سأكتب اليوم عن أحد أفضل ما شاهدت من أفلام في مسابقة
مهرجان كان السينمائي الـ78، وهو فيلم يصعب ترجمة اسمه بعض الشيء إلى اللغة
العربية، فعنوانه بالانجليزية هو
Two Prosecutors
وعنوانه الأصلي باللغة الروسية هو
Dva prokurora
ومعناها “النائبان العموميان” لكن أولا المدعي العام المحلي أي ما يسمى في
بلادنا “وكيل النيابة” أي وكيل النائب العام، الذي ينتهي من تحقيقه ليصبح
من حقه توجيه الاتهام، ثم المدعي العام المركزي الذي يمثل سلطة الدولة،
فالفيلم يصور الفرق بين الاثنين، لكن كل ما نراه من أحداث، تأتي من وجهة
نظر وكيل النيابة الشاب.
هذا هو الفيلم الروائي الطويل الخامس للمخرج الأوكراني
سيرجي لوزنيستا الذي عرفناه بأفلامه التسجيلية الكثيرة (أخرج نحو 17
فيلما)، التي وثقت كأفضل ما يكون، الكثير من الأحداث، من أول الانتصار على
النازية في الحرب العالمية الثانية إلى محاكمة مجرمي الحرب من النازيين في
كييف ثم الغزو الروسي لأوكرانيا. وها هو الآن يعود إلى الثلاثينيات (1937)،
إلى الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين، في فترة التصفيات الكبرى، أو “سنوات
الرعب”، لكي يفتح ملف معتقلات ستالين الرهيبة من خلال وقائع حقيقية سجلها
في كتاب لم ينشر سوى في 2009، عالم الطبيعة الروسي جيورجي ديميدوف، من واقع
تجربته كمعتقل سياسي في تلك الفترة.
هذا فيلم صادم، شديد القسوة والرهبة، يكشف في قوة ووضوح،
عجز الإنسان الفرد عن مواجهة الآلة الضخمة للسلطة التي تسحقه وتمتهن
إنسانيته داخل المعتقل، والأكثر مدعاة للصدمة والدهشة، أن هذا الرجل تحديدا
كان من الشيوعيين المخلصين تماما للنظام، ولم يكن ممكنا بالتالي اتهامه
بأنه يخدم مخططات الأعداء في الخارج الذي “يتآمرون” على الثورة البلشفية،
أو يريدون إسقاط النظام السوفيتي. إلا أنه مع ذلك، وقع ضحية في أيدي الشرطة
السرية اللعينة التي يعتقد هو أنها كانت تنسف النظام من الداخل، وتنتهك
الدستور والقوانين السوفيتية التي يؤمن بها والتي كان يقوم بتدريسها.
هذا ما سيكشفه هذا العمل البديع بكل رصانة وهدوء، بعيدا عن
الصراخ الهستيري والادعاء والاحتجاج المباشر الصارخ، كمثال مناقض لكل ما
يصوره فيلم المخرج الإيراني جعفر بناهي الذي حصد “السعفة الذهبية”. ولو
كانت لجان التحكيم في مهرجانات الغرب تنظر فقط وتحكم طبقا للمستوى الفني،
لمنحت هذا الفيلم الجائزة الكبرى، إلا أنه خرج خالي الوفاض تماما رغم كل
سحره وقوته وشموخه من جميع العناصر السينمائية التي تصنع الفيلم الجيد إن
أجيد استخدامها بالطبع: السيناريو والإخراج والتمثيل والتصوير والمونتاج.
لا يوجد خطأ واحد في هذا الفيلم المدهش، ولا لقطة واحدة
زائدة، أو مشهد يمتد أكثر مما ينبغي، أو تفاصيل غائمة وانتقالات تقفز فوق
الحدث وتخلق الاضطراب وتشتت الرؤية، أو أداء تمثيلي يصرخ ويبالغ ويتشنج، بل
على العكس تماما، فالأداء هنا يرقى إلى أفضل المستويات الذي عرفناها في
السينما الروسية والسوفيتية عموما، وهو ما يرجع أساسا، إلى رسوخ المسرح
كمدرسة عظيمة، ولا فرق بين أن يكون الممثلون من روسيا أو من أوكرانيا،
فالمدرسة واحدة والانتماء واحد رغم ما نراه اليوم من انقسام سياسي ويتم
تغذيته من قبل أطراف خارجية.
لدينا رجل طاعن في السن، يُعتقل ويُلقى به في سجن شديد
الحراسة في مدينة “بريانسك” الواقعة على مسافة 380 كم من موسكو في جنوب
غربي روسيا. إنه أحد تلك السجون التي يحتجز فيها الأشخاص الذين يُطلق عليهم
“أعداء الدولة”. وفي الداخل تتم معاملة السجناء بكل قسوة وكراهية وازدراء،
تفاصيل السجن مصورة بدقة تكاد تكون فوتوغرافية، تماثل
الأجواء التي كانت سائدة في روسيا الثلاثينيات، خصوصا وأن الفيلم مصور
بألوان قاتمة يغلب عليها الرمادي، ومن خلال إضاءة كلاسيكية محسوبة في كل
كادر بحيث تضفي نوعا من الكآبة وتوحي بالبرودة مع الإخلاص لواقعية الصورة،
وتتحدد الصورة في المنسوب الأكاديمي للشاشة، أي 1.375:1، أولا لكي يمنحنا
هذا الكادر الضيق، الشعور بالأجواء الخانقة داخل السجن وداخل المكاتب
البيروقراطية والممرات، وثانيا يمنحنا الانطباع بالزمن الماضي، أي بأننا
نشاهد فيلما من أفلام تلك الحقبة قبل أن تصبح “الشاشة العريضة” سائدة.
ترصد الكاميرا في لقطات ثابتة، وتنتقل من خلال وسيلة القطع،
إلى الضباط وحراس السجن، وتتطلع من زوايا ضيقة، داخل الممرات الطويلة
الشاحبة الإضاءة، والمكاتب الصارمة الحادة التضاريس، ومكاتب الانتظار
الباردة، والسلالم التي تبدو بلا نهاية، المفاتيح التي تدور في الأقفال
الضخمة، تفتح بابا وراء باب، قبل أن تدلف الكاميرا حيث يحتجز السجين داخل
زنزانة ضيقة، لا ينفذ إليها الضوء، ويوجد بها فراش بدائي مغلق بسلاسل لا
يمكن للسجين أن يتمدد فوقه إلا لو فتح الحراس قفل مغلق، والحراس يراقبون
السجين دزال الوقت من خلال كوة في الجدار.
كلها تفاصيل مصورة بدقة مع التحكم في الزمن، واختيار دقيق
للزوايا “الطبيعية” للرؤية التي لا تحرف أنظارنا بعيدا عن التركيز على
محتوى الصورة، أو تأخذنا بعيدا عما يريد لنا المخرج أن نراه ونستوعبه. ليس
هناك حوار كثير في الفيلم فالحوار مقتصد، والكلمات بقدر ما هي قليلة بدر ما
تعبر عن الحالة النفسية السائدة والمزاج العام الذي يجعل الجميع كائنات
خائفة، قلقة، غير واثقة من مصائرها. وحتى الضحكات التي تتردد في موقن واحد،
في مكتب مدير السجن، تحاول ستر الشعور بالخوف؟
في البداية يدفع الحراس المتجهمون سجينا مسنا داخل زنزانة
نرى فيها موقدا بدائيا، ويمنونه عود ثقاب واحد بعد أن يضعوا أمامه كيسا
ضخما يفرغ ما فيه وهو عبارة عن كومة كبيرة من الرسائل، ومن دون أي حوار،
نفهم أن المطلوب منه حرق هذه الرسائل، ثم يبدأ في استخراج واحدة وراء أخرى،
تمر الكاميرا فوق أسطرها لنرى أنها رسائل كتبها المعتقلون، موجهة إلى
“الرفيق العزيز ستالين”، تشكو فيه ظروف اعتقالهم، والظلم الواقع عليهم
والاعترافات التي انتزعت تحت التعذيب. إلا أن السجين يحتفظ برسالة واحدة
مكتوبة على ورق مقوى، سنعرف فيما بعد أنها كتبت بالدم، وأن المعتقل السياسي
العجوز ستبيناك هو كاتبها، بعد أن جرح معصمه واستخدم دمه بديلا عن الحبر،
وسوف تصل بطريقة ما لا يفصح عنها الفيلم، إلى مكتب المدعي العام المحلي.
ما يحدث هو أن المدعي العام في المنطقة، وهو الشاب
“كورنييف” حديث التخرج وهو عضو مخلص في الحزب الشيوعي، المؤمن إيمانا راسخا
في سلطة العدالة السوفيتية، سيتوجه بعد استلام الرسالة، إلى السجن لكي
يقابل ستبنياك ليستمع منه إلى تفاصيل محنته.
مرة أخرى، أبواب موصدة تفتح، وهمهمات مكتومة من جانب الحراس
الذين يبدو عليهم فقدان اليقين بأي شيء، فهم مجرد أدوات مسلوبة الإرادة،
تخضع للتسلسل المرهق والخضوع الذليل. أما رجل القانون الشاب الهاديء
“كورنييف” الذي لا يتكلم كثيرا، فهو يبدو مدفوعا بالمثاليات التي تعلمها
ولقن إياها في الجامعة، عن القانون السوفيتي، والعدالة السوفيتية، وضرورة
التحقق من أي تهمة قبل توجيهها.
يقود الحراس كورنييف أولا إلى مكتب نائب مدير السجن، الذي
يخبره أن مدير السجن مشغول وربما لن يتاح له أن يقابله لكن كورنييف لا
يمانع من الانتظار ولو حتى نهاية يوم العمل. يذهب الضابط الجاف الى مكتب
رئيسه ويخبره بإصرار المحقق الشاب على مقابلته، يقول فلينتظر إذن، على أمل
أن يرهقه الانتظار فيرحل. ويردد نكتة ذات مغزى، من الواضح أنها أعجبته
كثيرا!
تقول النكتة أن الرفيق “فلان” (يذكر اسما لمسؤول كبير)
عندما سئل عن الفرق بين بين تجربة الاعتقال في زمن القيصر، والآن، قال إنه
في الماضي كان المرء يعرف أنه “ينتظر السجن”، أما الآن فهو يعرف أن “السجن
ينتظره”، ثم ينفجر الاثنان في الضحك. وتبدو النكتة كما لو كانت تعليقا
ساخرا على ما يمكن أن يكون في انتظار “كورنييف” الساذج الذي لا يبدو مدركا
تماما لطبيعة النظام.
المواجهة بين مدير السجن وكورنييف تكشف الفرق بين “المحامي”
المثالي الذي يؤمن بالعدالة السوفيتية، والضابط الضليع بما يجري في الواقع،
الذي يدرك جيدا أن من يدخل عنده لا يسهل أن يخرج. وهذه هي “العدالة” التي
تمارس مع من يسمونهم “أعداء الدولة”.
يحاول الرجل أن يخيف كورنييف ويجعله يتراجع عن القيام
بمهمته، فيخبره أن السجين مصاب بمرض معد، وأن السجن يعج بأمراض معدية
كثيرة.. لكن كورنييف لا يكترث، فهو يدرك أنها مجرد حيلة للتهرب من تنفيذ
أمر “الجهة القضائية”. لكن فكرة المرض المعدي مع تكرار الإشارة إليها
بطريقة ذات مغزى حتى بعدما يوافق مدير السجن على السماح لكورنييف بمقابلة
السجين، نوعا من “التحذير” مما يمكن أن يحدث لكورنييف نفسه.
يستمع كورنييف إلى ستبنياك الذي يصر على ضرورة خروج الحارس
من الزنزانة وإغلاق كوة المراقبة، ثم يروي له تفاصيل ما تعرض له من تعذيب،
رغم أنه من أساتذة القانون المرموقين، ولا شائبة تشوب علاقته بالحزب، وكيف
أنه يعتقد أن ستالين لا يعرف ما يجري داخل جهاز أمن الدولة، وأن هناك تنظيم
من ضباط الجيل الأحدث، يريدون التخلص من “جيل الثورة”، ويلفقون لعناصره
التهم الزائفة، من أجل إحكام قبضتهم على السلطة. وهو يكشف لكورنييف آثار
التعذيب الرهيب الذي تعرض له كما تبدو على جسده.
هذا المشهد رغم طوله الزمني، يرتفع بالفيلم إلى ذروة
التأثير، أساسا بسبب الأداء المذهل المعبر للممثل الكبير “ألكسندر
فيلبينكو” (81 سنة) وهو ممثل روسي معروف انشق على نظام الرئيس بوتين واتخذ
موقفا مناهضا للحرب في أوكرانيا وغادر روسيا حيث يقيم حاليا في ليتوانيا.
إنه يعبر بصوت متهدج وبحركة جسده النحيل، ووجهه المتغضن الشاحب، عن العذاب
الجهنمي الذي يمكن أن يمارسه الإنسان على أخيه الإنسان، خصوصا عندما يقبض
بيده على حفرة غائرة في جانب بطنه ويقول إنهم انتزعوا كليته.
بعد هذا اللقاء يستقل كورنييف القطار إلى موسكو معتزما
تقديم تقريره إلى النائب العام للدولة، وهذا هو النائب الثاني الذي يشير
إليه عنوان الفيلم. وفي القطار يقابل رجلا متقدما في السن، من الجيل الذي
شارك في الثورة البلشفية (يقوم بالدور نفس الممثل، “ألكسندر فيلبينكو”
العظيم)، ولكنه أصبح كما مهملا أيضا، وناله سوء المعاملة والإقصاء.
مبنى المدعي العام في موسكو، هو مبنى ضخم ذو أعمدة وبوابة
عريضة، يشبه كثيرا العمارة التي تميزت بها تصميمات مهندس هتلر الأثير،
ألبرت شبير، ويضطر كورنييف إلى صعود سلالم مرتفعة كثيرا إلى حيث يوجد مكتب
المدعي العام في الطابق الأعلى، لكن سكرتير النائب العام يحاول أن يثنيه
عما يعتزمه بدعوى أنه لم يتحدد له موعد مسبق. ومع إصرار كورنييف على أنه
الأمر عاجل ومهم ولابد من وصوله إلى الرفيق ستالين شخصيا، يجلسونه في قاعة
انتظار طول اليوم إلى أن ينتهي الرجل من مقابلة كل أصحاب الشكاوى التقليدية
الذين يدخلون ويخرجون، يوجهون الشكر وينحنون.. وذلك قبل أن يستدعى كورنييف
ويدلف وتدخل معه الكاميرا لأول مرة إلى مكتب النائب العام.
اللقاء بين الرجلين، لا ينبيء عن الكثير. كورنييف يحاول بكل
قوة وحماسة أن يثبت للرجل أن ما يجري وما يكشفه أمامه يشكل خطرا على
الماركسية وعلى النظام السوفيتي، وأن هدفه هو حماية النظام من مؤامرة
داخلية يقودها بعض العناصر في جهاز أمن الدولة. لكن الطرف الآخر، لا يفصح
قط عن رأيه أو موقفه. إنه يسأله أولا لماذا لم يلجأ إلى رئيسه في المحافظة
التي أتى منها، ثم يخبره بأن سلطته القضائية لا تشمل التحقيق مع ضباط أمن
الدولة، ثم يعده بتحري الأمر، ويدعوه للعودة الآن على حيث جاء، ويأمر بمنحه
تذكرة قطار على نفقة الدولة.
في القطار، يجد نفسه في كابينة من الواضح أنها مختارة سلفا،
مع رجلين يزعمان أنهما من المهندسين الذين يشرفون على إصلاح ما أفسد أثناء
تنفيذ أحد المصانع الكبرى، ولكن أحدهما بوجه خاص، يوجه إليه الكثير من
الأسئلة، أما الآخر فيغريه بتناول الشراب معهما، ويغدق عليه بكرم من
الفودكا، وبعد أن كان في البداية مترددا، يقبل كورنييف ليشاركهما الشراب
والاستمتاع بالغناء ولكن مصيره يكون قد حسم.
هذا ليس فيلما عما يقال، بل عما لا يقال، ما لا نسمعه، فنحن
نرى كيف يستقبل بطلنا الشاب ما يحدث في صمت ورهبة، لا نعرف ما يدور خلف
الأبواب المغلقة، ولا خلف الوجوه المبتسمة أو الجامدة. إننا أمام صورة
سينمائية للآلة البيروقراطية التي تحكم السجون والقضاء في الزمن الستاليني،
حيث كل شخص يخشى غيره، لا أحد يصرح بمكنون نفسه، فالقهر العام هو جوهر
النظام نفسه.
أعود وأستدرك أن “الرسالة” السياسية هنا هي الأهم في هذا
الفيلم، فمن منا لا يعرف كيف كانت تدار الأمور في روسيا السوفيتية، بل يكمن
سحر هذا الفيلم البديع، في الصورة، في التصميم الدقيق لكل كادر من كادراته،
في التركيز على النظرات المتبادلة، ما يحدث في أحد أركان الكادر، كيف يسقط
معتقل واهن الجسد من الإرهاق تخت وطأة ما يرغم المعتقلون على القيام به من
أشغال شاقة، ليتم التخلص من جثته بسرعة.. أو تلك المصادفة المصنوعة التي
تجعل شابا يقول إنه محام، يوقف كورنييف وهو يصعد سلم مقر المدعي العام
ويزعم أنه كان زميله في الجامعة وأنهما كانا أصدقاء، يمازحه ثم يحاول أن
يعرف منه سبب حضوره.. كما
لوزنيتسا يبدو هنا، وقد هضم تماما واستفاد من تجربته
التسجيلية، في تصوير التفاصيل الدقيقة خصوصا داخل مكتب النائب العام،
وكيفية استخدام الأحجام المختلفة للقطات: العامة والعامة المتوسطة
والمتوسطة، لتجسيد العلاقة بين الشخصية والمكان، ورصد الملامح مع التقليل
من الانفعالات، ثم إبراز الديكورات في تصميماتها المدهشة الدقيقة،
والاهتمام كثيرا بالتكوين وزوايا التصوير، وإهمال استخدام اللقطات المنعكسة
المتبادلة، مع بقاء اللقطة الثابتة لمدة زمنية طويلة نسبيا، لإتاحة مسافة
ذهنية للمشاهد للتفكير.
إن الدراما في هذا الفيلم، تنبع من الصمت، من البرودة، من
الجدران التي تنصت وتسجل، من النظرات المحدقة في صمت، ومن إدراكنا بالمصير
المحتم للبطل- المضاد للبطل، وهو “المتماثل” مع النظام، وكيف سيصبح ضحية
للنظام. |