“المجمع
المغلق”.. حرب داخل أسوار الفاتيكان تجسد صراعات العالم
حسام فهمي
انفجار خلف أبواب الفاتيكان، حيث يجتمع الكاردينالات
لاختيار البابا الجديد، انفجار بعبوات ناسفة لا نعرف مصدرها، وانفجار آخر
معنوي باختلافات حادة في الرؤى، حول تاريخ الكنيسة ومستقبلها بين المرشحين
لكرسي البابوية.
هذا ما نشاهده في فيلم “المجمع المغلق”
(Conclave)،
وهو من إخراج الألماني “إدوارد بيرغر”، الذي حصد فيلمه الأخير “كل شئ هادئ
على الجانب الغربي”
(All Quiet on the Western Front)
أربع جوائز أوسكار في العام الماضي، وفي هذا العام حصد فيلم “كونكلاف”
جائزة “غولدن غلوب”، عن فئة أفضل سيناريو، وسينافس على جوائز “البافتا”
والأوسكار أيضا.
وبدلا من الذهاب لخطوط الاشتباك في الحرب، يعود هذا الفيلم
للغرف المغلقة بداخل المؤسسة الدينية الأكثر تأثيرا في العالم، حيث توجد
حرب من نوع آخر.
كيف تتضافر الصورة والسيناريو لصنع فيلم تشويق يعتمد أساسا
على الحوار؟ وكيف يعبر الفيلم عن حال الكنيسة الكاثوليكية، وعن حال العالم
اليوم أيضا؟
عُرض الفيلم في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وقد كتب له
السيناريو “بيتر ستراهان”، معتمدا على رواية الكاتب البريطاني “روبرت
هاريس” التي نُشرت في عام 2016.
مجتمع مغلق وضيف غامض.. افتتاحية مشوقة
تبدأ أحداث الفيلم بحدث مفاجئ، يدفع الكاردينال “لورانس”
لدعوة الكاردينالات من كل مكان في العالم، للاجتماع لانتخاب البابا الجديد،
ويجري هذا الاجتماع المغلق خلف أبواب مغلقة، وحينما يحدث لا يعلم أحد عن
تفاصيله شيئا.
يستقي الفيلم تفاصيل الاجتماع السري من داخل أحداث الرواية،
فيجتمع الكاردينالات، ويقود الاجتماع الكاردينال “لورانس” (الممثل رالف
فينس)، ثم يبرز الكاردينال الإيطالي “تيديسكو” ذو الرؤية المحافظة
والمتشددة في بعض الأحيان.
وعلى الجانب الآخر الكاردينال “بيليني” ذو الرؤية
الإصلاحية، والكاردينال “أديامي” الذي يطمح لأن يكون أول بابا من القارة
الأفريقية، والكاردينال “تريمبلاي” المسن ذو النفوذ الواضح، الذي يبدو كأنه
اختيار سهل لاستمرار كرسي البابوية على ما هو عليه.
في هذا المجتمع المغلق، يظهر ضيف غامض هو الكاردينال
“بينيتيز”، الذي يعرف نفسه بخطاب من البابا القديم، يعلن تعيينه كاردينالا
على مدينة كابُل الأفغانية، ولكنه كاردينال سري بسبب الخوف على أمنه وحياته.
هكذا يبني صناع الفيلم الفصل الأول من الحكاية؛ اجتماع
متوتر وملحمي، وطموحات لعدة رجال أقوياء، من خلفيات وثقافات مختلفة
متصادمة، وضيف غريب وغامض، وقائد للاجتماع متشكك في كل شيء، يحاول العمل
محققا، ويخفي شكوكه خلف ذلك في إيمانه الشخصي.
يعتمد المخرج “إدوارد بيرغر” خلال هذا الفصل الأول على
القطع المونتاجي السريع، وفي بعض المشاهد على الكاميرا اليدوية المحمولة،
وكأننا في فيلم حركة. هكذا يبدأ الفيلم بجرعة عالية من التشويق.
زوايا التصوير والألوان.. لغة السينما الغنية عن المفردات
في الفصل الثاني تتحول الحكاية لنوع آخر من التشويق، نوع لا
يعتمد على القطع المونتاجي السريع، بل على مشاهد طويلة، تفصلها إطارات
هادئة تسرد بالصورة ما لا يمكن سرده بالكلام.
يعتمد “إدوارد بيرغر” ومدير التصوير “ستيفن فونتاين” على
تدرجات لونية من الأحمر والأبيض، وهي الألوان المميزة لزي الكاردينالات،
أما الأحمر فيمكن أن يعبر أيضا عن الغضب والدماء، ويعبر الأبيض عن التسامح
والسلام والنقاء، أو على الأقل التظاهر بالنقاء.
لكن ما يبدو أكثر وضوحا في السرد البصري لأحداث الفيلم، هو
استخدام التكوين الهرمي، حين يظهر الكاردينال “لورانس” في إطار صامت، وهو
يتابع الكاردينالات من شرفة في طابق مرتفع، ثم ترتفع الكاميرا فوق رأسه
لتصبح من “زاوية عين الإله”، ويشكل جسد “لورانس” مع الكاردينالات تكوينا
هرميا، يقف على رأسه “لورانس”.
هنا تخبرنا الصورة بسر “لورانس” الكبير، فمع أنه يتحدث
دائما عن زهده في كرسي البابوية، ويتشكك في إيمانه الشخصي، فإنه في حقيقة
الأمر يرى نفسه في مرتبة أعلى من باقي الكاردينالات، ويحاول أن يحقق في
تاريخهم، ويتتبع خطاياهم، بل يفضحها إن لزم الأمر.
هجوم مفاجئ يميط اللثام عن رجل حكيم
في إطار آخر، نرى الكاردينال الغامض “بينيتيز” وهو على رأس
تكوين هرمي في أحد أهم مشاهد الفيلم، فبعد وقوع هجوم مفاجئ على الاجتماع
حاول البعض استغلال ذلك لتأجيج الكراهية ضد المسلمين.
لكن “بينيتيز” وقف وألقى خطابا عما عاشه خلال الحروب التي
شهدها، أثناء خدمته رجل دين في بلاد غالبيتها مسلمة، وأنه شاهد معاناة
الجميع، رجالا ونساء، مسلمين ومسيحيين.
إنه خطاب إنساني عن المعاناة المشتركة التي يعيشها البشر
العاديون، انتزع به “بينيتيز” الكلمة داخل الاجتماع، ومن خلال الصورة تحول
من رجل غامض على الهامش، إلى رجل حكيم في مركز اهتمام الحضور، والمشاهدين
أيضا.
حوارات تصل لحافة الانفجار
يتضافر الحوار مع الصورة ليصنع أفضل ما في الفيلم، مشاهد
طويلة تعتمد أساسا على حوارات تتصاعد من حوار ودّي بسيط في البداية، حتى
تصل في نهاية المشهد إلى حافة الانفجار، ويعتمد “بيتر ستراهان” في كتابة
السيناريو والحوار على حيلة سينمائية قديمة، ففي كل مرة يكشف سرا نعلمه نحن
الجمهور، ثم يبدأ مشهد طويل بعده، يُكشف فيه السر لباقي شخصيات الفيلم.
وهكذا يزداد تشويقنا في كل لحظة، في انتظار انفجار السر
الذي نعرفه، وتتبع الانفجار توابع جديدة لم نكن نعلم عنها شيئا، أهمها
التأثير على تصويت الكاردينالات لاختيار البابا الجديد، الأمر الذي يبقينا
على حافة كراسينا أثناء المشاهدة، حتى نبلغ النهاية.
ومع ذلك، فإن الفيلم يفقد نقطة تفوقه الأهم، في التواءة
تُغير مسار الحبكة، وهي تأتي فجأة من نقطة عمياء، لم نعرف عنها -نحن
المشاهدين- أي شيء، فتضعف لحظة نهاية كانت غنية عن الالتواءات.
“رالف
فينيس”.. مدرسة تمزج أدوات المسرح والسينما
يكتسب الفيلم قيمة تسويقية وفنية بالأساس من الأداء
التمثيلي في المشاهد الحوارية الطويلة التي تميزه، وذلك أداء تمثيلي يعتمد
على مباريات تمثيلية ثنائية وثلاثية في بعض الأحيان، مباريات يظل أحد
أطرافها ثابتا، وهو الممثل البريطاني “رالف فينيس” الذي يؤدي دور
الكاردينال “لورانس”.
“رالف”
ممثل خبير ذو مدرسة مميزة تماما، يختلط فيها المسرح والسينما على مستوى
الأداء الصوتي، وهو مسرحي بامتياز، يستطيع التحكم في مستوى صوته ونغمته،
فيصبح حنونا ودودا في بعض الأحيان، ثم يصبح شديد القسوة مخيفا في أحيان
أخرى.
أما على مستوى ملامح الوجه فالرجل سينمائي بامتياز، فلا
يبالغ “رالف” في مشاعره وتعابير وجهه، بل يكتفي في كثير من الأحيان
بالتعبير بنظرات عينيه فقط.
وحين يتحدث مع الكاردينال “بينيتيز” (الممثل كارلوس دييز)
القادم من أفغانستان، طالبا منه ألا يصوت له لمنصب البابا، تتحول نظرات
عيني “رالف” من الود الشديد في بداية المشهد إلى غضب عارم في النهاية.
إنه غضب يظهر خوف الكاردينال “لورانس” من ظهور جانب من
شخصيته لا يحبه، وهو يدرك في أعماق عقله أنه يرى الآخرين من أعلى، يريد أن
يتحكم فيهم، وربما لو وصل لكرسي البابا لأصبح أسوأ من كل من عارضهم من قبل.
“ستانلي
توتشي”.. وجه هادئ ينفجر في لحظة كبرى
الخصم الأهم في معظم أحداث الفيلم هو الكاردينال “بيليني”،
ويؤدي دوره الأمريكي “ستانلي توتشي”، وهنا نقف أمام ممثل آخر خبير، رجل
يستطيع التسلل في بداية أحداث الفيلم، ليقنع المُشاهد أنه المرشح الأفضل
ليكون البابا الجديد.
يقع هذا التأثير أيضا على الكاردينال “لورانس”، لكن مع تطور
الأحداث يزداد تشككنا فيه، لكنه تشكك لا يكفي لإبعادنا عن تمني فوزه.
ينقل “توتشي” هذه المشاعر المختلطة من خلال وجه مبتسم، إنه
هادئ لكنه قادر على الانفجار غضبا في أحد أهم منعطفات الفيلم، منعطف يعلن
به أننا لا نشهد انتخابات كما كنا نظن، بل هي حرب.
كنيسة تعبر عن حال العالم
يكتسب فيلم “المجمع المغلق” بلا شك قيمة مضافة بسبب توقيت
عرضه، فنشاهده بعد الانتخابات الأمريكية التي فاز بها “دونالد ترامب”، ووسط
أجواء مشتعلة من خلال حربين، إحداهما في أوروبا حيث تستمر حرب روسيا
وأوكرانيا، والأخرى في الشرق الأوسط، حيث تستمر الإبادة في غزة، نشاهد
الفيلم ونحن نفكر في كل هذا.
تصبح المشاعر أكثر تأججا، حين يتحدث أحد الكاردينالات حديثا
عنصريا عن العرب والمسلمين، وينزع عنهم إنسانيتهم، ويعلن الحرب عليهم،
وحينما نشاهد صراع المتشددين والمجددين، ثم ندرك في بعض اللحظات أننا نختار
بين سيئ وأسوأ، فنتذكر الصراع الانتخابي المحموم في الفاتيكان، ثم في
أمريكا ومعظم دول أوروبا.
وأخيرا حينما يتحدث الكاردينال “لورانس” عن الشك والخطيئة
والتوبة، يصبح الأمر أكثر إنسانية، فتلك مواضيع ترتبط بالجميع، ويمكنها أن
تشغل بال الجميع.
هكذا يمكنك التواصل مع هذا الفيلم، حتى ولو لم تكن على صلة
بما يحدث داخل الفاتيكان، فلو تجاهلت الأزياء والمناصب الكنسية، فستجد أن
هذا الفيلم يتحدث عن كل لحظة انتخابية، وكل اجتماع إنساني. |