ملفات خاصة

 
 
 

كانّ 78 - "قيمة عاطفية":

عن الفنّ والمصالحة وما تبقّى

هوفيك حبشيان - كانّ - "النهار"

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

من بين أجمل الأفلام التي عُرضت هذا العام في مهرجان كانّ السينمائي (13 - 24 أيار)، برز فيلم "قيمة عاطفية" للنروجي يواكيم ترير. دراما أسرية تلامس أوتار القلب، ينسجها المخرج على شكل شذرات وفصول، بخيوط دقيقة، ملتقطاً تفاصيل العلاقات الأبوية وروابط الدم على نحو لا يجيده سوى قلّة. وقد ذكّر هذا الأسلوب بعض النقّاد بإنغمار برغمان، رغم أن ترير يسلك درباً موازياً، مع تقاطعات فنية وفكرية وأسلوبية تضعه الى يمين المعلّم السويدي.

الحكاية عن أب هو مخرج سينمائي (ستيلان سكارسغارد) وابنتيه: إحداهما (ريناته رنسفي) ممثّلة تمرّ بأزمة هوية، والأخرى (إينغا إيبسدوتر ليلياس) أستاذة تاريخ متّزنة. يشكّل الثلاثي محور هذه الدراما العاطفية التي تحمل معها ومضات من السخرية اللئيمة، حيث تتداخل الضحكة بالعبرة، ويتقاطع الهزل بإحساس مبيت بالألم. كلّ شيء ينقلب مع عودة الأب، الذي كان غائباً لسنوات، ليطلّ مجدداً في حياة ابنتيه بعد وفاة الأم. يعود حاملاً مشروعاً سينمائياً يستلهمه من ماضيه وذكرياته مع والدته المنتحرة، طالباً من ابنته الممثلة أن تجسّد الدور الرئيسي في هذا الفيلم الذي سيكون بمثابة ولادة جديدة، متصفحاً دفاتر الماضي بما تحويه من مفاجآت وندوب.

الاختلاف بين الاختين عنصر محوري في السرد، إذ يشكّل توازناً درامياً غنياً، ويكشف عن طبيعة العلاقات المتداخلة. نورا الثلاثينية، متمردة، قلقة، يفتتح الفيلم بمشهد لها وهي على وشك الصعود إلى خشبة المسرح، مترددة وخائفة. تحمل في داخلها جرح الغياب، وترى في عودة والدها تهديداً مبهماً. في المقابل، تقف شقيقتها الصغرى أغنيس وهي أمٌّ لطفل، بمزاج هادئ وتفهّم مرن، إذ تتعامل مع الموقف بعقلانية وانفتاح على المصالحة.

ومع تلك الشخصيات، تتفرّع حكايات جانبية، تشكّل كلها فسيفساء للحياة العائلية في النروج، تلك التي يحسن ترير تصويرها بمقاربة حانية ورغبة عارمة في احتضان كلّ مَن يقف أمام كاميراه.

منزل الأسرة، الذي يشهد على موت الأم، وحيث تبدأ الحكاية وتنتهي، يتحوّل إلى فضاء مفتوح للمشاعر والذكريات، ومسرح حميم يحتضن لقاءات تتكرر على إيقاع الحنين والبحث عن المصالحة. هو أكثر من مجرد بيت، إنه كيان حي ينبض بالتاريخ الشخصي والعام، شاهد على تقلّبات الزمن وتبدّل الأدوار. الأب يرى في جدرانه خزاناً للذكريات، ويصرّ على أن يكون موقع تصوير فيلمه، كأنما يريد أن يعيد كتابة تاريخه من خلاله. أما نورا، فتراه المكان الذي نشأت فيه، وحيث اختبرت تشقّقات الأسرة وصراخ الوالدين، وقد حولته إلى بطل نصّ كتبته في مراهقتها، يوم كانت طالبة تحمل أسئلتها الأولى عن الهوية والانتماء.

المنزل، بطابعه البورجوازي المتسيّد، وهيبته المعمارية التي تستوقف كلّ مَن يمر به، يشكّل في ذاته شخصية روائية، ذاكرة بصرية وشعورية تنطوي على مآسٍ وأسرار عائلية. مرّت عليه أجيال، وتشربت جدرانه صدى العلاقات المتصدّعة والمشاعر غير المحكية. انها أكثر من شخصية، هي ترانا أكثر ممّا نراها. شاهدة على الحق والباطل.

ببراعة فنية متقنة، يجعل ترير من هذا المكان نقطة التقاء بين الأزمنة، حيث تنصهر الفروق بين الماضي والحاضر، بين الغياب والعودة، وبين ما قيل وما لم يُفصح عنه. ينسج من خلاله مشاهد تفيض بالعاطفة، كأنما تنطق باسم كلّ من مرّ بتجربة الفقد، أو حاول الترميم من داخل الحطام.

هناك كيمياء واضحة وانسجام لافت بين الشخصيتين الرئيسيتين، نورا وأغنيس (لحظة اكتشافهما ان احداهما تكمل الأخرى)، في واحد من أجمل الثنائيات الأخوية التي عرفتها السينما في السنوات الأخيرة. العلاقة بين الأختين تتجاوز التمثيل التقليدي، هي حالة من التواطؤ الصامت والشعور المتبادل والتكامل العاطفي، حيث يسد حضور إحداهما نقص الأخرى.

يعتمد الفيلم في كثير من أجزائه على الأداء التمثيلي البصري لا اللفظي. كلّ شيء يمر عبر النظرات، الهمسات، الحركات الدقيقة وتفاصيل الجسد، ما يمنح المُشاهد فرصة لاكتشاف المعنى بين السطور، خلف الصمت وتحت طبقات الشعور المحتجب. هذا لا يعني أن الحوار غائب، بل هو حاضر بوفرة، لكنه موجّه بدقّة وحرص، ليخدم حالة الكبت العاطفي التي تسود الفيلم، والتي ستتحول في غضون ساعتين إلى تحرر

لا دموع تُذرف، أو بالأحرى، هي حاضرة على أطراف الجفون، متوقّفة عند عتبة الانهيار دون أن تنساب. كلّ شيء مكبوت، مكبوح، كأن المشاعر خائفة من أن تفصح عن نفسها. ورغم ذلك، أو ربما بسببه، يتصاعد التأثّر عند المشاهد تدريجاً، طبقة بعد طبقة، حتى يبلغ ذروته مع اقتراب الفيلم من نهايته حيث يُتاح للأب وابنته أن ينظرا أحدهما إلى الآخر للمرة الأولى بعينين جديدتين. لحظة نادرة من الكشف والصدق، تحرر المكبوت، وتمنح العلاقة نفساً جديداً، كأنها قيامة، متأخرة، لكنها ضرورية، لا مهرب منها.

"قيمة عاطفية" فيلم عن المصالحة، تلك التيمة العريقة في الأدب والسينما، لأنها لا تكتفي بترميم الجراح، بل تفتح الأبواب على مصراعيها لما هو أعمق: الفهم، القبول والتجاوز. المصالحة في السينما أشبه بدمية الماتريوشكا الروسية، تُفتح طبقة تلو الأخرى، لتكشف عن معانٍ متراكبة. لكن ترير لا ينجز هنا مجرد فيلم آخر عن محاولة عائلة اسكندينافية لرتق ما تمزق. إنه يذهب أبعد من ذلك. يمكن اختصار الفيلم بأنه عن لمّ شمل العائلة من خلال الفنّ الذي يُعتبر أرقى أشكال التعبير التي ابتكرها الإنسان والتي تمنح مَن لا يجيد البوح فرصة أخرى للكلام.

في سعيه للاعتراف بأخطائه ومصالحة نفسه وابنتيه، لا يجد الأب سوى صناعة السينما كملاذ. لا يملك أدوات المواجهة في الحياة الواقعية، لكنه يعرف كيف يصوغ الحكاية من خلال الكاميرا والمشهد والحوار المكتوب. الفنّ هنا ليس مهنة تمارَس، بل وسيلة للغفران والتصالح، مع الذات أولاً، ثم مع الآخرين. ترير يكتب للفنّ والسينما رسالة حبّ، مدركاً مدى هشاشة الحدود بين الخيال والواقع.

كلّ هذا الصراع الداخلي يجسّده ببراعة الممثّل الكبير ستيلان سكارسغارد، الذي يقدّم شخصية فنّان معذّب يتألّم بصمت، ممزّق من الداخل، لكنه يحرص على الحفاظ على مظهر الرجل الصلب الذي لا تهزّه الرياح. أداؤه يمنح الشخصية صدقاً واقعياً لا يمكن إنكاره. إنه ليس أباً مثالياً، بل أبوة مألوفة تحمل الكثير من العيوب، فهو يشبه ما نعرفه ونختبره مع أهالينا. انها أبوة تحمل العجز والندم والتقصير، لكنها تظل تبحث عن طريق للعودة.

خلف كلّ مشهد من الفيلم ثمة إدراك حاد، وبراعة فنية، ووعي سينمائي عميق، يشي بحضور مخرج لا يكتفي بإدارة حركة الكاميرا، بل يحمل بصمة المؤلف الذي يشكّل الفيلم انطلاقاً من رؤيته وتجربته. يواكيم ترير سيّد في فنّ المراوغة وسوء الظن ورسم العلاقات المتشابكة انطلاقاً من هذا الفنّ. يستدعي العديد من العناصر النفسية والتاريخية والشخصية ليبني من خلالها قصّته، كاشفاً كيف تطبع علاقتنا بالآخرين من خلال تجاربنا الذاتية، وكيف تمنح هذه التجارب شكلاً وهوية لهذا الفنّ. إنه يذكّرنا بأن ما نعيشه ليس بمعزل عمّا عاشه أسلافنا، اذ ان ذلك يتحول في وعينا المعاصر إلى محن وعذابات، نعيد تشكيلها وعيشها بطرق جديدة، وعلى أحدهم إيقافها والقفز فوقها. هناك خصوصية نادرة في "قيمة عاطفية"، وصدق شعوري لا يصخب ولا يستعرض، يتقدّم في اتجاه المُشاهد بحياء. حياء يؤكّد ان ترير من كبار السينما المعاصرة.

 

النهار اللبنانية في

23.05.2025

 
 
 
 
 

"قيمة عاطفية" في "كان"... السينما كبلسم للجراح

الفيلم شهادة على هشاشة الروابط العائلية وكأن مخرجه أراد التحذير من التفريط بها على المستويات النفسية والاجتماعية وحتى السياسية

هوفيك حبشيان 

ملخص

تتجلى براعة التمثيل في كل مشهد، مع توازن دقيق بين التوتر والحب، الغضب والحنان. ويبقى الممثلون دائماً على الخط الفاصل بين المشاعر وردود الفعل. أما ستيلان سكارسغارد، فيمنح شخصية الأب أبعاداً معقدة تبرز من خلالها ضعفه خلف قناع الصلابة.

لا تزال السينما الإسكندنافية تحفر لنفسها مكانة خاصة بفضل رؤاها الإنسانية الدقيقة وأسلوبها الذي يوازن بين الحميمية وتشخيص الشرط الإنساني. وبعد فوز فيلم نرويجي في مهرجان "برلين" الأخير بـ"الدب الذهبي"، ها نحن أمام عمل جديد من النرويج قد يصل إلى لائحة الجوائز، إنه "قيمة عاطفية" للمخرج النرويجي يواكيم ترير الذي عرض في مهرجان "كان" السينمائي، من الـ13 إلى الـ24 من مايو (أيار) الجاري، فارضاً نفسه كأحد أعمق وأثرى الأعمال التي جمعت بين نسيج درامي متين وحس بصري يلامس أعمق طبقات النفس الإنسانية.

على غرار أعمال كبار سينما هذه المنطقة، مثل إنغمار برغمان ولارس فون ترير، يقدم ترير قصة تلتقط الخيوط المعقدة للعلاقات العائلية، إلا أن نهجه الخاص في بث التفاصيل الساخرة يموضعه في مكان خاص جداً، ويضع ترير يده على تطور العلاقة بين أب وابنتيه، مقدماً تجربة فنية توثق الصراعات الداخلية، ولكن أيضاً لحظات المصالحة والتسامح التي تضيء في عتمة الماضي.

ندوب العائلة

تدور أحداث الفيلم حول شخصية الأب (ستيلان سكارسغارد)، مخرج أفلام غائب عن حياته العائلية منذ أعوام، يعود بعد وفاة الزوجة حاملاً نصاً سينمائياً يريد أفلمته. ويستحضر النص ذكرياته مع أمه الراحلة التي كانت انتحرت عندما كان هو في السابعة، وتتشابك حياة الأب مع ابنتيه، نورا (ريناته رنسفي) الممثلة الشابة التي تمر بأزمة هوية وهي على مقربة من الـ40، وأغنيس (إينغا إيبسدوتر ليلياس) أستاذة التاريخ التي توازن بين أدوارها كأم وامرأة ناضجة، مشكلة مع نورا محوراً للحكاية.

العودة المفاجئة للأب تحرك المياه الراكدة في حياة العائلة، فتندلع التوترات التي كانت مكبوتة ولكنها خلال الوقت نفسه تفتح المجال أمام محاولات فهم وإعادة بناء ما تهدم من روابط. والسينما ستتدخل هنا لا باعتبارها حرفة تمارسها الشخصية الرئيسة (الأب)، بل أداة للتفاهم والتصالح ووسيلة لاستعادة الذات ومواجهة أشباح الماضي التي لا تزال تحوم حول العائلة عبر ثلاثة أجيال.

تتسم شخصيات الفيلم بعمق نفسي نادر وواقعية مدهشة. نورا ليست مجرد ممثلة تكافح لتحديد هويتها، بل حال إنسانية أوسع تجسد البحث عن الذات وسط الندوب العائلية. حضورها في الفيلم محاط بهالة من القلق والتوتر، وهي تطل علينا بمشهدها على المسرح، إذ ترتجف بين الإضاءة والشكوك، مما يعكس صراعاتها الداخلية.

أغنيس، في المقابل، هي الوجه الآخر للعائلة، إذ الاستقرار والهدوء النسبي، وهو نوع من الحصانة النفسية التي تبنيها لتجنب الانهيار. هي الأم الحانية، ولكنها ليست خالية من الجراح. وجودها يوفر توازناً بين التوترات التي تجلبها نورا في ظل عودة الأب.

أما الأب فيعاني الندم والتقصير، محاولاً بوسائل فنية أن يصنع جسراً نحو ابنتيه. أداء سكارسغارد يتسم بصدق مؤلم، فلا يظهر كأب نموذجي بل كإنسان معرض للخطأ، محاولاً التكيف مع الماضي المؤلم، من خلال مزيد من الحضور بين ناسه بعدما تجاوز الـ70. ولن يأتي معتذراً بل متسللاً، وهذا في ذاته اعتذار.

البيت الذي تدور فيه الأحداث الموزعة على صورة فصول، لا يقل أهمية عن الشخصيات. إنه الذاكرة الحية للعائلة، ويعكس صدى الماضي وحجم الجراح المدفونة في جدرانه. ترير يصوره ليس كمجرد مساحة مادية، بل ككيان حي يحمل في طياته طبقات من الألم، الحنين والأمل. داخل هذا المكان تتكرر اللقاءات، وتتصاعد المواجهات التي يخلو معظمها من أي صدام، وتتجلى الفصول المتعددة للعلاقة الأسرية. جدران المنزل التي شهدت أجيالاً من التجارب العائلية، تصبح فضاء للحوار الصامت بين الماضي والحاضر، الذكريات والواقع.

سينما للشفاء

يفرض الفيلم لغة بصرية طاغية. الحوارات كثيرة، لكن الكاميرا تلتقط التفاصيل فتصبح أشبه بحوارات موازية: نظرات مختلطة بين الحزن والأمل، حركات الأيدي وتوتر الأجساد. كل هذا يجعل المشاهدين يشعرون بما لا يقال، ويمنحون مساحة لاستبطان المشاعر المكبوتة. وهذا الأسلوب يخلق مناخاً من الكبت العاطفي الذي يتحرر تدريجاً مع تقدم الأحداث. كوننا في النرويج، يعني أن لا عواطف جياشة وإنما مشاعر محتجزة تخترق القلب بصمت، وهذا التوازن يجعل تجربة المشاهدة أكثر حميمية وواقعية.

يركز الفيلم على المصالحة باعتبارها حجر الزاوية في إعادة بناء العلاقات العائلية. المصالحة هنا ليست مجرد عملية ترقيع للجراح، وإنما رحلة تتطلب الصراحة والفهم والقبول. لكن الأهم، أن هذا كله سيمر عبر الفن ليصبح الفيلم في النهاية رد اعتبار إلى السينما كوسيلة للشفاء. ترير لا يقدم مجرد قصة عائلية نمطية، بل يصوغ نصاً عن الفن كوسيلة علاجية، وعن السينما كفضاء يسمح للأب بالتعبير عن ذاته والتواصل مع ابنتيه. الفن يصبح الملاذ، والطريق الوحيد نحو الاعتراف والتفاهم.

تتجلى براعة التمثيل في كل مشهد، مع توازن دقيق بين التوتر والحب، الغضب والحنان. ويبقى الممثلون دائماً على الخط الفاصل بين المشاعر وردود الفعل. أما ستيلان سكارسغارد، فيمنح شخصية الأب أبعاداً معقدة تبرز من خلالها ضعفه خلف قناع الصلابة. فيلم ترير الذي هتفت له قلوب النقاد، شهادة سينمائية على هشاشة الروابط العائلية. وكأن المخرج الخمسيني أراد أن يحذر من تداعيات التفريط بها على المستويات النفسية والاجتماعية، وحتى السياسية، بيد أن الأجمل من هذا كله هو إيمانه بمساحة الخيال عند الإنسان لتعزيز التواصل بين الأجيال والأزمنة والأفكار، على رغم كل الجراح.

 

الـ The Independent  في

23.05.2025

 
 
 
 
 

في مهرجان كان السينمائي 78

"القيمة العاطفية".. دراما نرويجية عميقة

البلاد/ من كان: عبدالستار ناجي

تحضر السينما النرويجية بقوة في الدورة 78 لمهرجان كان السينمائي 2025 من خلال فيلم "القيمة العاطفية" (Sentimental Value) للمخرج يواكيم ترير. الفيلم يغوص في تحليل لحظة شديدة الخصوصية، حيث يستغل أبٌ مخرجٌ أفراد عائلته لخدمة أهدافه وغروره الفني، سعيًا للبقاء في القمة.

يتتبع الفيلم، الذي يقدمه المخرج النرويجي يواكيم ترير، شخصية المخرج النرويجي جوستاف (ببراعة الممثل القدير ستيلان سكارسجارد). يُظهر الفيلم جوستاف، المتعثر ماليًا، وهو يورط عائلته في عالم الترفيه لإنعاش مسيرته المهنية المتراجعة. تتفاقم الأمور لتكشف عن حقائق صادمة، لعل أبرزها انتحار زوجته وأم بناته.

حكاية عائلية معقدة

تدور القصة حول مخرج سينمائي مسن ومهووس بذاته وابنتيه البالغتين. يواكيم ترير، الذي قدم لمهرجان كان درامته الرومانسية الرائعة "أسوأ شخص في العالم" عام 2021، يعود بفيلم جديد تشارك في بطولته أيضًا ريناته رينسفي الحائزة على جوائز.

ينتقل الفيلم بين حالات مزاجية وأفكار متعددة، ويقدم في النهاية قدرًا كبيرًا من العاطفة التي يوحي بها عنوانه. إنه فيلم عن مشاكل الأب والمغامرات السينمائية التي تستلهم من أساليب فيليني وبيرجمان، مع لمسة كوميدية طريفة تتضمن نكتة حول التنصت على جلسة معالج نفسي عبر أنابيب التدفئة، وهي لقطة مقتبسة بذكاء من فيلم "امرأة أخرى" لوودي آلن.

شخصيات متأرجحة بين الفن والحياة

يؤدي ستيلان سكارسجارد، أحد أهم نجوم النرويج عالميًا، دور المخرج الأنيق غوستاف بورغ، الذي تشهد مسيرته المهنية تراجعًا. قبل سنوات عديدة، ترك زوجته سيسيل، المعالجة النفسية، وابنتيه الصغيرتين، متخليًا عن منزل العائلة الذي نشأ فيه. الآن، وبعد وفاة والدتهما، تعاني ابنته نورا (رينسفي)، الممثلة المسرحية الشهيرة التي شاركت في إنتاج مسرحية "بيت الدمية"، من نوبات قلق. للتخلص من هذه النوبات، تطلب من الممثل (المتزوج) الذي تربطها به علاقة غرامية أن يصفعها. يؤدي هذا الدور أندرس دانييلسن لي، الممثل المخضرم في أعمال ترير.

شقيقة نورا، أغنيس (إنغا إبسدوتر ليلياس)، أكثر هدوءًا وثباتًا، تعيش حياة هانئة مع زوجها وابنها الصغير. ومع ذلك، تشعر ببعض الاضطراب بسبب ذكرى دورها الطفولي الصغير في أحد أفلام غوستاف، وشعورها بالهجران بعد انتهاء التصوير. وبينما كانت المرأتان تفتشان محتويات المنزل بحثًا عن أشياء ذات قيمة عاطفية قبل بيعه، صُدمتا عندما أدركتا أن غوستاف، ذلك الرجل الذي لا يُطاق، لا يزال يتمتع بحقوق قانونية على العقار. والأسوأ من ذلك، أنه يريد الآن استخدامه كموقع لتصوير فيلم سيرة ذاتية عن والدته التي انتحرت هناك بسبب صدمة تعذيبها على يد النازيين خلال الحرب.

صراعات وتوترات تتصاعد

لزيادة الطين بلة، يتوسل غوستاف إلى نورا لتأدية دور جدتها، متوقعًا منها، التي أهملها طوال معظم حياتها، أن تستغل شهرتها المسرحية لإنعاش مسيرته الفنية المتعثرة. حتى أنه يطلب من أغنيس أن تسمح له باستخدام ابنها الصغير كممثل طفل، كما استُخدمت هي سابقًا. لكن بعد رفض نورا بغضب، تتولى الدور نجمة هوليوود رايتشل كيمب (إيل فانينغ)، التي وقعت في غرام غوستاف في مهرجان سينمائي، وجلبت معها مبالغ طائلة من التمويل الاستثماري. وهكذا، تعود نورا إلى دائرة الغيرة والانزعاج.

كوميديا سوداء وعمق فني

يبدو أن المسرح مُعد لكوميديا سوداء صاخبة، لكنها حلوة ومرة، تتناول عالم السينما وصناعة الترفيه، وما ينطوي عليه من قسوة عاطفية ووحشية تتفاقم عند العمل مع أفراد العائلة. وإلى حد ما، هذا ما حصل. لكن هذا الفيلم الطويل، المتساهل بعض الشيء، يتأرجح أيضًا بين مزاجات شتوية جادة نوعًا ما وحزن محبي السينما إزاء تغير صناعة السينما. لقد أصر غوستاف على الاستعانة بمصور سينمائي مخضرم عمل معه مرات عديدة، لكنه أدرك أنه سيضطر إلى التراجع عن العرض عندما يرى مدى تدهور حال هذا المسكين.

نتجه بالطبع نحو نهاية مُرضية تبرز فيها موهبة غوستاف الحقيقية، إلى جانب عاطفته المشوشة والمعيبة التي تشبه عاطفة الرجل العجوز تجاه بناته. وربما لم يعد ترير نفسه مستكينًا لشيء من عبادة الأسلاف الخيالية التي تناسب مكانته الرفيعة. إنها كوميديا مبالغ فيها، وعاطفية بطرق غير مقصودة تمامًا، ولكنها ذات قيمة أيضًا.

تحليل نفسي عميق وإرث ثقافي

دون أن يتعرف المشاهد على النهاية، ندرك تمامًا طبيعة الهدف الذي عمل عليه المخرج يواكيم ترير، وهو التحليل النفسي المعمق لتلك العلاقة المدمرة بين الأب وبناته، وأيضًا علاقته بحرفته الفنية.

ونخلص إلى أن: السينما النرويجية ليست مجرد سينما تقليدية، بل هي إرث ثقافي وفني رفيع المستوى يترسخ مشهدًا بعد آخر، ومقولة بعد ثانية.

 

البلاد البحرينية في

23.05.2025

 
 
 
 
 

فيلم "موجة جديدة" ينافس على السعفة الذهبية بمهرجان كان

كان (جنوب فرنسا) - سعد المسعودي

ينافس الفيلم الفرنسي "موجة جديدة" "Nouvelle Vague" على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وهو من إخراج ريتشارد لينكلايتر، ويجمع في بطولته بين غيوم ماربيك، الذي يؤدي دور المخرج الشهير جان لوك غودار (عراب سينما الموجة الجديدة الفرنسية)، والممثلة زوي دوتش في دور النجمة جان سيبرغ.

يتناول الفيلم بأسلوب ساخر وكوميدي مرحلة مهمة من تاريخ السينما الفرنسية وعلاقتها بجيل "الموجة الجديدة".

واهتم المخرج الأميركي المستقل، وهو راوي قصص رائع، وأعاد تلك الأجواء الثورية لشباب سينمائي أراد التغيير من أجل سينما يسارية مستقلة ونتج عنها أفلام مازالت حاضرة من خلال عروض "السينماتيك" الفرنسية، وقدم لنا هذا الفيلم باللغة الفرنسية "بالأبيض والأسود"، وهو فيلم يعتبر درساً في السينما وتقنياتها، ويتحدث عن تلك الحقبة لهذه المجموعة التي أحدثت ثورة بالسينما من خلال أفلام "الموجة الجديدة".

شخصيات مغمورة

اعتمد المخرج لينكلايتر على ممثلين مغمورين في شخصية "غودار" الذي لعب دوره "غيوم ماربيك" وكذلك "بلموندو" كان مقلدا جيدا لشخصيته، وهو ما يجعل المخرج لينكلايتر متفاعلا مع هذه الشخصيات التي أدت أدوارها بشكل رائع.

وينقلنا لينكلايتر إلى تقديم فيلم بأبعاد جمالية عالية وبمحتوى راق نقلنا إلى تلك الأيام بالأبيض والأسود وبسينما حوارية أنتجت سيناريو محبوكا يمزج الكوميديا، وبالبحث عن حلول إنتاجية لسينما مختلفة نجح بها غودار وأبناء جيله.

ومنها تجربة تصوير "على آخر نفس" (1959)، فيلم رائع للمخرج غودار يعبر عن تلك المرحلة استطاع أن يقدم لنا أسماء أصبحت نجوما في تاريخ الفن السابع ولكن بدلاً من التوثيق الكلاسيكي، يعتمد لينكلايتر على أسلوب تفاعلي يجمع بين السخرية والحنين، في بناء درامي لا يخلو من الفكاهة والعاطفة، حيث السينما تتحول في كل لحظة أرضاً للحلم والتجريب.

محطات تاريخية

"موجة جديدة" فيلم عن السينما، ما يميزه هو أن بطله الحقيقي ليس غودار ولا تروفو، بل السينما نفسها.

الكاميرا تتحرك بحرية داخل المشهد، تتوقف عند التفاصيل الصغيرة. كل ذلك يسهم في إعادة بناء المزاج العام لتلك المرحلة الثورية، وكأننا نشاهد حلماً يتجسد أمامنا، لا إعادة سرد لتاريخ معروف. الإدارة الفنية عبقرية في إنتاج تلك الفترة الزمنية، كما لو أننا نشاهد فيلماً من نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات.

يمنح لينكلايتر التقنيين والمصورين والمنتجين دوراً محورياً في هذه الحكاية، في تذكير بأن السينما ليست عملاً فردياً بل نتاج جماعي لصدامات ومصالح وأهواء، تقود أحياناً إلى معجزات تدخل التاريخ.

وفي هذا المجال، كانت فكرة تخصيص حيز مهم للمصور راوول كوتار، الذي التقط مشاهد "على آخر نفس"، فكرة في محلها.

 

العربية نت السعودية في

23.05.2025

 
 
 
 
 

خاص "هي" رسالة مهرجان كان 2025-

"عائشة لا تستطيع الطيران" ولكن من قص أجنحتها؟

أندرو محسن

بعد 4 أفلام قصيرة حققت نجاحات لافتة، يقدم المخرج المصري مراد مصطفى فيلمه الطويل الأول ”عائشة لا تستطيع الطيران“ المدعوم من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، والذي يشارك في مسابقة نظرة ما في الدورة 78 لمهرجان كان. رحلة طويلة قطعها المخرج وكاتب السيناريو مراد مصطفى، ليصنع هذا الفيلم، سواء من خلال العمل الدؤوب على أسلوبه من خلال الأفكار والموضوعات التي طرحها في أفلامه القصيرة، أو عبر رحلة التطوير لسيناريو الفيلم نفسه والتي استمرت لفترة، رحلة جعلت ”عائشة لا تستطيع الطيران“ شديد الشبه بمخرجه وشديد البعد عنه أيضًا.

الواقع والفانتازيا

يتابع الفيلم شخصية عائشة (بوليانا سيمون) الشابة السودانية شديدة الفقر التي تعمل في الخدمة داخل البيوت، لكنها تعاني من المعاملة القاسية والاستغلال من كل المحيطين بها، سواء أرباب عملها أو الشخص الذي يؤجر لها بيتها، لتصبح حياتها عبارة عن جحيم لا ينتهي، لا خلاص منه.

في أفلامه السابقة كان واضحًا اتباع مصطفى للأسلوب الواقعي، القريب من شكل بعض الأفلام الإيرانية مثل أعمال أصغر فرهادي. يتجلى هذا في اختيار المواضيع أو في الأسلوب السينمائي المستخدم، إذ عادة ما كانت شخصياته نسائية بالأساس، وتنتمي لطبقات فقيرة وتحيا على هامش المجتمع.

هكذا كان اختيار هذا الأسلوب السينمائي يتيح له المزيد من الصدق والقرب من تلك الشخصيات، بالإضافة للقدرة على الاستكشاف لعوالم لم تُصور كثيرًا في السينما. في ”عائشة“ ينطلق مراد أيضًا من هذا العالم الواقعي، لكن يمزجه بخط فانتازي واضح، إذ ترى عائشة في أحيانٍ متفرقة طائر النعامة، بينما تعاني هي نفسها من تغيرات عجيبة في جسدها. هذا المزج بين الأسلوبين لم يكن سلسًا أو تلقائيًا، ومتباعدًا زمنيًا، إذ يزداد حضور الخيالات في النصف الثاني من الفيلم، فيبدو وكأننا انتقلنا بين عالمين مختلفين، خاصة وبعض المشاهد لا تضيف أي جديد للشخصية أو للمشاهد. وربما تجدر الإشارة إلى كون بعض الأماكن الواقعية لا تخلو من لمسة مُضافة تفسد واقعيتها، مثلما حدث في عربات المترو التي لا تشبه مترو القاهرة.

يتماس الفيلم بشكل واضح مع رائعة المخرج دارين أرنوفسكي ”البجعة السوداء“ (Black Swan) والذي يعتمد بشكل أقوى وأكثر تماسكًا على الفانتازيا، إذ تشعر البطلة منذ البداية بتحولها التدريجي إلى البجعة السوداء، التي تمثلها في الآن ذاته في عرض الباليه الشهير. ولكن الفارق بين الفيلم الأمريكي والفيلم المصري يتمثل في الاعتماد على فكرة التحول والشكل الفانتازي بشكل أصيل داخل الأحداث منذ البداية وحتى نهاية الفيلم. ولكن يجب التعليق على جودة اختيار طائر النعامة ليصبح معادلًا للبطلة، فهو طائر لا يطير، وهو ما يشبه الشخصية التي لا تستطيع أن تخرج من عالمها.

الصدمة والارتياح

تلت عرض الفيلم بعض التعليقات عن احتوائه على الكثير من المشاهد الصادمة والمزعجة، وهو أمر حقيقي، ولكن هل يجعل هذا الفيلم نفسه منفرًا؟ بالتأكيد لا. المشاهد الدموية والعنيفة أمر معتاد في السينما، ربما ليست معتادة في السينما العربية أو المصرية، ولكنها معتادة بالنسبة للمشاهد نفسه، وخاصة من يشاهد الأفلام الفنية التي تنطلق في المهرجانات. لا يحتوي الفيلم على مشاهد أبشع مما شاهدناه في فيلم ديفيد كروننبرج الشهير ”الذبابة“ (The Fly)، وربما يتماثل في نسبة المشاهد الصادمة مع أحد أبرز أفلام العام الماضي “المادة“ (The Substance) للمخرجة كورالي فارجاه، والذي عرض أيضًا في مهرجان كان. من المفهوم ألا يفضّل أو يتحمل بعض المشاهدين هذا النوع من اللقطات، ولكنه لا يعد مشكلة في الفيلم إلا -مثل أي شيء آخر داخل العمل الفني- عندما يكون خارجًا عن السياق.

نشاهد في ”عائشة“ تنويعة من مشاهد العنف والجنس، بالإضافة لألفاظ السباب بجميع درجاتها. إن عدنا لفكرة الواقعية فإن بعض هذه التفاصيل تنتمي بالفعل لعالم الشخصيات، فالسباب ”النظيف“ الذي يظهر عادة في أغلب الأفلام المصرية ليس هو المستخدم في الواقع بين فئات معينة، أو في حالات بعينها، وهكذا يختار الفيلم أن ينحاز للغة الواقعية، ولكن الأزمة هنا كانت في المغالاة في كل شيء مما سبق. في أحد المشاهد داخل المؤسسة التي توفر فرص العمل لعائشة وأخريات من اللاجئات، يُسلم المحاسب النقود لإحدى الفتيات لتخبره أنها تنقص مئتي جنيه، فيكون رد فعله الفوري هو التعدي عليها بالضرب والسباب. هذا المشهد ربما يلخص كيفية استخدام المشاهد المماثلة داخل الفيلم، بعضها يحدث دون مقدمات أو تبرير واضح لاستخدام هذا الشكل، وإن حاولنا التماشي مع فكرة أن الفيلم يصور قسوة المجتمع نفسه، فحتى مع هذا التبرير لا زالت المبالغة شديدة، وكانت نتيجتها أن أغلب -إن لم يكن كل- شخصيات الفيلم كانت أحادية البعد، لا تحتوي على مشاعر حقيقية، جميع أفعالها تتبع خطًا واضحًا طوال الوقت، وبالتالي أصبح التفاعل معها من قِبل المشاهدين شديد الصعوبة، فهناك حاجز من عدم الصدق يحول دون التعاطف مع أي شخصية، بما فيها شخصية البطلة نفسها.

صوت المخرج وصوت الشخصيات

وصولًا إلى شخصية البطلة، فإننا نصل إلى آخر ما يناقشه هذا المقال وهو صوت المخرج نفسه. تميز فيلم مراد مصطفى القصير الأول ”حنة ورد“ بأن الممثلين كانوا على قدر كبير من التلقائية، في الأداء وطريقة إلقاء الحوار، وحتى الحوار نفسه، إلى الحد الذي يمكن معه أن يشك البعض في أنه فيلم وثائقي وليس روائيًا. على العكس يأتي ”عائشة لا تستطيع الطيران“، الذي يظهر خلاله الممثلون بشكل جاف، ويتحدثون بطريقة بطيئة، جميعهم يفعلون ذلك. فإن افترضنا أن عائشة هي امرأة مقهورة وبالتالي لا تستطيع التفاعل مع العالم الخارجي، فما المبرر أن يكون حبيبها عبدون (عماد غنيم) يتحدث بالطريقة نفسها؟ يبدو هذا خيارًا إخراجيًا واضحًا، وبالتأكيد لا مشكلة في أن يقدم صانع الفيلم شخصياته بالطريقة التي يودها، لكن النتيجة كانت أن صوت المخرج في هذه الحالة كان أعلى من صوت الشخصيات نفسها.

هذا الأمر كان موجودًا في كل نواحي الفيلم، وينبغي هنا التوضيح بين الفارق بين أن تكون بصمة المخرج حاضرة، وهو الأمر المطلوب بل والذي يجعل بعض المخرجين يتميزون عن غيرهم بالفعل، وأن يكون المخرج حاضرًا على حساب شكل الفيلم نفسه، إذ نشعر أن حركة الممثلين داخل الكادر، وطريقة كلامهم، امتدادًا إلى طبيعة المشاهد ككل، تعتمد على رغبة المخرج في صناعة مشاهده بطريقة محددة تأخذ من الفيلم روحه وتجعله جافًا خالي من الانسيابية بين عناصره، هذه التي تجعل المشاهد يتفاعل مع الفيلم ويصبح داخله بعد عدة دقائق، هذا بالرغم من التميز الواضح في بعض العناصر التقنية خاصة التصوير لمصطفى (ضاضا) الكاشف.

فيلم ”عائشة لا تستطيع الطيران“ تظهر فيه بوضوح عيوب العمل الطويل الأول للمخرج، خاصة الرغبة في قول الكثير جدًا من الأشياء، أكثر مما يتحمله الفيلم، في حين أن الفكرة الأساسية وعالم الشخصية كانا يمكن أن يقدما الكثير بالفعل في حالة اختزال بعض التفاصيل لإعطاء المساحة الأكبر للعناصر الأهم والأبرز في سيناريو الفيلم، وإضافة أبعاد أكثر للشخصيات. لكننا في الآن ذاته نرى لغة مراد السينمائية لا زالت حاضرة وقابلة لمزيد من الحضور والتطور في الأفلام القادمة بلا شك.

 

مجلة "هي" السعودية في

23.05.2025

 
 
 
 
 

كان السينمائي:

"عميل سري" يحيط الجريمة بالعبث

سليم البيك

ليس الفيلم سياسياً في سطحه. هو فيلم تشويق وجريمة ممتاز، أضاف السياقُ السياسي له عبثاً أغنى من الحبكة بنقصانها الدائم على طول الفيلم. هذا تعقيد كتابيّ متقَن، ومغامِر، في الفيلم المزدحم بالانعطافات الصغيرة،

بهذه العبثية يتقدم الفيلم، ولأن الغموض يفوح في أجواء الديكتاتوريات، لمَ هذا اختفى ولمَ ذاك مقتول؟ لا نعرف وكذلك مارسيلو، على طول الفيلم، لمَ هو ملاحَق. رجل أكاديمي، يبدو مسالماً وغير مواجِه،

السينما البرازيلية في حال جيدة أخيراً، من بعد "ما زلت هنا" لفالتر سالس العام الماضي، فيلم ممتاز آخر خرج اليوم، "عميل سري" للبرازيلي كلبير مندوسا فيلو، بفيلم كذلك عن الديكتاتورية قبل نصف قرن في البرازيل. هو إنجاز سينمائي، سرداً وتصويراً. الاعتناء بمفاصله تجاوز المعتادَ في أفلام الجانر، وهو هنا فيلم ملاحقة وجريمة في فضاء سياسي.

الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان، استهلّ بمشهد هو الأقوى بموقع الافتتاحي، في عموم المهرجان. مارسيلو ينزل من سيارته الفولكس فاغن بيتل الصفراء، في محطة بنزين ليملأها، في الساحة رجل مقتول مغطى بكرتونة. يسأل عنه فيُقال بأن لا يقلق وأن الرجل ملقى منذ أيام. تصل سيارة شرطة، يفتّش رجلاها سيارته ولا يجدان ما يخالفانه عليه، يبتزانه لرشوة فيمنحهما سجائر ويمضيان. الرجل الملقى، المدمى، مكانه كأنه سيارة معطلة مركونة لا يلتفت إليها أحد. نحن في البرازيل في السبعينيات، في حقبة الديكتاتورية.

بهذه العبثية يتقدم الفيلم، ولأن الغموض يفوح في أجواء الديكتاتوريات، لمَ هذا اختفى ولمَ ذاك مقتول؟ لا نعرف وكذلك مارسيلو، على طول الفيلم، لمَ هو ملاحَق. رجل أكاديمي، يبدو مسالماً وغير مواجِه، يدرك أنه مطلوب فيحاول الخروج من البلاد مع ابنه الذي خبّأه في بيت جدّه لأمه. وتدور الأحداث حول محاولته تفادي الاغتيال في وقت يحاول، كذلك، معرفة سبب ما للاغتيال، تلحقها محاولاته للحصول على جواز سفر للخروج.

الفيلم بتصويره الآسر، وتتالي الحبكات فيه، كما يستلزم فيلمُ ملاحقات وإجرام، امتدّ العبث فيه من مشهده الأول إلى عموم الحبكة، بوصفه، العبث، محرّكاً أول للأحداث، أي الهروب لسبب مجهول، من مجهولين. وفي السياق حكم عسكري ديكتاتوري يعطي تفسيراً منطقياً لحالة العبث المسيطرة على الحبكات التفصيلية المتتالية.

يتنقّل الفيلم (The Secret Agent) بين أزمنة متباعدة، تروي معاً القصة باجتزاء هنا وهناك، لتكون إضافةٌ ما في مشهد ما، ناقصةً، تكملها أخرى في آخر، في زمان سابق أو لاحقا. هي لوحة "بَزِلْ" تكتمل رويداً رويداً وبأصوات مختلفة، متباعدة. الفيلم كلّه يكون بذلك رواية جماعية تلتقي جزئيّاتُها حول قصة فردية هي لمارسيلو، الهارب والمتخفّي الدائم، في ما بدا عالماً أوسع لنظام عسكري لا يكون الهروب من إحدى زواياه إلا إلى زاوية أخرى فيه، في فضائه العبثي والمغلَق.

ليس الفيلم سياسياً في سطحه. هو فيلم تشويق وجريمة ممتاز، أضاف السياقُ السياسي له عبثاً أغنى من الحبكة بنقصانها الدائم على طول الفيلم. هذا تعقيد كتابيّ متقَن، ومغامِر، في الفيلم المزدحم بالانعطافات الصغيرة، في الفيلم المزدحم بالانبهارات التفصيلية، سرداً وصورةً، فالأخيرة، كما في المشهد الافتتاحي، كانت عنصراً سردياً لا يحتاج الكثير من الكلام.

محرر المجلة. روائي وناقد سينمائي فلسطيني

 

####

 

كان السينمائي:

في "روميريا" شك في العائلة وحج إليها

سليم البيك

جنوح عاطفي يحدثه الفيلم بمشاهده تجاه مارينا، وعفويتها الطفولية، بتماهي يومياتها هي مع يوميات أمها التي سردت فيها بعضاً من حياة البوهيمية مع زوجها.

قدّمت سيمون القصة بأسلوب أدبي، موزّعةً السرد على تقنيات تتكامل فيما بينها، المَشاهد كما نراها، قراءة مارينا من دفتر اليوميات، وخيال مارينا عن أبويها متحوّلاً إلى مَشاهد نراها.

للإسبانية الكتالونية كارلا سيمون، موضوع واحد يمر على أكثر من فيلم لها، أهمها "الكرّاس" الذي نال الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي في ٢٠٢٢، وآخرها فيلمها المشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان الفرنسي، "روميريا"، وهو تطوير لفيلمها القصير، "صيف ١٩٩٢". تحوم سيمون حول العائلة، تحديداً حول احتمالات تراجيدية طالت أو ستطال العائلة.

في فيلمها الأخير، وهو سيرة ذاتية بقدر كبير، كان الاحتمال مستبَقاً، كان قد وقع. لا ترتقب مارينا ما سيحصل بل تعود لتنبش ما كان قد حصل، في رحلة اكتشافية يمكن لترجمة عنوان الفيلم تفسيرها، "الحج" (Romería).

فتاة كتالونية، تسافر إلى عائلة أبيها وقد مات، وكذلك أمها، منذ كانت طفلة. عادت لتحاول الحصول على أوراق ثبوتية لتستطيع التقدّم لمنحة جامعية كي تدرس السينما. جدّها يقدم لها ظرفاً ممتلئاً بالكاش، قائلاً لن تحتاجي للمنحة الآن. تعيده. تكتشف أن كل ما عرفته عن أبيها من بعد موته ومن خلال العائلة، كان كذباً، بما في ذلك تاريخ موته.

كأن حياة جديدة تكتشفها لوالديها، من المهنة إلى الإقامة إلى اليوميات، كل ما كان يُقال لها، واخت اختلف تماماً عمّا يُقال لها اليوم، كان تمويهاً من العائلة، لسبب واحد هو إخفاء سبب موته، وكان الإيدز من خلال الحقن. فبعد الإصابة بالمرض، أوائل التسعينيات، أخفت العائلة أبيها، وأبعدت أمّها، واعتُبرت مارينا، الطفلة آنذاك، منبوذة، وأزيل اسمها من شهادة وفاته.

تعود مارينا إلى العائلتين، في الريف، وتمضي أياماً للتعرف أكثر إليهما، ومن خلال بحثها، وإلحاحها، للتعرف كذلك إلى أبويها، مع إدراك متدرّج للحياة التي كانت لديهما، بوهيمية، حياة برّية في الشواطئ الصخرية، وحب جارف لا ينتهي يجمعهما. تغوص ابنتهما أكثر فيهما، تتقرّب أكثر إليهما، مبتعدة عن الرياء العائلي، الريفي والمحافظ وشديد الثراء، الذي أخفى الأب والمرض والسبب.

قدّمت سيمون القصة بأسلوب أدبي، موزّعةً السرد على تقنيات تتكامل فيما بينها، المَشاهد كما نراها، قراءة مارينا من دفتر اليوميات، وخيال مارينا عن أبويها متحوّلاً إلى مَشاهد نراها. تتتابع هذه التقنيات لتمنح القصة أصواتاً متعددة لكنها دائماً من وجهة نظر الفتاة، المتحررة، المتمردة على نفاق العائلة، غير العابئة بالملاحظات حول احتمال ميولها المثلية. أصوات متكاملة للشخصية ذاتها، تتماهى فيها اليوميات التي لأمها، والخيالات التي لها عن أمها وأبيها، ويومياتها هي عند العائلة في الريف.

جنوح عاطفي يحدثه الفيلم بمشاهده تجاه مارينا، وعفويتها الطفولية، بتماهي يومياتها هي مع يوميات أمها التي سردت فيها بعضاً من حياة البوهيمية مع زوجها. فنقلَ الفيلم يوميات الفتاة في الريف كأنها من دفترة، بتواريخ وعناوين، كأن تسأل إن كان الدم يكفي للانتماء العائلي، وإن كانت العائلة عائلة إن لم تكبر فيها الفتاة، وإن كانت العلاقة البيولوجية انتماء عائلي.

الفيلم رقيق، حساسيته تجاه مارينا انتقلت بسلاسة إلينا. هو من أكثر أفلام المسابقة الرسمية رهافة واكتراثاً بشخصيته الرئيسية. وإن لم يكن فيلماً عظيماً، تبقى السمة الأفضل له، والمنافس عليها بشدة، هي الجمال. جميل في قصته وأسلوب سردها، وفي تصويرها، جميل في شخصيته وروحها.

محرر المجلة. روائي وناقد سينمائي فلسطيني

 

مجلة "رمان" الثقافية في

23.05.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004