ملفات خاصة

 
 
 

«العميل السري».. سردية الخوف المؤجل وفتنة الصورة التي تتذكر

فراس الماضي

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

يقدم كليبير مندوسا فيلهو في فيلم «العميل السري The Secret Agent» والذي عُرض ضمن فعاليات الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي، مساءلة حقيقية في كيف يمكن للسينما أن تنبش هشيم الذاكرة حين تصبح الوقائع ضبابية، والأصوات مشوشة، والزمان نفسه عصيًا على التحديد، أي أن يكون الماضي شبحًا لا يزال يحوم فوق الحاضر.

وذلك حينما يتتبع الفيلم شخصية مارسيلو، التي يلعبها واغنر مورا، مجسدًا فيها الشخص العادي الذي يكتشف فجأة أنه في قلب شبكة من المؤامرات والأصوات المسجلة والمخاطر التي لا تُفهم. لكن مارسيلو هنا ليس بطلًا مقاومًا ولا ضحية واضحة، هو إنسان يحاول أن ينجو. وهذا بالضبط ما يجعل الفيلم حقيقي؛ أن تعيش داخل زمن كهذا لا يعني بالضرورة أنك على هامش بطولة ما، بل يعني أحيانًا أنك لست سوى مجرد كائن هش يحاول أن يمشي بخفّة دون أن تسمع وقع خطاه.

فمارسيلو – الرجل الذي يعود إلى ريسيفي في أواخر السبعينات هاربًا من لا شيء ومُطاردًا من كل شيء – يدخل المشهد كما يدخل شخص نائم في حلم شخص آخر، لا نعرف الكثير عنه ولا يملك أدوات السيطرة على ما يدور حوله، ومنذ اللحظة الأولى، يرفض الفيلم منحنا سردًا مستقيماً أو حبكة تفضي إلى خلاص.

إيقاع مخالف تمامًا لا مجال فيه للتوتر التقليدي ولا لبناء ينتهي بنا إلى الذروة، فالتهديد ليس خارجيًا بقدر ما هو داخلي متراكم غير قابل للتحديد، حيث اختار مندونسا أن يبني فيلم تتولّد فيه الدراما من الهامش ومن الصمت، ومن بطء التقدّم السردي، بما يجعل الصورة دائماً في حالة تواطؤ مع اللايقين.

وبهذا يتحوّل كليبير إلى ملمح بصري عبر خلقه لتوتر بنائي، وشعور مستتر بالغربة، في المكان ذاته الذي يفترض أن يُحتضن فيه الفرد. فهو ليس بفيلم «إثارة سياسي» بخصائصة التقليدية بل تفكيك جذري لجمالية هذا النوع، حين يخضعه مندونسا لأدواته الخاصة، حيث اللغة السينمائية كمعادل الحسي لما لا يمكن قوله.

وما يفعله مندونسا ببراعه هو تفكيك آليات التذكّر ذاتها؛ عندما يورّطنا في إعادة تركيب الحقيقة بدلًا من تصديقها، كما تفعل الباحثة التي تستمع إلى تسجيلات من الماضي وتحاول أن تستخرج منها شيئًا يُروى. لكن ما يُروى في العميل السري ليس القصة، بل الشك، ليس ما حدث بل ما يمكن أن يكون قد حدث. وهنا تتجلّى قوة الفيلم حينما يفكر في معنى الحدث، حين لا يبقى منه سوى أثرٌ صوتي، أو طرف ساق داخل بطن سمكة قرش.

ولا تُعد هذه المشاهد الغريبة أو العبثية خروجًا عن السياق بقدر ما هي امتداد طبيعيا لفهم مندونسا للواقع. فالساق المبتورة ليست دليلاً بوليسيًا بقدر ما هي مجاز للجسد الممزّق الذي فقد تواصله مع ذاته، مع جذره ومع منطق وجوده، وهي استعارة مؤلمة لبرازيلٍ قررت أن تدفن جثة دون اعتراف وأن يحتفي بأطرافٍ مقطوعة كأنها دليل النجاة. وهكذا يصبح العبث في الفيلم وسيلة نقد لا تقل عمقًا عن التوثيق، بل ربما أكثر صدقًا منه.

كما لا يخفي الفيلم انتماءه إلى تراث سينيفيلي واضح، عندما يستدعي مندوسا تقنيات بصرية من السبعينات – العدسة المزدوجة / تقسيم الشاشة / اللقطة الطويلة – لكنه يخضعها لمنطق ذاتي لا يشبه أحدًا. ليس احتفاءً بالأسلوب بل تحويل للأسلوب إلى موقف. ولا يقف عند حدود التأثير، بل يفرغه من زخرفته ويعيد تحميله بمحتوى سياسي وشعري، يكسر كل ما هو جاهز أو مألوف.

وبهذا المعنى، فإن كليبر مندونسا يبني بنية سينمائية مقاومة ومتراكبة تتطلب من المتفرّج أن يكون شريكًا لا مستهلكًا، باحثًا لا متلقّيًا. ولعل هذا بالضبط ما يجعل العميل السري من أكثر أفلامه نضجاً.. فلا يعيد سرد الماضي، بل يعيد طرح سؤال السينما ذاتها، في مواجهة ما تم إسقاطه ومسحه من الذاكرة الجماعية.

 

####

 

«نسور الجمهورية»..

مراهقة سياسية وسينما ناقصة

هوفيك حبشيان

أفلام عدّة تحاول الانقضاض على السلطة السياسية في مسابقة الدورة الحالية من مهرجان كانّ السينمائي (13 – 24 أيار)، سواء مباشرةً أو مواربة، مثل «قضية 137» لدومينيك مول أو «مجرد حادث» لجعفر بناهي، ومن الزاوية نفسها يطلّ أيضًا «نسور الجمهورية» للمخرج السويدي المصري طارق صالح، كعمل يُفترض به أن يهزّ المنظومة السلطوية في مصر أو أن يعيد مساءلة العلاقة بين الفنّ والسلطة. غير أنّ الفيلم، رغم كلّ العناوين التي سبقت عرضه، سرعان ما انكشف عملًا مرتبكًا، غارقًا في التبسيط والسذاجة، يرفع راية المعارضة، لكنه لا يطلق رصاصة واحدة نحو الهدف. عمل أشبه بحلقة من مسلسل تلفزيوني قد يستمر إلى أجل غير مُسمَّى

يقوم السيناريو على فكرة ممثّل (فارس فارس) يتعرّض للضغوط والابتزاز للاضطلاع بدور الرئيس السيسي. إنه جورج فهمي، المعروف بأدواره الكوميدية السطحية. يُطلب منه فجأة أداء دور الرئيس في عمل سينمائي يتناول «بطولاته» في إنقاذ البلاد.

يطرح «نسور الجمهورية» نفسه بوصفه هجاءً سياسيًا، لكنه لا يلبث أن ينزلق إلى فوضى بنيوية تفقده أي قيمة. الشخصيات مجرّد ظلال، والمَشاهد لا يجمعها خيط سردي أو رؤية إخراجية بحيث يولد الانسجام المطلوب. الخلل البنيوي في الفيلم لا يمكن عزله عن واقع صناعته. فطارق صالح، الذي لا يستطيع التصوير في مصر، أنجز فيلمًا عن مصر من الخارج، كما في عمليه السابقين «حادثة النيل هيلتون» و«ولد من الجنة». معظم الممثّلين من دول عربية أخرى، أو من الشتات العربي، يتحدّثون بلهجات هجينة، ويؤدّون أدواراً يفترض أنها لمصريين يعايشون الواقع، لكنها تُقدَّم من زاوية ضبابية لا تمسّ ذلك الواقع. كلّ شيء مفبرك، مشغول بزيف.

المعضلة الكبرى في «نسور الجمهورية» أنه يريد أن يكون فيلماً عن كلّ شيء: الرقابة، اللوائح السوداء، احتكار السلطة والتحكّم بالبلاد، علاقة الفنّ بالحاكم، تعقيدات الأبوة، الانفصام المجتمعي… لكنه في النهاية يخسر كلّ المعارك الصغيرة والكبيرة، كون النصّ مهمومًا بالحدوتة وكلّ شيء يجب أن يكون في خدمتها. كلّ قضية يُلمِح إليها، ثم يتراجع عنها من دون الغوص في تفاصيلها. هناك ذكر عابر لعدد من المسائل، لكنها لا تتطوّر إلى محاور درامية حقيقية. كلّها تبقى في مستوى الإكسسوارات، كأنها وُضعت خصيصًا لتُلتقط في الإعلان الترويجي للفيلم، لا لتُبنى عليها أحداث فعلية.

ولعل أخطر ما فيه، أنه، وهو يحاول فضح كواليس المنظومة بأكثر الأساليب رعونةً وتكلّفًا وسماجةً، يمنحها، من دون قصد، مظهرًا مقبولًا. وهذا ما يحدث حين نعرض نظامًا سلطويًا بوسائل لا عمق فيها، فإننا بذلك نسحب من الواقع قسوته، ولا غرابة إذا انقلب السحر على الساحر. السيسي يظهر في الفيلم عبر ثلاث طبقات: الأرشيف، والمحاكاة التمثيلية، والتجسيد الحقيقي، لكنه في كلّ هذه التجلّيات، يبدو كما لو أنه أقرب إلى رمز مُفرَغ من المعنى. حتى المشهد الذي يُفترض أن يكون رهان الفيلم الأول –استعراض 6 أكتوبر– يتلاشى وسط الضباب وينتهي في غموض تام.

هذا التعثُّر لا يعود فقط إلى ظروف الإنتاج، بل إلى خيارات فنية وفكرية لدى طارق صالح، «المراهق» السينمائي الذي لا ينضج مع الوقت، ويبدو أنه مُصرّ على المضي في هذه الطريق. فهو يشتغل على مفاهيم عامة عن السلطة والدين والسياسة، لكنه يفعل ذلك من موقع «الخارج». موقع المُراقب الذي لا يعيش في قلب الظاهرة بل على أطرافها. في «نسور الجمهورية»، يزداد هذا البُعد وضوحًا: فيلم يتحدّث عن أحوال مصر السياسية، لكن لا يحمل همّها الحقيقي ولا يلمس جوهرها.

والمفارقة أنه، رغم إخفاقه الفنّي الواضح والصريح، قد يجد صدى في الغرب. لأنه يتماشى مع نظرة نمطية تُختزل فيها الشرق الأوسط في صور الكبت والسلطة والدين والرقابة. الكليشيهات التي يطرحها الفيلم، مثل «الرجل العربي المخصي»، أو «الفنان الذي يخضع للإملاءات»، تسهّل على المتلقّي الغربي أن يفهم «الآخر» ويحدّد موقعه انطلاقًا منها، لكنها لا تضيف أي فهم حقيقي للواقع المحلّي. الفيلم، بهذا المعنى، يبدو مصمَّماً لينال التصفيق في المهرجانات، لا ليُشعل نقاشًا صادقًا داخل المجتمعات العربية. هنا يبدأ دوره وهنا ينتهي.

المسألة برمتها تتجاوز النقد السينمائي إلى سؤال أعمق: هل تكفي النوايا الطيبة والمواضيع الشائكة لصنع عمل يُحسَب على المعارضة السياسية؟ «نسور الجمهورية» يُثبت أن التجرؤ على مواضيع حسّاسة يتحول إلى مسألة محرجة إن لم يكن مقروناً بالقدرة على تجسيدها دراميًا وجماليًا لتبدو قابلة للتصديق. ناهيك عن البُعد السجالي والمفترض أنه متأصل في الحمض النووي لكلّ نصّ سينمائي. فلا يكفي أن تشير إلى قضية؛ عليك أن تلمسها، أن تُشرِّحها، أن تُعرّيها. هذا ما يجعل من أيّ فيلم عملًا كبيرًا، وهذا ما لا يفعله طارق صالح، فتبقى أعماله محاولات رمزية. مع التأكيد على أن وجود أصوات سينمائية مُعارضة، حتى لو أتت من الخارج، هو أمر ضروري ومطلوب. لكن المعارضة لا تُقاس بنيات أصحابها، بل بعمق مقاربتهم، بقدرتهم على إعادة تركيب الواقع.

 

####

 

كشفت من مهرجان كان عن فيلم جديد ذو طابع بوليسي تجاري

هيفاء المنصور: الاستثمار في السينما السعودية أصبح ضرورة لا رفاهية

 أحمد العياد

إيلاف من كانكشفت المخرجة السعودية هيفاء المنصور، عن حماستها الكبيرة لاقتراب الانتهاء من فيلمها المقبل "المجهولة"، الذي وصفته بأنه تجربة مختلفة تميل إلى الطابع البوليسي التجاري، بخلاف أفلامها السابقة التي كانت أقرب إلى الطرح الفني. وأشارت إلى أن الفيلم في مراحله النهائية حاليًا، لكنها تفضّل التريث قبل تحديد موعد الطرح الرسمي في دور السينما.

وأكدت المنصور أثناء تواجدها في مهرجان كان السينمائي، أن السوق السعودي اليوم بحاجة ماسّة إلى أفلام جماهيرية تنجح في شباك التذاكر، معتبرة أن هذه النوعية من النجاحات تمثل الركيزة الأساسية لصناعة سينمائية مستدامة. وأضافت أن وجود "بوكس أوفيس" سعودي قوي هو الضامن لاستمرار الإنتاج وتحفيز المستثمرين والمنتجين على خوض تجارب سينمائية جديدة، داعية إلى إيجاد توازن بين البُعد الفني والجماهيري في الأفلام، بما يُرضي ذائقة المشاهد ويعكس هوية المجتمع في الوقت ذاته.

وعن تطور النظرة المجتمعية للفن في المملكة، أشارت إلى التحول الكبير الذي شهدته السنوات الأخيرة، مشيدة بالدور الذي تلعبه الجهات الرسمية في دعم المواهب الشابة، من خلال برامج تدريبية وتمويلية تتيح للمخرجين والكتاب والمهنيين فرصًا حقيقية للتطور.

وتطرقت المنصور إلى أبرز التحديات التي تواجه صُنّاع الأفلام في المملكة، موضحة أن هناك نقصًا واضحًا في الكفاءات الفنية المتخصصة، لا سيما في مجالات مثل إدارة التصوير وتصميم الإنتاج، بالإضافة إلى الحاجة المُلحّة لتطوير النصوص السينمائية. ورغم هذه التحديات، عبّرت عن تفاؤلها بمستقبل الصناعة، مؤكدة أن الوقت كفيل بتجاوز العقبات إذا استمر الدعم المؤسسي والتمويل.

أما على صعيد السوق، فرأت أنه بات الأهم في المنطقة، بفضل جمهوره المتفاعل وقدرته الشرائية العالية. وأوضحت أن هذا الجمهور عندما يجد محتوى يلامس واقعه، يُقبل عليه بقوة، ما يسهم في خلق دورة إنتاج ناجحة تعود بالنفع على جميع العاملين في المجال.

وفي ما يتعلق بمشروعها القديم في مجال أفلام الأنيميشن، قالت المنصور إن المشروع لا يزال قائمًا، لكنه مؤجل بسبب الوقت الطويل الذي يتطلبه تنفيذ هذا النوع من الأعمال، فيما تركز حاليًا على أفلام اللايف أكشن التي ترى أنها أكثر ملاءمة للمرحلة الحالية.

وأبدت إعجابها الشديد بعدد من الأعمال السعودية، وعلى رأسها فيلم "هوبال"، الذي قالت إنه ترك فيها أثرًا خاصًا، خاصة وأن بطلته ميلا الزهراني هي ممثلة قريبة إلى قلبها وتعتبرها "أهم وأجمل وجه سينمائي سعودي" بفضل موهبتها وحضورها اللافت.

 

####

 

جعفر بناهي عن «It Was Just An Accident»: أكثر أفلامي صدقًا وجرأة

هيثم مفيد

لأول مرة منذ أكثر من عقدين، يعود المخرج الإيراني الشهير جعفر بناهي إلى مهرجان «كان» السينمائي، ليس من مقر إقامته الجبرية في طهران، بل كرجل حر. وخلال المؤتمر الصحفي لفيلمه المشارك في المسابقة الرسمية «كان مجرد حادث It Was Just An Accident»، تأمّل بناهي في عودته التي طال انتظارها إلى «كان»، وثِقل تمثيل أولئك الذين لا يزالون صامتين في بلاده.

ويُعد مهرجان «كان» هذا العام أول ظهور لبناهي في المهرجان منذ عام 2003، حين فاز فيلمه «الذهب القرمزي Crimson Gold» بجائزة مسابقة «نظرة ما». وقال بناهي خلال المؤتمر الصحفي: «استغرقني بعض الوقت لأستعيد نشاطي وأعود إلى العمل، وهذا الفيلم هو النتيجة».

يُعد فيلم «كان مجرد حادث» من أكثر أعماله السياسية صراحةً حتى الآن. صُوِّر الفيلم سرًا في إيران، وتشارك فيه مجموعة من النساء يتحدّين قانون الحجاب في البلاد. ويتتبّع الفيلم مجموعة من سجينات الدولة السابقات اللواتي يتجادلن حول الانتقام من الرجل الذي عذّبهن.

وذكر بناهي أنّ أفلامه «مستوحاة دائمًا من البيئة التي أجد نفسي فيها»، وقبل السجن كانت بيئته هي المجتمع الإيراني، لكن «بمجرّد إرسالك إلى السجن، فإنك تتأثر حتمًا بما تلاحظه وما تراه».

وخلال حديثه، تذكّر بناهي ظروف احتجازه المزرية في زنزانة مساحتها 1.5 متر في 2.4 متر، «حيث بالكاد أجد مساحة للاستلقاء أو المشي. كنت أضطر لقرع الجرس للذهاب إلى الحمام». مضيفًا: «كان يُسمح لي بدخول الحمام مرتين أو ثلاث مرات يوميًا. وللخروج من زنزانتي، كان عليّ أن أُعصب عينيّ. لم يكن يُسمح بإزالة العصابة إلا في المرحاض».

وقال بناهي إنه خلال فترة سجنه، كان يُستجوب باستمرار، غالبًا لمدة ثماني ساعات يوميًا. «في إحدى المرات، حان وقت الصلاة، فخرج المحقّق للصلاة ثم عاد للاستجواب».

لكن بناهي أشار إلى أنّ كثيرين غيره عانوا أكثر بكثير، موضحًا أنّ كاتب السيناريو المشارك معه أُعيد إلى السجن، وأضاف: «الإيراني هو من قضى الأربعين عامًا الماضية في الأسر».

ورغم عقود من النضال ضد الرقابة والانتهاكات والحظر الرسمي، قال بناهي إنه لم يفكّر أبدًا في الاستسلام. واختتم: «خلال فترة حظري التي استمرت عشرين عامًا، حتى أقرب أصدقائي فقدوا الأمل في أن أعود إلى صناعة الأفلام. لكنني بحثت عن حلول، وقلت لنفسي إنني لا أعرف كيف أفعل شيئًا آخر… لا أستطيع تغيير مصباح كهربائي، ولا أستطيع استخدام مفكّ براغي. لا أعرف كيف أفعل أي شيء سوى صناعة الأفلام».

وقد حظي العرض الأول لفيلم «كان مجرد حادث» باستقبالٍ حماسي وتصفيقٍ حارّ دام ثماني دقائق، ألقى بعدها بناهي خطابًا مؤثّرًا، أشاد فيه بالعديد من المخرجين والممثلين والناشطين الإيرانيين الذين ما زالوا مسجونين أو ممنوعين من العمل في أعقاب احتجاجات حرية المرأة.

 

####

 

«القضية 137»… الجريمة وعدم العقاب

حسام فهمي

في عام 1866، كتب الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي أولى رواياته الكبرى، والتي تدور حول شاب فقير يخطط لقتل امرأة عجوز ثرية، تحتفظ بثروة من المال والمجوهرات في شقتها. في نظره، الجريمة مبررة: فهو يضحي بحياة عجوز أنهت رحلتها في الحياة، من أجل مستقبل شاب يمتلك إمكانيات عظيمة قد تغيّر العالم للأفضل. لكن بعد تنفيذ الجريمة، يتحول الصراع إلى عذاب أخلاقي داخلي، إذ يكتشف الشاب أن الغاية لا تبرر الوسيلة، وأن ما فعله يبقى جريمة مهما كانت مبرراته. تحوّلت الرواية إلى واحدة من أعظم الأعمال الأدبية في التاريخ، وأبرز ما كتبه دوستويفسكي «الجريمة والعقاب».

اليوم، مع مشاهدة «القضية Dossier 137» للمخرج الفرنسي الألماني «دومينيك مول» تتحول ثنائية الجريمة والعقاب أو «عدم العقاب» إلى هاجس جديد، ليس لمجرد فرد –شاب روسي فقير– كما في رواية «دوستويفسكي» لكن لمؤسسة كاملة بحجم الشرطة

كيف يمكن أن تصبح الجريمة غير معاقب عليها قانونًا؟، وكيف يتحول السرد السينمائي إلى بركان يوشك على الانفجار؟

شرطة الشرطة 

خلال أحداث «القضية Dossier 137» نتابع رحلة تحقيق داخل جهاز الشرطة للكشف عن تفاصيل تعرض شاب فرنسي لإصابة بالغة في الرأس أثناء مشاركته في تظاهرات «السترات الصفراء» التي اشتعلت في فرنسا خلال عام 2018، والتي تم وصفها وقتئذ بـ«الشعبوية»، واجتذبت عشرات الآلاف من الأسر الفرنسية التي تعيش في قرى ومدن صغيرة وتمتلئ بشعور عدم الرضا من الحكومة بالمشاركة فيها.

في أحد مشاهد الفيلم، تؤكد والدة الشاب المصاب أن لا أحد سيكترث لما يحدث لأهل بلدتها الصغيرة. لكن ما لا تدركه الأم في تلك اللحظة أن الشرطية التي تحقق في الواقعة تنتمي إلى نفس البلدة أيضًا، وليس هذا هو وجه التشابه الوحيد بينها وبين الضحية وعائلته. فبينما تواصل التحقيق في احتمال تورط رجال الشرطة، زملائها في المهنة، يتحول هذا القرب العاطفي والمهني من كلا الطرفين إلى عبء ثقيل، وضغط نفسي متصاعد يهدد بسحقها تحت وطأة الحقيقة.

ما لا يقال 

يتطور السرد بأدوات متعددة خلال فصول الفيلم الثلاثة، ينتقل دومينيك مول بين أسلوب مقابلات شبه وثائقي مع أهل الضحية، ثم رجال الشرطة، وبينهم مقابلة كلاسيكية بأسلوب الشرطي الجيد والشرطي السئ مع أحد الشهود، وصولًا إلى أسلوب سرد بصري ينتمى لعالم أفلام المحققين من خلال تتبع أحد الشهود سرًا، إضاعتها وسط الزحام ثم ايجادها، تهديدها ثم محاولة كسب تعاطفها، وأخيرًا محاولة الضغط عليها حتى تفلت منها معلومة تغير مجرى الأحداث

كل هذه الأدوات تعمل كإطار جيد لدفع السرد السينمائي للأمام، خطوة بخطوة نحو الانفجار، لكن الأداة الأهم في هذا الفيلم هو الحوار المكتوب وغير المكتوب، فحينما يتحدث رجل شرطة عن أنه «يحمى الجمهورية ويدافع عنها في حرب»، ذكر كلمات كهذه وسط تظاهرات من مدنيين، يصبح له معنى أكثر بكثير من المنطوق، بالمثل حينما تنفجر أحد الشهود بأن «العرب والأفارقة يتم ضربهم في الشوارع طوال اليوم وكل يوم، فلماذا تنقلب الدنيا الآن لأن شاب أبيض قد أصيب؟»، يصبح المقصد أبعد بكثير من غضب شخصي

ما هي الجريمة؟ 

تصبح مفاجأة الفيلم الأكبر في سؤال أخلاقي عن معنى الجريمة، هل هو كل فعل يعاقب عليه القانون؟، هل معنى انتفاء العقاب بالضرورة عدم وجود جريمة. ماذا لو حضر الفعل الإجرامي وغاب العقاب القانوني؟، ماذا لو كان الجاني هو المسئول عن تطبيق القانون؟

أسئلة عديدة يتركك معها فيلم «القضية ١٣٧»، تظل ربما تفكر فيها لسنوات بعد مشاهدة الفيلم، هكذا يصنع  دومينيك مول فيلم يمزج بين سينما أفلام المحققين والدراما الأسرية، يصبح الفيلم هكذا وسيلة للتساؤل عن العدالة بمفهومها الواسع، العدالة داخل الأسرة، العدالة بالنسبة للأقليات، والعدالة داخل مؤسسات السلطة

حينما تصبح الجريمة بلا عقاب قانوني، يصبح تطبيق العدالة أمر شخصي، قرار فردي، أو ربما يجب على المواطنين في تلك اللحظة تطبيق العدالة بأيديهم، هل يحذر دومينيك مول من هذا أو يدفع مشاهده دفعًا له؟ 

فيلم «Dossier 137» قد يخطف أحد جوائز المهرجان هذا العام، كما تنافس بطلة الفيلم «ليا دروكر» بقوة على جائزة التمثيل، يعمل الفيلم كبورترية لشخصيتها تكتمل رتوشه مع تطور الأحداث، ويصبح الفيلم عن كيف تتغير شخصيتها، الشرطية التي تكتشف في النهاية ما هي الحقيقة، التي ربما يعرفها الآخرون منذ البداية

 

####

 

«عائشة لا تستطيع الطيران».. ليس لذوي المعدة الرقيقة

أحمد شوقي

نحن بصدد عاصفة جديدة ستهب على السينما المصرية هذا العام، محملة بأحاديث بعضها سينمائي ممتع، وكثير منها عبثي يفتقر لأبسط قواعد مناقشة الأعمال الفنية، معركة متكررة ستتصارع فيها الشعبوية والصوت المرتفع مع محاولة طرح الأسئلة البديهية حول ماهية الفن ومساحة الحرية المكفولة لصانعه ومتلقيه. سبب تلك العاصفة المتوقعة؟ «عائشة لا تستطيع الطيران»، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج مراد مصطفى، والذي عُرض قبل ساعات ضمن مسابقة «نظرة ما»، ثاني مسابقات مهرجان كان أهمية.

اختيار الفيلم لتلك المسابقة تحديدًا، والتي يكشف عنوانها ما يحاول مبرمجوها فعله من التفتيش على التجارب الخاصة، والأصوات الخارجة عن المألوف، أمر لا يمكن التغاضي عنه ونحن بمعرض الحديث عن فيلم انقسمت ردود الأفعال حوله، فمن الحضور من غادر الفيلم في منتصفه بسبب عدم قدرته على تحمل مشاهده التي تحمل بعض الدموية أو العنف أو الصور غير المريحة، ومنهم من وقع في حبه ووجد فيه عملًا فنيًا أصيلًا، ومنهم كاتب هذه السطور.

يُخطئ من يتعامل مع «عائشة لا تستطيع الطيران» باعتباره فيلمًا عن معاناة مهاجرة سودانية تعيش في القاهرة وتضطر للعمل كخادمة وممرضة في البيوت لكسب عيشها. صحيح أن ذلك هو ملخص القصة، لكنه ليس جوهر الفيلم، هو مجرد مدخل إلى عالم البطلة، التي يحاول المخرج بدأب أن يجعلنا نعيش خبرتها بكل أوجهها: الواقعي والمُتخيل، الجميل والقبيح، الإنساني والحيواني، والأخير وجه بالغ الأهمية سنتطرق له في المقال، لكنه يصلح أن يكون مبحثًا مستقلًا لتحليل الوجود الحيواني المتزايد في السينما المصرية المعاصرة.

الواقعي والمتخيل.. هذا ليس فيلمًا عن المهاجرين

صاغ المخرج مراد مصطفى في أفلامه القصيرة الأربعة الناجحة «حنة ورد» و«خديجة» و«مالا تعرفه عن مريم» و«عيسى» بصمة بصرية خاصة متكررة، تتمثل في لقطات للكاميرا تصور الأبطال من وراء ظهرهم، تسير معهم لمسافات طويلة غير معتادة، نكتشف خلالها جغرافيا العالم من أقرب نقطة لوجهة نظر الشخصية. اللقطة تتكرر كالعادة كثيرًا في الفيلم الطويل.

يعني المخرج إذن بوضع المشاهد في وجهة نظر بطلته، التي اختار لها في حالتنا أن تمتلك سمة بصرية غريبة ملحوظة: لدى كل عين من عينيها لونًا مختلفًا، عين زرقاء وأخرى داكنة. اختيار لا يؤسس فقط لهامش الغرابة في حياة عائشة، ولكن يُمهد من الدقائق الأولى لازدواجية عالم الفيلم. هذا عمل يمكن ولوجه وخوضه وتأويله من مدخلين مختلفين دائمًا، في كل وقت وكل تفصيلة.

كل شيء يمكن أن يكون واقعيًا، مُشبعًا بمعاناة امرأة شابة كعائشة تخوض رحلة كسب العيش في مدينة صار العنف والتجاوز والعنصرية من مفرداتها اليومية، تحاول التلاعب بما تملك من أدوات محدودة كي تنجو، وتنتهك القانون أحيانًا رغبة في النجاة لا التربح. كل شيء أيضًا يصلح أن يكون خيالًا، محض أوهام يرسمها لا وعي فتاة رأينا أكثر من مرة كيف يقوم عقلها بمعالجة ما تقابله ويعيد تقديمه في صورة فانتازية، دموية في أغلب الحالات، وكأن الخيال تعبير عن عقلها الباطن الراغب في الرد على العالم بما يستحقه من عنف.

الجمال والقبح.. والخطوط الفاصلة بينهما

من أكثر الأفكار الخاطئة التي تتردد في الأحاديث الإعلامية المتعلقة بالفن في مصر ما يتعلق بما يسمونه «جمالية القبح»، وكم من سمعنا مخرجًا أو ناقدًا يحاضر فينا عن ضرورة بحث الفنان عن الجمال، حتى لو كان يصوّر كومة قمامة. العبارة بشكل عام صحيحة، لكن ينقصها تعريف الجمال نفسه، وهل يعني ما تعارف عليه الناس بما صار مرتبطًا لدى الغالبية باستجابات ما، كالتفاعل مع الروائح مثلًا، والتي تكشف الممارسة عن كونها في الأعم استجابات مكتسبة، بدليل وجود روائح أطعمة تثير شهية سكان بعض البلاد بينما ينفر منها أبناء بلاد أخرى.

لا تسمح مراجعتنا السريعة بالتعمق في الأمر، ويمكن لمن يريد أن يطلّع على كتابات د. شاكر عبد الحميد حول الجمال في كتبه مثل «التفصيل الجمالي» و«الفن والغرابة»، لكن ما يهمنا هنا التأكيد على أن «عائشة لا تستطيع الطيران» يضم بالفعل بعض المشاهد التي قد تثير حفيظة (بل وتقزز) من اعتادوا تجميل الفن لقبح الحياة، لكنها نفس المشاهد التي تمنح الفيلم فرادته كعمل معاصر يتركز على فهم مغاير كليًا لمعنى الجمال.

وإذا كانت رحلة عائشة تطفو كما أوضحنا في الهامش بين الواقع والخيال، فإن عملة تلك المساحة هي الحواس: اللمس والشم والتذوق، التي يشكل تراكمها واقع الإنسان ويحاصر خياله. المترو المزدحم لا ينفصل عن روائح ركابه، والعمل كممرضة لكبار السن لا فكاك فيها من اختبار سوائلهم وفضلاتهم. حتى الجنس والأكل وجها استخدام الإنسان جسده بغرض اللذة، تجربتهما محكومة باختبار تقبل حواسك للجمال والقبح.

من هذا المدخل أقول بأن فيلم مراد مصطفى فيلم جميل حقًا، في اختياراته المغامرة التي يعلم صاحبها قطعًا أنها ستؤدي في كل مرة إلى مغادرة مشاهد قاعة العرض. لكنها حرية الفن التي صاغت تاريخه، فلو انصاع الرسامون لضرورة رسم البشر كصورتهم الواقعية، لما ولدت الانطباعية والتأثيرية والسوريالية والتكعيبية. لكنك ستظل تجد حتى الآن من يعتبر رسوم ذاك الإيراني الذي يكافح كثيرًا كي يقلد كاميرا الفوتوغرافيا أفضل من لوحات ميرو وبيكاسو!

البشرية والحيوانية.. أو البشرية الحيوانية

يمكنك أن تتوقف هنا إن كنت ممن لا يفضلون المراجعات التي تكشف عن بعض تطورات القصة، لأنه لا فكاك من أن تتطرق أي محاولة لأخذ الفيلم بجدية إلى الرحلة الحقيقية لعائشة خلال الفيلم: تحولها من امرأة إلى هجين بين إنسانة ونعامة!

تبدو العبارة مثيرة للدهشة وربما الضحك عندما تقرأها هنا، لكنها في الحقيقة ليست رحلة مضحكة إطلاقًا، بل على النقيض هي رحلة نضج تأتي بأكثر الصور سوداوية. المهاجرة السودانية التي تحاول المناورة والنجاة من عنف القاهرة تبدأ في مقابلة نعامة في لحظات وأماكن غير متوقعة، ثم لا تنفك تلاحظ تغيرات جسدية تبدو في البداية مجرد أعراض لأي مرض طبيعي، قبل أن تكتمل الدائرة الدرامية باكتشافنا أنها كانت رحلة تحوّر جسدي فعلي يحدث لجسمها.

لا مجال هنا للتساؤل عن مدى واقعية الحدث، فكل شيء كما أوضحنا يُشكك في مفهوم الواقع برمته، لكن ما يجب التفكير فيه هنا هو إلحاح فكرة هذا التحور الجسدي على عقول الفنانين المعاصرين. يمكن بسهولة استرجاع مقاربات من «بجعة سوداء Black Swan» لدارين أرونوفسكي، «حدود Borders» لعلي عبّاسي، و«نيئ Raw» لجوليا دوكورنو، وفيها جميعًا تجسيد لتلك الفكرة الغرائبية التي تبدو في زمننا الحالي أقرب للتحقق من أي وقت ممكن. فإذا صار من المعتاد أن يكون إنسان صداقة حقيقية مع تطبيق ذكاء اصطناعي على هاتفه، فما الذي يمنع تعرض البشر أنفسهم لطفرات تحوّرية، كفرضية جدلية وفلسفية؟

يأخذ مراد مصطفى هنا ثنائية البشرية/ الحيوانية إلى درجة أبعد من كل المحاولات الحديثة، والتي نذكر منها العنزة في «علي معزة وإبراهيم» لشريف البنداري، «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» لخالد منصور، ومن السينما العربية «ناقة» لمشعل الجاسر. هذه الأفلام وغيرها تستخدم الحيوان بطريقة من اثنتين: إما كبديل عاطفي يعوّض الإنسان عن افتقار علاقة أو مشاعر ما، أو استعارة تشير لسمة مميزة للشخصيات، لكن أحدًا لم يأخذ الخطوة الأبعد فيجعل الإنسان والحيوان وجهان لجوهر واحد كما فعل مراد.

ليس هذا بمعزل عمّا ذكرناه عن محاولة «عائشة لا تستطيع الطيران» مخاطبة الحواس بأكثر الصور اقتحامًا، فإذا كنا نتعرف على الحياة ونخوض غمارها من خلال حواسنا، فالحيوانات هي أفضل من يفعل ذلك، وكأن اضطرار عائشة للتعايش مع هذا القدر اليومي من انتهاك الحواس وقود يُسرع من تحوّرها الجسدي.

فيلم ليس للجميع

من المفهوم تمامًا أن يبدو كل ما ذكرناه للبعض تأويلًا مُفرطًا للأمور، أو أن يرى قطاع من القراء أن الأفكار وإن استقامت لا تبرر تعمد صانع أفلام أن يصدم مشاعرهم بما يثير الخوف والتقزز، لكن جوهر أي فن حداثي هو إدراك صانعه أن عمله لا يصلح لمخاطبة الجميع، وأن الاستمالات التي اختارها تتناقض مع المألوف والآمن، فلذة المخاطرة ترتبط بالتنازل طوعًا عن الشعبية والشعبوية.

فيلم مراد مصطفى يصرخ بأن صانعه يعرف ذلك جيدًا، وأنه صنع فيلمًا خاصًا ليس موجهًا للجميع، وإنما لمن يمكنه تجاوز حدود الذائقة المعتادة، والاستمتاع بأنه في الزمن الذي صار صناع الأفلام المصريين فيه يمارسون على أنفسهم أكبر قدر ممكن من الرقابة الذاتية، خوفًا من المنع تارة ومن مقصلة الجماهير تارة أخرى، جاء فنان شاب ليُخل بذلك التوازن الآمن السقيم ويُلقي حجرًا في المياه الراكدة، حجرًا دمويًا عنيفًا اسمه «عائشة لا تستطيع الطيران».

 

####

 

أريج السحيري: أطرح سؤالًا مهمًا من خلال قصة طفلة «سماء بلا أرض»

احمد العياد

قالت المخرجة التونسية الفرنسية أريج السحيري إن فكرة فيلمها الجديد «سماء بلا أرض» وُلدت من صدفة جمعتها بصحفية جنوب إفريقية تعمل قسيسة في كنيسة تقدم الدعم للمهاجرين في تونس. اللقاء أثار فضولها، فبدأت تتأمل في مصير النساء المهاجرات والواقع الذي يعشنه في مجتمع لا يمنحهن الاعتراف الكافي. ومن هنا، بدأت تنسج خيوط حكاية ثلاث نساء تقاسمن رعاية طفلة فقدت أمها في رحلة هجرة مأساوية.

أريج أكدت في حوار لها مع فاصلة، على هامش فعاليات مهرجان كان السينمائي بدورته الـ78، أن توقيت التصوير كان شديد الحساسية، إذ تزامن مع تفاقم أزمة المهاجرين في تونس، ما أضفى على العمل توترًا ومسؤولية مضاعفة. لكنها شعرت بواجب أخلاقي لإتمام الفيلم، لأنه يطرح تساؤلات ضرورية: كيف نعامل من يهاجر إلينا؟ وهل نحن مستعدون لرؤية الإنسان خلف صفة «المهاجر»؟

أما عن اختيار الممثلات، فاتبعت السحيري منهجها المعتاد في الاكتشاف، كما فعلت في فيلمها السابق «تحت الشجرة». التقت بفتاة كانت تستعد للهجرة غير النظامية، وعرضت عليها خوض تجربة التمثيل دون فرض. وبعد عام من التحضير، تحوّلت الفتاة إلى ممثلة حقيقية تشارك البطولة.

وأكدت السحيري أن الفيلم الثاني كان أكثر تعقيدًا من الأول، بسبب موضوعه الحساس، وتعدد الجنسيات والخلفيات الثقافية لفريق العمل، ما تطلّب منها مرونة وإخلاصًا لرؤية الشخصيات من الداخل. ورغم أن الفيلم يضم ممثلات من دول مختلفة، ترى السحيري أنه تونسي بامتياز، لأن قصصه تنبع من أرض تونس.

وشددت على أن الطفلة في الفيلم ليست مجرد شخصية، بل سؤال مفتوح عن المسؤولية: من يحمي هؤلاء الأطفال؟ وتمنت أن يُحدث الفيلم أثرًا في الوعي الجمعي، وأن يمنح وجوهًا حقيقية للمهاجرين الذين اعتدنا رؤيتهم كأرقام.

https://www.youtube.com/watch?v=Az0di938184

 

####

 

«صراط»… رقصٌ كابوسي على حافة الفناء

سعيد المزواري

يحكي الفيلم الرابع للمخرج الأسباني الفرنسي أوليفر لاكسي، قصة لويس (سيرجي لوبيز)، الأب الذي ينطلق في رحلة مع ابنه بحثًا عن ابنته المختفية منذ شهور أعقبت حضورها حفلة موسيقية معزولة Rave في المغرب. وبينما يلتقي الأب والابن مجموعة من غريبي الأطوار ممن ينظمون تلك الحفلات الصاخبة في فضاء صحراوي مفتوح، تتحول رحلتهما عبر ربوع الأطلس الكبير تدريجيًا إلى سعي تجريدي وتجربة انصهارية مع الوجود، عبر اندماج في رقص محموم حد الانصهار، بالمعنى الحرفي للكلمة.

يفتتح فيلم «صراط Sirât» بلقطات سريعة ومقربة لأياد منهمكة في تركيب وتوصيل مكبرات صوت عملاقة وقوية، إعدادًا لحفل Rave Party في مكان ما من صحراء ورزازات المترامية، الواقعة عند السفح الجنوبي لجبال الأطلس الكبير. تتعرض الحفلة للمنع وتُفضّها قوات الجيش، فينفلت إيقاع الفيلم إلى مشاهد تعقّب محمومة تعبر على إثرها قافلة شاحنات غريبة تحمل شخصيات مشروخة هشة، تتسابق الشاحنات في طرقاتٍ غير معبدة بسرعة مجنونة، حتى حين لا يكون في إثرها أحد، وكأنها تفرّ من نفسها.

نحن ربما في مساحة مشتركة بين فيلم «Freaks»  لتود برونينغ و«ماد ماكس Mad Max» لجورج ميلر (تتحدث إحدى الشخصيات بشكل مبهم عن حرب عالمية وبداية عصر انهيار كبير)، وتصور روحاني ينسج رابطًا غير مباشر مع ثيمة التدين عبر مفهوم «الصراط»، تدعمه لقطة آسرة لطقس الطواف يبثها تلفاز صغير داخل حجرة ضيقة بائسة في محطة بنزين شبه مهجورة، وكأنها لتقول أنّنا في بيئة لم يعد فيها أحد يسمع مناجاة المتضرعين. نحن إزاء تصور تطبعه نظرية صمت العالم الفلسفية وأزمة الروحانيات في زمننا المعاصر.

تشغّل جايد، المرأة التي يلتقي لويس في رحلة بحثه عن ابنته الموسيقى الصاخبة داخل الشاحنة، فيعترض الأب قائلا «اخفضي الصوت، نكاد لا نسمع شيئاً»، فتجيب جايد: «ليس الهدف أن تسمع بل أن ترقص».

اشتغال  لاكسي على الصوت يتجاوز وظيفته المعتادة في مصاحبة الصورة أو دعم الأحاسيس وتعميقها أو إثارة الاهتمام، فالموسيقى الإلكترونية الصاخبة المميزة لحفلات الـ Rave في «صراط» رديفٌ لرابط خاص مع الوجود عصبه رقص مسكون ينصهر فيه أشخاص خاسرون ومقصيون في فضاء صحراوي قاحل، وحقيقة تعمي الأبصار من فرط سطوعها. نستذكر مع الفيلم أفلام عظيمة، تنظر فيها الشخصيات إلى نفسها في مرآة الطبيعة الصحراوية القاسية، أهمها «غير الأسوياء» The misfits (1961) لجون هيوستن.

مثل لوبيز الذي يستيقظ في شاحنة وسط مجموعة من الغرباء غير مدرك إن كانت الكارثة التي حلت به كابوساً أم حقيقة، يستبدّ بالمشاهد إحساس بعدم تصديق ما يرى من مفاجآت وانعطافات مغرقة في الجرأة والغرابة في أحداث الفيلم (لن نفصح على أي منها هنا حفاظاً على وقع المفاجأة المهم للذين لم يشاهدوا الفيلم بعد)، يفغر لها فم المتفرج وهو يلتفت حوله ليتأكد من أنه ليس الوحيد في القاعة الذي شاهد ما شاهده للتو. صحيح أن بعض مشاهد مواجهة الأخطار تلامس الإجرائية فتقترب إلى حد ما من أجواء «لعبة الحبّار Squid game»، لكن المخرج لا يفتأ ينفلت منها عبر جماليات غير اعتيادية تنزاح عن سطوة الحبكة وتعود بنا سريعًا إلى شعور الترقب والشكّ الخلّاق.

هذا فيلم طريق روحاني وشاعري وعنيف، لا يهاب النظر في عين الشمس، مشكلاً ثنائية مع «ميموزا»، فيلم لاكسي الطويل الثاني المصوّر أيضًا عند سفح الأطلس الكبير، ويشترك مع «صراط» في كونه فيلم طريق، تتكرر فيه ثيمات قافلة الأغراب والموت المحلق فوق الرؤوس، والمرور من المنعطفات الحرجة في المضايق الجبلية مع جثة فوق محمولة فوق الأكتاف، وكأن الشخصيات تعبر الصراط الذي يفصل بينها وبين مصيرها الأبدي. ولعل أبرز دليل على ذلك جملة عبرت من خلالها إحدى شخصيات «ميموزا» عن ورطتها فيما تقول: «نحن داخل شدق عملاق نائم». هذه الجملة يمكن أن تنسحب بسهولة على «صراط». 

في القسم الأخير، وسط طبيعة صحراوية مغربية خلابة ومخيفة في آن، ينزلق الفيلم إلى أجواء «أجرة الخوف The wages of fear (1953)» من دون أي أطماع مادية، اللهم أملٌ ضئيل في غفران يتمثل في عبور صراط تصفه مقدمة الفيلم بجسر حاد ورفيع يفصل بين النار والجنة (رغم أن التقليد الإسلامي يموقعه فوق النار تحديدا ويقطعه المؤمنون ويهوي منه الكفار)، من دون أن تفصّل حقيقةً في غاية الأهمية لأن الفيلم يتمثلها بشكل ضمني، هي أن كل إنسان يمر من الصراط حسب إيمانه وأعماله. فهناك من يمشي فوقه هرولة كخطف البصر ولا يشعر به، ومن يحبو عليه حبوا، ومن يتلكأ حتى يكاد يهوي في النار.

شخصيات لاكسي ليست من الفئة الأولى ولا الأخيرة، هي تحبو وتزحف في رحلة تستشعرها بكل جوارحها وتنطبع في لحمها ودمها، لذا يتمطّط زمن الحكي ونصير في رحلة ميتافيزقية الأبعاد إلى أقاصي النفس الإنسانية وعلى شفير الفناء.  

 

####

 

"الرجل الذي كان يساوي 6 مليارات دولار" يدعوا لإيقاف إسرائيل

مهرجان "كان".. أسانج يرتدي قميصا عليه أسماء نحو 5 آلاف طفل قتلوا في غزة

 إعداد: فريق التحرير- إيلاف

إيلاف من باريسشارك مؤسس موقع "ويكيليكس" جوليان أسانج، في مهرجان "كان" السينمائي مرتديا قميصا يحمل أسماء 4 آلاف و986 طفلا فلسطينيا قتلوا في القصف الإسرائيلي في قطاع غزة.

وقبيل عرض فيلم وثائقي يسرد قصة حياته تحت عنوان The Six Billion Dollar Man "الرجل الذي كان يساوي ستة مليارات دولار"، وقف أسانج إلى جانب زوجته ستيلا أسانج، على درج قصر المهرجانات مرتديا قميصا يحمل على ظهره عبارة كبيرة كتب عليها: "Stop Israel- أوقفوا إسرائيل"، في خطوة حملت رسالة سياسية قوية وواضحة.

وقالت صحيفة "humanite" الفرنسية إن هذه الخطوة تظهر أن "نضال أسانج الطويل من أجل الحقيقة لا يزال ثابتا وفاعلا".

وأسانج صحفي وناشط أسترالي، واشتهر بكونه مؤسس موقع "ويكيليكس"، المنصة التي نشرت منذ عام 2006 ملايين الوثائق السرية، بما في ذلك تقارير عسكرية ودبلوماسية أميركية، ما أدى إلى جدل عالمي واسع.

بدأ أسانج حياته المهنية كمبرمج ومخترق، وشارك في العديد من المشاريع البرمجية قبل أن يؤسس ويكيليكس. وكان هدفه المعلن هو كشف الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وتمكين الصحافة من لعب دور رقابي فعال على الحكومات والمؤسسات القوية.

أشهر ما نشره ويكيليكس كان في عام 2010، عندما كشف عن وثائق مسربة تتعلق بالحروب في العراق وأفغانستان. وتضمنت تلك التسريبات شريط فيديو يُظهر مروحيات أمريكية تقتل مدنيين عراقيين.

في عام 2012، لجأ أسانج إلى سفارة الإكوادور في لندن طلبا للجوء السياسي، هرباً من تسليمه إلى السويد على خلفية اتهامات بالاعتداء الجنسي، وهي تهم ينفيها ويعتبرها ذات دوافع سياسية تهدف في النهاية إلى تسليمه للولايات المتحدة، حيث كان يواجه اتهامات بالتجسس ونشر وثائق سرية.

ظل أسانج في السفارة لمدة سبع سنوات، حتى سحبت منه الحماية الدبلوماسية عام 2019، فاعتقلته الشرطة البريطانية. ومنذ ذلك الوقت، خاض معارك قانونية ضد تسليمه إلى الولايات المتحدة، حيث يواجه اتهامات بموجب قانون التجسس الأمريكي قد تؤدي إلى عقوبات بالسجن لعشرات السنين.

في يونيو 2024، تم الإفراج عن أسانج بعد صفقة قانونية مع السلطات الأمريكية، سمحت له بالمغادرة دون قضاء عقوبة طويلة، ليعود إلى الحياة العامة. ويواصل حاليا نشاطه السياسي والإعلامي، ويعتبر رمزا عالميا لحرية الصحافة وحق الجمهور في الوصول إلى المعلومات.

 

####

 

النجم الشهير بفيلم Malcolm X بدا غاضباً بسبب قيام مصوّر بلمسه على ذراعه

بالفيديو.. مشادة كلامية للنجم دينزل واشنطن على السجادة الحمراء في "كان"

 إعداد: فريق التحرير- إيلاف

إيلاف من باريسوقعت مشادة كلامية بين النجم الأميركي الحائز على جائزة الأوسكار، دينزل واشنطن، مع أحد المصورين خلال حضوره العرض الأول لفيلمه الجديد "Highest 2 Lowest" في مهرجان كان السينمائي، يوم الاثنين.

وأظهر فيديو تم تداوله على مواقع التواصل، واشنطن (70 عاما) وهو يوجه إصبعه في وجه أحد المصورين خلال لحظة توتر واضحة على السجادة الحمراء.

وكشف خبير قراءة الشفاه، جيريمي فريمان، في تصريح لموقع"ديلي ميل"، أن النجم الشهير بفيلم Malcolm X بدا غاضبا بسبب قيام المصوّر بلمسه على ذراعه.

ووفقا لفريمان، صرخ واشنطن قائلا: "مرة واحدة فقط، توقف... دعني أوضح لك، لا تلمسني مجددا أبدا".

ورغم تحذيرات واشنطن المتكررة، أظهر المقطع المصور استمرار المصوّر في محاولة لمس الممثل مرة أخرى، بل وسأله: "هل يمكنني التقاط صورة؟"، ما دفع واشنطن للرد بانفعال: "توقف، كفى، أنا جاد، توقف".

ويبدو أن بعض المصورين المحيطين بالمشهد لم يدركوا مدى انزعاج واشنطن، إذ ظهروا مبتسمين أثناء المشادة.

ويوجد لواشنطن تاريخ طويل من المواقف المتوترة مع المصورين، حيث سبق أن تم تصويره في أكتوبر 2024 وهو يتشاجر مع عدد من هواة توقيع التذكارات في نيويورك، خلال حدث تكريمي أقيم في متحف الفن الحديث على شرف النجم صامويل إل. جاكسون.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

21.05.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004