وأليار من وراء فاصل زجاجي تستغله الأم لمراجعة الدروس مع طفلها، لكنها تبدو مهتمة أكثر منه بدروسه بينما تنظر إليه من وراء أرقام وحروف متناثرة على اللوح الشفاف، تعبّر في آن واحد عن المعادلات والفرضيات الصعبة التي تدور في رأسها حول طريقة تدبير ردة فعل أليار حول زواجها المقبل من حميد، وحسابات القدر المعقدة التي ستعصف قريبًا بتوازنها وفق تأثير الفراشة

يؤدي عدم انجاز أليار لواجباته إلى توقيفه المؤقت عن الدراسة، ما يمنعه من الذهاب في رحلة مدرسية كانت الأم تعوّل عليها لتنجز مراسيم الزواج بحميد من دون تأثّر ابنها، فتُجبر على إيداعه وأخته في عهدة زوج أمها حيث تحلّ بها كارثةٌ لم تكن في الحسبان. تُفجع الأم من جهتين، أهونهما انكشاف حقيقة مشاعر حميد غير الصادقة نحوها، فينهار العالم من حولها وتتحول مشاعرها نحو أقرب النّاس إليها بدرجات مختلفة: من النقيض إلى النقيض تجاه حميد الذي يتحوّل إلى عدوها، فتبحث عن الانتقام منه مستغلةً ممارساته غير القانونية في العمل. تفصيلٌ يقبض على توجّه إغماض الأعين على الاختيارات غير الأخلاقية في العمل وفصلها عن العلاقات الشخصية في المجتمعات الشرقية، عكس الغربية.

تدخل ماهناز في دوامة. تتقاذفها نيران الشك ومركّب الذّنب والحقد الذي يطال حتى المسؤول الإداري في المؤسسة التي يدرس فيها أليار. “ماذا لو لم…؟” هو السؤال الذي يتردّد في داخل الأمّ ويمنعها من استيفاء الحداد كي تمكن مشاعرها من تخطيه إلى شيء آخر. شيئًا فشيئًا، تؤدي تصرفات محيطها والتوتّر الأخلاقي المرتبط بها، بدءًا بأختها ثم زوج أمها إلى وصول ماهناز إلى حافة الانهيار، خصوصا حين يتقاعس القضاء عن إنصافها. نقدٌ ضمني لنظام تقليدي يغلق أعينه على تجاوزات السلطة ممثلة في الأب.

غير أن نهاية الفيلم تترك الباب مواربًا لمسحة غفران وتسامٍ يلتقطها روستايي في مشهد بديع، يستغل باعث نوافذ زجاجية متفاوتة الشفافية، مرة أخرى، لبث شكوك في نفس محيط ماهناز كما المشاهد، حول صحتها العقلية ومدى فقدانها السيطرة. براعة أداء الممثلة باريناز إزايدار تكمن بالضبط في أنه لا يحيد عن هذا الخيط الرقيق رغم قوّته وتأثيره على المشاهد

امرأة وطفل” عملٌ آسرٌ يبرهن فيه مرّة أخرى سعيد روستايي على تحكّمه في أدوات السّرد عبر شخصيات معقدة تقع اختياراتها في مساحة رمادية تجعل من الصعوبة بما كان إصدار حكم قاطع عليها. الكلّ مذنب بطريقة ما عنده، و”لكل دوافعه” وفق جملة الحوار الأثيرة من “قواعد اللعبة” (1939) لجان رنوار فتحت أبواب المعاصرة للسينما.

 

####

 

فيلم «Urchin»… دراسة شخصية في الإدمان والذكورة الهشة

حسام فهمي

نقرأ بشكل متكرر عن أفلام تحاكي تحفة مارتن سكورسيزي وبول شريدر «سائق التاكسي Taxi Driver» من إنتاج عام 1976، إذ تشترك معظم هذه الأفلام في محاولتها إعادة إنتاج شخصيات تشبه «ترافيس بيكل»، الشخصية التي لعبها روبرت دينيرو بأداء لا يُنسى، كان بيكل وحيدًا، مُحملًا بذكريات حرب فيتنام، ويشعر بحاجة هائلة لممارسة العنف كي يثبت قيمته كرجل في مجتمع فاسد.

في أول تجربة روائية للممثل البريطاني هاريس ديكنسون كمخرج «Urchin»، نرى دراسة شخصية عن رجل آخر هو «مايك»، لكن «مايك»، على عكس ترافيس، يجسد تحولات الذكورة من السبعينيات حتى اليوم؛ لا حرب، ولا رغبة في تغيير المجتمع، حتى لو كنا ندينه، يبقى العنف، وهذه المرة موجّه ضد الذات أولًا.

فاز الفيلم بجائزة الفيبريسي لأفضل فيلم في قسم «نظرة ما» في مهرجان كان لعام 2025، كما حصد فرانك ديلان جائزة أفضل ممثل من لجنة تحكيم «نظرة ما» عن دور البطولة في الفيلم

عالم انعدام المأوى

يبدأ الفيلم بمشهد خارجي نتابع فيه «مايك» وهو يفيق من نومه في الشارع، شاب بلا مأوى يشبه عديدين من الذين نراهم يوميًا في الشوارع وتحت الكباري في المدن الكبرى، يتوجه «مايك» عقب ذلك إلى ميدان حيث يلتقي بصديقه الذي يبدو أنه سرق محفظته، يتشاجران، يضربان بعضهما البعض، يجد «مايك» محفظته بالفعل، لكنها دون نقود

يعطف على مايك شاب بريطاني أسمر البشرة، يحضر له شيئًا ليشربه، ثم يعرض عليه أن يشترى له طعامًا أيضًا، يمشي الرجلان في اتجاه المطعم الذي يريد مايك أن يأكل منه، ثم تحدث المفاجأة الأولى في الفيلم

يصبح عالم من هم بلا مأوى مساحة للتعرف على شخصية «مايك»، شاب يبدو أنه ليس في وعيه، جائع، غير مكترث، ومستعد لارتكاب أفعال عنيفة للحصول على ما يريد، يبدو السبب الأوضح وراء هذا كله هو الإدمان

الإدمان كإيذاء للنفس 

تقديم عمل سينمائي عن الإدمان يبقى محملًا دائما بصور نمطية كثيرة عن المدمن على الشاشة الكبيرة، أداء حركي مبالغ فيه، وأفعال لا تفسير لها، هنا على العكس يقدم فرانك ديلان، تحت إدارة هاريس ديكنسون، أداء أكثر بساطة وأكثر عمقًا، مايك رجل هش، صغير في السن، يدفعك للتعاطف معه رغم كل ما يقوم به من خيارات خاطئة، لأنه يبدو معذبًا بالفعل بعد أن يتخذ كل منها

يصبح جوهر الإدمان هنا هو فقدان القدرة على السيطرة على النفس، فقدان القدرة على التوقف عن التعاطي رغم إدراكك أنه سوف يدمرك، يبدو التعاطي في الفيلم وكأنه نوعان، نوع من أجل الاحتفال، نراه حينما يتعرف مايك على فتاة فرنسية تصبح بوابته لعالم الهيبي، حيث تعاطي الـ (LSD) جزء من طقس تأملي واحتفالات مع الطبيعة والفن، ونوع آخر هو التعاطي وحيدًا، غاضبًا وحزينًا في غرف مغلقة، وهو هنا كطقس مكتمل لإيذاء النفس

لغة بصرية بين عالمين 

يبني ديكنسون لغته البصرية في الفيلم على استخدام متكرر لكادرات قريبة «كلوز أب Close-up» على وجه «مايك»، ثم يستخدم القطع لجعل مشاهده يكمل الفراغات، حينما يلتقي «مايك» بأحد من مارس ضدهم العنف، يواجهه الرجل بأنه قضى الأيام التالية وهو غير قادر على رؤية ابنته التي حظيت بعيد ميلادها، لأنه لم يرد اخافتها بجروح وجهه، يبدو «مايك» وكأنه على حافة الوصول لنوبة هلع، لكن ديكنسون يقطع بشكل مفاجئ ليجعلنا نتخيل ما حدث.

تبدو لغة الفيلم البصرية وكأنها لفيلم أوروبي قليل التكلفة، بسيط وغير متكلف، ثم ينتقل ديكنسون إلى عالم بصري خيالي بين الفينة والأخرى، حيث تبدو المخدرات بوابة لهذا العالم، وحتى تسجيلات الاسترخاء الصوتية التي يسمعها مايك كنوع من التنمية البشرية، يبحث معها عن مكانه المتخيل الآمن، لكنه في النهاية يغرق فيه.

العنف والذكورة الهشة 

يقدم «Urchin» في النهاية بورتريهًا يحمل زوايا ورتوشًا غير مصقولة، تبدو هكذا هذه الزوايا أصيلة ومعبرة عن مخرج يصنع عمله الأول، فيلم يحمل تعاطف مع بطله، لا يتحدث عنه كما تفعل العديد من الأفلام، لكن يتحدث بصوته، رجل حساس وهش، غير قادر على كسر حلقة مغلقة من إيذاء النفس، تصبح مأساته مرآة لزمنه، لعالمنا الآن.

يجد مايك الحب والتقبل والمساعدة من معظم من يقتربوا منه خلال الفيلم، غالبيتهم مهاجرين أو ذوي أصول مهاجرة، تصبح هذه التفصيلة جزءًا من طبقة يضعها ديكنسون بشكل رحيم وربما حتى غير واعٍ داخل عالم الفيلم

يحفظ محبو السينما المشهد الأيقوني لترافيس بيكل وهو نصف عارٍ، يخاطب نفسه في المرآة: «هل تخاطبني؟!»، ثم يظهر مسدسه بسرعة ومفاجأة، معبرًا عن ذكورة سامة لا تسمح للرجل بإظهار ضعفه، ليصبح العنف المسلح وسيلة للتنفيس عن حزنه. سيتذكر محبو السينما أيضًا مايك، الرجل الهش، وهو نصف عارٍ، يقف أمام مرآته في غرفة مظلمة، يسمع تسجيلًا صوتيًا يخبره أنه شخص مميز، ويكرر ذلك.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

30.05.2025

 
 
 
 
 

كان يا ما كان في غزة”.. طموح لم يكتمل

أمير العمري- كان

الآن تمكن الأخوان طرزان وعرب ناصر من صنع فيلمها الطويل الثالث بعد “ديغراديه” (2015)، ثم “غزة مون أمور” (2020)، وهو الفيلم الذي يحمل عنوانا مثيرا هو “كان يا ما كان في غزة” ويستوحي عنوانه من أفلام سيرجيو ليوني الشهيرة، لكنه في الحقيقة، أبعد ما يكون عن أفلام ليوني. إنه محاولة لصنع فيلم يدور بين الكوميديا والإثارة البوليسية، أي إثبات أنه في غزة أيضا، يمكن أن يوجد ما يشبه أفلام التشويق الأمريكية التي يبدو الأخوان ناصر مولعين بها. وفي فيلمهما هذا كثير من الاقتباسات من السينما الأمريكية. لكن هذا ليس هو الموضوع.

لكن من كان ينتظر أن يأتي هذا الفيلم للعرض في قسم “نظرة ما” بالدورة الـ78 لمهرجان كان السينمائي، متوقعا أن الفيلم لابد وأنه سيتناول موضوع الساعة، أي الحرب الإجرامية التي تشنها إسرائيل على غزة وسكانها منذ نحو عشرين شهرا، سيخيب أمله، فأحداث الفيلم تجري بين 2007 و2009، أي بعد في بدايات سيطرة حركة حماس على القطاع. فمشروع الفيلم يرجع إلى ما قبل أحداث السابع من أكتوبر 2023. وتصويره جرى في الأردن كبديل عن غزة التي لم يعد لها وجود عمليا الآن.

ومع ذلك، ورغم انفصال الفيلم عما يجري في غزة اليوم، إلا أنه يبدأ بداية ذات صلة- قبل نزول العناوين- من الواضح أنها أضيفت إلى الفيلم في اللحظة الأخيرة أي قبل إرسال نسخته للعرض في مهرجان كان. فعلى لقطات لشاطئ البحر في غزة تحت ضوء الشمس، يأتينا صوت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو يتحدث عن ما يوفره القطاع من فرصة مذهلة لعمل شيء كبير، أو تحويلها إلى ما يطلق عليه “ريفييرا الشرق الأوسط”!

هذا المدخل الساخر يتماثل مع الطابع الساخر الذي سيسود الفيلم خصوصا في نصفه الثاني، ولكنها سخرية ممزوجة بالمرارة، وكوميديا سوداء، لا تميل للتحليل والتأمل، بل تكتفي بالتعليق من الخارج. فنحن من البداية نستمع إلى من يقول لنا إن غزة سوف تشهد أول فيلم يشبه أفلام رامبو. ولكننا الآن نشهد جنازة شاب يدعى يحيى، يشيعونه، هذا الشاب نفسه أي “يحيى” (نادر عبد الهادي) سيعود إلى الحياة لنرى أنه عامل بائس في مطعم “فلافل” أو مساعد لصاحبه الذي لا يقل بؤسا عنه أي “أسامة” (مجد عيد) رغم ما يبدو على سكنته وجسده الضخم من قوة، فهو يلجأ لزيادة دخله من مطعم لا يحقق له شيئا، عن طريق حشو شطائر الفلافل بحبوب الترامادول المخدرة ثم تكليف يحيى بتوصيلها إلى الزبائن في منازلهم.

أسامة هذا يرتبط بعلاقة ملتبسة مع ضابط الشرطة الملتحي التابع لحركة حماس “أبو سامي” (رمزي مقدسي). وأبو سامي يضغط على أسامة يريده أن يعمل جاسوسا له، يزوده بأسماء الزبائن الذين يشترون منه المادة المخدرة في قلب شطائر الفلافل، لكن أسامة يعتبر نفسه “رجل مباديء”، أي لا ينبغي أن يخون الثقة التي وضعها الآخرون فيه، وهنا يقع الشجار والمواجهة التي تنتهي بأن يقتل أبو سامي صاحبنا المسكين “أسامة” في مشهد دموي.

الجزء الثاني من الفيلم يجري بعد مرور عامين، في 2009، حيث يرغب يحيى في استكمال دراسته فربما يمكنه الإفلات من واقعه المزري والعمل في الخارج. وهو أصلا طالب جامعي يدرس التجارة، تحول السلطات الإسرائيلية بينه وبين الذهاب إلى الضفة الغربية لزيارة والدته (هنا يطرق الفيلم فكرة الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع، وعزل الفلسطينيين عن أهلهم ومنعهم من الحركة الحرة)، لكن حضور الاحتلال يبدو أكثر هامشي، من خلال طائرات الاستطلاع التي تتوجه إليها الكاميرا بين حين وآخر، أو نسمع صوت أزيزها يملأ الأجواء.

من الواضح أن الفيلم ينتقد حماس من خلال شخصية “أبو سامي” الضابط الفاسد المرتشي الذي يبتز أسامة لكي يقتسم معه ما يحصله من مال، مقابل أن يتغاضى عما يقوم به، كما سيعود لنقد مفهوم حماس ونظرتها للسينما. ولكن المشكلة أن الفيلم سيخرج تماما عن هذه القصة الأولى، ويستدرجنا إلى قصة أخرى ترتبط ارتباطا واهنا للغاية بالقصة الأولى من خلال شخصية “يحيى” الذي يراه مخرج سينمائي فلسطيني يعتزم إخراج فيلم دعائي لحساب حركة حماس، عن البطولة والتضحية والمقاومة.. إلخ، ويعرض عليه أن القيام بدور البطولة. وبعد تردد يقبل فليس لديه ما يخسره.

وفي اجتماع في بيت المسؤول السياسي في حماس أو عمدة المدينة، يجتمع مخرج الفيلم ومنتجوه ويحيى بالطبع، يتحدثون عن الفيلم الذي يطلقون عليه “المتمرد”، وعن قلة الإمكانيات السينمائية المتاحة، وغياب المؤثرات الخاصة في غزة، وبالتالي فإنهم سيستخدمون البنادق الحقيقية والذخيرة الحية ولكن أن تستنتج ما سيحدث بعد ذلك خلال التصوير، ويربطنا بمشهد جنازة يحيى التي شاهدناها في البداية!

هناك مشهد طريف في الفيلم عند مهاجمة الجنود الإسرائيليين المكان اعتقادا منهم بأن هناك في الأفق عملية مسلحة ستجري، لكن المفارقة أن شبابا فلسطينيين هم الذين يقومون بأدوار الإسرائيليين في هذا المشهد، ولكن أهالي المنطقة لا يفهمون ذلك فيتصدون لهم، ويقتضي الأمر أن يشرح لهم المخرج أنه مجرد مشهد من فيلم يجري تصويره!

العلاقة بين أسامة ويحيى منسوجة بشكل جيد، وهناك مشهد يأتي في موقع متأخر من الفيلم، هو مشهد عودة إلى الوراء، لسرد بدايات العلاقة بين الاثنين، التي تبدو وكأنها علاقة بين الأب والإبن. لكن الفيلم يخلو بشكل عام من طابع “الحكاية الخيالية” التي يوحي لنا بها عنوانه.

شخصيا لم أجد في الفيلم الكثير من الطرافة، بل وجدت أنه عمل يعاني من الترهل خاصة في النصف الثاني، كما تثقله الكليشيهات، وربما أن هناك أيضا من السخرية التي لا تضحك أحدا، كما أن الخلل الواضح في بناء الفيلم (وهو خلل موجود أصلا في السيناريو المتعثر من البداية) ما بين النصف الأول، ثم النصف الثاني الذي يختلف تماما في طبيعته وأسلوبه، يربك الفيلم كله، بل وكثيرا ما يجعلك أيضا تتساءل عن المقصود من تلك الخلطة المرتبكة المبعثرة؟

صحيح أن الفيلم يبرز أداء الممثلين الثلاثة الذين يقومون بالأدوار الرئيسية. وصحيح أن هناك تصويرا جيدا خصوصا في المشاهد التي تدور في معظمها في الليل، من كاميرا نفس المصور الذي أجاد كثيرا في تصوير “غزة مون أمور” وهو الفرنسي كريستوف جرايلو، لكن ما الفائدة ونحن أمام عمل مفكك، غير واضح المعالم، يبدو متواضعا في مستواه وطموحه الفني، بغض النظر عن كونه لا يلمس المشكلة الأساسية التي ينتظر الجميع أن يلامسها، أي مشكلة الاحتلال، لمجرد أن يقول لنا إن أهل غزة لديهم أيضا مشاكلهم الداخلية، وأن من الممكن أن يكون لديهم فيلم مثير عن الجريمة

والصراع في العالم السلفي، لكن حتى الفيلم الذي يدور داخل الفيلم، ينتهي إلى كارثة نتيجة الاستخفاف بالتعامل مع الأسلحة. فهل هذه هي الرسالة التي يريد الفيلم توصيلها لنا في الوقت الحالي.

 

موقع "عين على السينما" في

30.05.2025

 
 
 
 
 

«القيامة» أو عندما تكون السينما جسدًا للأحلام

فراس الماضي

منذ إطلالته الأولى عبر «كايلي بلوز» (2015)، ثم رحلته الليلية في «رحلة طويلة نحو الليل» (2018)، أثبت بي غان اسمه كواحد من أندر الأصوات السينمائية في آسيا، بل وفي العالم، الذين لا يكتفون بالسرد ولا بالشكل، بل يبدعون من الصورة نفسها كيانًا يتنفس خارج قواعد الزمن وخارج حدود المنطق. وفي فيلمه «القيامة»، عمله الثالث الذي عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2025، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، فإن المخرج الصيني يخطو أبعد من أي وقت مضى.. نحو مجاز مرهف للسينما ذاتها، حلمًا بعد حلم، وعصرًا بعد عصر، وصورةً بعد صورة.

فيلم «القيامة» هو عمل يستحيل تأطيره في بنية سردية تقليدية، إذ لا يُروى بل يُعاش، ولا يُفهم بل يُستشعر. كما قال جان كوكتو ذات يوم: «السينما تُكتب بعيون من يحلمون»، وبي غان يجسّد هذا المعنى بشكل حرفي؛ لا من خلال بطلٍ يحلم فحسب، بل عبر سينما تحلم، وتتشبث بأمل النجاة من موتها الوشيك عبر الحلم ذاته.

حيث يستفتح الفيلم بمقدمةٍ صامتة، تنتمي شكلًا وروحًا إلى السينما التعبيرية الألمانية لعشرينات القرن الماضي. نلتقي فيها بـ«فانتازمر»، كائن يحلم رغم أن الحلم بات محظورًا، بل مميتًا في هذا العالم. ملامحه المستعارة من «نوسفيراتو» (1922) لفريدريك مورناو، والديكورات الظلية التي تستحضر «كابينة الدكتور كاليجاري» (1921)، والحركة المسرحية التي تذكرنا بسينما المخرج الفرنسي السحري جورج ميلييس، كلها إشارات إلى أن ما نحن مقبلون عليه ليس فيلمًا بقدر ما هو استحضار لذاكرة السينما نفسها، ولغتها الأولى، والذي يضعنا في الوقت ذاته أمام وعد مزدوج ومتضاد، لاستعادة سينما الزمن الماضي، وفي الوقت ذاته بناء تجربة لا تنتمي لأي زمن.

ثم يتشظى بعد ذلك الفيلم إلى أربعة فصول متعاقبة، كل منها يستعير أسلوبًا سينمائيًا مختلفًا، وزمنًا متحولًا، من أفلام النوار في الأربعينات، إلى عزلة الثلوج البوذية، إلى حيل المحتالين في الأزقة، وصولًا إلى قلب الفيلم النابض وتجلياته السينمائية القصوى، التي تتكثف في فصله الأخير.. لقطة واحدة طويلة تمتد لأكثر من أربعين دقيقة دون أي قطع، تسافر بالكاميرا من شارع مضاء بلون أحمر إلى ملهى ليلي، فمشهد كاريوكي دموي، إلى نهر يلمع بالضوء، ثم إلى باخرة تطفو على أعتاب فجر الألفية الجديدة.

في هذا المشهد بالذات، يقدم بي غان تأملًا حيًا في الزمن، وفي الحلم، وفي الصورة المتحركة نفسها، التي تتحول هنا إلى جسد يتنفس ويتوه ويذوب، ككيان روحي يسبح في بحر الذاكرة وينتقل من لحظة إلى أخرى دون منطق ظاهري، لكن بدقة باطنية مذهلة.

فالقيامة ليس استعراضًا تقنيًا فحسب، لأن في صميمه هو فيلم عن ما يعنيه أن تحلم في عالم توقف عن الحلم. فـ”الحالمون” في الفيلم هم قلة.. منبوذون ومهددون بالفناء لأنهم اختاروا الاحتفاظ بحريتهم الداخلية.. وكأن السينما نفسها هي هذا الحلم الأخير، الفن الوحيد القادر على خلق زمنٍ بديل وشكل جديد للوعي.

من خلال هذا التكوين، يقدم بي غان تأملًا متشظيًا في ماهية السينما، كفعل كوني وكطقس مضاد للموت. فحين يتم إدخال شريط 35 ملم داخل ظهر الحالم، كأنما يقول لنا إن السينما هي ما يجعل الإنسان كائنًا خالدًا في زمن فانٍ.

ولعل أعظم ما في القيامة أنه لا يطلب من المتفرج أن يفهم، بل أن يشعر، وأن يتخلى عن أدوات التأويل التقليدية ويستسلم للتجربة؛ حيث الضوء، واللون، والإيقاع، والفراغ، والانعكاسات، وكل ما يجعل من السينما طقسًا حسيًا قبل أن تكون لغة أو تقنية. وهكذا يذكرنا بي غان بأن السينما مثل الحلم.. تُعاش ولا تُفسر.

ورغم أن بعض الفصول قد تتفاوت في تأثيرها أو تتعثر في بلاغتها، إلا أن ترابطها يكمن في الشعور لا في الحدث، في البناء العاطفي لا المنطقي. هي أحلام، وكل حلم يحتفظ بمنطقه الخاص، بتقلبه ونزقه، وبثقل رمزيته أحيانًا.

 

####

 

«مهمة: مستحيلة – الحساب الأخير»… توم كروز شاب في الستين!

شفيق طبارة

على مدى ما يقرب من ثلاثين سنة، نجحت سلسلة «مهمة: مستحيلة» في الجمع بين العناصر الأساسية لأفلام التجسس والحركة، وأفلام الصيف الضخمة، والثلاثية السينمائية الكلاسيكية: الإثارة، والخطر، والتشويق، ودفعها إلى أقصى حد لضمان أقصى اندفاع للأدرينالين. وكل ما سبق يتلخص في رجل واحد، توم كروز في دور إيثان هانت، العميل المارق، خبير التنكر، منقذ البشرية والتوازن الجيوسياسي. هذه السنة، يودع كروز السلسلة، الذي أثبت منذ بدايتها أنه على استعداد للمخاطرة بحياته من أجل ترفيهنا.

إذاً، لكل شيء نهاية، وفيلم «مهمة: مستحيلة – الحساب الأخير» (2025، Mission: Impossible – The Final Reckoning) ليس فقط الجزء الثامن من ملحمة يُقال عنها إنها حاملة لواء سينما الحركة الحديثة، ولكنه أيضاً الجزء الذي يهدف إلى وضع حد (ربما!) لمغامرات إيثان هانت. وكما هي الحال غالباً مع كل ما يحمل كلمة نهائي أو أخير، كانت التوقعات عالية جداً!

لذلك، يأتي السؤال الذي طرحناه على أنفسنا بعدما خرجنا من صالة العرض: هل هذه هي النهاية التي تستحقها هذه السلسلة؟ الإجابة السريعة هي: لا. لكن دعونا منها، لنركز على الإجابة المطولة، دعونا نتحدث أكثر في الأمر، لأن فيلم «مهمة: مستحيلة – الحساب الأخير» ليس فيلماً سيئاً على الإطلاق. في الواقع، هو أفضل من معظم أفلام الحركة وأفلام «البلوك باستر» التي تُعرض في دور السينما. ولكن نظراً لسلسلة قدمت لنا أجزاء متكاملة مثل «مهمة: مستحيلة – سقوط» (2018، Mission: Impossible – Fallout) أو «مهمة: مستحيلة – بروتوكول الشبح» (2011، Mission: Impossible – Ghost Protocol)، فإن هذا الفيلم يبدو مخيباً للآمال بعض الشيء.

لن ينتقص هذا من تقدير كريستوفر ماكوري، الذي أخرج الأجزاء الثلاثة الأخيرة، فهو يُخرج بيد ثابتة أكثر من أي شخص آخر مشاهد الإثارة والفوضى. مشاهد الحركة في هذا الفيلم مذهلة؛ مشهد مطاردة الطائرات الأخير، ومشهد الغواصة، هما بلا شك من أفضل ما قدمته سينما الحركة في هذا العقد. وإذا كنت من محبي هذا النوع من الأفلام، فهذان المشهدان وحدهما كفيلان بإرضائك. وبالطبع، خيبة الأمل هذه لن تؤثر على رؤيتنا لتوم كروز. في سن الثانية والستين، لا يزال خارجاً عن الطبيعة، يركض ويقفز ويتحطم ويحبس أنفاسه، ويفعل كل ذلك بمهارة يحلم بها الكثير من الشباب في العشرين.

في الجزء الثامن من هذه السلسلة، القصة ليست ضخمة: الكيان، الذكاء الاصطناعي الذي غزا العالم والذي قابلناه في الجزء السابق «مهمة: مستحيلة – الحساب الميت الجزء الأول» (2023، Mission: Impossible – Dead Reckoning Part One)، يهدد العالم بأسره الآن، ويسيطر على القوى النووية واحدة تلو الأخرى. يواجه هانت وفريقه مرة أخرى الحكومة الأميركية، التي تريد استخدام قوة الذكاء الاصطناعي لأغراضها الخاصة، وينطلق الفريق المتمرد لإنقاذ العالم. في عالم «مهمة: مستحيلة»، لا يزال كل شيء أبيض وأسود: ما يفعله إيثان هانت وفريقه هو الجيد، وأولئك الذين ضدهم هم الأشرار، سواء كانوا سياسيين، عسكريين، أو ذكاءً اصطناعياً. لذا، هانت هو أملنا، وهو الوحيد الذي يمكننا أن نضع مصير البشرية بين يديه بأمان (نعم، هذا يُقال كثيراً في الفيلم).

الحركة هي جوهر هذه الملحمة. وإذا كان هناك ما يُبقي الفيلم قوياً في أكثر لحظاته ضخامة، فهو التزامه الراسخ بمشاهد الحركة المذهلة. قليلة هي الأفلام المعاصرة التي يمكن أن تضاهي مشاهد الحركة في هذا الفيلم. لا يوجد استخدام مفرط للشاشات الخضراء أو المؤثرات الرقمية المُبالغ فيها، هناك دوار حقيقي، تعرُّق، سرعة، ومخاطرة. إلى جانب المشهد البصري والجسدي، يُثير الفيلم أيضاً سلسلة من المواضيع التي تتردد أصداؤها بقوة في السياق الحالي. التهديد الرئيسي للذكاء الاصطناعي المتواجد في كل مكان، هذا التهديد ليس مجرد أداة سردية، بل استعارة للعالم الحديث، بيئة تفلت فيها التكنولوجيا من سيطرة الإنسان، حيث يمكن التلاعب بالحقيقة، ولم تعد القرارات تُتخذ في المكاتب، بل بواسطة الخوارزميات.

وفي هذا الإطار، يُمثل هانت شيئاً يكاد يكون من الماضي: الولاء، والحدس البشري، والتضحية الشخصية. معركته ليست فقط ضد عدو غير مرئي، بل ضد مرور الوقت وفكرة أن كل شيء يمكن استبداله بآلة. بهذا المعنى أيضاً، يُجسد الفيلم صورة عن توم كروز نفسه، ممثل لا يزال، في خضم العصر الرقمي، يُغامر بالمخاطرة الجسدية الحقيقية، متبنياً السينما كتجربة ملموسة.

بالطبع، هذا لا يبرر وجود بعض النكسات الرئيسية للفيلم، بدءاً من الفصل الأول المطول، حوالي ساعة من الشرح والحوار المعقد بشكل سخيف والمفرط في التفسير الذي يهدف إلى توضيح كل التفاصيل. هذا، إلى جانب الهوس بإعادة النظر في ماضي السلسلة بحنين، مع لحظات وروابط غير ضرورية، أثّر بشكل كبير على وتيرة الفيلم وتوازنه. دعونا لا نخدع أنفسنا، الساعة الأولى من الفيلم ضعيفة، تكاد تكون سيئة للغاية، وربما أسوأ دقائق الملحمة (إذا استثنينا كامل فيلم «مهمة: مستحيلة 2» الأسوأ على الإطلاق). يُضيّع ماكوري وكروز وقتهما ووقتنا بساعة مملة ومكررة، سيئة الإخراج ومحررة بشكل أسوأ، ضائعين في متاهة ذكريات الماضي غير الضرورية، ومشاهد من الأفلام السابقة، وتعليقات مبالغ فيها، حيث كل ما نسمعه وما نراه أقل ذكاءً وإثارة مما يريداننا أن نصدق.

بمجرد أن تمر هذه المحنة الخانقة، يبدأ فيلم «مهمة: مستحيلة – الحساب الأخير» أخيراً بأن يصبح فيلماً جديراً بالمشاهدة. تصبح الحبكة واضحة، ولكي تعرف كل شخصية ما يفترض أن تفعله، ولكي نتحضر نحن الجمهور للأكشن. كل شيء، بعد تلك الساعة، محكم بدقة متناهية، ليذهل المشاهد تدريجياً من خلال مشاهد محددة، وإن كانت آسرة، إلا أنها لا تضاهي روعة الأجزاء السابقة عموماً. ولكن وسط المعارك وإطلاق النار، هناك مشهدان هائلان، يسرقان الأضواء بطموحهما التقني واللوجستي، حيث يظهر عنصران مثل الماء والهواء كأبطال.

بعد هذه الإجابة الطويلة، فيلم «مهمة: مستحيلة – الحساب الأخير» ممتع، ولكنك لن تتذكره. إنه بمثابة خاتمة بصرية، كمدينة ملاهٍ سينمائية. وإذا كنت تتوقع وداعاً مؤثراً، ملحمياً أو عاطفياً، فستغادر السينما وأنت تشعر بأن كل شيء ضخم جداً على هذا المحتوى القليل. إنه فيلم جيد، نعم، ولكن لملحمة كهذه… ربما كنا بحاجة إلى أكثر من مجرد خدعة نهائية أنيقة.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

31.05.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004