من بين أجمل الأفلام التي عُرضت هذا العام في مهرجان كانّ
السينمائي (13 - 24 أيار)، برز فيلم "قيمة عاطفية" للنروجي يواكيم ترير.
دراما أسرية تلامس أوتار القلب، ينسجها المخرج على شكل شذرات وفصول، بخيوط
دقيقة، ملتقطاً تفاصيل العلاقات الأبوية وروابط الدم على نحو لا يجيده سوى
قلّة. وقد ذكّر هذا الأسلوب بعض النقّاد بإنغمار برغمان، رغم أن ترير يسلك
درباً موازياً، مع تقاطعات فنية وفكرية وأسلوبية تضعه الى يمين المعلّم
السويدي.
الحكاية عن أب هو مخرج سينمائي (ستيلان سكارسغارد) وابنتيه:
إحداهما (ريناته رنسفي) ممثّلة تمرّ بأزمة هوية، والأخرى (إينغا إيبسدوتر
ليلياس) أستاذة تاريخ متّزنة. يشكّل الثلاثي محور هذه الدراما العاطفية
التي تحمل معها ومضات من السخرية اللئيمة، حيث تتداخل الضحكة بالعبرة،
ويتقاطع الهزل بإحساس مبيت بالألم. كلّ شيء ينقلب مع عودة الأب، الذي كان
غائباً لسنوات، ليطلّ مجدداً في حياة ابنتيه بعد وفاة الأم. يعود حاملاً
مشروعاً سينمائياً يستلهمه من ماضيه وذكرياته مع والدته المنتحرة، طالباً
من ابنته الممثلة أن تجسّد الدور الرئيسي في هذا الفيلم الذي سيكون بمثابة
ولادة جديدة، متصفحاً دفاتر الماضي بما تحويه من مفاجآت وندوب.
الاختلاف بين الاختين عنصر محوري في السرد، إذ يشكّل
توازناً درامياً غنياً، ويكشف عن طبيعة العلاقات المتداخلة. نورا
الثلاثينية، متمردة، قلقة، يفتتح الفيلم بمشهد لها وهي على وشك الصعود إلى
خشبة المسرح، مترددة وخائفة. تحمل في داخلها جرح الغياب، وترى في عودة
والدها تهديداً مبهماً. في المقابل، تقف شقيقتها الصغرى أغنيس وهي أمٌّ
لطفل، بمزاج هادئ وتفهّم مرن، إذ تتعامل مع الموقف بعقلانية وانفتاح على
المصالحة.
ومع تلك الشخصيات، تتفرّع حكايات جانبية، تشكّل كلها
فسيفساء للحياة العائلية في النروج، تلك التي يحسن ترير تصويرها بمقاربة
حانية ورغبة عارمة في احتضان كلّ مَن يقف أمام كاميراه.
منزل الأسرة، الذي يشهد على موت الأم، وحيث تبدأ الحكاية
وتنتهي، يتحوّل إلى فضاء مفتوح للمشاعر والذكريات، ومسرح حميم يحتضن لقاءات
تتكرر على إيقاع الحنين والبحث عن المصالحة. هو أكثر من مجرد بيت، إنه كيان
حي ينبض بالتاريخ الشخصي والعام، شاهد على تقلّبات الزمن وتبدّل الأدوار.
الأب يرى في جدرانه خزاناً للذكريات، ويصرّ على أن يكون موقع تصوير فيلمه،
كأنما يريد أن يعيد كتابة تاريخه من خلاله. أما نورا، فتراه المكان الذي
نشأت فيه، وحيث اختبرت تشقّقات الأسرة وصراخ الوالدين، وقد حولته إلى بطل
نصّ كتبته في مراهقتها، يوم كانت طالبة تحمل أسئلتها الأولى عن الهوية
والانتماء.
المنزل، بطابعه البورجوازي المتسيّد، وهيبته المعمارية التي
تستوقف كلّ مَن يمر به، يشكّل في ذاته شخصية روائية، ذاكرة بصرية وشعورية
تنطوي على مآسٍ وأسرار عائلية. مرّت عليه أجيال، وتشربت جدرانه صدى
العلاقات المتصدّعة والمشاعر غير المحكية. انها أكثر من شخصية، هي ترانا
أكثر ممّا نراها. شاهدة على الحق والباطل.
ببراعة فنية متقنة، يجعل ترير من هذا المكان نقطة التقاء
بين الأزمنة، حيث تنصهر الفروق بين الماضي والحاضر، بين الغياب والعودة،
وبين ما قيل وما لم يُفصح عنه. ينسج من خلاله مشاهد تفيض بالعاطفة، كأنما
تنطق باسم كلّ من مرّ بتجربة الفقد، أو حاول الترميم من داخل الحطام.
هناك كيمياء واضحة وانسجام لافت بين الشخصيتين الرئيسيتين،
نورا وأغنيس (لحظة اكتشافهما ان احداهما تكمل الأخرى)، في واحد من أجمل
الثنائيات الأخوية التي عرفتها السينما في السنوات الأخيرة. العلاقة بين
الأختين تتجاوز التمثيل التقليدي، هي حالة من التواطؤ الصامت والشعور
المتبادل والتكامل العاطفي، حيث يسد حضور إحداهما نقص الأخرى.
يعتمد الفيلم في كثير من أجزائه على الأداء التمثيلي البصري
لا اللفظي. كلّ شيء يمر عبر النظرات، الهمسات، الحركات الدقيقة وتفاصيل
الجسد، ما يمنح المُشاهد فرصة لاكتشاف المعنى بين السطور، خلف الصمت وتحت
طبقات الشعور المحتجب. هذا لا يعني أن الحوار غائب، بل هو حاضر بوفرة، لكنه
موجّه بدقّة وحرص، ليخدم حالة الكبت العاطفي التي تسود الفيلم، والتي
ستتحول في غضون ساعتين إلى تحرر.
لا دموع تُذرف، أو بالأحرى، هي حاضرة على أطراف الجفون،
متوقّفة عند عتبة الانهيار دون أن تنساب. كلّ شيء مكبوت، مكبوح، كأن
المشاعر خائفة من أن تفصح عن نفسها. ورغم ذلك، أو ربما بسببه، يتصاعد
التأثّر عند المشاهد تدريجاً، طبقة بعد طبقة، حتى يبلغ ذروته مع اقتراب
الفيلم من نهايته حيث يُتاح للأب وابنته أن ينظرا أحدهما إلى الآخر للمرة
الأولى بعينين جديدتين. لحظة نادرة من الكشف والصدق، تحرر المكبوت، وتمنح
العلاقة نفساً جديداً، كأنها قيامة، متأخرة، لكنها ضرورية، لا مهرب منها.
"قيمة
عاطفية" فيلم عن المصالحة، تلك التيمة العريقة في الأدب والسينما، لأنها لا
تكتفي بترميم الجراح، بل تفتح الأبواب على مصراعيها لما هو أعمق: الفهم،
القبول والتجاوز. المصالحة في السينما أشبه بدمية الماتريوشكا الروسية،
تُفتح طبقة تلو الأخرى، لتكشف عن معانٍ متراكبة. لكن ترير لا ينجز هنا مجرد
فيلم آخر عن محاولة عائلة اسكندينافية لرتق ما تمزق. إنه يذهب أبعد من ذلك.
يمكن اختصار الفيلم بأنه عن لمّ شمل العائلة من خلال الفنّ الذي يُعتبر
أرقى أشكال التعبير التي ابتكرها الإنسان والتي تمنح مَن لا يجيد البوح
فرصة أخرى للكلام.
في سعيه للاعتراف بأخطائه ومصالحة نفسه وابنتيه، لا يجد
الأب سوى صناعة السينما كملاذ. لا يملك أدوات المواجهة في الحياة الواقعية،
لكنه يعرف كيف يصوغ الحكاية من خلال الكاميرا والمشهد والحوار المكتوب.
الفنّ هنا ليس مهنة تمارَس، بل وسيلة للغفران والتصالح، مع الذات أولاً، ثم
مع الآخرين. ترير يكتب للفنّ والسينما رسالة حبّ، مدركاً مدى هشاشة الحدود
بين الخيال والواقع.
كلّ هذا الصراع الداخلي يجسّده ببراعة الممثّل الكبير
ستيلان سكارسغارد، الذي يقدّم شخصية فنّان معذّب يتألّم بصمت، ممزّق من
الداخل، لكنه يحرص على الحفاظ على مظهر الرجل الصلب الذي لا تهزّه الرياح.
أداؤه يمنح الشخصية صدقاً واقعياً لا يمكن إنكاره. إنه ليس أباً مثالياً،
بل أبوة مألوفة تحمل الكثير من العيوب، فهو يشبه ما نعرفه ونختبره مع
أهالينا. انها أبوة تحمل العجز والندم والتقصير، لكنها تظل تبحث عن طريق
للعودة.
خلف كلّ مشهد من الفيلم ثمة إدراك حاد، وبراعة فنية، ووعي
سينمائي عميق، يشي بحضور مخرج لا يكتفي بإدارة حركة الكاميرا، بل يحمل بصمة
المؤلف الذي يشكّل الفيلم انطلاقاً من رؤيته وتجربته. يواكيم ترير سيّد في
فنّ المراوغة وسوء الظن ورسم العلاقات المتشابكة انطلاقاً من هذا الفنّ.
يستدعي العديد من العناصر النفسية والتاريخية والشخصية ليبني من خلالها
قصّته، كاشفاً كيف تطبع علاقتنا بالآخرين من خلال تجاربنا الذاتية، وكيف
تمنح هذه التجارب شكلاً وهوية لهذا الفنّ. إنه يذكّرنا بأن ما نعيشه ليس
بمعزل عمّا عاشه أسلافنا، اذ ان ذلك يتحول في وعينا المعاصر إلى محن
وعذابات، نعيد تشكيلها وعيشها بطرق جديدة، وعلى أحدهم إيقافها والقفز
فوقها. هناك خصوصية نادرة في "قيمة عاطفية"، وصدق شعوري لا يصخب ولا
يستعرض، يتقدّم في اتجاه المُشاهد بحياء. حياء يؤكّد ان ترير من كبار
السينما المعاصرة. |