ملفات خاصة

 
 
 

قراءة في أبرز عروض "كان 2025" العالمية والعربية

غاب الفيلم النجم وحضرت السينما بتشعباتها واتجاهاتها

فراس الماضي

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

انتهى مهرجان كان السينمائي 2025 الذي أقيم بين 13 و24 مايو/ أيار دون أن يرسخ "فيلم اللحظة" أو الفيلم الذي يشكل محل إجماع. لكن هذه الدورة في المقابل قدمت مشهدا أثرى وأعقد من أن يختزل بفيلم واحد. دورة بدت فيها الأسئلة أكبر، والقلق أعمق، والاختلاف جوهرا. فلا يتعلق الأمر بضعف الأفلام أو قوتها، بقدر ما تأبى التجمع حول نغمة واحدة أو رؤية مشتركة، كل منها يعكس هما سينمائيا مختلفا، وذلك في لحظة عالمية تتسم بالهشاشة والانقسام.

هكذا، تفرقت الأفلام في هذه الدورة في دروب شتى، فلجأ بعضها إلى التخييل المطلق كملاذ فني، كما في "قيمة عاطفية" عند النروجي واكيم ترير، وبعضها أعاد تدوير الذاكرة السينمائية كمنجم للدهشة، كما في فيلم "الجنازة" للصيني بي غان، وأخرى نزلت إلى أرض الواقع لتشتبك مباشرة مع أسئلته المتفجرة، كما في فيلم "مجرد حادث" للإيراني جعفر بناهي، وبين هذه التوجهات ظهر خيط خفي يجمع كل شيء عند الرغبة في البحث عما بقي لنا لنقوله، وفي الأخص كيف يمكننا قوله.

ليست دورة الاكتشاف الكبير ولا دورة المخرج الواحد الذي يسحب الضوء إليه، لكنها في المقابل دورة التفاوت البناء الذي يجعل من المفارقات قوة، ومن التعدد ضرورة، ومن صمت بعض الأفلام رديفا لحدة غيرها.

"مجرد حادث" والعدالة المرتبكة

في هذا السياق المفتوح على احتمالات عدة، جاء تتويج المخرج الإيراني جعفر بناهي بالسعفة الذهبية عن فيلمه "مجرد حادث" تتويجا لمسار سينمائي متين ومليء بالمنعطفات الفنية والسياسية، ينضم بفوزه هذا إلى نخبة نادرة من المخرجين الذين حصدوا الثلاثية الذهبية لأكبر مهرجانات السينما: سعفة كان، دب برلين، وأسد البندقية، إلى جانب أسماء مثل هنري جورج كلوزو، ومايكل انجلو أنطونيوني وروبرت ألتمان.

لا يمكن قراءة فيلم جعفر بناهي هذا كحدث سينمائي معزول، بل علينا تناوله داخل السيرة السينمائية والوجودية لمخرجه. فمنذ سنواته الأولى، كانت أفلام بناهي مرايا مشروخة لمجتمع إيراني تعتصره التناقضات، و"مجرد حادث" يجر المتلقي إلى قلبها، أو فلنقل إلى النقطة التي ينكسر فيها الانعكاس ويصبح سؤالا أخلاقيا أكثر من كونه صورة.

يشتغل بناهي على تفكيك المسلمات السينمائية، فالضحية ليست شفافة ولا طاهرة بقدر ما هي مثقلة بالغضب والتردد

ينطلق الفيلم من لحظة شديدة البساطة، رجل في طريق عودته الى عائلته في ليل طهران. نكتشف لاحقا أنه كان جلادا في أحد المعتقلات، مما يضعه في مواجهة مع أحد ضحاياه السابقين، صاحب بطولة الفيلم. ومن هذه النقطة تبدأ رحلة سردية معكوسة، فلا أحد متيقن من شيء، والعدالة لا تبنى على وضوح الحدث بقدر غموض الذاكرة.

من هنا، ينقلب الفيلم، فالجلاد يظهر بوجه أب حنون، والضحية يتحول إلى مطارد لا يملك سوى ذاكرته وألمه. بين الشك واليقين، يخلق بناهي دراما نفسية لا تبحث عن الذروة بقدر عمق التردد. فكلما اقتربنا من الحقيقة، بدت أكثر غموضا، وكلما حاولت الشخصيات نيل العدالة، انكشف حجم هشاشتها الإنسانية.

يشتغل بناهي في هذا العمل على تفكيك المسلمات السينمائية، فالضحية ليست شفافة ولا طاهرة بقدر ما هي مثقلة بالغضب والتردد، والجلاد لا يأتي بصورة الشيطان الكاريكاتوري بل كأب منهك لا يبدو مدركا حجم ما فعله. وفي هذا السياق لا تستخدم السينما أداة كشف أو مواجهة بل تمارس شكها الخاص.

هكذا يتحول "مجرد حادث" إلى تجربة قاتمة وضرورية، لأنها تدفعك لتعيش داخل منطقة رمادية ممتدة، حيث لا يكفي أن تتذكر لتنتصر، ولا أن تتهم لتدان. أي إلى سينما ما بعد الإدانة، وما بعد الأخلاق الجاهزة، لا تعبر عما نعرفه بل عما لا نملك لغته بعد.

"العميل السري" وتفكيك الخوف

وإذ غاص بناهي في ضباب العدالة والانكسار الفردي، فإن البرازيلي كليبر مندونسا ذهب خطوة أبعد، نحو تفكيك الخوف السياسي من الداخل، دون أن يصرح بشيء، بل يترك كل شيء معلقا في الهواء.

وقد نال مندونسا عن هذا الفيلم الرائع بعنوان "العميل السري"، جائزتي أفضل إخراج وأفضل ممثل في مهرجان كان 2025، في تتويج مستحق لفيلم يتعامل مع الحالة السياسية كجهاز عصبي متوتر يعيش داخل الجسد. فهو فيلم لا يقدم مؤامرة بقدر ما يجعل المتفرج يحيا داخل بنية المؤامرة، حيث كل شيء مألوف حد الغرابة، وكل لحظة هادئة تخفي قلقا عميقا لا يمكن تفسيره.

يتتبع الفيلم شخصية مارسيلو، الذي يؤديه واغنر مورا بأداء بالغ الدقة. رجل عادي يجد نفسه فجأة في مركز شبكة من المؤامرات، والأصوات المسجلة، والمصادفات المقلقة، لكن مندونسا لا يعامل هذا الاكتشاف كتطور درامي محض، بل كاختلال في الحس البصري والزمني للشخصية، فلا شيء يحدث في الخارج بقدر ما يتآكل من الداخل.

يقدم مندونسا فيلما لا يحمل وضوح المراقبة المباشرة بل يرسم خريطة شعورية للعيش داخل الحالة البرازيلية في السبعينات

فما يجعل "العميل السري" فيلما استثنائيا، هو أنه فيلم "ثريلر" سياسي يسعى إلى تفكيك النوع نفسه، بلغة بصرية لا تقلق من البطء أو التكرار، بل تستثمر فيهما، حيث يستدعي مندونسا جماليات سينما السبعينات، عند العدسة المزدوجة التي تفصل بين مجالين داخل اللقطة الواحدة، لتوليد التوتر بدل شرحه، واللقطات الطويلة التي لا تقود إلى ذروة بل إلى تضخيم الشعور بالمراقبة والانكشاف. هذه الوسائط هي أدوات موجودة لفهم المسافة بين المرئي والمخفي، وخصوصا بين ما نراه وما لا يحكى.

كما أن المكان نفسه يصبح حليفا لهذا القلق: شقق ضيقة، وشوارع خاوية، ومكاتب مغلقة، وكلها أماكن تشبه الحياة اليومية لكنها مشبعة بإشارات يصعب فكها نفسيا. في هذا الإطار، تتحول مدينة ريسيفي إلى شخصية غير ناطقة، كمدينة تخزن في جدرانها بقايا المراقبة، وآثار الأنظمة، وظلال الخوف المعمم.

البطولة هنا نجاة هشة من المعرفة، فكلما اقترب مارسيلو من "الفهم" ابتعد عن الحياة. وكلما تجمعت المعلومات، تلاشت الحدود بين الواقع والهاجس. ومن هنا يقدم مندونسا فيلما لا يحمل وضوح المراقبة المباشرة بل يرسم خريطة شعورية للعيش داخل الحالة البرازيلية في السبعينات التي تراقبك وتراك دون أن تعرف السبب.

"قيمة عاطفية" وترويض التوتر

جاء تتويج "قيمة عاطفية" بالجائزة الكبرى لمهرجان "كان" تقديرا لفيلم يبدو للوهلة الأولى مشبعا بالعاطفة، لكن عند تأمل آفاقه ومساحاته، يظهر لنا الفيلم حدوده كعمل مشغول بعناية تخفي ما هو حاد وتنعم ما كان يجب أن يبقى خشنا. فالمخرج يواكيم ترير الذي طالما اشتغل على المفارقات الحميمة وندوبها في فيلميه "أسوأ شخص في العالم" (2021) و"أوسلو 31 أغسطس" (2011)،  يقدم هنا حكاية عن أب يعود إلى حياة ابنتيه لتصوير فيلم عن طفولتهما، بعد وفاة الأم...  ليس باعتباره اعتذارا بقدر ما هو إعادة تمثيل، أو بالأصح محاولة للسيطرة من جديد، وهذه المرة بالكاميرا.

ومع أن الموضوع غني بإمكاناته، إلا أن ترير يتعامل معه بمنطق شديد الانضباط من خلال لقطات أنيقة. الإيقاع مدروس، وحتى المشاهد المتوترة فيه لا تنفجر، بل تروض وتعاد هندستها، وهذا ما يجعل النصف الأول من الفيلم باردا على نحو يصعب علينا الاتصال مع مشاعره، فالحزن فيه يبدو محسوبا، والعلاقات مرتبة، والمواجهات مؤجلة أو مفرغة من شراستها. وبدل أن تكشف السينما هنا عمق الجرح، تعيد تأطيره بنعومة.

"قيمة عاطفية" هو من نوع الأفلام الجيدة الخجولة، التي تريد أن تكون مؤثرة دون أن تغامر بما يكفي لتلامس الحقيقة

وقد لا تبدو هذه الملاحظة سلبية في ذاتها، لولا أن الموضوع نفسه يتطلب قسوة وتناقضا واحتكاكا. وهنا تحديدا يحضرني اسم المخرج أوليفييه أساياس للمقارنة، لا بسبب التشابه في الموضوع فحسب (السينما-العائلة)، كما في أفلام عديدة له، بل لأن أساياس يذهب دائما إلى البنية المفتوحة وإلى التيه الشعوري غير المتصالح، بينما يختار ترير هنا الطريق الأكثر انتظاما، حيث يسير بالدراما وكأنها سكة حديد تقود إلى اللحظات المغلقة بدلا من خلق لحظات للتساؤل والمشاكسة.

ومع ذلك لا يمكن إنكار أن الفيلم في ربعه الأخير، تحرر جزئيا من تلك الضوابط. ثمة مشاهد تلامس الصدق، تتسلل إلى المتفرج على نحو غير مباشر، وربما هذا ما جعله يربح الجائزة الكبرى، فهو في باطنه فيلم يبحث عن شعور ما لم يجد شجاعته الكاملة لاحتضانه، تتدفق فيه العاطفة ببطء وتترك القديمة تتآكل بهدوء دون أن تنكأ جراحا جديدة.

"قيمة عاطفية" هو من نوع الأفلام الجيدة الخجولة، التي تريد أن تكون مؤثرة دون أن تغامر بما يكفي لتلامس الحقيقة. ولعل هذا ما يجعله فيلما لا يخطئ، لكنه لا يفاجئ، يبني على سطح آمن دون أن يجرؤ على الغوص في العمق المظلم لأفكاره وموضوعاته.

"القيامة" والزمن الحسي

وبينما انتهجت أفلام عدة الحفر في صمت الشخصيات أو هشاشة الذكرى أو ارتباك العدالة، جاء "القيامة" للمخرج الصيني بي غان - الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة - ليعلن تمرده الصافي، ككائن سينمائي وافد من عالم آخر. ففيلمه لا يقاس بمعايير الحبكة أو البناء، بل بالانسياب وبالغموض وبالزمن حين يصبح مادة حسية تتجسد على الشاشة. فما يبحث عنه بي غان هنا هو الانغماس، والصورة التي تشعر ولا تشرح، والخيال بوصفه الملاذ الأخير من واقعية اختنقت من فرط محاولات الفهم.

ينقسم الفيلم خمسة فصول طويلة تتنقل بين حقب سينمائية مختلفة، من السينما الصامتة إلى "الفيلم نوار"، ومن البوذية الآسيوية إلى الديستوبيا المستقبلية، حيث يعيد بي غان ابتكار تاريخ السينما لا بوصفه سرديا خطيا، بل مجموعة من الأحلام المتداخلة، يتنقل البطل فيها بين حيوات متعددة كجسد هش ترك لحمل عبء الحلم في عالم لم يعد يحلم.

فكل فصل في الفيلم يشكل تجربة بصرية مكتفية بذاتها، وفي الوقت ذاته تنزف إلى ما يليها. فليس هناك وحدة سردية متماسكة بقدر خلق وحدة شعورية مكثفة، والحركة هنا مبنية على التلاشي، وعلى ذوبان الزمان داخل المكان، فالكاميرا تتوه وتطفو، واللون يشوش الإدراك، تماما كما في المشهد ذي الفلتر الأحمر الذي يستدعي صدى سينما وونغ كار واي في "الملاك الساقط" (1995) وهاو شو شين في تحفته "ميلينوم مامبو" (2001).

عمل لا يمكن تلقيه بالعقل بل بالحدس، فهو فيلم لا يفسر، واضعا المتفرج أمام احتمال أن تعيش السينما كحدث كوني مكثف

وفي قلب الجزء الأخير من الفيلم، هناك مشهد طويل يمتد لأكثر من 40 دقيقة دون قطع، كما يفعل بي غان في أفلامه عادة، يلامس فيه حدود السينما المعاصرة كاختبار للزمن الحي، وفي هذا المشهد تحديدا – الذي يأخذنا من ناد ليلي إلى نهر متوهج، من صخب بشري إلى وحدة كونية، لا يعود الفيلم عن زمن معين بل عن لحظة سينمائية لا تنتمي الى زمن.

ففيلم "القيامة" هو عمل لا يمكن تلقيه بالعقل بل بالحدس. إنه فيلم لا يفسر، واضعا المتفرج أمام احتمال أن تعيش السينما كحدث كوني مكثف يتكرر في عتمة الصالة دون أن يطلب منك إلا أن تبقى بعينيك مفتوحتين.

"روميريا" والرهان على البساطة

وسط العروض التي ازدحمت بالتجريب والتوترات السياسية والتعقيدات، بدا الفيلم الإسباني "روميريا" مختلفا، لا لأنه شديد الخصوصية فقط، بل لأنه يعرف تماما أين يقف، وماذا يريد، ويراهن على البساطة كاختيار جمالي مدروس.

كلارا سيمون، التي أثبتت حسها الإنساني العالي في فيلمها "ألكاراز" (2022) والفائز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي حينها، تعود بفيلم يبدو على السطح متقشفا، لفتاة تبحث عن جذورها في بلدة والدها، وعائلة لا تعرفها، وبين لقاءات صامتة أكثر مما هي صريحة. لكن خلف هذا الهدوء، يتحرك شيء عميق، أو فلنقل إحساس متصاعد بأن ثمة مسافة بين الإنسان وتاريخه، بين ما تمنحه الذاكرة، وما تبقيه خارجها عمدا أو سهوا.

وكعادتها، لا تكتب سيمون سيناريوهات ذات منحنيات سردية واضحة، بقدر ما تترك الحياة تمر أمام الكاميرا كما هي. أناس عاديون، ومنازل قديمة، ولحظات صمت طويلة بين العبارات، وإيقاع لا يقفز، بل يتريث ليصغي. وفي هذا التريث الصادق، يكمن جوهر جمال العمل. فالفيلم لا يتوسل العاطفة، وسيمون كلارا لا تفرض الحزن، بل تتركه يطفو على السطح ببطء، كل مشهد محكوم بإيقاع متأن، وكل كادر يبنى كأنه لحظة تأمل، مساحة لشعور خافت يتكثف مع الوقت.

فيلم لا يريد أن يغير شيئا، بل فقط أن ينصت الى هذه الفتاة وهي تحاول أن تلمس ظل ماض لم تمنح فرصة عيشه

من بين أفلام المسابقة، قد لا يعد "روميريا" إنجازا بمعايير الابتكار أو التحدي الشكلي، لكنه بالتأكيد أحد أكثر الأعمال انسجاما مع نفسه. فهو لا يحاول أن يكون أكثر مما هو عليه، ولا يختبئ خلف الجماليات. وربما في ذلك تكمن خصوصيته وصدقه، أي أنه فيلم لا يريد أن يغير شيئا، بل فقط أن ينصت الى هذه الفتاة وهي تحاول أن تلمس ظل ماض لم تمنح فرصة عيشه.

السينما العربية

في دورة غابت عنها الأسماء العربية الكبرى التي كان من المتوقع وصولها، مثل التونسية كوثر بن هنية والمغربية مريام توزاني والفلسطينية آن ماري جاسر والسعودية هيفاء المنصور والمصري أبو بكر شوقي، لم يكن الحضور العربي في "كان 2025" صاخبا ولا متشعبا، بل تمثل في أفلام قليلة ومحسوبة جاءت غالبيتها من الهامش متحدثة بلغات سينمائية مختلفة، تلتقي عند حساسية عالية تجاه الفرد والهوية.

"كعكة الرئيس" الذي يعرف ما يريد

جاء في مقدمة هذه الأعمال وأفضلها فيلم "كعكة الرئيس" أو "مملكة القصب" للمخرج العراقي حسن هادي، الذي نال جائزة الكاميرا الذهبية لأفضل فيلم أول في المهرجان، في تكريم استحقه عن جدارة لا بوصفه فيلما مثاليا، بقدر ما يتقن ما أراد أن ينجزه بوضوح.

يتخذ "كعكة الرئيس" موقعه في مكان حساس، بين الجو السياسي العام وحكاية بسيطة لطفلة في بيئة قمعية، تظهر لنا توليفة بين البراءة والسياق العام، عبر سرد كلاسيكي بسيط ورؤية مشبعة بالوعي الاجتماعي العميق.

تدور القصة في جنوب العراق في أوائل تسعينات القرن الماضي، حيث تكلف طفلة إعداد كعكة لطلاب المدرسة وذلك لمناسبة عيد ميلاد الرئيس الأسبق صدام حسين. تبدو المهمة للوهلة الأولى شكلية وحتى بريئة، لكن الفيلم يحفر بهدوء في ما تعنيه هذه "المهمة" داخل بنية اجتماعية كهذه، حيث السلطة التي تسكن في جميع التفاصيل.

رحلة الطفلة لميعة عبر المدينة هي حركة مقننة داخل المناخ الاجتماعي والسياسي، وعبر أداء طبيعي وعفوي جدا للممثلة بنين نايف، تكون فيه عمادا رئيسا لروعة الفيلم، لوجود حقيقي أكثر من كونه تمثيلا، الا أنه لا يخفى بأن أسلوب الفيلم يذكرنا كثيرا بأعمال الموجة الإيرانية في التسعينات عند مخمالباف وبناهي وغيرهما، سواء من حيث البنية الكلاسيكية، أو استخدام الطفولة كنقطة دخول لحكاية أكبر من وعي الشخصية نفسها.

لكن ما يجعل الفيلم ناجحا هو اختياره عدم المبالغة، كل شيء فيه موزون بدقة، من التمثيل الطبيعي إلى حركة الكاميرا التي لا تسعى إلى تحقيق صدمة الإثارة، وهذا ما يجعله من أصدق ما قدم هذا العام من حيث البنية والاتساق الداخلي. فيلم يعرف ما يريد، ويصل إلى عمق لا تصل إليه أعمال أكبر حجما. ولذا فإن فوزه بالكاميرا الذهبية اعتراف بقيام مخرج واعد على الساحة العربية والعالمية.

"سماء بلا أرض" وإيماءات الحياة اليومية

تعود التونسية أريج السحيري في "سماء بلا أرض" لتخوض غمار السينما الروائية/الوثائقية من زاوية مغايرة. فبعد "تحت الشجرة" الذي نسجت فيه بعذوبة شعرية علاقات إنسانية داخل فضاء ريفي مغلق، تنتقل هنا إلى العاصمة التونسية، إلى فضاء حضري أكثر توترا، لكنه حافل بحواف الهامش.

لم يكن الحضور العربي في "كان 2025" صاخبا ولا متشعبا، بل تمثل في أفلام قليلة ومحسوبة جاءت غالبيتها من الهامش متحدثة بلغات سينمائية مختلفة

نلتقي ثلاث مهاجرات من أفريقيا جنوب الصحراء بلا إقامة، يتقاسمن سقفا هشا ومخاوف تتجاوز حدود الغرفة. الأولى قسيسة تسعى لإحياء إيمانها في أرض جديدة، الثانية منغمسة في تهريب غامض لاستعادة ابنتها، والثالثة طالبة هندسة هي الوحيدة التي تملك أوراقا نظامية. وبينهن، تظهر طفلة مجهولة الهوية ناجية من الغرق.

لا تسعى السحيري إلى صناعة ميلودراما سياسية، بقدر ما تراهن على إيماءات الحياة اليومية، حيث تصغي الكاميرا أكثر مما تنطق، تتنقل بخفة دون إصدار أحكام. بهذا التوازن بين حسها الوثائقي الدقيق وبنيان درامي لا يتوسل التأثير، تصنع فيلما إنسانيا بامتياز، دون أن يسقط في فخ العاطفية السهلة.

"عائشة لا تستطيع الطيران" والكابوسية الواقعية

في عائشة لا تستطيع الطيران، يقدم المصري مراد مصطفى تجربة قلقة وجريئة، تسير على حدود قابلة للانهيار وخصوصا بين الحالة الرمزية والواقعية الاجتماعية، بين صمت الشخصية وصخب العالم من حولها.

بطلتنا هنا هي عائشة، التي تؤديها بوليانا سيمون بحضور جسدي خالص، لا تتكلم كثيرا، ولا تشرح شيئا. امرأة لا تملك سوى جسدها ووجهها، وما يرتسم عليه من بقايا الصدمة، والارتياب البارد. وسط واقعية قاسية تتكرر تفاصيلها، وتتسلل الرمزية إلى الجسد، وهذا عند الجلد المصاب بلا سبب، أو الدم الذي يفيض دون مقدمات.

مراد مصطفى يقترب من أسلوب كابوسي يجاور الواقعي في البنية، الإضاءة هنا قاسية، والمشهد مفرغ من الزينة، والواقع يبدو كابوسيا لأنه حقيقي إلى درجة لا تطاق. إلا أن إحدى نقاط قوة الفيلم أنه لا يمنح المشاهد لحظة خلاص أو انتصار سهل، وفي المقابل لا يقدم له أيضا منحنى شعوريا متناميا. كل شيء يبدو محاصرا (الشخصيات، والأماكن، وحتى المشاعر)  مما يترك المتلقي في حالة من المشاهدة المتأملة أكثر من التورط العاطفي.

 

مجلة المجلة السعودية في

27.05.2025

 
 
 
 
 

(عائشة لا تستطيع الطيران)!

طارق الشناوي

برغم سعادتى بإصرار المخرج مراد مصطفى على أن يتنفس فنيًا، ويعثر على معادلات إنتاجية تحقق له الحضور، إلا أننى لم أتحمس لفيلم (عائشة لا تستطيع الطيران) كتجربة فنية، فخور بالمخرج الشاب وهو يناضل من أجل أن يتواجد فيلمه على خريطة المهرجانات العالمية، رأيته واقفًا على خشبة مسرح (دى بوسيه)، مشيدًا بصناعة السينما فى (المحروسة)، تعلم الأبجديات من كواليسها، عشق المهنة بمشاركته كمساعد فى العديد من الأعمال المصرية. ما صنع حائلًا بينى والشريط السينمائى زيادة جرعة العنف الدموية بل والتقزز، تتجاوز المنطق الذى بنى عليه المخرج حلمه، لست ضد تقديم الفساد، المجتمع القوى، هو الذى لا يخشى إظهار سلبياته، (عائشة)، الفتاة السودانية المهاجرة للقاهرة، طارت إلى أقرب عاصمة لقلب أهلنا فى السودان، عاشت فى حى عشوائى، يملك مقدرات الناس فيه بلطجى، يحدد إتاوات على كل من يقطن فيه، إنه السيد المطاع، وتتناثر بين الحين والآخر المعارك، تستخدم أسلحة وذخيرة حية من الصعب حتى على الأجهزة الرسمية امتلاكها، يضع فى الشارع ما يمكن أن يتجسد فيه (كرسى العرش)، الذى يحكم ويتحكم من خلاله على رعاياه.

عائشة تعمل بالتمريض عن مكتب، زبائنه من الكبار الذين بحاجة لمن يساعدهم، الكل يستغل ضعفها وحاجتها.

أصيب جسدها ببثور تزداد شراسة، وعلى الجانب الآخر تزداد هى ضعفًا.

طارت مرة واحدة إلى القاهرة وبعدها فقدت جناحيها، ولا تستطيع العودة لوطنها، ولا الهجرة إلى أوروبا، ويبقى أمامها حل وحيد، أن تواصل الحياة، حتى لو كان هو طريق الموت.

رأيت مشاهد شديدة الوطأة، هامش من الخيال العنيف والدموى، وكأننا بصدد فيلم (رعب)، نرى الدنيا من خلال عيون عائشة، التى تتنفس فى كل لحظة الخوف.

الشخصيات السلبية تسيطر على الشاشة، أنا أرفض مبدأ التوازن الدرامى، أى أنك تزرع شخصيات بيضاء لتواجه السوداء، إلا أن الشريط يشعرنى بحالة انتقائية.

علينا أن نتعود على فتح الأبواب، لكل الأنماط، انتهى زمن (المحبس) العمومى، لم يعد من حق أحد الإمساك بـ(المحبس).

قال مراد مصطفى إنه متوجد هنا يقصد مهرجان (كان)، لأنه ابن للسينما المصرية، فى هذا التوقيت الذى تتناثر فيه الضربات الموجهة للسينما وللفن عمومًا، وكأنه هو المذنب رقم واحد، بينما المجرم الحقيقى هو المسؤول الذى تقاعس عن أداء واجبه، يصبح علينا الدفاع عن حق كل فنان أن يرى جمهور بلده مشروعه الفنى.

الإنتاج شارك فيه أكثر من جهة عربية وأجنبية، وهى قاعدة يجب أن نستوعبها، تعدد الجهات المانحة، يضع العمل الفنى رهن أكثر من توجه فكرى وسياسى، من يدفع لديه وجهة نظر فى الفكرة، وفى أسلوب السرد الدرامى والبصرى، على الجانب الآخر، تزداد قناعتى بأن المخرج يظل هو صاحب الرأى الأعلى فى الاختيار، فهو أيضًا يختار جهة الإنتاج بقدر ما تختاره.

يجب أن نسمح بهامش من الحرية فى الاختلاف، وفى تقبل النوع، ولا يعنى التقبل بالمناسبة هو الرضا.

مراد لديه حلمه السينمائى الخاص، وهو رصد الأقليات، فى العالم تتناثر قضايا وأفكار هنا وهناك تدفع المخرج لتقديم نوع، ترحب به المهرجانات، إلا أنه ينبغى أن ينطوى على رؤية عميقة داخل المبدع، المخرج جزء من الحياة ومن حقه اختيار (الكادر) الذى يحلو له فى الحياة!!.

 

المصري اليوم في

27.05.2025

 
 
 
 
 

كانّ 78 - الإنسانية المنزوعة والمُستعادة في "عائشة لا تستطيع الطيران"

هوفيك حبشيان - كانّ - "النهار"

قنبلة سينمائية فجّرها المخرج المصري مراد مصطفى في مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار) مع فيلمه "عائشة لا تستطيع الطيران"، الذي عُرض ضمن "نظرة ما"، ليشكّل واحدة من أكبر مفاجآت دورة كانت خالية من الخضّات الكبرى.

دخلتُ إلى الصالة في أحد العروض الاستعادية، خارج الإطار الرسمي للمهرجان، وأنا لا أحمل الكثير من التوقّعات. كان الاسم وحده في العنوان – "عائشة" – كفيلاً بأن يثير في داخلي توجّساً. فهذا الاسم، في المخيلة الغربية، بات رمزاً للنمطية والاستشراق، مذ صدح الشاب خالد بأغنيته الشهيرة. ثم انه، كثيراً ما اتُّهِم أمثال مصطفى بإعادة إنتاج هذا التصوّر النمطي. لكنه، في أولى تجاربه الروائية الطويلة، قرر أن يكسر القوالب ويقول شيئاً آخر — شيئاً جديداً، طازجاً، جريئاً، لا يعرف المساومة.

يفتتح الفيلم بمشهد لعاملة منزل سودانية في القاهرة تنفض الغبار. مشهد كثيف الدلالات. تلك هي عائشة (بوليانا سيمون)، التي ترافقنا منذ اللقطة الأولى حتى النهاية. تسير في الشارع بثبات الرصاصة، قليلة الكلام، ولا تفتح قلبها إلا حين تتواصل مع أهلها الذين تركتهم في قلب الحرب المستعرة في السودان. ابتسامتها شحيحة، وربما معدومة، ففي بيئة معادية لا تملك فيها أحداً، لا شيء يدعو الى تلك البسمة. في المشاهد الأولى، نراها تؤدّي أعمالها في منزل سيدة تعيش في مبنى متداعٍ يطل على ميدان التحرير. على مدار ساعتين، نتابع يوميات هذه السودانية الصامتة في قلب أحياء عين شمس وجوارها، امرأة لا تفعل بقدر ما تتلقّى، شاهدة على واقع يعصف بها من كلّ اتجاه، من دون أن تمتلك أدوات الرد أو حتى الرغبة في التفاعل.

تمر بنا تفاصيل يومياتها الثقيلة: من طوابير المؤسّسات الحكومية، إلى صدامها مع مسنّ تعيله لقاء أجر يوفّر لها بالكاد كفاف يومها. كلّ شيء يمرّ أمام كاميرا مراد مصطفى بلا مواربة: مواجهات بين عصابات مصرية وأفريقية، مخدرات، عنصرية دفينة، احتكاك مباشر مع أجهزة الأمن... كل ما لا تودّ السلطة المصرية رؤيته على الشاشة يضعه مصطفى في صلب مشاهده.

القهر الذي تعيشه عائشة لا اسم له ولا ملامح. لا نعرف إن كانت عاجزة عن الابتسام، أم أن المخرج قرر ألا يمنحها هذا الحق. لكن ما نعرفه يقيناً هو انه، ببصيرته السينمائية، اختار أن يُرينا الواقع المصري الراهن من خلال عيني غريبة، تقف خارجه تماماً، ما يولّد تلك المسافة الجمالية بين الراصد والمرصود، بين الناظر والمنظور، وهي المسافة التي تصنع سحر الفيلم مشهداً بعد مشهد.

نحن هنا حيال سينما تنتمي إلى التيار الناتورالي: لا مؤثّرات، لا ادعاءات بصرية. سرد صاف، يعتمد على ما يُرى. العِبَر تستخلص من الصورة، لا من الخطاب. لا وجود لكلمة واحدة يمكن أن تُحسب وعظاً أو شعاراً. الشخصيات كلها سلبية أو شبه سلبية، بل ترغب فقط بأن "تُترك وشأنها"

نتعقّب خطى عائشة لننغمس في عوالم المهاجرين، أولئك الذين يعيشون ككتل بشرية غير مرئية، في هوامش المدينة وخلف زجاجها المعتّم. الفيلم يمنحنا لمحة على هذا الوجود الغامض، من دون أن يسعى إلى تفسيره أو تبريره. الرجال في هذا العالم غالباً ما يظهرون رموزاً للسوء، بينما النساء يتأرجحن بين الضحية والجانية. لا أحد تقريباً ينجو من نظرة الفيلم السوداوية، وهي سوداوية لا يمكننا أن نلومه عليها، بل تكاد تكون مبرَّرة بالكامل في واقع لا يرحم.

ومع تقدّم الفيلم، تزداد عائشة حضوراً، ويضيق الخناق حول مصيرها. شخصيتها المنغلقة والمتحفّظة ترسم معالم السرد، وتحمل وحدها عبء الحكاية. حين تتكئ برأسها على زجاج الحافلة، تمنحنا مشهداً سينمائياً مكتمل العناصر. لقطة تُغني عن صفحات من السيناريو، تختصر آلاف الكلمات في صورة واحدة.

لكن، إلى أي مدى تُعدّ عائشة شخصية "حقيقية" من لحم ودم؟ وهل يُمكن، ببساطة، حذفها كما يُحذف ملف، بالضغط على زر، فيبقى الفيلم على حاله؟ يلقي المخرج عليها بكلّ شيء، وكأنه توقّف عن النظر بنفسه. صارت عينيه، أذنيه، إحساسه بالعالم.

لكن، مجدداً، إلى أي حد تُعتبر عائشة شخصية قائمة في ذاتها؟

قد يُقال، بنظرة سينيكية، إن المخرج لا يهتم بها إلا بقدر ما تتيح له دخول هذا العالم المخفي. وقد يبدو هذا اتهاماً فظاً، غير منصف. لأن ما يحدث فعلاً هو تفاعل خفي بين عائشة وما تراه، بينها وبين ما تعيشه. وفي النهاية، الرائي يصبح مرئياً فقط لأنه يرى.

تكمن براعة هذا النوع من السينما، المتخم بالواقعية مع ومضات فانتازيا، في انه يقول الكثير من دون ان يقول شيئاً، مكتفياً ببعض الإشارات. علينا ان نبذل جهداً كي نفهم ان الريش الذي ينبت من أسفل بطن عائشة دليل على ما تتعرض له من تجريد لإنسانيتها.

"عائشة…" فيلم بلا نوتة موسيقية، وهذا وحده تحدٍ لا يُستهان به في بناء الإيقاع السينمائي. فالموسيقى كثيراً ما تؤدّي وظيفة المكياج في السينما: تُغطّي العيوب. لكن هنا، يُصاغ الإيقاع من هدير المحركات، وزمجرة الشوارع، وزحام الأصوات اليومية في مدينة لا تنام. القاهرة، بكلّ فوضاها السمعية، تتحوّل إلى لحن حقيقي، تُسمع فتُرى، وتُرى فتُحَس.

صورياً، الفيلم يحمل واقعية جمالية مشبّعة بتأثيرات من سينمات مختلفة، لكنه يهضم هذه التأثيرات بذكاء، ويعيد إنتاجها من خلال كاميرا مخرج يعرف كيف يستعير من دون أن يفقد أصالته. كلّ لقطة محمّلة دقّة شاعرية، رغم خشونة البيئة وقسوة التفاصيل.

أعترف أني في الدقيقة الثمانين (نعم، أنظر إلى الساعة أحياناً خلال العرض)، تساءلتُ: إلى أين يحملنا الفيلم؟ ومع ذلك، يبقى الشعور بالتماسك حاضراً. كلّ مشهد يطرح سؤالاً مفتوحاً على ما سيليه. كلّ لحظة تحمل احتمالاتها الخاصة، من دون أن تفقد الخيط الدرامي أو التوتّر البصري

مراد مصطفى يجوز ضمّه إلى نادي السينمائيين "سوء الظنّيين"، أولئك الذين يفترضون الأسوأ من شخصياتهم، لكنهم لا يسلبونها إنسانيتها. شخصياته تبدو كما لو أنها "عايزة ومستغنية" في آنٍ واحد، أي محتاجة لكن رافضة أن تُظهر ذلك. وهذا هو جوهر عائشة: تفاوض على كلّ شيء، لكنها لا تساوم على كرامتها.

 

النهار اللبنانية في

27.05.2025

 
 
 
 
 

«امرأة وطفل»…

امرأة تواجه ظلم النظام الذكوري الإيراني

نسرين سيد أحمد

كان – «القدس العربي» : في فيلمه الجديد «امرأة وطفل»، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته الثامنة والسبعين، يعود المخرج الإيراني سعيد روستائي إلى الساحة السينمائية بقوة لافتة، مؤكدا قدرته على التقاط تفاصيل الألم الأنثوي، تحت وطأة مجتمع محافظ، دون الوقوع في فخ التكرار أو الابتذال.
لا يكتفي الفيلم بطرح قصة مؤثرة، بل يقدّم أداءً استثنائياً من بطلته باريناز إيزاديار، التي ترسم ببراعة رحلة مرور «مهناز» بضغوط الحياة اليومية إلى أعماق المأساة الشخصية، ثم محاولتها النهوض من جديد. منذ المشاهد الأولى، يرسم روستائي، مخرج «ليلى وأخواتها» الذي حظي باحتفاء نقدي واسع وعرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان أيضاً عام 2022، عالماً تختلط فيه المسؤوليات الاجتماعية بالأعباء العاطفية. تعمل مهناز ممرضة في مستشفى، وهي أم لطفلين، وتعيش في بيت والدتها بعد وفاة زوجها الأول. تحاول التوفيق بين دورها كأم، خصوصاً في التعامل مع ابنها المشاغب علييار، وعلاقتها العاطفية الجديدة مع المسعف حميد، الذي يخطط لطلب يدها شرط ألا يكون الأطفال في منزل والديها، في اليوم الذي تزور فيه عائلته أسرتها لطلب يدها.

هنا يبدأ الفيلم في تفكيك شبكة التنازلات التي تضطر المرأة الإيرانية إلى تقديمها في سبيل أن تحظى بقبول ورضا مجتمع محافظ لا يرحم، حيث تتحول الأمومة إلى عبء يجب إخفاؤه عن أسرة الخاطب الجديد، وتتحول العاطفة إلى ورقة تفاوض اجتماعي. وهنا يتوجب علينا التركيز على علييار، فهو ليس مجرد صبي مشاغب أو مراهق متمرد. هو صبي ذكي متفوق دراسيا، لكنه في الوقت ذاته يمارس التنمر، ويتزعم شبكة للمراهنات في مدرسته والمدرسة المجاورة، ويجيد تسلق الجدران والفرار من الصف والمدرسة، ويذيق مدرسيه الأمرين. يكاد علييار أيضا أن يتسبب في حادث تدافع في المدرسة، بعد أن عبث في القفل الذي يغلق بوابتها، ويعاقب إثر ذلك بالإيقاف عن حضور المدرسة لمدة أسبوع، ما يضاعف الضغوط على والدته.

شخصية علييار لا تُستخدم فقط لتوليد التوتر، بل أيضاً لتسليط الضوء على هشاشة النظام التربوي، وتناقضات الأسرة، وخوف الأم من المستقبل. إيزاديار، في تجسيدها لردود فعل مهناز تجاه سلوك ابنها، تكاد تقارب الانهيار العصبي، فتبكي وتصرخ وتنهار، لكن دائماً بطبقة جديدة من الإحساس، دون تكرار أو افتعال. ولكن علييار أيضا صبي محب لأمه وأخته وخالته وجدته، يتحمل الجميع طيشه وتهوره، وتحاول أمه دوما احتواءه. وتمضي الأيام ومهناز تحاول أن تكون أماً صالحة، وممرضة تمارس عملها بجدية، وحبيبة تحاول أن تحظى برضا حبيبها حتى يأتي لخطبتها. ولكن في منتصف الفيلم تتداعى الحياة التي رسمتها مهناز لنفسها، وتسقط من يديها الخيوط التي كانت تحافظ بها عن رضا المجتمع الذكوري عنها. تواجه مهناز مأساة مدوية، تجمع بين الفقد والخيانة، فتنهار كل محاولاتها لمسايرة الأعراف التي تحكم المجتمع الإيراني الذكوري المحافظ، الذي يعطي كل الحقوق للرجال بينما يضيق كل التضييق على المرأة. هنا، يبدأ التحول الدرامي الحقيقي في الفيلم، حيث تتغير نظرة مهناز لنفسها، وتعيد تقييم علاقاتها مع من حولها.

في النصف الثاني من الفيلم، يتركز السرد داخل بيت عائلي تسيطر عليه ثلاث نساء: مهناز، والدتها، وشقيقتها الصغرى، مهري. العلاقات بينهن تتراوح بين التواطؤ والصدام، لكنها مبنية كلها على إدراك ضمني، أن قواعد الحياة تُكتب لصالح الرجال. ومع أن هذه الشخصيات لا تحظى بحجم التركيز نفسه، فإن كل واحدة منهن تمثل وجهاً من أوجه التعايش مع القهر، سواء بالصمت، أو الغضب، أو المهادنة.

الوالدة، التي تلعب دورها فرشته صدر عرفائي، تكاد تخطف الأضواء في أحد المشاهد الهاتفية، التي تتحول فيها مجاملة اجتماعية إلى انفجار من الغضب الأمومي. أما مهري وابنة مهناز الصغيرة ندى، فتظلان في الهامش. يقارب الفيلم أحياناً الميلودراما، خصوصاُ مع توالي المصائب على البطلة، لكن روستائي ينجح في تحقيق الاتزان وإبقاء الفيلم في مساره.

«امرأة وطفل» ليس فيلماً عن التغلب على الأحزان والفجائع، أو النهوض بعد مأساة تزلزل الكيان، بل عن الفقد والتخبط الذي يليه. يطرح الفيلم سؤالاً وجودياً، ألا وهو، هل يمكن أن نجد معنى في ما تبقى بعد انهيار الحلم وفقد الأعزاء؟

يخرج الفيلم كصرخة مكتومة في وجه منظومة اجتماعية تستهلك النساء وتُلزمهن بالقواعد، دون أن تمنحهن الحقوق أو الحماية. ما يمنح الفيلم زخمه وتأثيره ليس فقط قوة التمثيل، بل قدرته على جعل المأساة خصوصية وحميمية، كأنها حدث شخصي لكل من يشاهده. «امرأة وطفل» فيلم مؤلم، لكنه مهم، يعكس كيف تتحول الحياة اليومية إلى ساحة نضال خفي، تخوضه النساء وحدهن دون معين.

 

القدس العربي اللبنانية في

27.05.2025

 
 
 
 
 

البوستر الرسمي لفيلم عائشة لا تستطيع الطيران ضمن الأفضل بجوائز لوسيول

البلاد/ مسافات

اختيار البوستر الرسمي للفيلم المصري عائشة لا تستطيع الطيران للمخرج مراد مصطفى ضمن القائمة النهائية للمرشحين لجائزة لوسيول في دورتها الثانية، وهي جائزة مستقلة تُمنح في مهرجان كان السينمائي احتفاءً بالجماليات السينمائية بين صُنّاع الأفلام والمصممين.

من بين مشاركات عديدة من مختلف أنحاء العالم، تمكّن بوستر عائشة لا تستطيع الطيران، من تصميم أبانوب شنودة وماهر دياب لشركة MAD Solutions، من الوصول إلى القائمة النهائية التي ضمت 22 فيلمًا، والتي وصفتهم اللجنة بأنها أعمال أظهرت تنوعًا ثريًا في التعبير الفني والعاطفي.

صدر البوستر الرسمي للفيلم قبيل مشاركته بمسابقة نظرة ما بالدورة الـ 78 من مهرجان كان السينمائي الدولي العريق (13 - 24 مايو) في عرضه العالمي الأول، الذي شهد إقبالًا واسعًا من الجمهور والنقاد سواء.

فيلم عائشة لا تستطيع الطيران يدور حول عائشة وهي شابة سودانية تبلغ من العمر 26 عامًا وتعمل في مجال الرعاية الصحية، تعيش في حيّ بقلب القاهرة، حيث تشهد التوتر بين زملائها المهاجرين الأفارقة وعصابات محلية. عالقة بين علاقة غامضة مع طباخ مصري شاب، وعصابة تبتزّها لتُبرم صفقة غير أخلاقية مقابل حمايتها، ومنزل جديد مُكلّفة بالعمل فيه. تُكافح عائشة للتغلّب على مخاوفها ومعاركها الخاسرة، مما يُؤدي إلى تقاطع أحلامها مع الواقع، ويقودها إلى طريق مسدود، وهو إنتاج مشترك بين مصر وفرنسا وألمانيا وتونس والسعودية وقطر والسودان،

الفيلم من بطولة بوليانا سيمون إلى جانب مغني الراب المصري زياد ظاظا وعماد غنيم وممدوح صالح، ومونتاج محمد ممدوح، مع مدير التصوير السينمائي المصري مصطفى الكاشف الذي سبق له التعاون مع مراد في الفيلم القصير عيسى، وتصميم أزياء نيرة الدهشوري ومهندس صوت مصطفى شعبان، ومهندسة ديكور إيمان العلبي
تلقى الفيلم إشادات واسعة بعد عرضه، حيث وصفه إيوغان لينغ من "ديرتي موفيز" بأنه "فيلم عبقري صادم"، وأشاد به محمد طارق من كروم ووصفه بأنه "لحظة سينمائية فارقة".  في الوقت نفسه، أشادت أوليفيا بوب بالتصوير السينمائي للفيلم، واصفة إياه بأنه "مذهل بصريًا"

تُعد هذه المشاركة الثانية للمخرج المصري مراد مصطفى بالمهرجان الذي استقبل فيلمه القصير عيسى بمسابقة أسبوع النقاد عام 2023، وأحدث مشاركة مصرية في المسابقة بعد 9 سنوات من مشاركة الفيلم المصري اشتباك.

الفيلم من إنتاج شركة بونانزا فيلمز (سوسن يوسف)، بمشاركة شركة Nomadis Images التونسية (درة بوشوشة - لينا شعبان)، و( Shift Studiosشريف فتحي)، وشركة ( A. A. Filmsأحمد عامر)، وشركة (Cinewaves films فيصل بالطيور) وشركة ( MAD Solutionsعلاء كركوتي وماهر دياب) التي تتولى أيضا المبيعات الدولية للفيلم عبر World MAD، و( Mayana Filmsمي عودة وزورانا موزيكيتش)، و-Co( Originsلورا نيكولوڤ). وشركة الصور العربية / ( Arabia Picturesعبد الإله الأحمري) ومنتج مساهم أمجد أبو العلا.

نال مشروع عائشة لا تستطيع الطيران منحًا ودعمًا من عدد من الجهات البارزة مثل مؤسسة الدوحة للأفلام، وصندوق المورد الثقافي، ومهرجان الجونة السينمائي، وأكاديمية لوكارنو، وبرنامجي سينيفوداسيون ومصنع
2 / 2

السينما في مهرجان كان، ومهرجان مونبلييه.كما فاز بالجائزة الكبرى من لودج البحر الأحمر، وبخمسة جوائز في مسابقة فاينال كات بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، وعلى رأسهم جائزة الدعم الكبرى التي تُمنح لأفضل فيلم في مرحلة ما بعد الإنتاج، وبعدها فاز بجائزة ورشات الأطلس الكبرى لمرحلة ما بعد الإنتاج ضمن فعاليات الدورة الـ21 من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش والتي تقدر بـ25 ألف دولار أميركي. 

 

البلاد البحرينية في

28.05.2025

 
 
 
 
 

البوستر الرسمي لفيلم «عائشة لا تستطيع الطيران» ضمن الأفضل بجوائز لوسيول

أروى حمدي

اختير البوستر الرسمي للفيلم المصري عائشة لا تستطيع الطيران للمخرج مراد مصطفى ضمن القائمة النهائية للمرشحين لجائزة لوسيول في دورتها الثانية، وهي جائزة مستقلة تُمنح في مهرجان كان السينمائي احتفاءً بالجماليات السينمائية بين صُنّاع الأفلام والمصممين.

من بين مشاركات عديدة من مختلف أنحاء العالم، تمكّن بوستر عائشة لا تستطيع الطيران، من تصميم أبانوب شنودة وماهر دياب لشركة MAD Solutions، من الوصول إلى القائمة النهائية التي ضمت 22 فيلمًا، والتي وصفتهم اللجنة بأنها أعمال أظهرت تنوعًا ثريًا في التعبير الفني والعاطفي.

صدر البوستر الرسمي للفيلم قبيل مشاركته بمسابقة نظرة ما بالدورة الـ 78 من مهرجان كان السينمائي الدولي العريق (13 - 24 مايو) في عرضه العالمي الأول، الذي شهد إقبالًا واسعًا من الجمهور والنقاد سواء.

فيلم عائشة لا تستطيع الطيران يدور حول عائشة وهي شابة سودانية تبلغ من العمر 26 عامًا وتعمل في مجال الرعاية الصحية، تعيش في حيّ بقلب القاهرة، حيث تشهد التوتر بين زملائها المهاجرين الأفارقة وعصابات محلية. عالقة بين علاقة غامضة مع طباخ مصري شاب، وعصابة تبتزّها لتُبرم صفقة غير أخلاقية مقابل حمايتها، ومنزل جديد مُكلّفة بالعمل فيه. تُكافح عائشة للتغلّب على مخاوفها ومعاركها الخاسرة، مما يُؤدي إلى تقاطع أحلامها مع الواقع، ويقودها إلى طريق مسدود، وهو إنتاج مشترك بين مصر وفرنسا وألمانيا وتونس والسعودية وقطر والسودان،

الفيلم من بطولة بوليانا سيمون إلى جانب مغني الراب المصري زياد ظاظا وعماد غنيم وممدوح صالح، ومونتاج محمد ممدوح، مع مدير التصوير السينمائي المصري مصطفى الكاشف الذي سبق له التعاون مع مراد في الفيلم القصير عيسى، وتصميم أزياء نيرة الدهشوري ومهندس صوت مصطفى شعبان، ومهندسة ديكور إيمان العلبي.

تلقى الفيلم إشادات واسعة بعد عرضه، حيث وصفه إيوغان لينغ من "ديرتي موفيز" بأنه "فيلم عبقري صادم"، وأشاد به محمد طارق من كروم ووصفه بأنه "لحظة سينمائية فارقة". في الوقت نفسه، أشادت أوليفيا بوب بالتصوير السينمائي للفيلم، واصفة إياه بأنه "مذهل بصريًا"

تُعد هذه المشاركة الثانية للمخرج المصري مراد مصطفى بالمهرجان الذي استقبل فيلمه القصير عيسى بمسابقة أسبوع النقاد عام 2023، وأحدث مشاركة مصرية في المسابقة بعد 9 سنوات من مشاركة الفيلم المصري اشتباك.

الفيلم من إنتاج شركة بونانزا فيلمز (سوسن يوسف)، بمشاركة شركة Nomadis Images التونسية (درة بوشوشة - لينا شعبان)، وShift Studios (شريف فتحي)، وشركة A. A. Films (أحمد عامر)، وشركة Cinewaves films (فيصل بالطيور) وشركة MAD Solutions (علاء كركوتي وماهر دياب) التي تتولى أيضا المبيعات الدولية للفيلم عبر MAD World، وMayana Films (مي عودة وزورانا موزيكيتش)، وCo-Origins (لورا نيكولوڤ). وشركة الصور العربية / Arabia Pictures (عبد الإله الأحمري) ومنتج مساهم أمجد أبو العلا.

نال مشروع عائشة لا تستطيع الطيران منحًا ودعمًا من عدد من الجهات البارزة مثل مؤسسة الدوحة للأفلام، وصندوق المورد الثقافي، ومهرجان الجونة السينمائي، وأكاديمية لوكارنو، وبرنامجي سينيفوداسيون ومصنع السينما في مهرجان كان، ومهرجان مونبلييه.كما فاز بالجائزة الكبرى من لودج البحر الأحمر، وبخمسة جوائز في مسابقة فاينال كات بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، وعلى رأسهم جائزة الدعم الكبرى التي تُمنح لأفضل فيلم في مرحلة ما بعد الإنتاج، وبعدها فاز بجائزة ورشات الأطلس الكبرى لمرحلة ما بعد الإنتاج ضمن فعاليات الدورة الـ21 من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش والتي تقدر بـ25 ألف دولار أمريكي.

 

بوابة أخبار اليوم المصرية في

28.05.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004