“تظاهرات
في البرازيل احتجاجا على الاحتفال بذكرى الانقلاب العسكري”
هذا ما تداولته وكالات الأنباء، على خلفية دعوة بعض
المسؤولين لإحياء ذكرى استيلاء القوات العسكرية البرازيلية على السلطة في
منتصف الستينيات، وقد يبدو خبرا اعتياديا، إذا أخدنا في الاعتبار مرور أكثر
من 50 عاما على الحدث ذاته، لكن بعض الأحداث لا تنقضي تأثيراتها بمرور
الزمن، ولا تسقط تداعياتها بالتقادم.
يعود المخرج البرازيلي “والتر ساليس” بعد غياب 12 عاما،
حاملا أحدث أفلامه “أنا مازلت هنا”
(I’m Still Here)،
وقد أنتج عام 2024، وشاركت البرازيل وفرنسا في تغطيته الإنتاجية، وقد
انطلقت عروضه العالمية في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي
بإيطاليا.
يقدم الفيلم قراءة لما جرى في تلك الإحداثيات السياسية،
التي ما تزال محتفظة بحرارة أجوائها الملتهبة، ويرصد كواليسها الكاتب
“مارسيلو روبنز بايفا” في مذكراته التي صدرت عام 2015، وتستند عليها أحداث
الفيلم.
يستعرض الكاتب بين صفحات مذكراته توابع السطوة العسكرية،
بعد سقوط والده اليساري السابق ضحية للاعتقال والاختفاء القسري.
يبدو مضمون الفيلم مهموما على المستوى المباشر بإزاحة
الستار عن الأعراض الجانبية للديكتاتورية العسكرية، لا على المستوى العام
فحسب، بل على المستوى الخاص الذي يتماس مع الفرد كذلك.
هذا على النطاق الواضح الصريح، أما على المستوى المستتر،
الذي يستوجب قراءة ما بين الأسطر وتأويله، فالتناول الحساس لثنائية الزمن
والذكرى، ومدى سيطرة كل منهما على الآخر، يمثل الضلع المقابل لهوية الفيلم
الفكرية، وهي تبدو بدرجة أو بأخرى معقدة وعصية التركيب.
هذا التعقيد الفكري تقابله بساطة واضحة على مستوى البناء
السردي، وتدور أحداث السرد في بدايات السبعينيات أثناء الحكم العسكري
الشمولي، حين تصيب عائلة النائب البرازيلي “روبنز بايفا” كارثة إنسانية،
بعد اعتقال السلطة المفاجئ له واختفائه قسريا، في براثن تلك الأجواء
المشحونة بالتوتر، كيف ستستعيد تلك الأسرة وتيرة حياتها المنتهكة إجبارا؟
تبدو أفلام المخرج “والتر ساليس” دائما مهمومة باستدعاء
السياق العام، عبر وضع أبطاله النساء أو الصبيان بين فِكاك تجارب قاسية
المحتوى، وكعادة أغلب أفلامه يجيب السيناريو (136 دقيقة) على السؤال الذي
ذكرنا، فيحصر بطلته الأم في بؤرة المشهد، لتتبع معضلة هذه العائلة، التي
اختفى معيلها في ظروف غامضة.
وما بين استئناف المسار الطبيعي للحياة، والبحث عن خيط -وإن
رقيق- للوصول إلى الحقيقة، تدور أنسجة الفيلم السردية.
ثلاث صور.. أقواس درامية تنمو بينها أغصان الحكاية
ينطلق شريط الصوت بصوت أزيز الطائرات العسكرية الممزوجة
بصوت تلاطم أمواج البحر، ثم تنفتح الشاشة على لقطة مقربة نرى فيها “أونيس”
(الممثلة البرازيلية فرناندا توريس) تطفو بجسدها على سطح الماء، وهي تطلق
نظرات حذرة نحو طائرة الجيش المحلقة في الأعلى.
ثم ينتقل السرد إلى المشهد التالي، فنرى عددا من الشباب
يتجمعون على شاطئ البحر، أثناء مباراة لكرة الطائرة، وهكذا يبدأ الفيلم
مشاهده الأولى، بتقديم هادئ للحياة والشخصيات، وحذر خفي من تبعات احتكار
بؤرة السلطة.
فقد نسج الفيلم سرديته اتكاء على النهج التقليدي الخطي
للسرد، بالاعتماد على الفصول الدرامية الثلاثة، البداية والوسط المصحوب
بالذروة المنتظرة، وصولا إلى النهاية.
ومع أنه كان تقليدي البناء، فإن بعضا من الحداثة لا يضر،
وهذا ما يلجأ إليه السيناريو، فينثر الذكريات الأسرية على مدار السرد، وهي
مرهونة بالتقاط الصور الفوتوغرافية، ويتخذها عنوانا رمزيا لكل مرحلة زمنية.
يمكن أن نستنبط أن كل صورة هي إشارة ودلالة لفصل درامي
جديد، ومن ثم يمثل إطار الصورة الأولى حجر الأساس أو المفتتح، ومع الصورة
الثانية، يحل الفصل الثاني ضيفا على السرد، وهكذا مع الفصل الثالث، الذي
تتباين أثناءه مكونات الصورة، فتبدو حينها لعبة الصور أشبه بأقواس درامية.
ينفتح السرد على القوس الأول بصورة العائلة على الشاطئ،
وينغلق القوس الختامي مع صورة العائلة، بعد مرور نحو 40 عاما على الصورة
الأولى، وبين هذا القوس وذاك، تقبع صورة أخرى تمثل حلقة الوصل بين الحاضر
القريب والماضي البعيد.
ولأن الأحداث تعود جذورها إلى الماضي الواقعي، فالصور
والمشاهد الأرشيفية تحظى بنصيب لا بأس به من الكعكة السردية، فكما تروي
حكاية هذه الأسرة، فإنها ترصد قدر المستطاع رؤية صادقة عن الأوضاع السياسية
والاجتماعية خلال هذا الحيز الزمني الشائك.
فالفيلم لا يعنى فحسب بإبراز تلك الحقبة، فالخريطة الزمنية
للفيلم تدور في حيز تزيد مدته على الأربعين عاما، صحيح أن ضربة البداية
كانت في السبعينيات، لكن تأثيراتها تنبسط بأريحية على الزمن الفيلمي، لا من
ناحية الكم فقط، بل على مستوى الكيف كذلك.
هدوء وانفتاح يسبقان العاصفة
يستغرق الفصل الأول أكثر من نصف ساعة، استهلكت في الكشف عن
تفاصيل الحياة الهادئة، التي تغلف أسرة “روبنز بايفا”، حيث أجواء السعادة
والمرح هي المسيطرة على النمط المعيشي، وهو منفتح على أصدقاء عدة من تيارات
فكرية وسياسية شتى، فالانتصار هنا للتعدد.
وبين ثراء هذا الأسلوب وزخمه، تطفو بين الحين والآخر معالم
العلاقة بين الزوج وزوجته سيدة المنزل، ثم تنعكس على الأبناء الخمسة،
فالوثاق الأسري المترابط، يشكل سمة أساسية في تلك الحياة التي تبدو مثالية
الهدوء.
هذا ما يتردد على السياق الداخلي، أما خارج هذ السياج،
فالوضع يبدو مغايرا، فالقبضة العسكرية تقبض بيد من حديد على الحياة،
والقوات العسكرية متناثرة في أرجاء المدينة بأعداد كثيفة، مع التزايد
الملحوظ في الكمائن الأمنية، وتعامل الجنود الفظ.
ولا يكتفي السرد بهذه الدلائل على الحياة في ظلال
الديكتاتورية، بل يجعل الخلفية السياسية والتاريخية حاضرة، باستدعاء
الأحداث التاريخية التي جرت وقائعها في تلك الحقبة، كخطف سفراء الدول
الأوروبية، للمقايضة على إطلاق سراح أكبر عدد من السجناء السياسيين.
الصوت والصورة.. دلالات وألوان تحمل ملامح الحقبة
يمزج شريط الصوت مع الصورة مزيجا مقلقا، فأصوات أبواق
سيارات الشرطة المختلطة بأصوات الصراخ المرتفعة، تساهم في خلق حالة دائمة
من التوتر، تسيطر على القطاع الأكبر من الفيلم.
تنتمي ألوان الفيلم إلى تلك الحقبة، ولا سيما القطاع الأول
من حصته السردية، حيث الاستناد على الألوان الفاتحة للإضاءة، ثم نراها
تتبدل إلى الخفوت التدريجي مع غياب الأب، ووصول عناصر الشرطة العسكرية إلى
حيز المنزل.
وبناء على ما سبق، يمكن الوصول إلى صيغة تفاهمية بشأن
تداعيات وتأثيرات هذه السلطة، والتي ستتعدى عمرها الزمني المقرر بـ21 عاما،
وستظل حدود وجودها وتأثيراتها على الأسرة تتشعب وتتسع.
عاصفة تقلب حياة العائلة رأسا على عقب
بعد أن اكتملت عناصر التمهيد الدرامي، يدخلنا السرد إلى
بدايات الفصل الثاني، فينطلق باعتقال الأب وإيداعه بإحدى ثكنات الجيش،
وعندئذ تنقلب حياة الأسرة إلى الجهة المقابلة، ويتخلى عنها سكونها المألوف.
يتحول عبء دفة القيادة تلقائيا إلى الأم، ويكون عليها أن
تكمل الخط الطبيعي للحياة، من دون إحداث أدنى مساس بالمتطلبات العامة،
بجانب البحث عن أثر -ولو خفي- عن الأب المختفي.
ينقسم هذا الفصل بين شقي رحى لا ثالث لهما، أولهما استكمال
مهمات التربية والنشأة لخمسة مراهقين، في حين يندرج الشق المقابل تحت طائلة
مواجهة هذا الكيان السلطوي الطويل الأذرع.
وهكذا لا يترك السرد أدنى فرصة شاردة، إلا واستغل وجودها في
إثبات ما يرغب بقوله والتعبير عنه، حول الغلظة العبثية التي تمارسها هذه
السلطة، فلا تمارس سطوتها على الأب وحده، بل تمتد إلى باقي الأسرة.
يبقى أفراد القوة المكلفة باعتقال الأب في المنزل لا
تغادره، وكأنها قوة احتلال، ولا يتوقف الأمر عند هذه النقطة، بل يصطحبون
الزوجة والابنة الكبرى للتحقيق، ويحتجزونهما مدة تبلغ أسبوعين.
مكافحة التقلبات الخانقة.. صراع ذو مسحة فلسفية تأملية
يستمر السيناريو في رسم معالم الصراع الدرامي، الذي يتمحور
حول الصراع الدائم والمستمر دورانه بين الفرد والسلطة، والفرد هنا تمثله
الأم “أونيس”، التي تناضل للوصول إلى ما يثبت انتهاك السلطة حياتها والقضاء
على زوجها.
هذا ما يبدو على المستوى الظاهري، لكن ما يصبغ هذا الصراع
بمسحة فلسفية تأملية، هو إحالة النزاع مع السلطة إلى صراع وجودي، أو بمعنى
أكثر رحابة إلى صراع من أجل استمرار ديمومة الحياة.
فالقدرة على المواصلة في خضم هذا الكم الذي لا نهاية له من
التغيرات الخانقة، تمثل سلاحا فعالا، يدفع الطرف المناهض إلى استجداء
منظومته الدفاعية المضادة.
مصفوفة الخوف.. صراع بين الرصاصة والصورة
يرسم السيناريو أحداثه المتدفقة، استنادا على فكرة الخوف،
فكل طرف يخشى الآخر ويحذر منه، فالأم “أونيس” وأسرتها يسعون إلى ممارسة
طقوس حياتهم في الظل، بعيدا عن الأعين والأيدي المتربصة.
وفي المقابل تبدو أفعال السلطة تعبيرا مثاليا عن الخوف من
تفشي الحرية، وبذلك يمكن حصر مفاتيح قراءة الفيلم بين أسوار هذه المفردة،
“الخوف”، تلك المشاعر التي تدفع كل طرف للدفاع والمواجهة حينا، والتواري في
الخلف حينا آخر.
ومن ثم يبدو التقاط الأسرة للصور الفوتوغرافية نوعا من
المقاومة، فالواقع أن الفيلم مثلما يتناول موضوعا بالغ الحساسية، مثل
الديكتاتورية العسكرية، فإنه يطرق بعذوبة فائقة فكرة الزمن والذكرى.
تقول الكاتبة السينمائية “سوزان سونتاغ” عن فلسفة ما وراء
الصورة: “حين ينتابنا الخوف نطلق الرصاص، لكن حين ينتابنا الحنين نلتقط
الصور”.
وبنظرة بانورامية على فيلمنا، سنجد بمنتهى البساطة واليسر،
أن كل طرف يطلق قذائفه المضادة تجاه الآخر، السلطة الديكتاتورية تطلق
رصاصتها الطائشة على الشعب، أما “أونيس” وأسرتها فيمارسون التصوير للحفظ
والصون، والتوثيق كذلك، وهذا ما يثير حفيظة الطرف الآخر، وتلك إحدى أولويات
الفيلم؛ تسجيل صورة -ولو مجازية- عن الماضي، بكل سلبياته وأخطائه.
مسحة الحنين إلى ماضي العائلة الدافئ
يغلف الفيلم قماشته السردية بمسحة شفيفة من العذوبة والحنين
في نفس الآن، ليس الحنين إلى زمن القسوة، بل الحنين المفهوم الدوافع إلى
الماضي، المكتمل باكتمال أعضائه من دون غياب أحد منهم.
ولا تتوقف مشاعر التوق إلى الماضي عند نقطة محددة، بل تتوغل
وتتضخم، وصولا إلى الذروة، وهي مشهد من الفصل الثالث في عام 2014، أثناء
تجمع الأسرة، قبل التقاط الصورة الثالثة التي تطبق الخط الدرامي للفيلم.
نرى الأم “أونيس” وقد جاوزت الثمانين وأفقدها الخَرف ما
تيسر من ذاكرتها، وهي تشاهد -بلا فهم ولا اهتمام- بعضا من النشرات
الإخبارية، لكن عند ذكر اسم زوجها والمطالبات القضائية المتوالية لاعتقال
المشاركين في الاختفاءات القسرية، تلمع عينيها إدراكا لما يدور أمامها.
شاهدة على العصر
لا تحفل الأساطير الإغريقية القديمة بالكثير عن “آرتميس”
آلهة الصيد والحماية، لكن ما هو بالغ التأكيد أن كل من اقترب من حدود
عالمها، فإن نيران غضبها المستعر تعهد بالدفاع عن مقدساتها.
وكذلك كانت “أونيس” التي يصوغ السرد مقوماتها الشخصية، فهي
أقرب في هيئتها الأمومية الحامية إلى الأسطورة الحية، التي وهبت حياتها
للدفاع عن أسرتها، ثم عن حقوق المعتقلين والغائبين قسرا.
فالنسيج الدرامي يقوم بناؤه على المساحة الكبرى لهذه
الشخصية، التي تبدو كالمحور والمركز، والخيوط السردية تحاك من حولها، وقد
ساهم الأداء التمثيلي المعبر الذي قدمته الممثلة “فرناندا توريس” في بلورة
مشاعر الشخصية والتعاطف معها.
فالأزمة التي تناضل بطلتنا للمرور من عنقها الضيق المكبوت،
هي أزمة إنسانية في المقام الأول، وهذا ما يجعل التماس معها تلقائيا
انسيابيا، من دون حاجة إلى الالتواء والافتعال.
ولتقديم صورة سينمائية واقعية صادقة، استُعين بالممثلة
البرازيلية المخضرمة “فرناندا مونتينغرو” لأداء المشاهد الأخيرة من الفيلم،
فنراها تؤدي دور الأم “أونيس” وقد بلغت من العمر عتيا.
وكأن مخرجنا يلوح إليها بتحية مستحقة، تقديرا لمسيرتها
الطويلة، ومنها بطولة فيلمه الأيقوني “المحطة المركزية”
(Central Station)
عام 1998، وقد رُشحت عنه لجائزة الأوسكار.
“ليس
هذا الفيلم إلا وثيقة تاريخية”
مع انصهار العناصر الفكرية والفنية معا، أصبح الفيلم
متجاوزا للتقييم المعياري المعتاد، فبدا في مجمله قطعة فنية خلابة شكلا
ومضمونا، ولا شك أن تأثيره الشاعري العذب سيصمد أمام اختبارات الزمن.
وفي هذا السياق يقول المخرج “والتر ساليس” في معرض حديثه عن
سرديته: ليس هذا الفيلم إلا وثيقة تاريخية، فنحن نعيش في عصر الخدر، وكلما
شعرت بالاكتئاب قليلا بشأن العالم، أتذكر أنه بعد العصور الوسطى، جاء عصر
النهضة.
وهكذا المتواليات التاريخية، تسلم كل منها الأخرى في
مصفوفات زمنية، تعيد ذاتها وتكرر دورانها، فالصباح ينجلي من رحم الظلمة. |