ملفات خاصة

 
 
 

ترامب رئيساً... ترقّب هوليوود

لندن/ العربي الجديد

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 97)

   
 
 
 
 
 
 

إذاً، سيكون دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدّة الأميركية لفترة ثانية. العالم منهارٌ. حروب وانعدام أخلاقيات سياسة وأزمات في الاقتصاد والاجتماع، وخراب في ثقافة وإعلام وفنون. هذه ليست صورة قاتمة وحاسمة. أميركا نفسها تصنع معجزات علم وتكنولوجيا، وإبداع صور وآداب ومعارف. الجنون متحكّم بالعالم، لا بأميركا فقط. لكنّ عودة ترامب إلى البيت الأبيض مُثيرة لمخاوف وقلاقل، قد تكون واهية وغير واقعية. ما يقوله قبل دخوله ذاك البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني 2025 يُنذر بالأسوأ، لكنْ هل يكون ما بعد دخوله مختلفاً، بحسب قواعد الألعاب في العالم؟

هذا الملفّ محاولة لقراءة مستقبلٍ آتٍ لا محالة، وإنْ كان مضمونه الفعلي مجهولاً. زملاء وزميلات يقاربون اللحظة وفقاً للسابق، ويتأمّلون في المقبل وفقاً للراهن. ملفّ يصلح لنقاشٍ، إنْ كان للنقاش النقدي الهادئ في عالمٍ عربيّ مرتبك ومقهور ومخرَّب حيزٌ ومكانة.

 

####

 

ترامب رئيساً... السيلفي الذي يذهب إلى الأقصى

ندى الأزهري

تحضر الرئاسة الأميركية في أفلام عدّة، يُسمّى الرئيس باسمه في بعضها، أو يُوحى إليه في بعضٍ آخر، أو يكون مجرّد شخصية لا تمتّ بصلةٍ إلى رئيس حقيقي أحياناً. إنّه منصب يبهر سينمائيين، يرون في إضافته إلى نصوصهم واقعية تدعم الحكاية، وجاذبية تُشوّقها. تلجأ السينما الأميركية أكثر من غيرها، الفرنسية مثلاً، إلى تمثيل شخصيات الرؤساء.

في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وتعاقب الرؤساء، رأى قليلون رئاستهم مُصوّرة في السينما، منهم مثلاً جورج دبليو بوش، الظاهر في "نائب" (2018) لآدم ماكاي. الفيلم المُخصّص بسيرة ديك تشيني أبدى صورة ساخرة لبوش الابن، كاشفاً خفايا سلوكه، ومدى تهوّره، وعدم إلمامه، وقلّة خبرته، وضعفه، وسيطرة نائبه تشيني عليه من البداية.

لكنْ، عامة، حين يُشار بالاسم إلى رئيس بعينه، أو تُستعاد سيرته، يحصل هذا بعد رحيله، أو بعد انقضاء فترة زمنية من رئاسته، إمّا خشية من القضاء، وإمّا لترك مسافة زمنية تتيح تأملاً أكثر بالشخصية ودورها، وإمّا لانتظار كشف وثائق كانت سرية في ملفات الدولة، يرى فيها السينمائيون مادة غزيرة لفيلمٍ، وثائقي أو روائي.

لعلّ أكثر الرؤساء الأميركيين، الذين أثاروا شهية مخرجين ومؤلّفين، ريتشارد نيكسون (1913 ـ 1994)، إذ يبدو أنّه شخصية سينمائية بامتياز، ليس بسبب فضيحة ووترغايت فقط. يتجلّى ذلك في أفلامٍ استوحت حياته أو ملامح من شخصيته، وحُقّقت بعد رحيله. في رئاسته (1969 ـ 1974)، كان نيكسون زعيماً مثيراً للجدل للغاية، وسُلِّط الضوء سينمائياً على تعقيد شخصيته، من خلال الحملة التي أوصلته إلى الرئاسة حتى فضيحة ووترغايت، بما في ذلك مشاكل إدمان الكحول، كما في "نيكسون" (1995) لأوليفر ستون. أوحت شخصيته إلى سينمائيين مهمّين بإثارة لقاءاته، الواقعية منها والمفترضة، كـ"نيكسون في الصين" (2011) لدونيز كَإيوزي، كوميديا موسيقية ساخرة عن لقاء زعيمين، و"ألفيس ونيكسون" (2016) لليزا جونسون، عن لقاء غير متوقع بين الرئيس الأميركي والملك إلفيس بريسلي.

سبق هذا أفلام أخرى، منها "اغتيال ريتشارد نيكسون" (2004) لنيلز مولر، و"فروست/نيكسون" (2008) لرون هاورد، عن المقابلة التلفزيونية الشهيرة التي أجراها البريطاني ديفيد فروست مع الرئيس نفسه عام 1977، التي بُثّت في أربع أمسيات، وحطّمت الرقم القياسي في عدد مُشاهديها في تاريخ الشاشة الصغيرة، وغيّرت وجه السياسة، ودفعت الرئيس السابق إلى الإدلاء باعتراف أذهل العالم.

لماذا الحديث عن نيكسون؟ هناك توقّع أنْ يحظى الرئيس العائد دونالد ترامب باهتمام سينمائي مثله، بل قد يفوقه. مع أنّ نيكسون شخصية سياسية حقّة، بينما ترامب صنيع التلفزيون، إذْ أجرى مقابلات مع مرشّحين للانضمام إلى شركته عبر "المتدرّب"، أحد برامج تلفزيون الواقع على قناة إن بي سي عام 2004، واشتهر فيه بعبارة "أنت مطرود".

ترامب شخصية تستدعي الكتابة السينمائية، قلباً وقالباً. في شكله، هناك ما يصنع مادة غنية وسهلة التجسيد: تسريحة خاصة (أتكون متعمّدة؟)، ومشية مدروسة، وتعبير مُلازم وساخر على الوجه. هذه كلّها ملامح يسهل استغلالها سينمائياً. أمّا قلباً، فهذه شخصية تنقسم حولها الآراء بين إعجاب واستياء وكره (يسار وسينمائيون خصوصاً)، إلى درجةٍ مثيرة للاهتمام في تفاوتها، ما يجعله صالحاً تماماً ليكون شخصية سينمائية، فيها ابتكار وحركات جاذبة.

في الوثائقي "أين رون كوهن؟" (2019) لمات تيرناور، عودة إلى الشخصية المُعقّدة للمحامي الأميركي روي كُوِن، المُتلاعب الماهر، الذي يعاني مشاكل عميقة، والذي أثارت شخصيته اهتمام المخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي في "المتدرّب" (2024). والفيلم ليس سيرة ذاتية لترامب، بل لمسيرته مع ناصِحِه كوِن. يقول عباسي إنّه لم يهتمّ بأدقّ تفاصيل حياة ترامب منذ ولادته إلى الآن، بل رواية قصة محدّدة جداً، تتمثّل بعلاقته بالمحامي، وإنّه حريصٌ على إدانة النظام بقدر حرصه على تسليط الضوء على الشخصيات. أما كاتب السيناريو غابريال شيرمان (صحافي سياسي سابق، أتيحت له فرصة لقاء ترامب في مناسبات عدّة)، فأدرك إلى أي مدى يمكن أن يكون كوِن أداة قوية في سباقه إلى البيت الأبيض، وأنّ هناك إمكانات سينمائية حقيقية في هذه "التلمذة المهنية" لـ "ترامب الشاب بقيادة مُعلّمه كوِن"، الذي علّمه التعبير عن نفسه، واستخدام أساليب عديمة الضمير للاستيلاء على السلطة. مع ذلك، لنتخيّل كم هو صعب العثور على موزّع للفيلم في الولايات المتحدة الأميركية، شبّهها عباسي بالرقابة، هو القادم من إيران، ولديه حساسية خاصة من كلّ أشكال الرقابة والحذف. حتى المنصات كانت حذرة في عرض أفلام من هذا النوع، والسبب: التهديد بتقدّم متحدّث باسم ترامب بدعاوى قضائية.

مصاعب قد تدفع كثيرين إلى التردّد في صنع فيلم آخر عنه، أقلّه في فترة ولايته الثانية. لكنّ عالم السينما، ذا التوجّه الديمقراطي، لن يُفوّت فرصة في ترصد "نهفات" الرئيس وهفواته، ولن يتوانى، لاحقاً ربما، عن تصوير أفلام عمن هو شخصية تمثيلية أصلاً، لا مجرّد شخصية في الحياة يمكن نقلها إلى السينما: شخصية سينمائية ولا شيء آخر، تُنتج مشهداً. بحسب المُفّكر الفرنسي غي دوبور، في كتابه "مجتمع الاستعراض" (1967)، الحياة الحديثة تقليد للحياة، ومشهدٌ غير واقعي بات واقعنا. لم نعد نعيش، بل نصنع مشهداً لأنفسنا وللآخرين. نقلّد الشخصية التي نودّ أن نكونها، في عالمٍ تحوّل إلى مسرح يمارس عليه الجميع الاستعراض.

شخصية كترامب تأكيدٌ كامل وواضح لهذه الفكرة، فواضحٌ أنّ كلّ كلمة له، وكلّ إيماءة من حركاته، تتعلّقان بالدور الذي يؤدّيه. وواضحٌ أيضاً أنّه لا يوجد وراء هذا الدور شيء، لا فكر ولا إخلاص، بل رغبة صادقة في لعب هذا الدور، وتأمّل نفسه وهو يلعبه. ترامب ليس رجلاً يلتقط "سيلفي": إنّه "السيلفي" (الصورة)، لكنّه يذهب فيه إلى الأقصى المُكتمل أكثر مما يفعل الآخرون. قد يكون هذا سبب نجاحه، لما يثيره "السيلفي" من افتتان. أي فيلم عنه سيكون فيلماً في فيلم، والممثل الذي يؤدّي دوره سيكون تجسيداً لممثل، وموضوع الفيلم لن يكون عن حياة حقيقية، بل عن فيلم يمثّل الحياة. فلننتظر.

 

####

 

مستقبل العالم في عهدة رجل الصفقات

أمل الجمل

إنّه يعشق الصفقات والمساومات. يراها فنّاً لا يقدر عليه إلّا من يمتلك العزيمة. شيء غريزي يُولد بها. الصفقات عنده تتجاوز النزاهة، فقوامها سياسة الابتزاز. تستند على معرفة مكامن الضعف في الآخر، فيُمارس الضغط الأقصى الذي يرتكز على ثلاث قواعد رئيسية، اكتسبها في شبابه من المحامي روي كُوِن، وردّدها في المشهد الأخير لـ"المتدرّب" (2024) لعلي عباسي: "العالم فوضوي. عليك حماية نفسك من خلال الهجوم"، "لا شيء اسمه الحقيقة، فكلّ ما يقوله الناس حقيقة. لذلك، افرضْ حقيقتك. أنكِرْ كلّ شيء، ولا تعترف بشيء"، و"مهما كانت حالتك سيئة، فلا تعترف بالهزيمة، وادّعِ أنّك منتصر".

يكاد الأمر يشبه السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. هكذا ينطق الصحافي، كاتب مذكرات البطل، الذي يُؤدّي شخصية دونالد ترامب في "المتدرّب". فهل نتوقّع اختلافاً كبيراً في أحوال العالم، إنسانياً وثقافياً وسينمائياً، في فترة ولايته الثانية، بعد كلّ التأكيدات التي تضمّنها برنامجه الانتخابي؟ هذا لا ينفي أنّه رجلٌ حالم وطموح، يؤمن بنفسه، ومُقاتلٌ من أجل قناعاته، والفوز الذي لا يرضى عنه بديلاً، مهما كانت النتائج. إنّه مستعدّ لفعل أيّ شيء مع أيّ شخص في أيّ وقت، ليفوز ويحقّق مراده. مستعدٌّ لاستغلال أعدائه، وزرع الخوف في أنفسهم، بل ترويعهم. هذا جزء تكتيكي عنده في المساومة والابتزاز.

يعيد إحياء نموذج الكاوبوي الجديد، وترسيخ مفهوم الديكتاتورية. إذْ ليس من فراغٍ التعبيرُ عن إعجابه بالنماذج الديكتاتورية. بذكاء وغطرسة يفعل كلّ هذا تحت شعاري "إنقاذ أميركا" و"لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى". تلك وعودٌ جاءت بمثابة حملة لنقل الدماء، فأحيت جثة هامدة، ومنحت كثيراً من أبناء الشعب الأميركي الأمل في غدٍ أفضل. لكنْ، عندما نستعيد قليلاً نتائج ولايته السابقة، هل تحقّقت وعوده الانتخابية؟ هل تبدّل العالم كثيراً فيها؟ ألم يقل آنذاك إنّه سيبني جداراً كاملاً بين أميركا والمكسيك لمنع تدفّق المهاجرين غير الشرعيين، لكنّه بنى جزءاً صغيراً منه فقط؟ هل ينجح في ولايته الثانية بطرد/ترحيل جميع المهاجرين غير الشرعيين، الذين اختلفت التقديرات بشأنهم (نحو 11 مليون شخص)؟ كيف سيصل إليهم؟ ماذا سيفعل مع الشركات الأميركية التي تستأجرهم؟ ماذا ستكون تداعيات ذلك على النظام؟ ظاهرياً، صحيح أنّ لهذا الملف جوانب إيجابية جداً على الشعب الأميركي، لكنّه، في جانب آخر، ربما يُساعد المدّ اليميني العنصري المتطرّف.

ألم يزعم ترامب أنّه سيضع هيلاري كلينتون في السجن، في حملته الانتخابية الأولي، لكنّه لم يفعل؟ لماذا؟ لأنّ ترامب قبل الانتخابات سيكون ترامب آخر بعدها، وأيّ رئيس أميركي جديد، عندما يدخل البيت الأبيض، عليه حتماً أنْ يلتزم أجندة معيّنة تُكبّل، كثيراً أو قليلاً، من رغباته وقرارته. مع ذلك، ربما ينجح في استصدار عفو بشأن الذين أُدينوا في جرائم قتل في أحداث 6 يناير/كانون الثاني 2021: ألا يحتمل هذا التسبّب في تقويض سلطة القضاء، خاصةً أنّ بعضهم أُدين بقتل رجال شرطة في أعمال شغب عقب إعلان هزيمته؟

إنّها مواد وأحداث ربما نراها على شاشة هوليوود. فهل ينتقم ترامب من نجومها ونجماتها الذين هاجموه، أو كانوا ضدّ ترشّحه، كروبرت دي نيرو وجوليا روبرتس وميريل ستريب وهاريسون فورد وجينيفر لوبيز وتوم هانكس وليدي غاغا وتايلور سويفت؟ أعتقد أنّ لديه مشاريع أهم وأكبر، إذْ ربما يكفيه عدم تأثيرهم في الرأي العام الأميركي، وهذا تأكّد بفوزه، إذْ يكشف قوّتهم الحقيقية، بانفصالهم عن القضايا الأساسية والأهمّ للشعب الأميركي، كالوظائف التي توفّر لهم حياة كريمة، وتمسّكهم بأخلاقيات، ورفضهم المثلية الجنسية.

لاستديوهات هوليوود مشاكل بعيدة عن ترامب، خاصة في ظلّ ثورة الذكاء الاصطناعي. لكنّ الأثر الجانبي، الذي ربما يطاول الصناعة السينمائية الثانية في العالم بعدد الأفلام المنتجة سنوياً بعد بوليوود، ربما يتعلّق بالتعريفة الجمركية، ومحاولات ترامب ابتزاز دول عظمى كالصين، أهم مجال استراتيجي في السياسة الخارجية لأميركا، بما لهذا من أثر كبير جداً على الأمن والتجارة العالميّين. ربما يؤثّر ذلك على سوق التوزيع، المترنّح فعلياً، للأفلام وصناعة الترفيه الأميركية، إذْ يُؤدّي إلى مزيد من عرقلة علاقة هوليوود مع الصين. لكنْ، على صعيد آخر، ربما يكون مفيداً لسينما "آرت هاوس" وأنواع سينمائية مقبلة من بلدان أوروبية وآسيوية. ففي سنوات، اشتكى رجال الفنّ والثقافة من هيمنة السينما الهوليوودية، ما حال دون انتشار عدد آخر من السينمات، إذْ ظلّت أميركا لسنوات تسعى بكل جهودها إلى الضغط وتقليص الدعم الذي تمنحه فرنسا للثقافة والفنون، وفي مقدّمتها السينما. لذلك أيضاً، كانت فرنسا تدعم سينما العالم الثالث، وتبني الاستديوهات في أفريقيا جنوب الصحراء. لم تفعل فرنسا ذلك حبّاً بالعالم الثالث، لكنّها تُدرك أنّ السينما الفرنسية وحدها غير قادرة على مواجهة الغزو الهوليوودي، فسعت بدأب إلى خلق سينما بديلة من مختلف البلدان، لتُشكّل جزءاً من حائط الصدّ والمواجهة.

أمّا "المتدرب"، الذي أرجع البعضُ فشلَه إلى الخوف من مقاضاة ترامب لصُنّاعه، إذْ لم يتمكّن منتجوه من إيجاد موزّع له، فيلم متواضع فنياً وفكرياً، وشديد السطحية، إذْ تختفي منه أي تورية، ولا توجد به طبقات تفسير. فلو كان بقوّة ترامب وجبروته وبلطجته، ربما حقّق إيرادات في أميركا رغم أنف ترامب نفسه. فالفيلم الجيد القوي كبركان أو فيضان لا يستطيع أنْ يقف في وجهه شيءٌ.

يؤكّد البعض المخاوف السابقة باستشهاده بحال الاستديوهات بين عصرين. ففي الماضي، كانت الاستديوهات شركات صغيرة تصنع أفلاماً. الآن باتت تروساً في عمليات هائلة ومتعدّدة الجنسيات، كقطعة دومينو تتسبّب فجأة بسقوط 50 أخرى. هناك أيضاً مخاوف من شبكات البثّ الخاصة، والتهديد بسحب تراخيصها. فهل الخوف من الانتقام يُمكن أنْ يحيل إلى ارتفاع أسهم وسائل الإعلام الأكثر محافظة؟

ربما تكون المخاوف في محلّها، فهذه مرحلة انتقالية مفخّخة بالاضطراب. لكنّ التاريخ يُعيد إلى الأذهان نماذج إعلامية نزيهة وشريفة لم ترضخ للانتقام والتهديد المروّع في عهد ريتشارد نيكسون مثلاً. تحايل البعض على وعود ترامب، فانتقلت شركات أميركية تكنولوجية من الصين إلي الهند، خوفاً من التهديد الذي نُفِّذ جزئياً في ولايته الأولى. لكنّ أسئلة تُطرح: هل تُشكِّل تلك الخطوة حماية حقيقية لوظائف التصنيع الأميركية؟ هل ستوفّر فرص عمل للعاطلين عنه في أميركا؟ ماذا عن المكننة التي تسبّبت بطرد مئات الآلاف من العاملين، أو الملايين؟ ماذا عن الذكاء الاصطناعي الذي يُهدّد الإنسان في كلّ مكان؟ أعتقد أنّه مع الوقت، سيكتشف الناخبون خطأ تصوّراتهم، وستظلّ البطالة قائمة.

السؤال الذي يشغل كلّ عربي وأوروبي، في ما يخصّ الإبادة الجماعية في غزة: هل سيُوقف ترامب، حقّاً، الحربين على القطاع وفي أوكرانيا، وكيف؟ إذْ لم يُقدّم إجابة توضح خطته لإنهائهما. أعتقد أنّه سيمارس هوايته المفضّلة، أي الابتزاز والمساومة. ربما أخبر قادتها أنّه لا يزال أمام إسرائيل نحو شهر ونصف الشهر لإكمال ما تريده من تدمير وقتل وإبادة، لأنّه لن يسمح لها بإراقة قطرة دمٍ واحدة يوم تنصيبه، كما فعل باراك أوباما في ولايته الأولى. بعد ذلك، سيبدأ تنفيذ رغبات إسرائيل، بإنجاز وعد بلفور آخر، وإغلاق ملف القدس لصالحها. ثم يُنجز التطبيع مع دول عربية وإسلامية، مقابل اتفاقية الدفاع المشترك، ومنحها أسلحة تريدها، مع توظيف الابتزاز بملف إيران. ألم يصفه بنيامين نتانياهو بأنّه "أفضل صديق حصلت عليه إسرائيل في البيت الأبيض على الإطلاق"؟ أما أوكرانيا، فلن تكون أحسن حالاً.

ختاماً، ربما ينقلب السحر على الساحر، وتخيب كلّ تلك الظنون السابقة، إذا تمّ التطبيق القسري لتداول العملات الرقمية. إنّها عملية غشّ كبرى، ستفاقم عدد الفقراء والمحتاجين في العالم. ذات يوم، سيستيقظ العالم على إعدام العملات المحلية، ويكتشف المواطنون أنّهم مفلسون. أما الجانب المشرق لهذه العملات، فيكمن في أنّ السياسيين وذوي النفوذ التقليديين سيفقدون قدرتهم على تهديد أهل الفنون والثقافة، لأنّهم لن يكونوا قادرين على التحكّم بهذه الأموال. ربما.

 

####

 

دونالد ترامب رجل أعمال يُتقن لعبة الكاميرا

نجيب نصير

منذ اختراع الكاميرا السينمائية، لم تعد الكاريزما سرّاً من أسرار الشخصية العامة، إذْ باستطاعتها صنع هذه الكاريزما. ليس ضرورياً أنْ يكون بطلها كارزمياً، إلاّ بقدر معرفته وظيفتها، ونتائج استخدامها. وكذلك تقدير دور السينما في صنع الشخصيات الأيقونية، كقادة رأي يستطيعون إدارة الرأي العام لصالحهم، عبر استغلال الكاريزما صفةً إيجابية للشخصية.

ربما عرف دونالد ترامب هذه الميزة في الكاميرا السينمائية ـ التلفزيونية، وعرف مفهوم التمثيل، بمعنى القدرة على التعامل مع العدسة، ليصنع كاريزماه الشخصية. لطالما شاهدناه وهو يرسم على وجهه ردود أفعال تتشابه كثيراً مع ردود أفعال ممثّلي السينما، ما يضفي قيمة عاطفية شعبية على تصرّفاته، التي يُمكنها أنْ تكون إيجابية أو سلبية على الشعب الأميركي، والشعوب التي تتحكّم أميركا بمصائرها، صداقة أو عداء. هذا كلامٌ عن شخصية سينمائية مكتوبة خصيصاً لترامب. شخصية تعتبر نفسها رئيساً للولايات المتحدة، بغض النظر عن وجودها في البيت الأبيض أم لا. على هذا، يمكن تلمّس علاقة وثيقة بين ترامب الكاريزمي والسينما مُشكّلاً أساسياً في الثقافة الأميركية، يتلوها التلفزيون، ثم شاشات الكمبيوتر والهواتف المحمولة، كموصلات إعلامية عبر الترفيه.

حضور مكثّف

حضور ترامب على الشاشات ليس مختصراً، بل زاخر بحركات جسدية وإيماءات، وتلاعب بالصوت كشخصٍ تدرّب على هذه المهنة، إلى الماكياج والملابس، واختيار كلمات وجمل مدروسة بعنايةٍ لإثارة الجمهور المُخاطَب عبر الكاميرا والشاشة. هنا، لا تُنسى طريقة أدائه عند توقيع قرار إلغاء الاتفاق النووي مع إيران (ومثله الكثير)، إذْ وقف بعنجهية وتفاخر أمام الكاميرات، كأنّه يقول: "نعم، أنا أجرؤ وأغامر"، مُستعرضاً عناصر القوّة عبر تعابير وجهه وجسده، كممثّل يعرف تفاصيل المهنة، وكعارف بتأثّر مشاهديه الأميركيين بطريقة أدائه.

لا يُعرف الكثير عن مساهماته السينمائية. ظهر كومبارساً ناطقاً في "وحيداً في المنزل" (1990) لكريس كولومبوس، وشخصيةً كرتونية في مسلسل "عائلة سيمبسون" عام 2000. هناك أيضاً "المتدرّب" (2024) لعلي عباسي، الذي لم ينل إعجاب ترامب، بل ذمّه ذمّاً شديداً، مؤكّداً مرة أخرى أهمية السينما بالنسبة إليه.

رغم مهاجمة ترامب على شاشات تلفزيونية محلية، خاصة في برامج كوميدية شعبية جداً في أميركا، وعلى خشبات مسارح "ستاند كوميدي" المعروفة جداً، يبقى تأثير السينمائيين عليه شخصياً كبيراً ومُغضباً له بشكل عصابي، خاصة إذا أتى انتقاده من نجومٍ لهم مصداقية، كروبيرت دي نيرو، الذي وصف عائلته بالعصابة. كما أفرد هجوماً على ميريل ستريب عندما انتقدته في حفلة توزيع جوائز "غولدن غلوب" عام 2017، قائلاً إنّها أكثر الممثّلات المُبالَغ في تقديرهنّ في هوليوود. هذا الجوّ العدائي مع أكثر ممثّلي هوليوود مصداقية يؤكّد مركزية السينما والممثّلين في خطّة تواصله مع الناس، أثناء حملته الانتخابية وبعدها.

منذ تحطيم نجمة دونالد ترامب على درب المشاهير عام 2018، لم تعد علاقته مستقرّة مع هوليوود، بحسب فهمه حرية الرأي والعملية الديمقراطية الأميركية برمّتها، لتضع هوليوود يدها على رأسها تخوّفاً وتحسّباً من إجراءات انتقامية له، خاصة المشاهير الذين دعموا كامالا هاريس بأغلى ما يملكون، أي الشهرة. هنا تتقدّم قضية الاستثمار في السينما والترفيه إلى الواجهة، إذْ إنّها السلاح الأمضى في أيدي ترامب وحلفائه، في مقابل قضايا وأفكار تُحسَب على اليسار اللبيرالي الأميركي. فآليات التعطيل الأميركية في هذا المجال معروفة ومتنوّعة، بل مبتكرة، منذ المكارثية إلى الآن، وهوليوود عرفت دائماً حدودها في هذا المجال.

هل سيروّض ترامب هوليوود؟

لكنْ، تبقى أهمية خاصة للسينما المستقلّة، التي ربما تنقسم إلى أكثر من طرفين، يكون أحدها ترامبياً بطريقة أو بأخرى. مع هذا، هناك نتيجة مستقبلية لمواقف هؤلاء المشاهير، ستواجهها هوليوود بتكتيك لا يجعلها في مواجهة الريح العاتية. هل سيروّض ترامب هوليوود ومشاهيرها انتقاماً، أم سيجعل منها آلة إعلامية في خدمته، فيسوقها للقول بقضاياه الاجتماعية والسياسية؟

في كلّ الأحوال، لم تغادر هوليوود سابقاً دائرة الدعاية للقوّة الأميركية وأحلامها. في هذا، ستكون مشاركة مسبقة في أحلام ترامب ووعوده، أيّ أنّها، وبشكل اعتيادي وعمومي، في منتصف الطريق بين الترامبيّة الأيديولوجية واليسار اللبيرالي الأميركي. لكنْ، من يضمن ظهور شخصية كمايكل مور، وربما سينمائيين من السينما المستقلة، يصنعون أفلاماً كـ"فهرنهايت 11/ 9" لمور (2004)، عن الترامبية، وترامب شخصياً المُدجّج بقضايا بفضائح ومواقف اجتماعية قابلة للالتهاب في أيّ وقتٍ.

التأثير على هوليوود سيحصل لا محالة في السنوات الأربع المقبلة، ومنه ما سيبقى طويلاً، وما سيُمحى مع مغادرة ترامب الرئاسة. وهذا ليس بسبب التحكّم بالاستثمار وحده، بل لأنّ الترامبيّة بجزئها الداخلي مبنيّة على الكاميرا السينمائية وتأثيرها البصري، عند تكرار الأمثولة إلى الأقصى، لأنّها كعقلية لا تحتمل المخالفين، وإنْ كانوا أقلّ قوّة وفعالية.

 

####

 

دونالد ترامب وإيلون ماسك: كل هذه الذكورية

محمد بنعزيز

نجح العرّاب دونالد ترامب انتخابياً للمرة الثانية. يحمل العرّاب فلسفة المقاتل طرزان. دم متحمّس، ومزاج مُتّقد، ونزعة إلى الهيمنة، وصفر نقد ذاتي في الغابة. بترميم عبادة القوة، يساهم العرّاب في إعادة خلق وشحن طاقة الشجار التنافسي، الذي ضَعف في زمن البطة العرجاء (لقب جو بايدن في الإعلام الأميركي). كان الصقرُ البطلَ الخارق، ولا يزال أكثر نجاحاً على الشاشة من البطة العرجاء.

"الجوكر" (2024) لتود فيليبس، الغارق في النقد الذاتي، والمهزوم الذي يُحطّم مجده، لا ينجح حالياً في الصالات، كما نجح "جوكر" 2019، الذي استخدم المسدس لتأديب الإعلاميّ الساخر. أكتب هنا وأنا أقوم بغسل دماغ لنفسي، لفهمٍ جديد للعالم. أنا في صفّ البطة، وأشبه الجوكر الثاني.

يتربّع العرّاب حالياً على قمّة السردية الكونية. صورته حاضرة في واجهات كلّ وسائل الإعلام في كلّ الدول، التي تنتظر منه هدية أو مُصيبة. هذا يُقلق مُروّجي إشاعة انهيار أميركا. تُروّج التغطية الإعلامية لرعب مجهولٍ مقبل، يستنسخ تشابهات مع الرئيسة الأميركية المُتخصّصة في تخدير الشعب، لتريح ماسكي السلطة ومالكي رؤوس الأموال: ميريل ستريب في "لا تنظر إلى الأعلى" (2021) لآدم ماكاي. كشفت عودة العرّاب منجزات وتناقضات. لنقارن: عرّف أرسطو الإنسان بأنّه "حيوان سياسي". العرّاب مثلٌ حيّ، لأنّه يتواصل جيداً مع زعيمي روسيا وكوريا الشمالية. الصقور تعرف بعضها.

خصّب العرّاب تاريخ الفكر السياسي. صنع تشويق الأخبار السياسية. مثلاً: أنصار الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو سعداء بفوز قدوتهم. سيطر العرّاب والشاب إيلون ماسك على العالم. أيّ أوليغارشية كريهة ذكورية متعالية. في كلّ مكان يقف فيه العرّاب، يحرّكه حافز واحد: كيف سيجنِّد من سيخدم مشروعه؟ عملياً، يرى العرّاب جميع من حوله بيادق يُمكن أنْ تخدمه. لهذه الحقيقة عمقٌ تاريخيّ، وامتداد مستقبلي. في زمن العرّاب، سيكون أمثال ماسك بخير. ستتضاعف أرباح شركات التكنولوجيا. إذا كان "إكس" (تويتر سابقاً) و"فيسبوك" سعيدين، فمن سيهتمّ برأيي أنا؟ العرّاب رجل أعمال وقطب عقارات. العقار رمز الاقتصاد. رجل الأعمال يفهم في السوق المُعولمة، وينتقي حاشية منسجمة تُقدّس هذا التوجّه. من يكره الانسجام؟

كشف العرّاب أنّه سيعلن حرباً تجارية على الخارج، لتخفيف العجز التجاري، وأنّه سيُخفّف الضرائب في الداخل. من الشعب الذي لا يحلم بهذا؟ عالمياً، طبول جديدة تُقرع.

أكان العالم أفضل من دون الصقر العرّاب عام 2024؟ كلا. أبداً. العرّاب مُتبجِّح ولا أخلاقي؟ أين الزعيم السياسي الملاك؟ خسرت كامالا هاريس بسبب الجندر واللون وحركة MeToo. كيف حال النساء في مختلف العالم؟ ألا تُثبت النتيجة حقيقة قائمة؟ في عهد العرّاب، ستحلّ عائلة العرّاب (الأب الجيد؟) مَحلّ الدولة والسوق. هل هذا جديد في بلدك أيّها القارئ؟ مقارنة الأنظمة السياسية أكثر تقدّماً من مقارنة الآداب. لنرَ: سيغلق العرّاب الحدود الأميركية؟ ماذا ستفعل أوروبا؟ ألم تنسحب إنكلترا من الاتحاد الأوروبي كي تُحصّن حدودها؟ كيف لإيطاليا التي تقودها جورجا ميلوني، وفرنسا التي يلمع فيها جوردان بارديلا، أنْ تقلقا من العرّاب؟ الناقة لا ترى سنامها.

اليمين الرجعيّ يُمسك بالمقود في كلّ مكان، فما الجديد؟ خبر: تناولت جورجا ميلوني العشاء مع إيلون ماسك. شعبوية؟ فوضوية؟ ذكورية؟ من يصدّق الصحيفة التقدمية "نيويورك تايمز" لا يفهم العالم. تنشر أخباراً سيئة عن العرّاب قبل تنصيبه. صار لها خطّ تحريري حزين بسبب نهاية اليوتوبيا.

يكون المغرب بخير حين يكون الرئيس المُقيم في البيت الأبيض جمهورياً. في المغرب، الناس سعداء بعودة العرّاب. صديق المغرب إذاً عدوّ الجزائر. ظهر العرّاب برفقة الملك الحسن الثاني عام 1994، والملك محمد السادس عام 2018. ظهر أيضاً مع وليّ العهد الأمير الحسن. هذا يُحدّد الاتجاه.

أعضاء حلف الناتو قلقون من تدخّل أميركا؟ قلقون من سحب العرّاب جنوده من أوروبا، فتبقى عارية أمام روسيا؟ يستعدّ العرّاب لقطف ثمار القوة. يشتكون من البطة والصقر؟ هؤلاء الذين يرفضون العرّاب، هل يقترحون زعيم بلدهم ليحلّ محلّه؟ حكى إيسوب الحكيم أنّ شعب الضفادع كان يختار ملكاً، وكلّ ملك جاءه لم يتقبّله الضفادع، حتّى جاء من يفترسه. جدّد العرّاب ديناميكية الحقل السياسي العالمي.

نفسياً، سيُحسّن العرّاب من سيناريوهات السياسة العالمية. سيُعدّل الخطاطة السردية التي وضعتها البطة العرجاء. سيكون التطوّر الدرامي مُشوّقاً. مثلاً: فوز العرّاب يرفع قيمة البيتكوين، ويُعيد القرن الأفريقي إلى واجهة الإعلام العالمي، ويمحو جزيرة القرم، ويعِد بوقف إطلاق النار في الشرق الأوسط. يقول مونتيسكيو: "عدم المساواة وعلاقات الإنتاج مُحرّكا التاريخ"، بحسب جورج بالاندييه في "الأنثروبولوجية السياسية" (ص. 22). هل جاء العرّاب بجديدٍ، أم كشف المستور السائد؟ نجح العرّاب للمرة الثانية. من أين نبعت فرضية أنّ العالم سيصير أسوأ بسببه؟ لم يأتِ العرّاب الغوغستير بجديد.

تكمن عظمته في أنّه يُذكّر العالم بحقيقته. سبق لطفلٍ أنْ تكلّم، وقال إنّ العالم جائع وعارٍ. وصل العرّاب إلى البيت الأبيض. لا داعي للتسرّع. حين تختلط الأوراق، يُستحسن الإصغاء إلى حكمة الحكايات. ينظر الناس إلى الأمور من خلال خواتيمها. لا يحقّ لمن تربّى في ثقافة وممارسة سياسية شعارها "من اشتدّت وطأته وجبت طاعته" أنْ يقلق من رئيس مُنتخب ديمقراطياً. خرج العرّاب حيّاً بيدٍ مرفوعة وبأغلبية مطلقة.

حذّر هنري كيسنجر من هوس الاحتفاظ بكلّ تيارات الرأي العام، بدل أغلبية تتّخذ القرارات وتنفّذها. بُنيت فلسفة الرفيق ماو تسي تونغ على أنّ المُهمّ ليس لون القط، بل أنْ يأكل الفئران. براغماتياً، العالم بحاجة إلى العرّاب لتمرير الصفقات، لذا انتخبته أميركا. كثيرون سيبلعون الضفادع. أيّهما أفضل للرئيس فلوديمير زيلينسكي: نسيان جزيرة القرم، أم استمرار الحرب الروسية ضد أوكرانيا؟ الشرق الأوسط: سيُشرف العرّاب على وقف إطلاق النار فيه. سيبدو بطل سلامٍ. ستترك مجازر ما بعد "7 أكتوبر" (2023) ندوباً في مخيلة أبناء المنطقة لقرنٍ. ستقول الصحف: أُوقفَت الحرب في فلسطين ولبنان بفضل العرّاب. ستتوقف الحرب. لكنْ، بعد ماذا؟

 

####

 

هوليوود في مواجهة "ترامباليا"

سعيد المزواري

قبل شهرين من تولّي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية لفترة ثانية، تُجسّد هوليوود اليوم إحدى القلاع الأخيرة في بلاد العم سام لمقاومة المَدّ المعاكس لقيم الحرية وروح الديمقراطية، الذي يشكّله خطاب الملياردير السبعينيّ وبرنامجه الانتخابي، خاصة أنّ هذه الولاية الثانية ستجري في غياب ضوابط وتوازنات حقيقية، بعد فوز المرشّح الجمهوري في مجلس الشيوخ، واحتفاظ حزبه بالأغلبية في مجلس النواب، إضافة إلى الأغلبية المريحة التي يضطلع بها المعسكر المُحافظ في المحكمة العليا. إذاً، نحن إزاء كوكتيل بالغ الانفجاريّة لرجل ذي سلوك اندفاعي وغير متوقَّع، يحوز سلطة شبه مطلقة على رأس دولة عظمى، في سياق عالمي مضطرب وبالغ التوتّر، وفي ظلّ مجزرة فظيعة تجري في غزّة، وحروب مزمنة، وتضخّم جامح.

بلغة السينما، هذا تجسيد مثالي لنموذج سيناريو "شخصية استثنائية في وضعية استثنائية"، الذي يتلافاه كتّاب السيناريو غالباً، باعتباره يغرق في التقلّب، ويتعرّض بالتالي للتشتّت والافتقار للصدقية. لكنّ تاريخ السينما يؤشّر إلى أنها كانت دائماً في الموعد عند الأزمات الكبرى التي اجتازتها الإنسانية في القرن الماضي. ألم يُخرِج شارلي شابلن "الديكتاتور العظيم" (1940) في أوج الحرب العالمية الثانية، ليحاكي هتلر وطموحه المسعور ليغدو إمبراطوراً، بخطابه الهادف إلى إلهاب حماسة الجماهير بفحوى عنصري، وفرجويّة فجّة، سمة جميع الشعبويين، وآخرهم صاحب شعار "أميركا أولاً"؟ بفضل هذه المَعلَمة السياسية، ساعد شابلن في تعبئة الرأي العام في أميركا الشمالية لصالح الديمقراطيات الأوروبية، في وقتٍ كانت المملكة المتحدة تقاوم المدّ النازي وحدها، وشاءت المفارقة أنْ يُقدّم فيها من جسّد أعظم شخصية صامتة على مرّ العصور، وتردّد لسنوات في تبنّي السينما الناطقة، مونولوغاً عظيماً لا يزال مصدر إلهام إلى يومنا هذا، خاصة حين تُذكر المكننة التي وعدت البشرية بالوفرة، لكنّها تركتها في عوز، وكيف أنّ الذكاء الجاف وغير المتعاطف قاد البشرية إلى الكلبيّة، فبدا خطابه استشرافاً لطرح الملياردير إيلون ماسك (أحد أكبر داعمي ترامب والمرشّح لتعزيز فريقه بقيادة وزارة مستحدثة تُعنى بالكفاءة الحكومية) ومشاريعه "ما بعد الإنسانية" المشبوهة، التي تزعم تعزيز قدرات البشر عبر استخدام العلوم والتكنولوجيا.

ولأنّ تطوّر التاريخ يتبع نسقاً حلقيّاً خلدونياً، فما أشبه اليوم بحال العالم في عشرينيات القرن الماضي، حين استشرت الأزمات الاقتصادية، واتّسعت الفجوات بين طبقات المجتمع، وتغوّلت أجهزة قمع حريات التعبير والتظاهر. هناك فيلمٌ عُرض عام 1940 أيضاً، يُعدّ من الاستثناءات القليلة التي تمخّض فيها اقتباس تحفة أدبية إلى السينما عن تحفة فيلمية، يقبض جيداً على أجواء كارثة الكساد الاقتصادي الكبير الذي اجتاح أميركا عام 1929: "عناقيد الغضب" لجون فورد، عن رواية جون ستاينبيك بالعنوان نفسه (1939)، التي تسبر سراب الحلم الأميركي ومأساة ملايين المواطنين الذين دُمّرت حياتهم، وأضحوا عاملين رحّلا يتقاذفهم الجوع، واستغلال أصحاب رؤوس الأموال، وبطش السلطات. في مشهد مؤثّر، يقول توم جود (هنري فوندا)، أحد الرّحل، ردّاً على والدته التي تودّعه متسائلةً أين سيكون، وكيف لها أنْ تعلم ما سيحلّ به، فيبدو جوابه كأنّ السينما نطقت بلسانه، بضمير المتكلم، لتفرد برنامج مقاومة في فترة الأزمات: "ربما أنّ المرء، كما يقول كاسي، لا يملك روحاً خاصة به، بل مجرّد قطعة صغيرة من روح كبيرة ينتمي إليها الجميع. عندئذ، لا يهمّ أين سأحلّ. سأكون في مكان ما وسط الظلام. أينما كانت هناك معركة كي يأكل الجوعى، سأكون هناك. أينما كان هناك شرطي يضرب رجلاً، سأكون هناك. سأكون في الطريقة التي يصرخ بها الرجال عندما يغضبون. سأكون في الكيفية التي يضحك بها الأطفال عندما يكونون جائعين، ويعرفون أنّ العشاء سيجهز قريباً، وأينما يأكل الناس مما يزرعون ويعيشون في المنازل التي يبنونها، سأكون هناك أيضاً".

كثيراً ما يُساق أنّ ترامب لم يشنّ أيّ حرب في ولايته الأولى. ننسى أنّه قام، عبر سياسته الكلبيّة والانتهازية، بالأدهى: تجفيف منابع الأمل، وتجريف قيم ومعاني الممارسة السياسية والاقتصادية والبيئية. هذا بمثابة تمهيد طريق لأفظع الحروب والكوارث الطبيعية. عام 1986، أطلق صلاح أبو سيف "البداية" (سيناريو لينين الرملي)، الذي يقتفي ركّاب طائرة نجوا من سقوطها في واحة نائية. يسعى الناجون إلى إقامة نظام يحكم مجتمعهم الصغير، فينشأ صراعٌ بين معسكر يقوده رجل الأعمال الثري نبيه (جميل راتب)، الذي يحاول بسط سيطرته للاستئثار بالموارد والاستفراد بالسلطة، والمثقّف عادل (أحمد زكي)، الذي يصارع لتطبيق مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

بغضّ النظر عن الوضعية الأولية، التي تبدو كاستشراف لمسلسل "ضائعون" (Lost) المرجعيّ، لا يُمكن لمن يُشاهد الفيلم اليوم، أو يعيد اكتشافه، ألاّ يلاحظ التقاطعات المذهلة بين شخصية نبيه ودونالد ترامب. انطلاقاً من استخدام الديمقراطية، لتمرير إجراءات باطنها ديكتاتوري، مروراً بتأليب فئة من المجتمع ضد أخرى عبر قلب الحقائق (المشهد الشهير الذي ينعت فيه نبيه عادل بديمقراطي، وينطقها كأنّها مرادف للكفر، أمام اندهاش الفلاّح مقابل إيديولوجيا الأخبار الزائفة التي تُشكّل عصب خطاب ترامب)، وصولاً إلى استعدادهما لحرق كلّ شيءٍ في حالة خسارتهما اللعبة، كما حدث عندما كاد تأليب "الرجل البرتقالي" لمؤيديه أنْ يؤدّي بأميركا إلى حربٍ أهلية طاحنة، عقب خسارته انتخابات 2020.

"نبيهاليا" اسم أطلقه رجل أعمال "البداية" على ديكتاتوريته الصغيرة وسط الواحة. فهل يسعى ترامب، في ولايته الثانية (بعد أنْ أطلق اسمه على البرج الشاهق الذي أقامه في قلب نيويورك)، إلى وضع حجر أساس نظام حكم جديد، أو نوع من "ترامباليا"، يُشكّل، بحسب مفكّرين عديدين، محطة فارقة في بداية أفول الحضارة الغربية بقيادة الولايات المتحدة؟ كلّ شيءٍ ممكن مع شخصيةٍ تجعل من الحماقة واللاتوقّع أسلوب حياة. لكنّ المؤكّد أنّ السينما "ستكون هناك"، بمعنى المونولوغ الأثير لتوم جاد.

 

####

 

محمد رسولوف.. فرحة ناقصة بتمثيل ألمانيا في سباق الأوسكار

(فرانس برس، العربي الجديد)

رغم امتنان المخرج الإيراني محمد رسولوف لاختيار فيلمه "دانه انجر مقدس" (بذرة التين المقدس) لتمثيل ألمانيا في السباق إلى جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، تشوب المرارة فرحته لعدم تمكّنه من خوض المنافسة باسم بلده الذي غادره سرّاً. وكان فيلم محمد رسولوف التشويقي الذي صُوِّر سرّاً في إيران، ويحمل بالإنكليزية عنوان The Seed of the Sacred Fig قد لقيَ استحسان النقاد، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان السينمائي. لكنّ سلطات النظام في طهران لم ترشّح هذا العمل الذي يتناول عائلة تفككت تحت وطأة القمع الحكومي لتمثيل إيران في السباق إلى جائزة الأوسكار ضمن فئة أفضل فيلم أجنبي.

وقال محمد رسولوف لوكالة فرانس برس قبل أيام من بدء عرض الفيلم في الولايات المتحدة الأربعاء إن "فكرة اختيار الجمهورية الإسلامية هذا الفيلم لتمثيل إيران في الأوسكار غير واردة طبعاً". وأضاف "في الواقع، لو كان ذلك ممكناً، لما كان الفيلم موجوداً أصلاً".

إلّا أن ألمانيا التي اختار محمد رسولوف الإقامة فيها منذ مغادرته إيران خلسة هي التي تبنّت ترشيح هذا الفيلم الروائي الذي يُتوقع بشدّة أن يتأهل إلى المرحلة الأخيرة من الترشيحات، إذ إنه مموَّل من شركات إنتاج فرنسية وألمانية. وأعرب رسولوف عن ارتياحه لِكَون ألمانيا "أدركت الأهمية الدولية للفيلم وفتحت ذراعيها له". ورأى أن الأمر "أشبه بحمل الشعلة"، وهو "إشارة للمخرجين الذين يعملون في ظل القيود في مختلف أنحاء العالم". لكنّ المخرج الإيراني يقرّ مع ذلك بأن فرحته باختيار فيلمه مشوبة بالمرارة. وقال "لديّ مشاعر متضاربة جداً".

قصة فيلم محمد رسولوف "بذرة التين المقدس"

تدور أحداث الفيلم في خضمّ قمع حركة "مرأة، حياة، حرية" التي قُتل خلالها مئات الأشخاص، بحسب منظمات غير حكوميةويروي "بذرة التين المقدس" قصة قاضي التحقيق إيمان الذي يعمل في خدمة النظام فيما كانت تتسع حركة الاحتجاج في العاصمة طهران ضد النظام بعد وفاة الشابة مهسا أميني، التي اعتُقلَت في نهاية عام 2022 لعدم احترامها قواعد اللباس الديني الصارمة.

أما زوجته نجمة فتُبقي التواصل قائماً مع ابنتيه المتمردتين رضوان وسناء اللتين تدعمان التظاهرات الاحتجاجية سرّاً من دون أن تُشاركا فيها. ويتردد إيمان بداية في توقيع أوامر بإعدام المتظاهرين من دون أي دليل، لكن ضغوط النظام تزداد وتغرس في نفسه الشكوك تجاه الشباب.

هرب عبر الجبال ثم رُشّح للأوسكار

وخلال العرض الأول للفيلم في مهرجان كانّ السينمائي، كان محمد رسولوف الذي أمضى بعض الوقت خلف القضبان قد فرّ للتوّ من إيران مشياً عبر الجبال للوصول إلى أوروبا. وكان حكم بالسجن ثماني سنوات قد صدر بحق المخرج قبل مدة قصيرة من فراره بتهمة "التواطؤ ضد الأمن القومي" و"الدعاية ضد النظام"، بعد انتقاده "الفساد" و"عدم كفاية" السلطات الإيرانية. وذكّر رسولوف بأن الممثلة سهيلة غلستاني التي تؤدي دور الأم نجمة في فيلمه، لا تزال في إيران، وتتعرض لـ"الضغط الأكبر". ولاحظ أن الملاحقات القضائية ضد المخرجين تصاعدت في إيران خلال الأسابيع الأخيرة.

 

العربي الجديد اللندنية في

24.11.2024

 
 
 
 
 

كلينت إيستوود .. القوي ينتصر دائماً

ترجمة واعداد: مبارك حسني

أصدرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية العتيقة، في شهر تشرين الاول الماضي، عدداً خاصا عن الممثل والمخرج الأميركي المعروف كلينت إيستوود، في 164 صفحة كاملة، تحت عنوان دال هو "آخر العمالقة".   

كلينت إيستوود ممثلاً في البداية، اشتهر بأدواره كرجل صموت

وفي مشواره كممثل، كان يصر باستمرار على أن يُقلِّل المخرجون من عدد الجمل التي يجب أن يقولها. كما كان يفضل أن تؤخذ له لقطاتٌ كبرى تبرز عينيه الزرقاوين الفولاذيتين، والوريد المنتفخ في صدغه، والاضطراب الداخلي الذي يوحي به ثبات ملامحه، والعبوس على شفتيه وهو يمضغ سيجارته. كان يقول: "الأفعال أبلغ من الكلمات". 

وإذا حدث وتفوه بكلمات منتقاة، فإنما لتؤكد هذه الكلمات ما كانت الموسيقى والصمت قد أوضحا للمشاهد بقوة لا تضاهى. يفعل ذلك سواء في أدوار البطولة في أفلام الويسترن، أو كشرطي، أو كفتى شقي يطلق النار بشكل أسرع من ظله، فتتناثر جثث أعدائه على طول الطريق التي يسلكها.   

كما برع أيضا في توخي البطء في حركاته التي تعكس ثقته وإرادته الجليدية. واشتهر بلا مبالاته التي تفجر مشاهد العنف بمجرد ظهوره. هو قناع يخفي خلفه كل عواطفه بعناية فائقة، بحيث يُحيط شخصيته بدائرةٍ من الغموض.  

كلينت إيستوود مخرجاً

كمخرجٍ، تكمن علامته التجارية في توخي الاقتصاد في الوسائل المُوظَّفة وفي اختيار الحبكة الواضحة. كان ضد إعادة كتابة السكريبت أكثر من اللازم، كما كان يكتفي بتصوير لقطةٍ واحدةٍ قدر الإمكان، وأن ينجز في ستة أسابيع لقطات كانت ستستغرق اثني عشر أسبوعاً، ويقوم بالمونتاج بلا تكرارٍ غير ضروريّ. كل ذلك بهدف الحفاظ على الشكل العفوي والطبيعي لما تم تصويره، بدل البحث عن الكمال

هذا الاسلوب الإخراجي جعله يكتسب رؤية موجزة للعالم من حوله، لأنه كان عدواً للتردد وكثرة الاحتياط. إن سينما هذا العاشق للحركة السينمائية المثيرة، لا يمكن تلخيصه في مجموعة من أفلام الحركة المدهشة، وعمليات إطلاق النار والمطاردات، في عالم يهيمن عليه العنف الأعمى والفوضى. إنها وحشية تَبنَّى فيها أساليبه الخاصة، خالقاً طريقته في تجسيد شخصية البطل في قَرنٍ فقد أوهامه.

وبسبب السلوك القاسي لشخصياته، وميلهم إلى معاملة معاصريهم على أنهم "حمقى وأغبياء"، تعرض كلينت إيستوود للانتقاد اللاذع لفترة طويلة. وكان سبق أن استغرب اتهامه بالعنصرية، في الحلقة التي قام فيها المفتش هاري بتصفية عصابة من لصوص البنوك السود وهو يمضغ النقانق. فأجاب بأن الفيلم " منح عملاً لأربعة من ممثلي الأدوار الخطيرة الأمريكيين من أصل أفريقي." 

كان فعلا أنموذجاً للذكورة الفحلة، فلم يراعِ الشكل الذي تظهر به، ولم يتبع إملاءات السياسة "النظيفة".  قيمت الناقدة بولين كايل، عدوته الدائمة، سينماه على كونها "اختزال إلى حد العبث لذكورة اليوم". أما المعجبين به، فيرون في الأفلام التي أخرجها طيلة العشرين سنة الأخيرة، انتصاراً لنبل المهزومين، وتشكيكاً في شرعية المنتصرين، واعتبروا ذلك ثمرة تحول إعجازي

 لا جدال في أن النضج الذي اكتسبه مع الزمن غيّر نظرته للأمور. إن القساوة التي تمنح أفلامه قوتها، كانت دائماً تقريباً مقرونة في الواقع بالشك وخيبة الأمل. فأبطاله ليسوا صالحين وسذج كأسلافهم في سينما الخمسينيات من القرن الماضي، فبعد انكسارات حرب فيتنام وأثر وخز الضمير الأميركي، أبدع أبطالاً يحاولون فقط شق طريقهم داخل فوضى العالم. لم يهتم المفتش هاري بالحدود التي كان رؤساؤه يودون حصره فيها، وعدم تجاوزها، واعتبر آخرون حُلوله السريعة تجسيداً حديثاً للفاشية الأمريكية. لكن الحقيقة، هي أن تصرفات العديد من شخصيات إيستوود، تنبع من ازدرائه للقواعد، ورغبته في تفضيل مبادئ القانون الأخلاقي على الاحترام الدقيق للإجراءات.

 ربما كان كلينت إيستوود طوال حياته، كما يعاب عليه، يبحث عن القوة. فبعد الانتشاء الذي جعله في سنوات شبابه الأولى يسعى إلى تنميتها كأداة للهيمنة ولعكس كبريائه، تظهر أفلامه كلها في نهاية المطاف سعياً لترويض هذه القوة. وكأنه أدرك أن هدفه هو رفع هذه القوة إلى مرتبة الفضيلة، وذلك بجعل العنف الذي تجلبه لا ينفصل عن العدالة. وكأنه اعتبر أنها عدوة كل ضعف وكل سذاجة التي كثيراً ما تكون ذريعة الجبن والتهكم، وبالتالي، لن تكون هذه القوة ذات فاعليةٍ إلا بقهر نفسها بهدف أن تمنح نفسها لشيء أعظم منها.

 

الصباح العراقية في

25.11.2024

 
 
 
 
 

الحبّ الذي أحيا قلب «الروبوت البرّي»

شفيق طبارة

خلال الدقائق الأولى من فيلم «الروبوت البرّي» (2024)، نشعر كأننا أمام أحد تلك العناوين التي تمكن من خلالها استديو «دريم ووركس أنيميشمن» من تحسين صناعته للرسوم المتحركة، لينافس إلى حد ما شركة «بيكسار» أو «استديو غيبلي». لكن بعد فترة وجيزة، عندما نكتشف القصة، نرى أننا أمام فيلم يؤكد على إتقانه الفني والتقني في حكاية أطفال نمطية تفضل ضمان الإثارة من خلال السفر على طول مسارات معروفة جيداً بدلاً من المخاطرة بتقديم أي شيء أكثر من حكاية حيوانية لطيفة أخرى، مع بعض الرسائل هنا وهناك، والدروس الاخلاقية. بالنسبة للمشاهدين الصغار، فإن المشاهدة ستكون ممتعة، كما نتوقع من الرجل وراء فيلم «ليلو وستيتش» (2002) المخرج كريس ساندرز.

يبدأ الفيلم بالروبوت روز (لوبيتا نيونغو)، التي جرفتها الأمواج إلى شواطئ جزيرة يسكنها الحيوانات فقط. إنها روبوت من صنع شركة ضخمة تسمى «يونفرسال ديناميك»، وهدفها مساعدة البشر وتنفيذ المهام الموكلة إليها. ولكن الروبوت تجد نفسها وسط الطبيعة، وتجد صعوبة في إيجاد أحد يعطيها الأوامر. في الواقع، كانت لقاءاتها الأولى مع مخلوقات الغابة مليئة بالأحداث، حيث تولى العديد منها مهمة مهاجمتها وسرقة أجزائها وجعل حياتها بائسة بشكل عام، معتبرين أنّها نوع من الوحوش التي لا تنتمي إلى هنا. مع ذلك، تتغير الأمور أولاً عندما تتعلم الروبوت لغة الحيوانات، ولكن الأهم من ذلك، عندما تسقط عن طريق الخطأ في عش أوزة، فتدمّر كل البيض في الداخل باستثناء بيضة واحدة. من تلك البيضة يأتي برايتبيل (كيت كونور)، الذي يصبح في النهاية «ابن» الروبوت. مع برايتبيل الصغير، الطائر الهش قصير الأجنحة الذي يجد صعوبة في تعلم السباحة والطيران، وثعلب ذكي يدعى فينك (بيدرو باسكال)، تشكل روز عائلة جديدة غير نمطية وغير طبيعية إلى حد ما. لكن بمجرد أن يدرك برايتبيل أنّ روز ليست أمه الحقيقية، تتغير مهمة الأخيرة: يجب أن تعلّمه الطيران، حتى يتمكن من الهجرة مع بقية أوز الجزيرة، ويكون جزءاً من المجموعة التي كان يُفترض أن ينتمي إليها دائماً.

نحن نواجه مرة أخرى، قصة عن المنبوذين الذين يبحثون عن مكانهم في العالم وعن العائلة التي يتم اختيارها، والتباين بين الطبيعي والاصطناعي، وايضاً مثال عن أن تكوين صداقات ليس بالمهمة السهلة، لكنه يستحق العناء، والتغلب على اختلافاتنا الطبيعية وخلافاتنا الفطرية، وبناء أسرة حيث يبدو أن هناك مساحة للحب فقط. باختصار، مزيج من الرسائل الإيجابية بقدر ما هي مبتذلة. ومع ذلك، فإن القلب الكبير والجذاب للفيلم لا يمكن إنكاره. تجنب الفيلم الاخلاقيات المرهقة للعديد من أفلام الرسوم المتحركة، أو النية السياسية للإنتاجات الجديدة «للأطفال». يستخدم الفيلم استعارات جماعية متكلفة إلى حد ما حول حكاية البيئة وقيمة الحياة الجماعية كاستجابة فورية للرأسمالية الشركاتية، التي تجعل الإنسان فردانياً وتدمّر البيئة الطبيعية. كما يطرح الفيلم عدداً من الأسئلة ولا يخشى التطرق إلى الموضوعات الناضجة إلى حد ما، وتطويرها بطريقة مسلية ومضحكة في بعض الأحيان مثل: هل يمكننا أن نتجاوز ما تمليه علينا غرائزنا؟ هل يتعين علينا أن نفعل ما يفترض بنا أن نفعله، أم يمكننا أن نتخذ خيارات مختلفة بأنفسنا؟ وما الفرق الحقيقي بين الأسرة التي ولدنا فيها، والأسرة التي تربّينا؟ بفضل هذا، فإن الفيلم لديه الكثير ليقوله للبالغين، كما للأطفال. يستحقّ الثناء ايضاً من خلال أسلوبه البصري، قد تم رسمه وتلوينه يدوياً جزئياً، وهو مستوحى من كلاسيكيات «ديزني» أو أعمال هاياو ميازاكي. لقد وجدت «دريم ووركس» أسلوبها الخاص بين الواقعية التصويرية الكرتونية، والألوان المائية والمرشحات.

في سنة سينمائية لم يكن فيها سوى عدد قليل جداً من أفلام الرسوم المتحركة الأخرى على هذا المستوى، فإن «الروبوت البرّي»، يأخذ مكانه كأحد أهم أفلام الانيميشن هذه السنة. ولأن الفيلم مقتبس من كتاب بالعنوان نفسه من تأليف بيتر براون، الذي كتب أجزاء عدة من القصة، فمن غير المستبعد أن نجد أجزاء جديدة من الفيلم في الأعوام المقبلة.

* The Wild Robot في الصالات اللبنانية

 

الأخبار اللبنانية في

25.11.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004