ملفات خاصة

 
 
 

الأوسكار وترشيح الأردن الذي يشبه "المحارب" قبل الانسحاب والإصرار

د. أمل الجمل

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 97)

   
 
 
 
 
 
 

اندهشت كــثيراً عــندمــا قــرأت أن المملكة الأردنية الهاشمية تُــرشــح فــيلم"أرضــي الحــلوة"، الـذي تـم إنـتاجه بـتمویـل مشـترك بـين أیـرلـندا وفـرنـسا والأردن والولايات المتحدة لجوائز الأوسكار الـسـابـع والـ تسعین ضمن فئة أفـــضل فـــيلم دولـي طـویـل، والتي كـانـت تسـمى مـن قـبل "أفضل فيلم أجنبي"، لـكن مـنذ ألمح ألفونسو كوارون مخرج فیلم "روما" أثناء تسلمه جائزة الأوسكار، في كلمته بشكل ضمني إلى عبثية كلمة "أجنبي".

كـان ذلـك عـام ٢٠١٩ خـلال حـفل تـوزيـع جـوائـز الأوسـكار، حـيث صـعد المخـرج المـكسيكي ألـفونـسو كـوارون -الـذي قـدمـه المـمثل خـافـيير بـارديـم باللغة الإسبـانية - فتقبل جـائـزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية عـن فيلمه "روما".

وخــلال خــطابــه، قــال مازحا إنه: نشأ وهــو يشاهد الأفــلام الأجنبية ويتعلم منها الــكثير؛ أفلام مثل Citizen Kane وJaws وRashomon وThe Godfather وBreathless".

تعليق كوارون يطرح بذكاء وسخرية تـساؤلاً عــن ســبب اعتبار اللغة الإنجليزية اللغة الافتراضية لصناعة عالمية؛ كما يسلط الضوء على كيف أن فئات "فـيلم هوليوود" والفيلم الأجنبي" ليس بالضرورة متعارضان.

فمنذ الـقدم، نجـد أن العديد من صناع الأفلام الـذيـن يدفعون حـدود ذلـك الـفن كـانـوا مـن خـارج الولايات المتحــدة؛ وهــذا لــيس بســبب نقـص المواهب داخــل الولايات المتحــدة؛ ولكن هذا يرجع إلى حد كبير إلى نقص التمويل المؤسسي للإنتاجات المستقلة.

أعود إلـى سـبب دهشتي من تـرشـيح الأردن؛ لـيس السبب في قـــصة وسـيناريو الفيلم الوثائـقي للمخرجة سـاریـن ھـیرابـدیـان، لتمثیل الـبلاد فـي حـفل توزیع جـوائـز الأوسكار السابع والتسعین ینایر ٢٠٢٥ فـي فـئة أفـضل فیلم دولي طویل؛ والـذي يحكي قصة صبي فــي ظــل حـرب متعددة الأجيال فــي جــبال الــقوقــاز مــا بــعد الاتــحاد الــسوفــييتي.

الـبطل فـریـج،صـبي یـبلغ مـن الـعمر11عـاًمـا یحـلم بـأن یـصبح طـبیب أسـنان؛ لـكن ھیـعیش فـي مـنطقة نـاغـورنـو كـارابـاخ فـي أذربـیجان، الـمنطقة الـتي تـقع فـي قـلب صـراع عـرقـي وإقـلیمي دام عـقوًدا مـن الـزمـان بـین أرمـینیا وأذربـیجان؛ عـندمـا انـدلـع الـعنف مـرة أخـرى، اضـطر فـریـج وعـائـلته إلـى الـفرار، عـادوا لیجـدوا مـنزلـھم وأحـلامـھم فـي حـیاة طـبیعیة فـي حـالـة خـراب.

إنـه أول فـیلم طـویـل للمخـرجـة ھـیرابـدیـان، بـعد فـیلمھا الـوثـائـقي الـقصیرWe Are Not Done Yet أمـا سـبب دھشـتي فـیعود إلـى أن الـلغة الـتي یـنطق بـھا الـفیلم لیسـت لـغة أصـیلة أو أسـاسـیة فـي الأردن، الـفیلم غـیر نـاطـق بـالـلغة الـعربـیة أو الـلھجة الأردنـیة، ولا یـتعلق مـضمون الـفیلم بـقضیة لـھا عـلاقـة بـالأردن سـوى الـتمویـل الـمالـي فـقط، إضـافـة لـلعرض فـي مھـرجـان عـمان حـیث حـصد جـائـزتـین ھـناك، لـكنھ حـتى عـندمـا عـرض فـي مھـرجـان شـیفیلد للأفلام الوثائقیة لكنھ لم یحصد أي جائزة، ولم یُرشحھ المھرجان للأوسكار بفئة أفضل وثائقي.

یـذكـرنـي تـرشـیح فـیلم "رضـي الحـلوة" بـواقـعة "المـحارب" إنـتاج عـام ٢٠٠٣، مـن إخـراج آصـف كـابـاديـا.. كـان نـاطـق بـالـهنديـة وبـطولـة عـرفـان خـان، فـاز الـفيلم بـجائـزتـين بـافـتا - والـتي تُـعد أبـرز الـجوائـز الـبريـطانـية، وقـد اخــــتارتــــه الأكــــاديــــمية الــــبريــــطانــــية لـلسينما والــــتلفزيــــون لــــتمثيل المــــملكة المتحــــدة فــــي فــــئة "أفــــضل فــــيلم بــــلغة أجـنبية" لـجوائـز الأوسـكار عـام 2003؛ لـكن الأكـاديـمية اتخـذت خـطوة غـير مسـبوقـة، إذ قـامـت بـرفـض الـفيلم لأنـــه رغـــم أنـــه مـــن إخـــراج بـــريـــطانـــي المـــولـــد - مـــن أصـــل هـــندي - ورغـــم أنـــه تـــم إنـــتاجـــه بـــالاشـــتراك مـــع ثـــلاث شـركـات بـريـطانـية، إلا أن الـفيلم لـم يـكن مـؤهـلاً لـيكون بـريـطانـيا لأن "الـهنديـة ليسـت لـغة أصـلية فـي المـملكةالمتحــدة".

تــدور الأحــداث فــي الــهند الإقــطاعــية، حــيث يــصبح المــحارب خــان فــريــسة فــي مــطاردة قــاتــلة عــبر جبال الهيمالايا.

اســـتعدت هـــذه التجـــربـــة عـــندمـــا أعـــلنت الأردن قـــبل أيـــام ســـحب تـــرشـــيحها لـــلفيلم مـــن الأوســـكار أفـــضل فـــيلم دولــي طــويــل، وقــبل أن تــرفــضه أكـادیـمیة فـنون وعـلوم الـصور المتحـركـة، أمـا سـبب الانـسحاب - الـمعلنة - فھـى الضغوط الممارسة من أذریبجان أحد الأطراف المتصارعة ضمن أحداث الفیلم.

مـا زال أمـراً آخـر مـثیر لـلدھـشة وھـو إصـرار الأردن عـلى تـرشـیح الـفیلم ضـمن أفـضل وثـائـقي وإعـلانـھا أنـھا تـقف وراءه، فـلماذا لا تـساھـم فـي إنـتاج أفـلام عـن قـضایـا أردنـیة وتـرشـحھا لـلأوسـكار مـباشـرة، لـماذا الـترشـیح بـالـوكـالـة؟ إن الأردن خـطت خـطوات كـبیرة فـي مـجال السـینما عـبر دعـم السـینما المحـلیة وعـبر تـشجیع الـتصویـر، فھـل الـمجتمع الأردنـي یخـلو مـن الـمشاكـل والـھموم الـتي تـحتمل أن تـكون نـواة لـصناعـة فـیلم سـینمائـى قـادر عـلى الـمنافـسة فـي جـوائـز الأوسكار؟ ھل أصبحت الأردن جنة الله على الأرض؟ وھل یعیش المواطن الأردني سعیداً؟

الـمفارقـة أن الأوسـكار الـوحـید فـي تـاریـخ السـینما الـعربـیة ھـو عـمل لا یـتعلق بـالـقضیة الـعربـیة وفـریـق الـعمل كـلھ أجـنبي بـاسـتثناء الإنـتاج والـتصویـر، إنـه "زد" للمخـرج الـیونـانـي الـفرنسـي كـوسـتا جـافـراس مـن إنـتاج الجـزائـر، لأنـھا في ذلك الحین كانت كعبة الثوار، وكان المخرج عاجزا عن إنتاج الفیلم في أي مكان آخر في أوروبا.

وأخـیراً، مـنذ ھـذا الـتعلیق الـساخـر مـن ألـفونـسو كـورون - عـن لـفظ "أجـنبیة" - تـبدل الـكثیر فـي أسـلوب الأوسـكار، فـفي الـعام الـتالـي مـباشـرة 2020، أصـبح الـفیلم الـكوري الـجنوبـي Parasite أول فـیلم غـیر نـاطـق بـالـلغة الإنجـلیزیـة یـفوز بـكل مـن جـائـزة "أفـضل فـیلم روائـي طـویـل دولـي" - الـمعروف سـابـقًا بـاسـم أفـضل فـیلم بـلغة أجـنبیة - وأفـضل فیلم؛ كما فاز المخرج بونج جون ھو بجائزة أفضل مخرج في ذلك العام.

 

موقع "مصراوي" في

18.11.2024

 
 
 
 
 

فيلم «بذرة التين المقدس»… الفجاجة تبطل القصة

سليم البيك

للسينما الإيرانية جماليات خاصة بها، عرفناها أولاً مع عباس كياروستامي ثم آخرين منهم جعفر بناهي وأصغر فرهادي، تتلخص في تصوير اجتماعي متضمناً السياسي، وكما هو الحال في أي نظام قمعي، طوّر الفنانون أسلوباً لإتاحة أعمالهم، يصبح الأسلوب تياراً أو سمة عامة لسينما هذه البلد أو تلك. هذا تماماً ما جعل للسينما الإيرانية سمة أساسية هي الحساسية لا البلادة، والذكاء لا البلاهة، وفي أي من أفلام هذه السينما يمكن بالنباهة أو حتى الانتباه، رؤية ما بين الصور وسماع ما بين الكلمات: القمع الاجتماعي والسياسي للنظام الإيراني.

بخلاف هذه الرهافة، وبالتوافق مع الفجاجة، كان فيلم محمد رسولوف «بذرة التين المقدس»، لا يحتاج الفيلم إلى نباهة، فهو مصنوع ليكون دعائياً، والدعاية تخلو من حساسية الفن، وليكون كذلك فجاً أقرب إلى تقرير صحافي غربي عن قمع النظام لهبّة طالته – عن حق- في حق النساء بخلع حجابهن، وما يمكن أن يلي ذلك من حريات مدنية.

رافق الفيلم هياجٌ غربي، فرنسي وألماني تحديداً، في إمكان المخرج الهرب من إيران للالتحاق بفيلمه المشارك في مهرجان كان السينمائي هذا العام، هياج ما كانت لتخطئه تقييمات سياسية بلباس السينمائي والتباسه، أوروبياً، ومن بعدها جوائز من المهرجان المنتشي بهذه الدعاية المناهضة للنظام الإيراني، أبرزها «لجنة التحكيم الخاصة».

الفيلم، The Seed of the Sacred Fig، لم يخطئ سوى بحق الرهافة في تراث واسع من السينما الإيرانية، فواجه الفيلمُ النظام لا بكونه عملاً فنياً، بل ريبورتاجاً على قناة أوروبية مدمغاً بمشاهد تمثيلية. فللفيديوهات من الهبة الشعبية الإيرانية عام 2022، حصّة واسعة من زمن الفيلم المقارب لثلاث ساعات. لملم الفيلم ما حضر من مشاهد المظاهرات وقمعها، لتخرج بين مشهد وآخر كأي تلقين متقصّد لدرس يحتاج صاحبه التأكد من إيصاله، وإن كان ذلك بالإلحاح والتكرار المملين، وإن كان مقحَماً على قصة لعائلة، تحوي عناصر أمكن لها أن تُخْلص للرهافة الإيرانية في السينما، لا أن تخَلِّص عليها.

بمعزل عن الفيديوهات التي تطرأ فيه كالإعلانات/الدعايات، يحكي الفيلم عن عائلة ببنتين، الأب يعمل في القضاء الإيراني وهو مسلّح، والأم في البيت، البنتان تلتفتان إلى الحراك الشعبي وتتعاطفان معه. يختفي مسدس الأب فيدور الفيلم حول محاولته إيجاده، يصل الأب في ذلك إلى إخضاع زوجته وابنتيه للتحقيق فالحبس في بيت قرويّ حتى تعترف إحداهن.

أمكن لقصة كهذه أن تكون جيدة، رجل العائلة أضاع شيئاً، ليكن مسدساً أو مسبحة أو خاتماً، وتتطور الدراما من التفاهة إلى التراجيديا، بتلاحق لأحداث وتصادفات تبقي القصة ضمن العمل الفني، كما يمكن أن يتوقع أحدنا معالجةً لكياروستامي للقصة. أفسد المخرجُ القصةَ بإفصاح يلائم حصّةً تعليمية تستلزم التلقين، لا عملاً فنياً يمرر، خفية، قصة فصيحة. فكان الأب متديناً وأبوياً، امرأته خانعة له وملحقة به. الفجوة الجيليّة والجندريّة وضعها المخرج أمام أعيننا بفجاجة ألصقتها على وجوهنا. ابنتان، ثم الأم، يتمردن عليه وعلى مسدسه والنظام الذي يمثله، إحداهن تحنّ إلى نظام الشاه، الطاغية سيئ السمعة. هي قصة للأطفال حيث يموت الشرير أخيراً، الشرير والغليظ والكريه من أوّل العمل وعلى طوله.

لا يلحظ أحدنا من فيلم رسولوف، أولاً، سوى إصرار على إشباع رغبات النفاق الأوروبي، والمصلحة السياسية والاقتصادية، لغرب لا يبحث في إيران وغيرها، سوى عن «مواطنين صالحين» كرسولوف الذي يمارس عمله السينمائي في هذا الفيلم بوصفه «إيرانياً جيداً» فيستحق جائزة لمهرجان لا يخرج عن مركزيته الأوروبية البيضاء، مهرجان ينحاز في السياسة إن وافقته، ويحظرها متى تخالفت مع عقلية الأوروبي وحكوماته.

التعطش المهرجاناتي الأوروبي بكل انتقاد سينمائي للنظام الإيراني، يمكن أن يتيح مساحة ضرورية لأفلام ممتازة تستفيد من أسلوبٍ تأسّس وتطوّر ليكون ميزة عالمية لهذه السينما، ويمكن للتعطش أن يكون منفذاً لأفلام دعائية تُعامل المشاهد بغباء تَعامل التقارير الإخبارية الأقرب إلى تصريحات سياسية، معه، وهو حال فيلم رسولوف الأخير. إصرار الفيلم على تلقين درسه السياسي لا يختلف كثيراً عن أسلوب النظام نفسه في تصريحات مسؤوليه عن منع هذا المخرج من السفر، أو ذاك من التصوير، أو عن أي رأي سينمائي يفيدنا به قيادي في الحرس الثوري.

كاتب فلسطيني/ سوري

 

القدس العربي اللندنية في

17.11.2024

 
 
 
 
 

{المتدرب}.. صورة ترامب في شبابه

علي حمود الحسن

ينتمي فيلم "المتدرب" (2024) للمخرج الدنماركي الإيراني الأصل علي عباسي، الذي عرض الأسبوع قبل الماضي في سينمات المول البغدادية إلى أفلام السيرة الذاتية، ويتناول بدايات الرئيس الأميركي ترامب الفائز بولاية جديدة رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وأيام شبابه وعلاقته بعرابه المحامي الفاسد والشرس كوهين، مستشار مكارثي المعروف بمطاردة اليساريين الأميركيين، وتسبب بإعدام بعضهم.. هذه السيرة التي تدون ما نعرفه عن شخصيات وأحداث واقعية، تجعل مهمة كاتب السيناريو والمخرج صعبة وحساسة أيضاً.

 يسرد الفيلم يوميات الشاب ترامب (سيباستيان ستان) الذي يعمل في العقارات، ويجبي إيجارات مجمع والده السكني، المأهول بذوي الدخل المحدود، مستثنياً السود من السكن فيه لفرط عنصرية. ويملك ترامب طموحاً بلا حدود ولا محددات للحصول على حلمه الأثير بإنشاء فنادق باذخة في مدينة نيويورك التي تبدو "مهجورة" من وجهة نظر الشاب العشريني، الذي تربى في كنف أب متعنت وعنصري يتعامل مع أبنائه وفقاً لمقاييسه الربحية (جسده باقتدار مارتن دونوفان)، فكان ضحيته ابنه الكبير الذي غالباً ما يصفه بالفاشل، وهو الطيار المدني، فينتهي به المطاف مدمناً. بينما يرى في ترامب محض حالم لا خير فيه، لا يتأثر ترامب كثيراً بذلك، ويعمل على تحقيق حلمه بأن يكون ملك عقارات نيويورك، يلتقي كوهين وهو محامٍ له سمات شيطان يعمل في المجالات المريبة، ولا يتوانى أن يفعل أي شيء من أجل كسب قضاياه، شاذ وموغل في الفساد، لكنه شهير ومقرب من ثلاثة رؤساء أميركيين، يتبنى ترامب الشاب الأشقر الغرير، ليشكله وحشاً آدمياً بلا قلب، فينقذه من عشرات القضايا ويحصل له على إعفاءات ضريبية تتجاوز الـ (150) مليون دولار. وقبل كل ذلك يسلمه مفتاح النجاح الذهبي الأميركي من خلال وصايا ثلاث مفادها: "اهجم.. اهجم"، و"انكر كل شيء"، "وادعِ النصر وإن كنت مهزوماً". ينطلق ترامب في عالم الصفقات العقارية مثل شهاب، وتسلط عليه الأضواء، بينما يخفت سطوع روي وتلاحقه فضائح الفساد والديون ويصبح خطراً على كل من عرفه. يصاب بالإيدز ويموت كمداً، وهو يرى صنيعته وقد خذله بالقسوة ذاتها التي كان ينصحه بها لسحق أعدائه. طغت شخصية المحامي الرهيب روي كوهين التي قدمها بأداء مميز ومتنوع جيرمي سترونغ، على شخصية ترامب الصاخبة  التي أداها ببراعة تصل إلى حد التماهي ستان، فهو الطموح والنرجسي الحسي والأكثر من هذا عيون صلدة لا تستحي، ولا ترى أمامها سوى الغنائم. نجح الفيلم رغم رفض الكثير من الشركات شراء حقوق توزيعه بعد هجوم ترامب عليه. الفيلم المقتبس من برنامج واقع أميركي قدمه ترامب في العام 2004، لاقى قبولاً نقدياً وجماهيرياً معقولاً في مهرجان "كان". إلا أن معظم شركات التسويق عزفت عن شرائه، بسبب هجوم ترامب على الفيلم ومنتجيه، إذ وصفه بـ "المثير للاشمئزاز".

 

الصباح العراقية في

18.11.2024

 
 
 
 
 

سينمائيون عرب وترامب (1/ 2): كاوبوي سيُهيمن على كلّ شيء

نديم جرجوره

لن يكون "المتدرّب" (2024)، لعلي عباسي (مخرج إيراني دنماركي)، سبباً وحيداً لمحاولة قراءة سينمائية لدونالد ترامب، شخصية وسلوكاً وخطاباً وتفكيراً، العائد ثانيةً إلى البيت الأبيض (20 يناير/ كانون الثاني 2025). فرغم أهميته الدرامية والجمالية والتمثيلية (إلى اشتغالاته الأخرى)، تُشغل شخصية الرئيس الأميركي الـ47 (2025 ـ 2029) سينمائيين وسينمائيات (وعاملون وعاملات في فنون وثقافة وعلوم مختلفة)، في كلّ شيء: سلوكه وشعبويته وتأثيره في بلدٍ كالولايات المتحدّة الأميركية، وفي عالمٍ يعاني اضطرابات خطرة، وحروبٍ تكاد لا تنتهي.

لكنْ، كيف ينظر سينمائيون عربٌ إلى العالم مع "دونالد ترامب 2"؟

هذه بداية تأمّل وتصوّر (أُنجز هذا التحقيق بالتعاون مع الزميلين علاء المفرجي من بغداد وعبد الكريم قادري من الجزائر، وتمّ ترتيب الأسماء بحسب التسلسل الأبجدي للاسم الأول):

عبد الإله الجوهري (مخرج مغربي)

ترامب (Trump). نُطق هذه الكلمة باللغة العربية لا يبتعد عن معنى كلمة الخداع أو الغشّ (Tromper) باللغة الفرنسية. أهذا مكر اللغة، أم مصادفة عادية يريد كاتب/ مخرج البحث في مسالك/ مهالك الشعبوية، للحديث عن رئيس أميركي جديد/ قديم، انتُخِب ثانية بشكل ديمقراطي جداً، في بلد ينتصر للديمقراطية ويدّعي حمايتها، لكنْ من دون أنْ ينتصر لها أو يحميها عندما تمسّ مصالحه أو مصالح بلدان تدور في فلكه وتتنفّس برئتيه.

دونالد سياسي ليبرالي، انتعشت في مرحلة حكمه الأولى مصطلحات لغوية عنيفة، تُرجِمت في الواقع وهو يوقّع على قرارات يتداخل فيها الحق بالباطل، وانتعشت المماحكات الشعبوية المُرادفة لتدبير دفّة الحكم كيفما اتفق، إلى حدّ التناغم مع من يُعتَبر عدو السياسات الأميركية الخارجية. تجلّى ذلك في التفاهمات مع زعيم روسيا الأوحد فلاديمير بوتين، واللقاء على حدود الكوريتين مع الطفل الحاكم في كوريا الشمالية كيم جونغ أون وهو يلعب بمجسّم مُصغّر للقنبلة النووية.

دونالد ترامب رجلان في واحد، وسياسي برأسين مشدودين إلى الأعلى، يفكّران بشكل مُتضاد في كيفية تسيير العالم، وفرض هيمنة أميركا عليه بقوّة الحديد والنار، وحَلْب دول عدّة لا يمكنها أنْ تعيش من دون مظلّة أميركية، وخنق الأصوات الرافضة لمنطق الحمق، في الداخل والخارج.

ما عساه الفن اليوم، أي في عصر التحكّم الترامبي، أنْ يصنع، ليقف في وجه مرحلة مقبلة بثقل القرارات الساعية إلى محو الهويات، وفرض تراث ومنطق الصوت الواحد، القادر على النفخ في جعبة العصرنة الفارغة من معاني الحياة، وإفراغ الإبداعات من كلّ إبداع، اللهم إلّا إبداع التقنية والتكنولوجيا القادرة على مسخ صورة العالم، وتقديمه على صحن الاستهلاك؟

أميركا كانت وستظلّ، مع الرئيس الجديد، تُهيمن على الصورة، وتتحكّم في تجلّياتها. لكنّها الآن ستصبح أكثر توجيهاً وخدمة لسياسة الضرب من تحت الحزام، والتغريد خارج السرب لفرض قواعد جديدة في التعامل مع الثقافات العالمية، وتوجيه هوليوود لتمعن في تصويرنا كنوع بشري يستحق المحو. بشر لا يستحقون أنْ تطأ أقدامهم أرض العم سام، تلك الأرض التي فتك بها هذا المُسمّى سام بقوة السلاح، وأباد شعوبها الهندية الأصيلة، ليحوّلها إلى ثكنة عسكرية، وسوق اقتصادية كاسحة تبتلع كلّ شيءٍ.

ترامب الغني، الذي لا يؤمن بغير سلطة المال، سيسعى بكلّ سلطاته إلى مزيد من حَلْب دول لم تُطوّر نفسها اقتصادياً وسياسياً. سيلفّ حبالاً على أعناق سياسيين رافضين للانصياع، ويجرّهم إلى المسالخ بتُهم مختلفة، ويخنق الأصوات الصارخة في وجه بشاعة اقتلاع الشعب الفلسطيني، وتأديب من يساندهم، أميركياً كان أمْ أجنبياً. وطبعاً، سيرفع الأسوار بشكل أعلى في وجه الهجرات الآتية من أركان الدنيا، مع معاملة خاصة بالمسلمين، لأنّه يعتبرهم أساس كلّ الشرور في العالم، ما داموا يرفعون صوت الأذان خمس مرات في اليوم، ويساندون قضايا الإسلام والمسلمين، ويتكلّمون بصوت عال في وسائل النقل وكلّ الفضاءات العامة.

أعتقد أنّ أميركا الغد، في حكم ترامب، ستكون أكثر تطرّفاً وتدخّلاً في شؤون البلدان. ستصبح أكثر تغوّلاً مع رئيسٍ لا يفهم غير لغة المال والأعمال، وإطلاق العنان لليبيرالية المتوحّشة كي تبتلع كلّ شيءٍ، وكي تفتح أراضي استعصت إلى الآن على الترويض، وغزو أسواق ظلّت مُغلقة في آسيا أساساً (الصين)، وتصبّ الزيت على نار الحرب في أطراف روسيا بمزيدٍ من الدعم لأوكرانيا، وتوسيع مساحات هيمنة الحلف الأطلسي ودعم ترسانته النووية.

سيناريوهات المستقبل، في حكم هذا الكاوبوي، لا تجعلني متفائلاً بما ينتظر عالمنا من مفاجآت اقتصادية وسياسية، سترهن مستقبل أجيال وأجيال، وتُكرّس هيمنة العالم الغربي (أوروبا وأميركا)، وما سيُحاك في حقّ بعض الشعوب المقهورة والمغلوب على أمرها، كالشعب الفلسطيني، الذي سيدفع ثمن تشبّثه بأرضه ونضاله في وجه الصهيونية العالمية، من دون أنْ يجد له معين، وهو يواجه قضم الأرض والتشرّد والعيش في المنافي، بإرادةٍ في الصمود والبقاء وتحدّي سياسات الإبادة.

أبدو متشائماً وأنا أكتب هذه السطور بمرارة وتهيّب كثيرين. لكنّي في الوقت نفسه لا أزال أحتفظ ببعض تفاؤل في أنّ الغد سيحمل بعض إشراقات الأمل، خاصة أنّه يصعب معرفة تحوّلات الواقع، أو التنبّؤ بوثوقية عمياء بأنّ كلّ آتٍ لا يحمل إلّا المنغّصات والتراجعات القاتلة، لأنّه لا يمكن الاستهانة بكارما المستقبل، ولا بمقاومة الشعوب الحرة والأصوات المناهضة لكلّ أشكال الظلم. أصوات موجودة هنا وهناك، سيكون مطلوباً منها، اليوم وغداً، أنْ تكون أكثر يقظة وتأهّباً لمواجهة كلّ المستجدات التي تنتظر العالم، وتستعدّ لفصلٍ جديد من فصول المقاومة، ليتمكّن العالم من جَرّ هذا الفظّ الأشقر، ترامب، إلى دوائر العقل والمنطق، وإفهامه أنّ إرادة الشعوب لا تُقهر، وأنّ المال يمنح القوّة لكنّه لا يمنح الحقّ والشرعية.

فراس الشاروط (ناقد وباحث سينمائي عراقي)

لم يكن الرئيس الجمهوري الحالي غريباً عن الظهور أمام الكاميرات. قبل دخوله عالم السياسة، كان يظهر بانتظام في البرامج التلفزيونية والأفلام، وكان دائماً يلعب دور نفسه، ويتدخّل غالباً في إشارة إلى ثروته الشخصية. إنّه ممثل حائز على جوائز من الناحية الفنية، وكان المضيف والمنتج المشارك لـ14 موسماً من برنامج تلفزيوني واقعي، تنافس فيه الناس على عقد للترويج لأعماله العقارية.

مع ذلك، في ظلّ رئاسته الجديدة، تستعد هوليوود، التي تواجه فعلياً تقليصاً في الإنفاق ومخاوف وجودية بشأن أفلامها السينمائية، لمزيد من التقلّبات المحتملة من الإدارة المقبلة لترامب. أعرب محلّلون عن قلقهم بشأن التأثير الذي ربما تخلفه حرب التعرفات الجمركية المحتملة على صناعة الترفيه، فالرئيس المنتخب لم يضع خططاً مُحدّدة لصناعة الترفيه، ومحلّلون قالوا إن سياساته الأوسع المقترحة بشأن التعرفات الجمركية العالمية، فضلاً عن التهديد بالانتقام من الشركات، ستؤدي ربما إلى تجميد الأعمال المميزة في لوس أنجليس، في حال نفّذ تهديداته بفرض تلك التعرفات. فدول كالصين ربما تحظر الواردات الأميركية، بما فيها الأفلام والبرامج التلفزيونية، وهذا من شأنه أنْ يؤثّر سلباً على سوق التوزيع، المتعثرة فعلياً.

في الفترة الأولى لولايته، أُلقِيَ اللوم جزئياً على الحرب التجارية التي خاضها ترامب مع الصين، في إعاقة علاقة هوليوود بتلك الدولة (هوليوود الليبرالية هي العدو). ورغم أنّ هذا الرجل صنع اسمه في مجال الترفيه، فإنّه لن يكون سياسياً مؤيّداً لهذه الصناعة. الأفلام والبرامج التلفزيونية التي تصوّره سلبياً تخاطر بإثارة غضبه، ما يؤثّر على الشركات الكبرى. هكذا ينشا حذر شركات الإعلام والترفيه العملاقة من الموقف الذي وجدت "والت ديزني" نفسها فيه، بعد صراعها مع حاكم ولاية فلوريدا بشأن ما يُسمّى بتشريع الولاية المناهض لمجتمع المثليين والمتحوّلين جنسياً، الذي يسمى "لا تَقلْ مِثليّ". من ناحية أخرى، ربما تشهد وسائل الإعلام الأكثر محافظة ارتفاعاً في أسهمها.

من جانب آخر، دعا حكّام ولايات أميركية إلى رفع الحدّ الأقصى السنوي للائتمانات الضريبية للأفلام والتلفزيون في ولاياتهم. كما دعوا، مع آخرين، الحكومة الفيدرالية إلى التدخل والحفاظ على قدرة الولايات المتحدة على المنافسة في الإنتاج العالمي. لكنْ، غير مُرجّح أنْ يمدّ ترامب شريان الحياة إلى صناعة الأفلام والتلفزيون، فنجوم هوليووديون عديدون ومدراء تنفيذيون داعمون لكامالا هاريس، المرشّحة الديمقراطية ونائبة الرئيس جو بايدن، قدّموا لها تأييدهم ومالهم بعد الضغط على الرئيس بايدن للانسحاب من السباق، بنيما تحوّط آخرون في رهاناتهم، خاصة أنّ فيلم سيرة ترامب "المتدرب" لعلي عباسي واجه صعوبة في العثور على موزّع، بعد تهديد فريق الرئيس المقبل باتّخاذ إجراء قانوني (الفيلم لم يُحقّق إيرادات جيّدة في شباك التذاكر في الولايات المتحدة)، والرئيس نفسه طلب من محاميه إرسال خطاب إلى المنتجين لوقف عروضه، بعد تقديمه لأول مرة دولياً في مهرجان "كانّ" (2024).

واضحٌ أنّ ترامب يُفضّل لعب دور ترامب فقط، لكنّ سيباستيان ستان أدّى دوره شاباً في سبعينيات القرن الـ20 في فيلم عباسي، حين عمل مُحصّلاً للإيجارات لحساب والده، وهو يحلم بتشييد فندق وسط المدينة. وأدّى جيريمي سترونغ دور المحامي الذي يأخذ رجل العقارات المحتمل تحت جناحه، ويُحوّله إلى رجل أعمال ناجح بأي ثمن. نال الفيلم استحسان النقّاد، لكنّ ترامب ليس من محبّي هذا التصوير، إذْ وصفه في وسائل التواصل الاجتماعي بأنّه "عمل مثير للاشمئزاز".

نزار شهيد الفدعم (مخرج عراقي)

لم يحظَ رئيس أميركي باهتمام الإعلام والسينما، في حياته وأثناء تسلّمه المسؤولية، مثل دونالد ترامب. فأينما يتحرّك، يُشغل الإعلام، والكاميرات تلاحقه وترصد حركاته وتسجّل أحاديثه، لتكون مادة دسمة لبرامج الـ"توك شو".

إذا اختلفنا معه أو كنّا معه، فهو عصاميّ وابن زمنه. عرف كيف يحقّق طموحاته وأحلامه، ويحوّلها إلى واقع، وينتقل من كرسيّ المُراقب والمُعلّق إلى أنْ يكون مركز الحدث، في عالمٍ اختلفت فيه القيم وتراجعت المبادئ، وأصبح المنطق الحقيقة الوحيدة لمن يملك القوة. ترامب الأكثر جدلاً في تاريخ الرؤساء الأميركيين، والأكثر إثارة وواقعية في معالجة الأحداث وعبورها، بالالتزام بمصلحة أميركا وأصدقائها.

إنّه رجل المال الذي صعد عبر تجارة الترفيه والعقارات، وتربّع على كرسي السياسة العالمية. لا يحكمه إلّا منطق المصلحة والمنفعة التي يريد تحقيقها ليرتفع رصيده عند جمهوره. لذلك، سيعمل على تبييض صفحته الجنائية في عشرات القضايا المُقدَّمة ضده، وإسقاط الدعاوى المُقامة على أنصاره بسبب هجومهم على الكابيتول. سيطلق أكبر برنامج ترحيل جماعي للمهاجرين، وسيعمل على إيقاف، أو الحَدّ من هجرة المكسيكيين عبر الحدود، ويلغي حماية الطلاب المتحوّلين جنسياً. خارجياً، سيعمل على تسوية الحرب بين روسيا وأوكرانيا "في يومٍ واحد"، كما صرّح. لكنّ المبعوث الروسي في الأمم المتحدة ردّ قائلاً إنّه لا يُمكن حَلّ حربٍ كهذه في يومٍ واحد.

لكنْ، تبقى المنطقة العربية عالقة بين طموحات اليمين الإسرائيلي المتطرّف، الذي يحاول التمدّد في الأرض العربية كلّما سنحت له الفرصة، وتأمين مستقبل إسرائيل للأعوام العشرة المقبلة، بتدمير كلّ مقاومة فلسطينية وعربية لوجوده، مع احتجاجات عربية خجولة، وسياسة أميركية تعتبر إسرائيل صديقاً مُفضّلاً لها، رغم مصالحها الكبيرة في الوطن العربي. وبما أنّ ترامب رجل مصالح ومنافع متبادلة، سيحاول إيقاف آلة الدمار والقتل والخراب الإسرائيلية، باتفاق لوقف إطلاق النار لا يُحقّق مصالح العرب، ولا يوقف أحلام إسرائيل بالتوسّع، خاصةَ أنّها حقّقت أهدافها من عدوانها الأخير، والآن تُمعن بالقتل والتدمير والتخريب لمسح الوجود الفلسطيني في غزّة، وإعادة رسم الخريطة.

السينما تعاملت مع ترامب في أفلامٍ روائية ووثائقية عدّة، مستمدّة قصصها من حياته الشخصية، وتراوحت أساليب معالجة شخصيته بين فيلمٍ وآخر، في محاولة فهمها وفهم تأثيرها الواسع. منها: "الحلم الأميركي" (2017)، وثائقي يتناول سيرة ترامب من طفولته إلى رئاسته، و"ترامب.. حلم أميركي" (2018)، إنتاج بريطاني يعتمد على مقابلات مع أشخاص تعاملوا معه، مع تسجيل انطباعاتهم عنه سلباً وايجاباً. يميل الفيلم إلى أنْ يكون موضوعياً.

هناك أيضاً "فهرنهايت 11/ 9" (2018)، لمايكل مور، الذي يُقدّم رؤية نقدية لعصر ترامب، وأسباب فوزه بالانتخابات، ويستعرض قضايا اجتماعية وسياسية ساعدت في صعوده، ويوجّه نقداً لاذعاً للإعلام الأميركي والمؤسّسات السياسية. أمّا "رئيسنا الجديد" (إنتاج روسي)، فيستعرض كيفية تعامل الإعلام الروسي مع شخصية ترامب، و"المتدرّب" للدنماركي الإيراني علي عباسي عن سيناريو لغابريل شيرمان. هذا الفيلم أثار غضبه واستياءه، لأنّه يُصوّره أثناء إجرائه عمليتين جراحيتين لشفط الدهون من بطنه وإزالة صلعه، وتناوله حبوب "الأمفيتامين".

هذه الأفلام وغيرها قدّمت صورة عنه، وعكست وجهات نظر مختلفة. لكنّه سيبقى في نقطة الضوء فترة ليست قصيرة، قبل أنْ يأفل نجمه، ويصبح رئيساً متقاعداً.

 

العربي الجديد اللندنية في

18.11.2024

 
 
 
 
 

«عضو المحلفين رقم 2»:

كلينت إيستوود يصوّب على النظام القضائي الأميركي

شفيق طبارة

في كتابهما «50 عاماً من السينما الأميركية» (1991)، أشار المخرج والكاتب الفرنسي برتران تافيرنييه ومواطنه الناقد والمؤرخ جان بيار كورسودون، إلى أن إحدى ركائز أفلام كلينت إيستوود اهتمامه بفكرة «الفردية اللااجتماعية».

لقد أثبت الزمن صحة ما ذهب إليه الثنائي الفرنسي، إذ تمتلئ مسيرة إيستوود الإخراجية الطويلة بشخصيات هامشية تقع على حافة الحياة الاجتماعية والنظام «الأخلاقي»: من الواعظ الغامض في فيلم «الراكب الشاحب» (1985 ــــــ Pale Rider)، إلى شخصية ريتشارد جويل في فيلم «ريتشارد جويل» (2019 ــــــ Richard Jewell)، وميكو في «كراي ماتشو» (2021 ــــــ Cry Macho)، مروراً طبعاً بالشخصية العظيمة والت كوالاسكي في تحفة إيستوود «غران تورينزو» (2008 ـــــ Gran Torino)، إضافة إلى شخصية جاستن كيمب (نيكولاس هونت في أفضل وأهم أدواره السينمائية) في آخر أفلام إيستوود «عضو المحلفين رقم 2» (2024 ـــــ «Juror #2).

 يعدّ فيلم إيستوود الجديد امتداداً وتطوراً إضافياً لفكرة «الفردية اللااجتماعية»، والقضايا التي يتعامل بها المخرج الآن بشكل أكبر أي: موضوع الفرصة الثانية.

بهذا المعنى، يجسّد جاستن كيمب الضوء والعتمة، فهو رجل تخلّص من خطاياه (إدمان الكحول)، وكان يجهّز غرفة الأطفال في منزله حين دخل قاعة المحكمة ليكون عضواً في هيئة المحلفين. هو وزوجته أليسون (زوي دوتش) ينتظران مولودهما، ويشعران بالقلق الشديد لأنّ حملها الأخير انتهى بشكل مأساوي قبل سنوات.

مع ذلك، يظهر جاستن متحمّساً ومنتبهاً، يجلس بين أعضاء هيئة المحلفين في قضية جنائية تأخذ منعطفاً مفاجئاً وغير متوقع: تم اتهام جيمس (غابرييل باسو)، بقتل صديقته كيندال (فرانشيسكا إيستوود، ابنة المخرج)، وسرعان ما يدرك جاستن أنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بعملية القتل هذه التي حدثت قبل سنة. ومن هذه اللحظة، يولد إلتباس إجرائي ووجودي، ويجد جاستن نفسه في صراع مع معضلة أخلاقية خطيرة. معضلة يمكنه استخدامها للتأثير على حكم هيئة المحلفين لإدانة أو تبرئة القاتل المتهم.

الفيلم عبارة عن نقد مبطّن للنظام القضائي الأميركي وآلياته القديمة. يضع إيستوود في مركز الحدث رجلاً نبيلاً يجد نفسه على حافة الهاوية، يستطيع بكلمة أن يدين ويحكم، لتظهر المعضلات والأسئلة: ما هو العدل؟ وما هو الصواب؟ الفيلم، الذي يُروى بهدوء وصدق وشفافية صانع أفلام لديه كل الوقت المتبقي في العالم، يتأمّل العملية العاطفية لهذه الشخصية بكل تعقيداتها.

إيستوود هو سيد صقل أسلوبه ببراعة من خلال إزالة كل ما هو غير ضروري للتركيز على تقديم درس في السرد السينمائي، عبر دراما قانونية تتجاوز إلى حد كبير لغز الحكم. إيستوود لا يطرح هنا لغزاً، لأنّ الأوراق على الطاولة منذ اليوم الأول للمحاكمة، لكنّ براعة إيستوود تتمثل في تقديم فيلم بهذا التعقيد العاطفي والأخلاقي، ولو أنّ كل شيء واضح تماماً أمامنا منذ بداية الفيلم

من المغري أن ننظر إلى الفيلم باعتباره عرضاً متميزاً لخيال إيستوود، لكن المخرج الأسطورة يجبرنا على تجاوز ذلك، كاشفاً عن تشابك العديد من العناصر المحورية من السينما الكلاسيكية بأكملها. فهناك مهارة تجمع بين شخصيات هيتشكوكية متمثلة في الجاني الزائف ونقل الذنب، كما أنّ القصة تصل إلى كثافة درامية تستحضر دوستويفسكي

ثم في لحظة المداورة، يعيد فيلم «عضو المحلفين رقم 2» الموقف الخانق لفيلم «12 رجلاً غاضباً» (1957 ـــــ 12 Angry Men) لسيندي لوميت، ولكن بتحويل موضوع البحث عن الحقيقة إلى معركة رهيبة بين الواجب المدني والخلاص الشخصي. وأخيراً، في أكثر جوانبه قتامة، يستسلم الفيلم لمزيج من عدم اليقين والقدريّة التي يصعب تحملها، كأننا في أحد أعمال فريتز لانغ في الفترة الأميركية.

السيناريو من كتابة جوناثان أبرامز (في أول سيناريو سينمائي من كتابته)، يستخدم فيه أبرامز حلولاً ملائمة للقصة، سواء كانت إدراكات تأتي في الوقت المناسب أو تحولات وتقلبات تدفع الحبكة إلى الأمام. لكن لا يمكن لهذا السيناريو أن يظهر بهذه القوة بدون فنان يبلغ 94 عاماً، ويخرج فيلمه الأربعين.

صقل إيستوود أشكاله حتى وصل إلى درجة من الرصانة والاقتصاد السردي والفعالية التفسيرية، التي تترجم إلى أفضل تمثيل لمبادئ الفن السينمائي. لا تباه أو تأثيرات هنا، بل إنّ كل لقطة مصممة بدقة لتحقيق أكبر قدر من الوظيفة الموكلة إليها. لا يزال إيستوود يعرف كيف يحصل على أفضل قيمة بصرية من قصّة، أكان من خلال الظهور المتكرر لتمثال ثيميس، إلهة العدالة اليونانية، التي تراقب من دون أن تتمكن من رؤية (تضع عصابة على عينيها) معاناة البشر، أو تلك العملة المعدنية التي يلعب بها جاستن، والتي تركز على معركة الفرد ضد القوانين أو وهم المصادفة.

تجنب إيستوود الحلول التبسيطية، لأن العالم الحقيقي ليس كذلك، والتأكيد على صعوبة التصرف بأخلاق عندما تخاطر بحياتك الشخصية السعيدة. في «عضو المحلفين رقم 2»، أدوار «الخير» و«الشر» غير واضحة. وبهذا المعنى، تأتي الطريقة التي اختارها إيستوود لإنهاء فيلمه بارعة، فتسلط الضوء على فكرة أنّ لا نهايات سحرية، بل إنّ الناس يتصرفون كما يرون مناسباً.

في أحد أهم المشاهد، يقول جاستن «الحقيقة والعدالة لا تعينان دائماً الشيء نفسه»، وهذه المعضلة تمزقه، بل تمزق المشاهد أيضاً. «عضو المحلفين رقم 2» أكثر بكثير من المفاجأة المركزية المتمثلة في ذنب جاستن، كما لا يبرز بين أحدث أفلام إيستوود الاخراجية فحسب، بل هو تحفة سينمائية تحمل في جوهرها مجموعة أعماله الكاملة.

 وبفضل الأداء التمثيلي الممتاز، وتقلباتها وحبكتها المتوترة، ومعضلاتها الأخلاقية المؤلمة، قد تكون خاتمةً عظيمة لمخرج وممثل أسطوري. ولكن ربما لا يكون الامر كذلك، لأنّه وفقاً للأخبار، يعمل إيستوود حالياً على فيلمه الحادي والأربعين.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

19.11.2024

 
 
 
 
 

"غلادياتور 2".. قصة جديدة قديمة ودينزل واشنطن ينقذ ريدلي سكوت

أسامة صفار

بعد أقل من 20 عاما، يعود المخرج البريطاني ريدلي سكوت إلى فيلم "غلادياتور" (Gladiator) الفائز بـ5 جوائز أوسكار لعام 2021، ليعيد تشكيل ملامح قصة جديدة في الجزء الثاني "غلادياتور 2" (Gladiator 2)، لكن المخرج البريطاني المخضرم بدا وكأنه لم يتجاوز إعجابه بالجزء الأول، فحاول صنع نسخة منه، إلا أنه أكد على المقولة الحائرة بين الأدب والتاريخ والفلسفة والتي تقترح أن التاريخ يعيد نفسه. قد لا يعترف سكوت بمحاولته تقليد نفسه، لكن القصة التي تحكي عن شاب نبيل تُقتل زوجته، ويُستعبد ويتم ضمه للمصارعين في ساحة الكالسيوم في روما، مع وجود حاكم عابث ودموي، تكاد تكون قصة "غلادياتور" في جزئيه.

وريث البطولة

ترتبط بداية الجزء الثاني، الذي يعرض حاليا في دور العرض الأميركية، بسلاسة مع نهاية الفيلم الأول من خلال البناء على إرث بطل العمل وقائد الجيوش السابق مكسيموس ديسيموس ميريديوس، والذي جسد دوره الممثل الأسترالي راسل كرو.

وبينما ينتهي الجزء الأول بموت مكسيموس، يبدأ الجزء الثاني بعد ما يقرب من 20 عاما، مع التركيز على لوسيوس، ابن أخ الإمبراطور الشاب كومودوس. يحمل لوسيوس، الذي أصبح بالغا الآن، صدمة الفساد الإمبراطوري في روما وذكريات تضحية مكسيموس التي ألهمته في سعيه لتحقيق العدالة واستعادة شرف روما.

يفقد لوسيوس منزله وعائلته على يد أباطرة روما المستبدين، كما حدث مع والده الحقيقي مكسيموس، ويتم استعباده وإجباره على خوض معارك المصارعة (كما حدث مع والده أيضا). يرسم لوسيوس مع حلفائه خطة للإطاحة بالحكام الفاسدين. وتبلغ الرواية ذروتها في معارك الولاء والخيانة والفداء، حيث يحارب لوسيوس لاستعادة السلام للإمبراطورية.

انتقل راسل كرو إلى خلف الكاميرا في الفيلم الجديد كمنتج تنفيذي، وقدم دور لوسيوس الممثل باول ميسكال الذي يشي أداؤه بجهد كبير لتجنب المقارنة مع كرو، لكن واقع الحال يشير إلى أنه رغم مرونة أداء باسكال، يبقى يحوم طيف راسل كرو مبتسما في الفيلم بحضوره الطاغي، والطاقة المدهشة، ورصيد النجاح السابق.

شارك الممثل الكبير دينزل واشنطن بدور ماكرينوس، المصارع القديم الذي تحول إلى عراب حلبة الكالسيوم والمورد الرئيسي للمصارعين، ولم يكن دور سيد المصارعين بهذه الأهمية في الجزء الأول لكن تم تطويره عبر تعقيدات درامية جديدة وأداء واشنطن المميز جعله يقف على قدم المساواة، إن لم يكن أكثر تميزا، مع بطل العمل باول ميسكال.

الحزن قدر النساء

وقدمت الممثلة كوني نيلسون دور لوسيليا بالكثير من الأسى والحزن الذي قدمت به الدور في الجزء الأول، فقد كانت في البداية ابنة الإمبراطور الأب الذي قتله ابنه، والأم التي يهددها شقيقها بقتل ابنها إذا اتخذت موقفا مضادا له، أما في الجزء الثاني، فقد كانت زوجة لقائد الجيوش الذي يحقق الانتصارات لروما، لكنه يسعى للإطاحة بالإمبراطورين الدمويين العابثين، فيكشف أمره ويستعبد.

يقف دينزل واشنطن الفائز بجائزتي أوسكار وحيدا على قمة الأداء في الفيلم، يليه باول ميسكال، ومن ثم بيدرو باسكال، فقد أدى دور المقاتل المضحي والزوج المخلص بشكل رائع، ومن المحتمل أن يجد واحد من الثلاثة واحدة من جوائز الأوسكار في انتظاره عام 2025.

20 عاما من التقدم التكنولوجي

رغم بلوغه العام السابع والثمانين، فإن ريدلي سكوت لم تنقصه الحيوية والحركة، بل والعنف الدموي الذي أغرق ساحة الكالسيوم الرومانية الشهيرة، وقد صممت الساحة بالذكاء الاصطناعي لتصبح أكثر دقة وأجمل من سابقتها في الفيلم الأول، لكن تجاهل المخرج ريدلي سكوت لقوانين الفيزياء اضطر المشاهد الجاد إلى التوقف قليلا أمام مشهد السفن التي خاضت حربا ضروسًا في مياه ساحة الكالسيوم التي لا يمكن أن تتسع لها، وإذا اتسعت، فمن المستحيل أن يصل الصوت أو الصورة للجمهور بسبب المساحة الهائلة بينه وبين ما يحدث على أرض الساحة.

وقد جاءت المعارك، بشكل عام، ملحمية وحماسية ورائعة، وإن صنع المونتاج مفارقة تكرار الجزء الأول في الثاني عبر تصوير قتل زوجة لوسيوس في مشهد ما قبل البداية (أفان تتر) في محاولة لتذكير الجمهور بالمشهد الأكثر إيلاما في الجزء الأول حين قتلت زوجة وابن مكسيموس. جاء (الأفان تتر) ليصنع سوء فهم ظل حتى ما يقرب من ثلث الفيلم قائما لمعرفة الصلة بينه وبين أحداث العمل، لنصل إلى أضعف أجزاء الفيلم، وهي الحكاية الرئيسية التي تسببت فيما بعدها من أحداث.

كانت الأم لوسيليا قد أرسلت ابنها بعيدا فيما بقي من مستعمرات رومانية في أفريقيا لحمايته باعتباره الوريث القادم لعرش الإمبراطورية، لكن زوجة لوسيوس الذي كبر هناك وتزوج تواجه معه هجوم أتباع الإمبراطورين العابثين "غيتا" و"كركلا" أو (فريد هيستنغر وجوزيف كوين) اللذين يسيطران على روما العاصمة ومستعمراتها، وتقتل. لم يتم إشباع الحكاية ولم يرد منها سوى مشهد قتل الزوجة في حرب، وأسر الزوج الذي تحول إلى مصارع.

دروس أخلاقية

اتخذ الحوار بين ماكرينوس (دينزل واشنطن) ولوسيوس (باول ميسكال) في البداية الأسلوب نفسه من حيث النص المكتوب والأداء في الجزئين، فثمة مصارع مستعبد يتزعم زملاءه ويحقق الانتصارات ويبدو صاحب ماض مختلف، ومصارع سابق وصل إلى قمة نجاحه بالقتال في الحلبة والتسلق خارجها. يتحدثان عن السلطة والإمبراطورية ومستقبل روما، وبينما ينطلق لوسيوس من هدفه الأساسي وهو قتل ماركوس أكاسيوس الذي حل مكان والده قائدا للجيوش وزوجا لأمه أيضا، وهو سوء الفهم الذي استوعبه لوسيوس حين ضحى أكاسيوس بحياته من أجله وألقى سلاحه في مواجهته.

كان ماكرينوس في عالم آخر إذ سمح لطموحه أن يتجاوز مقعد التابع أو الخادم الذي يقوم بإعداد ألعاب الترفيه عن الأباطرة وإلهاء الشعب، لقد سعى للسيطرة على الإمبراطورية بكاملها عبر الإبلاغ عن خطة انقلاب أكاسيوس على الإمبراطورين وبالتالي قتله وقتل زوجته والدة الوريث الشرعي للحكم وأخيرا السيطرة على الإمبراطورية بالقوة التي يملكها من عبيد ومصارعين.

ماكرينوس القادم من قاع المجتمع بلونه الأسود وأصوله الأفريقية الواضحة هو شيطان العمل و صاحب الأعمال غير الأخلاقية التي تمتد من النفاق إلى التآمر، والخيانة والتجسس، ومن ثم السعي لتجاوز قدرته وقدره، وهنا يتأكد حضور ريدلي سكوت المخرج الأسطوري صاحب التاريخ الطويل من الأفلام التي تقسم العالم إلى شمال راق و جنوب متوحش، ويتأكد أيضا حضور اللون الأسود في ساحة الكالسيوم بين المصارعين أو لدى ماكرينوس الخائن الذي ساقه الطمع إلى الخيانة وغرّه التحرر إلى الطموح للسيطرة على الأحرار، ويلقى الخائن ماكرينوس مصيره في مواجهة شرسة مع لوسيوس الذي ينتقم للقيمة الأخلاقية منه بقطع ذراعيه قبل القضاء عليه تماما.

قدم ريدلي سكوت بعد 20 عاما فيلما يبدو جديدا في التقنية، لكن تاريخ أحداثه يعود إلى مئات السنين رغم أن ظلال أبطاله تظهر على شاشات التلفاز وفي النشرات يوميا، وقدم أيضا عملا ترفيهيا لا يخلو من الرسائل الميكيافيلية التي أشار إليها أحد الساسة في الفيلم في معرض حديثه للبطل الطامح لوسيوس، قائلا "السياسة في خدمة القوة.. استعد ما تعتقد أنه حق لك، وسنكون معك".

المصدر الجزيرة

 

الجزيرة نت القطرية في

20.11.2024

 
 
 
 
 

"بيدرو بارامو"...عودة الواقعية السحرية

محمد صبحي

سواء كان هذا مصادفة أو استراتيجية تجارية لمواكبة المنافسة، فقد عادت الواقعية السحرية، أقوى من أي وقت مضى، مع حفنة من التعديلات السمعية والبصرية التي تهدّد باحتكار خوارزميات منصّات البث لبضعة أشهر. حالياً، تُعرض نسخة تلفزيونية جديدة من رواية "كالماء للشوكولاتة" للمكسيكية لورا إسكيفيل في وقت الذروة على قناة HBO، وخلال الأسابيع المقبلة سيصدر مسلسلان قصيران استناداً إلى روايتي "مائة عام من العزلة" (نتفليكس) و"بيت الأرواح" (برايم أمازون)، لغابرييل غارثيا ماركيث وإيزابيل الليندي على التوالي.
والحقيقة أن "نتفليكس" خرجت من بوابات البداية أولاً مع فيلمها الجديد "بيدور بارامو"، المستند إلى الرواية الشهيرة بالعنوان ذاته للمكسيكي أيضاً خوان رولفو، وهي منشورة في الأصل العام 1955 ويعتبرها الكثيرون السلف العظيم لأدب "الواقعية السحرية"، مثلما طفرته في أميركا اللاتينية بشكل عام، حتى صار هذا النوع مقترناً بأدب القارة. الاقتباس السينمائي الجديد يأتي بعد أكثر من نصف قرن على نسخة فاشلة بتوقيع كارلوس فيلو (شهد عرضها مهرجان كانّ السينمائي في العام 1967) ندّد بها الأصدقاء والغرباء
.

نظراً لأشكاله السردية، التي تنسج الزمان والمكان وعالم الأحياء مع عالم الموتى ، فإن نصّ رولفو ليس من السهل إحضاره إلى المجال السمعي البصري. في أول ظهور له كمخرج، بدعم من سيناريو للإسباني ماتيو خيل، يبتعد مدير التصوير رودريغو برييتو - الذي تضمّ أعماله السينمائية أعمالاً شهيرة في أفلام مارتن سكورسيزي وأليخاندرو غونزاليس إيناريتو وغريتا غيرويغ وبن أفليك، من بين آخرين - عن الإيقاعات والصيغ الأكثر شعبية لدى جمهور المنصّات ويحاول الاقتراب أكثر من "جوهر وروح" الرواية؛ أي محاولة إعادة إنشاء أسلوبها بأدوات السينما مع احترام أصوات الرواة المختلفين للنصّ الأصلي، وخاصة صوت الشابّ خوان بريثيادو وبيدرو بارامو نفسه. إلى ذلك، أعيدت إلى الحياة مدينة كومالا ومحيطها (جزئياً على مجموعات وبنسبٍ مماثلة بفضل الأدوات الرقمية)، خلال سنوات حرب كريستيرو (عشرينيات القرن العشرين) وبعد بضعة عقود من الزمان. أعيدت إلى الشاشة بحمولتها من التقاليد والعنف والخيانة السياسية والإنسانية.

كما هو معروف، فالقصة تبدأ من احتضار والدة خوان بريثيادو التي توصيه بالذهاب إلى كومالا، حيث يمكنه مقابلة والده بيدرو بارامو. الرحلة التي يبدأها بريثيادو ليست في المكان فحسب، بل في الزمن أيضاً. تُهجر البلدة للغبار والفقر، ويستقبل الشابّ أولاً امرأة (شبح) ثم أخرى، ويتبيّن لهما بشكلٍ غامض أنهما تعرفانه وتخبرانه قصة البلدة وبيدرو بارامو: الرجل الذي تمكّن، من خلال الفساد والعنف، أن يصبح سيّد كومالا، ويحصل على السلطة ويفلت من العقاب.

لقاء بريثيادو (تينوش هويرتا) في مكانٍ شبه مهجور ومحادثاته الأولى مع الموتى هناك، تلتزم بالرنين السحري للرواية، مع جماليات ونبرة تذكّرنا بسينما الويسترن والرومانسية القوطية، بما في ذلك رعب النوعين؛ كما في زوجته الشبح التي تحوّلت طيناً، وصراخ رجل مشنوق منذ سنوات ما زال صداه يتردد في جدران العلية. هذه هي المقاطع الأكثر تحدياً بصرياً، حيث يسير استخدام "الليل الأميركي" التقليدي جنباً إلى جنب تأثيرات الصور المولّدة بالكومبيوتر (CGI) لإضفاء الحياة على سحابة من الأجساد العارية. عندما تنتقل القصّة إلى صوت وذكريات الأبّ، مالك الأرض وصانع القانون الضمني للمكان، والانتقال من الطفولة إلى الشيخوخة - مع تحوّل امرأة إلى زوجة مستعبَدة وتهديد ثوّار يطرقون الباب - يتكيّف الفيلم مع سرد أكثر تقليدية إلى حد ما.

النتيجة؟ فيلم غريب، متفاوت في أكثر من جانب، ينجح في بعض الأحيان في خلق جوّ قوي قريب من نصّ رولفو، وفي أحيان أخرى يبدو مجرد توضيح لبعض مقاطعه البارزة. يقدّم مانويل غارسيا رولفو (علاقته بخوان رولفو بعيدة، لكنها حقيقية: كان جدّ الممثل عمّ الكاتب) أداءً مدروساً كرجلٍ ذي موارد قليلة أثناء شبابه، والذي، بفضل مثابرته وضراوته في إدارة أراضيه وأراضي الآخرين، بالإضافة إلى شغفه المرعب بالنساء، يبني إمبراطورية صغيرة من دون أن يعرف أن أسسها لن تكون قادرة على دعمه أبداً بسبب شخصيته الفاسدة وتسلّطه. ذلك "الامتعاض الحيّ"، حسب تعريف رولفو، سيأتيه الموت على حين غرّة وبلا سابق إنذار، في إيماءة رمزية إلى جوهر معيّن للذكر المكسيكي الذي يرفض الموت.

 

المدن الإلكترونية في

23.11.2024

 
 
 
 
 

"سبايدرمان": خارق طيب غربا... واهن شرير شرقا

"هوليوود" ركزت على البعد الجمالي والعلمي لشخصية العنكبوت بينما تناولت الدراما العربية فكرة نسج خيوطه لخداع فريسته

هشام اليتيم 

ملخص

العمل على نسج شخصيات مستلهمة من هذه الشخصية في الدراما العربية جاء وفق نظرة المجتمع الشعبية لهذا الحيوان، والتي تتميز بالسلبية الشديدة، إذ ارتبط حيوان العنكبوت عربياً بفكرتين رئيستين هما وهانة وضعف بيته وسلوكه المرعب مع ضحاياه وفرائسه.

تختلف حكاية "سبايدرمان" السينمائية بين الشرق والغرب، إذ تعرض كل بيئة فنية وسينمائية حكاية حيوان العنكبوت من خلال منظورها الاجتماعي، لذلك ظهرت فروق كبيرة في استلهام الحكاية السينمائية لهذا المخلوق، ففي حين يسبغ عليه المجتمع الغربي قدرات خارقة، يهتم المجتمع العربي بعكس جوانب محددة من شخصية العنكبوت ومحاولة طرحها وتقديمها للجمهور ضمن قالب درامي رصين ومشوق.

تميزت شخصية العنكبوت السينمائية التي طرحتها "هوليوود" قبل عقود من الزمن، بتركيزها على البعد الجمالي والعلمي لشخصية العنكبوت، والذي انعكس مباشرة على مردود شاشات دور العرض وشباك التذاكر. وباستخدام التقنيات الحديثة حولت السينما العالمية شخصية الرجل العنكبوت إلى عرض بصري بهلواني فائق، إذ تحول إلى أهم رجل خارق في "هوليوود" خلال سنوات قليلة، بامتلاكه صفات الرشاقة والخفة والصلابة الفائقة إلى جانب الشراسة البالغة التي يتعامل بها العنكبوت مع فريسته.

عربيا

في المقابل ركزت الدراما العربية على فكرة امتلاك الإنسان لبعض صفات العنكبوت المرعبة من خلال فكرة وهن بيت العنكبوت وطريقة الكائن في نسج شباكه لخداع فريسته، ومن ثم قتل ضحاياه دون أية شفقة أو رحمة، لذلك جاءت حكاية الرجل العنكبوت أو العنكبوت البشري عربياً في سياق الشر المحض أو أعمال الرعب أو من خلال حكايات انهيار بيت الأسرة أو قسوة وصلابة بعض تجار المخدرات.

في مقابل أيقونة الرجل العنكبوت العالمية الشهيرة "SPIDERMAN" ظهرت أخيراً أعمال سينمائية ودرامية عربية بعضها يحاكي أيقونة "هوليوود"، ومنها فيلم "العنكبوت" للمخرج أحمد نادر الذي صدر عام 2022، وهو من بطولة أحمد السقا. من جهة أخرى جاء مسلسل "بيت العنكبوت" للمخرج "بهاء خداج"، وهو دراما مستقاة من البيئة السعودية عرضت أخيراً على شاشة (MBC) ومنصة "شاهد" في سياق مختلف تماماً.

ويمكن القول إن العمل على نسج شخصيات مستلهمة من هذه الشخصية في الدراما العربية جاء وفق نظرة المجتمع الشعبية لهذا الحيوان، والتي تتميز بالسلبية الشديدة، إذ ارتبط حيوان العنكبوت عربياً بفكرتين رئيستين هما وهانة وضعف بيته وسلوكه المرعب مع ضحاياه وفرائسه.

فيلم العنكبوت

تدور أحداث فبلم "العنكبوت" المصري للمخرج أحمد نادر الذي بدأ عرضه قبل عامين على شاشة السينما حول تاجر مخدرات يصل إلى تركيبة جديدة ناجحة من هذه السموم ويباشر بيعها في الأسواق المحلية. وأثناء محاولة الهرب من الشرطة ينفذ بطل الفيلم بعض مهارات "سبايدرمان" المتعلقة بالرشاقة وخفة الحركة إلى جانب مشاهد تفجيرات ومطاردات "أكشن" ذات مستوى عالمي، لكن ثيمة العمل الرئيسة من حيث الحبكة الدرامية تظل متعلقة بفكرة الشر والرعب الذي حققه حيوان العنكبوت في الحياة اليومية، إذ يوصف عربياً بأنه من أخطر المفترسات وأكثرها قسوة وشراسة مع ضحاياه.

ورد في العروض الترويجية لمسلسل "بيت العنكبوت" جملة مفادها "حافظ على بيتك أو كن مستعداً للسقوط في شباك العنكبوت"، وتعبر هذه الجملة عن الثيمة الرئيسة للنص الدرامي. وفي الأحداث يتعرض بيت العائلة لهزة عنيفة تتمثل في وفاة الوالد، وهو تاجر ذهب ذو شخصية متزنة ورصينة. لتظهر بعدها "وهانة" البيت الذي تحاول الأم وحدها الحفاظ على وجوده وتماسكه. ومن خلال تسلسل الأحداث يمرر مسلسل "بيت العنكبوت" بصورة غير مباشرة رسائل اجتماعية، أبرزها يمكن عدها رسالة شرقية وذكورية بحتة، ومفادها أن كل بيت تبنيه الأنثى أو ترعاه وحدها هو بيت واهن وضعيف، لأنه لن يصمد أمام أطماع وشرور الأبناء، الذكور تحديداً.

"سبايدرمان" العالمي

لم تصل السينما الغربية من خلال "هوليوود" إلى إنتاج شخصية وأيقونة الرجل العنكبوت الشهيرة بسهولة، إذ تدرجت حتى بلغت ذروتها وفق الموسوعة العلمية الأوروبية من خلال فيلم "سبايدرمان: لا عودة إلى الديار" Spider-Man: No Way Home))‏، وهو تكملة لفيلمي "سبايدرمان: العودة للوطن" و"سبايدرمان: بعيداً من الوطن "(2017-2019). والفيلم من إخراج جون واتس وكتابة كريس ماكينا وإريك سومرز، وبطولة توم هولاند في دور بيتر باركر. وعرض فيلم "سبايدرمان: لا عودة للديار" للمرة الأولى في لوس أنجليس عام 2021، وحقق نجاحاً عظيماً في شباك التذاكر، إذ بلغت إيراداته أكثر من 1.892 مليار دولار في جميع أنحاء العالم، ليصبح أعلى فيلم ربحاً عام 2021. وكانت هناك تتمة له قيد التطوير حينها.

أخيراً، استخدمت الدراما العربية شخصية العنكبوت بصورة خاصة يختلف تماماً عن الطريقة التي استلهمت منها "هوليوود" والثقافة الغربية أيقونة "الرجل العنكبوت/ سبايدرمان" الشهيرة. فشخصية "الرجل العنكبوت" العالمية تنتج من اندماج وتماهي الإنسان مع هذا الحيوان، لذلك عبرت النسخة العالمية من العمل عن رغبة الإنسان في امتلاك بعض صفات المخلوق الخارقة للطبيعة، ومن أهمها الرشاقة وخفة الحركة. ويمكن القول إن المعالجة الدرامية الغربية لهذه الشخصية صدرت عن عقلية علمية وجمالية محدثة، لذلك استعانت "هوليوود" بأفضل التقنيات السينمائية لصقل هذه الشخصية اللافتة التي تعد ناجحة سينمائياً حتى وقتنا هذا.

 

الـ The Independent  في

24.11.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004