ملفات خاصة

 
 
 

فيلم سابا.. الواقعية تعيد تعريف نفسها في بنجلاديش

جدة-عصام زكريا*

البحر الأحمر السينمائي

الدورة الرابعة

   
 
 
 
 
 
 

في أحد مشاهد الفيلم البنجلاديشي SABA "سابا"، الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر في دورته الرابعة، هذا الشهر، تقلق البطلة، التي يحمل الفيلم اسمها، على أمها المقعدة المريضة التي راحت في شبه إغماء، وتحاول جسَّ نبضها واختبار تنفسها للتأكد من أنها لم تزل حيَّة.

لكن الأم، التي دائماً ما تلقي بعبارات تهكم حادة، تجيبها لاحقاً: "مجرد التنفس لا يعني أن المرء حي"، في إشارة إلى نوع الحياة البائسة التي تعيشها سجينة داخل شقتها الفقيرة وجسدها العليل.

في مشهدٍ لاحقٍ من الفيلم، يقول صديق البطلة، أنكور، وهو رجل متوسط العمر خَبَرَ الحياة وآلامها، تعليقاً على الأوضاع المادية والنفسية السيئة: "نحن نتنفس لمجرد أن نستطيع الحياة في هذا البلد".

الصورة تتكلم

تحمل هاتان العبارتان ليس فقط موضوع الفيلم ودلالات قصته وأحداثه، بل أيضاً اسلوبه الفني الذي يعبر عن هذه المشاعر في كل تفصيلة، من الكتابة إلى اختيار المكان، إلى التصوير، والإضاءة والألوان.

في "سابا"، وهو أول فيلم طويل للمخرج مقصود حسين، الذي كتبه وساهم في إنتاجه أيضاً، يتحقق أحد أهم صفات الفن الجيد، وهو التوحد بين مضمون العمل وشكله، ذلك أن كل العناصر الفنية في الفيلم تتضافر معاً للتعبير عن هذه الفكرة التي تتحدث عنها الشخصيات: "إننا لا نكاد نعيش بسب وطأة هذه الظروف".

تبدو شخصيات الفيلم جميعاً، وكأنها حبيسة الشرط الإنساني: الوضع الطبقي، والتكوين العائلي، والمدينة أو البلد التي يعيش فيها المرء، أضف إليها الشرط الكوني: الصراع من أجل البقاء، وعجز البدن، وقدر الموت.

يستخدم مقصود حسين ومدير تصويره أسلوب الكاميرا التي تهتز قليلاً طوال الوقت ما يخلق إحساساً بالتوتر، وكأن شيئاً ما على وشك الانفجار، كما يستخدم الألوان الداكنة، والتكوينات الضيّقة الخانقة، ربما باستثناء مشهد النزهة في الحديقة العامة، عندما تصطحب سابا أمها وصديقها لتقضي يوماً خارج سجن البيت الذي تعيش فيه. وهو المشهد الوحيد الذي يتسع فيه حجم اللقطات، وتنتعش الألوان بخلفيات الطبيعة الجميلة.

طيَّات من الأمل

مع ذلك، فإن "سابا" ليس فيلماً قاتماً، كما يبدو على السطح، ذلك أن تحت هذا السطح تختفي طيَّات من الأمل والشعور بالرضا، النابعين عن الصدق والإنسانية، واللذين يعالج بهما مقصود حسين موضوعه.

محور الفيلم هو شخصية سابا (تؤدي دورها نجمة السينما البنجلاديشية الصاعدة ميهازابين شودهري)، وهي شابة في أوائل العشرينيات، ابنة وحيدة، تعيش مع أمها المريضة المقعدة، شيرين (رقية براشي) بعد رحيل والدها، واختفاءه منذ سنوات.

تصاب الأم بأزمة صحية تهدد حياتها، وتستدعي إجراء عملية جراحية عاجلة لانقاذ قلبها الضعيف. ويتعين على سابا، التي ترعى أمها كطفل (تعد لها الطعام وتطعمها وتحممها وتحملها إذا لزم الأمر) أن تجد وسيلة للحصول على تكاليف العملية في أسرع وقت، ومن ثم تضطر إلى العمل في كافيتريا ومطعم للكبار فقط (حيث يسمح بالخمر والمخدرات ومصاحبة النساء)، كما تذهب إلى عمها لإخباره بقبول عرض شراء بيتهم، وهو العرض الذي كانت سابا وأمها يرفضانه في الماضي، لكن العم يساومها الآن لإعطائها نصف هذا المبلغ، بينما تواصل الأم رفض البيع، وتمزق أوراق التعاقد.

هذه الفترة العصيبة، في انتظار ما ستسفر عنه محاولات سابا لإنقاذ حياة أمها، تتحول إلى رحلة اكتشاف، ووعي، ومصالحة تنتقل سابا من خلالها إلى محطة جديدة، تغادر فيها البراءة والضعف، وتصبح أكثر شجاعة وتقبلاً لشروط الحياة.

خلال هذه الرحلة، تتعرف سابا إلى أنكور (مصطفى منور)، وهو رجل متوسط العمر، يعمل في المطعم الذي تلتحق به بطلة الفيلم، ويحاول مساعدتها، وتنمو بينهما علاقة حب هادئة، غير أن هذه العلاقة أيضاً تمر بعثرات تكاد تدمرها: أنكور يختلس زجاجات خمرٍ من المطعم في محاولة لكسب مزيد من المال؛ حتى يستطيع الهجرة إلى بلد آخر. وسابا، التي تصل إلى حد اليأس من الحصول على المال الكافي لجراحة أمها، تشي بأنكور لدى صاحب المطعم مقابل إعطاءها المبلغ.

بين سابا ومالوتي

يخلو "سابا" من الميلودرامية التي تقسم الناس إلى أخيار وأشرار، وتصبغ الأنماط الدرامية بتعميمات لا مثيل لها في الواقع؛ فهو فيلم ينتمي إلى الاتجاه الواقعي بجدارة، وهو ينسج، مع أفلام أخرى من بنجلاديش، صدرت خلال السنوات الماضية، اتجاهاً واقعياً يحمل بصمته الخاصة. من هذه الأعمال، مثلاً، فيلم "عزيزتي مالوتي"، إخراج شانكا داسجوبتا، وبطولة ميهازابين شودهري أيضاً، والذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الأخير.

يحمل "عزيزتي مالوتي" اسم بطلته أيضاً، وتلعب فيه شودهري دور زوجة شابة حبلى، يتوفى زوجها في حادث، فتنقلب حياتها إلى جحيم بسبب البيروقراطية، وقوانين الأحوال الشخصية، وأطماع الأقارب (يشبه أحداث المسلسل المصري "تحت الوصاية" إلى حد كبير).

عناصر مشتركة تجمع "سابا" بـ"عزيزتي مالوتي" غير اسم البطلة، مثل اعتماد الدراما على شخصية محورية نسائية، ورصد الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية من خلال القصة الدرامية، وكون الأحداث تدور في العاصمة دكا. ولكن هناك فوارق مهمة بين الفيلمين؛ إذ يجنح "مالوتي" أكثر للميلودراما، كما وصفتها أعلاه، من رسم تجريدي بالأبيض، أو الأسود للشخصيات، ومن إفراط تعبيري ودفع بالدراما إلى الحافة. فيما يميل "سابا" للنظرة الأكثر واقعية، حيث لا توجد شخصيات شريرة أو طيبة، وحتى سابا نفسها تعنِّف أمها وتضربها في نوبة مواجهة عصبية، ثم تشي لاحقاً بصديقها، والأم لا تخلو من العيوب أيضاً، فهي تتعامل بقسوة مع ابنتها، وتنتقدها دائماً، وكذلك أنكور، رغم حبِّه لسابا ورقة طبعه، إلا أنه لا يتورع عن ارتكاب بعض الجرائم الصغرى لكي يستطيع أن يحيا.

رحلة إلى التصالح

في مشهدٍ بارز من الفيلم، يجمع بين الأبطال الثلاثة يعرض التليفزيون خبراً عن الأحداث السياسية المتوترة والفساد، ويعلق أنكور منتقداً كبار الفاسدين الذين دمّضروا البلد، لكن الأم تنتقده وتتهمه أيضاً بأنه فاسد. ورغم أنها لا تعرف ما يفعله بالضبط، لكن خبرتها بالحياة تجعلها تعلم أن المناخ الفاسد يجعل الجميع فاسدين.

تتصالح سابا في النهاية مع شرط الحياة المتمثل في الموت، كما تتصالح مع أنكور إذ يقبل كل منهما الآخر، مدركين أنه لا يوجد إنسان أو وضع مثالي. و"سابا" يحقق هذا التصالح ليس بقبول الفساد، أو الخطأ، ولكن من خلال الفهم، والتعاطف، والنظرة الإنسانية الشاملة.

ويتمثل هذا الحب والتسامح كأكثر ما يكون في وجه ميهازبيان شودهري الجذَّاب والممتلئ بالمشاعر، وذلك من خلال عشرات اللقطات المقرِّبة لملامحها، في مختلف الحالات الشعورية التي تمر بها، حتى أن الرحلة التي تمر بها عبر الفيلم يمكن إيجازها في بعض هذه اللقطات المقرَّبة المعبِّرة.

*ناقد فني

 

####

 

"سنو وايت".. في محاولة للفرار من السجون التي لم تخترها

جدة -رامي عبد الرازق*

فيلمان مصريان ضمَّتهما هذا العام مسابقة الأفلام الطويلة، ضمن فعاليات النسخة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (5-14 ديسمبر)، هما "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" إخراج خالد منصور، و"سنو وايت" إخراج تغريد أبو الحسن، الأول شهد عرضه العالمي في الدورة الـ81 لمهرجان فينيسيا الدولي، والثاني استقبلت شاشة "البحر الأحمر" عرضه الأول في العالم والشرق الأوسط.

نافس الفيلمان المصريان عدداً من التجارب العربية المهمة في عروضها الأولى بالمنطقة أو العالم، أبرزها العراقي "أناشيد آدم" لعدي رشيد، والتونسي "الذراري الحمر" للطفي عاشور، والفلسطيني "نحو عالم مجهول" لمهدي فليفل، إلى جانب السعودي الجديد "صيفي" لوائل أبو منصور، وفاز الأول بجائزة لجنة التحكيم في حين حصل الثاني على جائزة افضل ممثل لمريم شريف.

كلها تجارب شديدة الخصوصية سواء على مستوى موضوعاتها، أو أبطالها؛ فـ"السيد رامبو" هو محاولة شاب لإنقاذ كلبه من انتقام أحد جيرانه، بعد أن عضَّه الكلب دفاعاً عن صاحبه، بينما "سنو وايت" هو مغامرة ميلودرامية لخلق حكاية خيالية، مثل حكايات سندريلا وبيضاء الثلج، بطلتها فتاة ثلاثينية محبوسة داخل جسد يعاني من قصر القامة (قزمة)، بينما تملؤها الرغبة في أن تعيش حياة طبيعية، عادية مثل بقية البنات.

الأميرة الشعبية

"إيمان" فتاة من قصار القامة في الأربعين من عمرها تقريباً، أو كما تقول من مواليد 1984، تعمل موظفة في أحد القطاعات الحكومية البيروقراطية العفنة، المليئة بالسلالم، وأعطال المصاعد وأضابير الملفات العالية، لكنها تملك قدراً كبيراً من المرح، وخفة الروح، والرشاقة التي يسمح بها جسدها القريب من الأرض، وكل ما يشغلها في الحياة الروتينية المكررة أمران متوازيان: تزويج أختها الصغرى التي ربَّتها كابنة لها، والعثور على الأمير الذي يمكن أن يهمس لها بكلمة الحب لكي تستيقظ من كابوس الجسد القزمي الذي تعيشه منذ ولادتها بهذه الهيئة، أو كما نرى صورها وهي لا تزال صغيرة على حائط الشقة الكالحة التي تعيش فيها مع أختها.

تذكرنا أزمة إيمان، وأختها الصغرى، وغياب الحضور الرجولي المطلوب سوى من عمَّين متهالكين ذكورياً، بأزمة فيلم "أخضر يابس" للمخرج محمد حماد قبل عدة سنوات، خصوصاً مع محاولات "إيمان" استكمال القطعة الناقصة في جهاز أختها الصغرى، وهي الثلاجة التي تطلبها أم العريس التي تظهر في هيئة أرملة سوداء كئيبة وناقمة على العروس وأختها طوال الوقت. بالطبع القياس مع الفارق، فـ"سنو وايت" هو محاولة لصناعة حكاية خيالية بتفاصيل واقعية، وبقدر ما يحتوى على شطحات طريفة وجذَّابة - مثل هيئة أم عريس الأخت كما أشرنا والتي ترتدي السواد طوال الوقت هي وبناتها حتى في فرح الابن في النهاية - بقدر ما يلوّث خياليته المذاق الميلودرامي المصري، الذي لا ينفك يتجلى في هيئة حوار تكسوه لغة الأفلام الأبيض والأسود - بتعبيرات مثل دق العصافير وما شابه - أو سياقات أدائية في تجسيد الشخصيات، خاصة بالنسبة لشخصية "إيمان" التي قدَّمتها الممثلة مريم شريف، بمرجعيات الشخصيات النسائية الشعبية في الأفلام الكلاسيكية العتيقة.

الحلم الخوارزمي 

تعيش "إيمان" حلماً بالعثور على فارسها عبر أحد مواقع الزواج، تقدم لنا المخرجة تمهيداً جيداً لهيئة "إيمان" الداخلية كما ترى نفسها، فتاة جميلة محبَّة للحياة تنتظر "في يوم وليلة" أن تذوق "حلاوة الحب" - كما تكشف لنا أغنيتها المفضلة في الفيلم للمطربة وردة - قبل أن تقف أمام شاشة اللاب توب الخاص بها، تذهب لعمل جلسة تصوير خالعة حجابها وتطلق شعرها المتدرج، ومتخذة أوضاعاً أنثوية رقيقة ولافتة، قبل أن تحصل على الصور محتفظة بها لنفسها، بينما لا تتمكن من البوح للشاب الذي تحادثه على الموقع بحقيقة أزمتها المادية والوجودية.

يتحرك فيلم "سنو وايت" بين نوعين من الحبكات؛ الأولى هي حبكة "القنبلة الموقوتة"، ونعني بها أن الجمهور يعرف حقيقة "إيمان" بينما لا يعرف الشاب الذي تحدثه هذه الحقيقة – يُحسب للمخرجة بشكل جيّد اختيار محمد ممدوح بجسده الضخم جداً المناقض تماماً لهيئة وجسد "إيمان" - وبالتالي نحن أمام عدٍّ تنازلي طوال الوقت لمعرفة رد فعل الشاب عندما يكتشف حقيقة جسد "إيمان"، وهو رد فعل واقعي ومتوقع جداً، خصوصاً مع رفضها المستمر محاولات أحد قصار القامة الذكور التقرب منها رغم الصداقة التي تجمع بينهما بشكلٍ طيب وحميمي دافئ.

أما النوع الثاني فهو "رحلة البطل"، حيث تقطع "إيمان" شوطاً لا بأس به في محاولة الحصول على قرض للثلاجة التي تريد أن تشتريها لأختها، وهي رحلة اجتماعية ميلودرامية مكررة، وإن كانت تتسم هنا ببعض الطرافة في التعاطي مع محاولات "إيمان" الضغط بصورة قانونية للحصول على حقها في سلفة من راتبها المستحق.

لا تبحث "إيمان" عن الزواج بل الحب، ترفض أن تعترف أن الجسد جزء من أدوات الحب، تعيش في مثالية شعورية تحمي بها نفسها من الإحساس المستمر بضآلة الجسد، وفساد الصورة المادية المتوقعة لفتاة في مثل انطلاقها وقوتها الشخصية.

هذا البحث يحرر الشخصية من نطاق الميلودراما الضيّق الذي ضربه الأداء حول الشخصية، ويقفز فوق العلاقة النمطية بينها وأختها الصغرى - التي يبدو أنها شاهدت الكثير من أعمال الفنانة شريهان قبل أن تقدم الدور - كذلك يمنح السيناريو مساحة عمق تتجاوز الأزمة الاقتصادية التقليدية جداً في مسألة تجهيز الأخت الصغرى والحصول على قرض للثلاجة، وكعادة الأعمال الأولى فإن المخرجين/ات تفور بداخلهم الرغبة في التلويح بأكثر من قضية في حيّز الشريط الفيلمي المكثف، ما يتخم الإيقاع في بعض الأحيان بالبطء وخزلان الرشاقة السردية المفترضة.

توافق "إيمان" على شرط شراء الثلاجة على مضض من أجل أختها، رغم عدم قدرتها المادية، ويتحرك الفيلم في سياق البحث عن حل لهذه الأزمة مستعرضاً كون "إيمان" شخصية قوية وعنيدة، اختيار الثلاجة أيضاً كأضخم جهاز كهربائي في جهاز العروس اختيار دقيق وطريف ومقصود أيضاً، لخلق نفس حالة التناقض التي أشرنا لها في اختيار ممثل ضخم البنية مثل ممدوح، خاصة أن الكاميرا تتحرك كثيراً في مستوى نظر "إيمان" إلى العالم، أو بنظرة فوقية تظهر مدى قلة حيلتها الجسدية أمام كتل المجتمع المُحبط والعنيف من حولها.

ربما لا يظهر الاتصال غير المباشر بين البحث عن إمكانية لشراء الثلاجة، وإصرار أهل العريس عليها رغم قدرتهم المادية الكبيرة -الظاهرة في سيارتهم الضخمة الحديثة، وهو أيضاً اختيار جيد لفكرة ضخامة الأشياء في مقابل صغر حجم إيمان- وبين اعتبارات إيمان الخاصة بأن الحب أهم من المادة/ الجسد، وأن من يحبها من داخلها لن يتوقف أمام شكلها الخارجي، وهو الرهان الذي دفعها للكذب على العريس الخوارزمي، ومحاولتها نسج شباك شعورية دافئة حوله لإيقاع روحه في محبة روحها؛ حتى تتجمل جسدياً في عينيه حين يراها.

تتداخل الميلودراما مع اللفتات الرومانتيكية الحساسة والقضية الوجودية التي يطرحها الفيلم، خصوصاً في علاقة إيمان بأختها كما أشرنا، على سبيل المثال يبدو الحوار مكرراً جداً بين "إيمان" والأخت الصغرى في كل مرة تعترض فيها الأخت على تصرف أو فعل لإيمان، يمكن أن يحول دون إتمام الزيجة، إذ تنهي إيمان النقاش بجملة واحدة تبدو أيقونة من أيقونات الأفلام القديمة: "اتفضلي ادخلي على أوضتك!).

صحيح أن المخرجة لا تفسد تصاعد الصراع سواء على مستوى انتظار انفجار القنبلة -مقابلة الشاب المغترب القادم من خلف شاشة الكومبيوتر- أو مستوى رحلة شراء الثلاجة، وذلك بتلفيق بعض الصدف أو دفع الأحداث للتقدم بصورة مفتعلة، لكن تظل اللمسة الميلودرامية الحوارية والأدائية التي لا تتمكن المخرجة، بحكم حداثة تجربتها أو ربما عدم دراستها للبيئة الخاصة بفيلمها بصورة معمقة، من تجاوزها، أو السيطرة عليها في كثير من المشاهد.

نقابة الأقزام

كما سبق وأشرنا، فإنَّ محاولة صنّاع الأفلام في تجاربهم الأولى طرح العديد من القضايا والأفكار، أو الهموم في تصوّر بأن هذا يمكن أن يمنح الشريط الأول ثقلاً نفسياً، أو اجتماعيا، أو فكرياً، فإن الفيلم ينجرف بشكلٍ دعائي أو شبه إعلاني للحديث عن نقابة الأقزام بالإسكندرية، في استغلال لظهور شخصية القزم الذي يتقدم كعريس مناسب لإيمان بينما ترفضه هي؛ لأنها لا ترى نفسها قزمة بحاجة إلى شخص في مثل طولها!

يقدم لنا الفيلم معلومات كثيرة عن النقابة في مادة مصوَّرة أشبه بإعلانات الجمعيات الخيرية!، لا من خلال عينا البطلة، أو أي سياق درامي تفاعلي بينها وبين الشاب المتقدم لها، أو حتى أي من الشخصيات التي يمكن أن تتعرف عليها في النقابة -حين تذهب للحصول على قرض لكونها من قصار القامة- رغم أن الحكاية لا تحتمل مثل هذه الدعاية، بل إنها تفسد قدراً كبيراً من كون فرضية الفيلم في حد ذاتها أكثر تجريداً من كونها تخص قصار القامة فقط!

فالنظرة الأكثر انفتاحاً وشمولية، تجعلنا أمام معضلة وجود إنسان أمام قدرٍ لم يختره سواء كان هذا القدر جسد ضئيل، أو مرض عضال، أو عاهة مستديمة، أو على حد تعبير "إيمان" حين تواجه الرجل الذي تصورت أنه أحبها لروحها "أنا محبوسة في جسم ما اخترتوش"، وتضييق مساحة المعاناة في زاوية قصار القامة فقط يشد القضية أصلاً باتجاه التعاطف، بدلاً من أن يطلقها في أفق الاستغراق في تصور أن كل منها يمكن أن يكون "محبوساً" في قدر مادي معين لم يختره، وينتظر من يساعده على التحرر، أو من ينظر إلى روحه لا إلى هيئته الخارجية بمحبة، وقبول، وفهم شعوري.

حتى المشهد الذي ربما أرادت المخرجة أن تخلق منه ذروة مفترضة، حين تذهب "إيمان" إلى الإسكندرية بعد مواجهتها الدامية مع الشاب الرافض لقامتها، فنتصور أنها ذاهبة للقاء القزم الذي تقدم لخطبتها بينما لا نراها تفعل ذلك -لأنها لا تبحث عن زوج كما ذكرنا بل عن محبة من نوع خاص- حتى هذا المشهد الذي تداعب فيه طفلاً صغيراً من قصار القامة في البحر، وكأنها تتحرر من حكايتها المؤلمة أو الرفض الذي واجهته من حبيب ناكر للروح، يفقد الكثير من رونقه العاطفي والشعوري بسبب إصرار السيناريو أن يتم هذا في نطاق شاطئ نقابة الأقزام، وليس في نطاق أكثر رحابة ووجودية من كونها قضية اجتماعية تحتاج إلى حلول جذرية، أو دعم معنوي أو خيري.

وهو ما يقودنا للحديث عن نهاية الفيلم الذي ترقص فيه "إيمان" على أغنيتها المفضلة "في يوم وليلة"، والتي تشكل شعاعاً قوياً يكشف حقيقة الأفكار التي تشغل بالها الروحي، أو أروقتها النفسية والشعورية الرقيقة، حيث تذكرنا رقصة إيمان برقصة "فتاة المصنع" في نهاية فيلم محمد خان الشهير!، بنفس سياقات محاولة التحرر من الإحباط العاطفي، وطرد أحاسيس التمييز الطبقي أو الجسدي والإبقاء على نقاء الحلم برَّاقاً في انتظار من يهمس للأميرة بكلمة الحب لكي تستيقظ من نومها الكابوسي الطويل.

ربما يأتي المشهد كتحية لفيلم خان أو "فتاة المصنع"، وربما كان مجرد أصداءٍ لم تتمكن المخرجة من السيطرة عليها، فظنَّت أنها من ابتكار خاطرها السينمائي، لكن المشهد حتى على مستوى الديكور والتنفيذ -بعدد قليل جداً من الكومبارس يمثلون المعازيم وعدد ضخم من الكراسي الخالية بشكل غير مبرر- كل المشهد في الحقيقة لا يليق كثيراً بخاتمة الحكاية الأسطورية، أو لنقل باستمراريتها، ربما يليق بخاتمة للسياق ميلودرامي الكلاسيكي -زواج الأخت الصغرى والاطمئنان على مستقبلها- لكنه أقل فخامة من السياق الوجودي والعاطفي للحكاية التي حاولت المخرجة أن تبجلها بشكلٍ خيالي عبر عنوان الفيلم، ومحطات صراع البطلة ضد قدر لم تختره، وسجن لا سبيل للفرار منه.

*ناقد فني

 

الشرق نيوز السعودية في

16.12.2024

 
 
 
 
 

سبايك لي: لن ينجح صانع الأفلام حتى يدرك أن السينما عمل جماعي

منى شديد

مخرج شغوف بالسينما عاشق لصناعها ومبدعيها، على استعداد للذهاب إلى أقاصي الأرض لإرضاء شغفه، استضافته المملكة العربية السعودية ليترأس لجنة تحكيم مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في دورته الرابعة التي انهت فعالياتها منذ أيام.

في لقاء تابعته فاصلة، أعرب المخرج الأمريكي الذي حازت أفلامه على خمس جوائز أوسكار من بينها أفضل مخرج وأفضل فيلم، أعرب عن سعادته الكبيرة بالتجربة التي اتاحت له فرصة مشاهدة أفلام صناع السينما في المنطقة العربية.

وقال إنه على امتداد سنوات عمره التي وصلت 67 عامًا، تعلم أن مشاهدة أفلام من بلدان مختلفة أمر رائع، فالأمريكي الذي لا يسافر، يرى العالم من اتجاه واحد فقط، لذا يعتبر عمله بصناعة الأفلام نعمة كبيرة لأنه اتاح له الفرصة للسفر حول العالم، وفتح عينيه على حقيقة أن هوليوود ليست كل العالم، وأن هناك أناس آخرون يريدون رواية حكاياتهم القيمة بطريقتهم ولغاتهم وثقافاتهم الخاصة.  

حظي سبايك لي بفرصة قيادة أول فريق تصوير فيلم سينمائي يدخل إلى مكة المكرمة أثناء العمل على فيلمه الحائز على ترشيحين للأوسكار «مالكوم أكس – Malcolm X» في عام 1991، ويقول «أعتبر التواجد في جدة للمرة الثالثة نعمة من الله، المرة الأولى كانت مع فريق فيلم مالكوم أكس، انتظرت في جدة لمدة أسبوعين للحصول على تصريح يسمح لنا بالتصوير في مكة خلال موسم الحج، واستعنت بفريق تصوير مسلم لإتمام المهمة وكنا أول فريق تصوير فيلم يدخل إلى مكة على الإطلاق».

وأضاف خلال لقائه بجمهور مهرجان البحر الأحمر في دورته الرابعة، أن فيلم «مالكوم أكس» كاد أن يقتله، حيث واجه الكثير من الصعوبات أثناء العمل عليه، وكانت أكبر عقبة هي التصوير في المملكة العربية السعودية ليس فقط بسبب تصاريح التصوير؛ ولكن بسبب رفض شركة وارنر براذرز منتجة الفيلم تمويل التصوير في السعودية، مشيرا إلى أنهم طلبوا منه التصوير على شواطئ جيرسي في يناير بدلا من مكة، وهو ما رفضه تماما، فأوقفت وارنر برذرز إنتاج الفيلم بعد أن أنفق عليه مليون دولار من ماله الخاص بالإضافة إلى نصف أجره.

وأكد أنه ظل محبطًا أكثر من شهر، إلى أن تذكر أن لديه الكثير من الأصدقاء المشاهير ذوي الأصول الأفريقية ممكن لديهم مال كاف لاستكمال تمويل الفيلم، فقرر اللجوء إليهم لطلب المساعدة بهبات مالية في إنتاج الفيلم، وكان من بينهم بيل كوسبي وجانيت جاكسون وبرنس وتريسي تشابمان وماجيك جاكسون ومايكل جوردان، مشيرا إلى أن شركة النتاج أعادت العمل على إنتاج الفيلم بعد أن جمع التمويل اللازم من أصدقائه الذين لولاهم ما كان الفيلم خرج للنور.

شكل سبايك لي ثنائيا ناجحا مع النجم الأمريكي دينزل واشنطن، بداية من «Mo Better Blues» في عام 1990، ثم «مالكوم إكس» الذي بدأ عرضه في عام 1992، ومنح دينزل واشنطن دب مهرجان برلين الفضي لأفضل ممثل، و«He Got Game» في 1998، و«Inside Man» في عام 2006، بينما تستعد صالات السينما لاستقبال فيلمهما الخامس «Highest 2 Lowest» في صيف 2025.

أشار لي إلى أن الفيلم حاليا في مراحل ما بعد الإنتاج، وأنه يسعد دائما بالعمل مع واشنطن لأنه «ممثل رائع لا يضاهيه أحد»، متنبئًا له بالفوز بترشيح لجائزة الأوسكار هذا العام عن دوره في الجزء الثاني من فيلم «Gladiator II»، ومؤكدًا على الصداقة والترابط العائلي الكبير الذي يجمعهما منذ سنوات طويلة.

«من أعلى قمة إلى أسفل قاع – Highest 2 Lowest» هو إعادة قراءة – على حد تعبير سبايك لي- لفيلم الإثارة والجريمة «الذروة والقاع – High and Low» للمخرج الياباني الشهير أكيرا كوروساوا، الذي كان له التأثير الأكبر على مسيرته الفنية ويقول: «من أفضل الأشياء التي حدثت لي أثناء الدراسة في مدرسة السينما هي أني تعرفت على سينما كوروساوا والطرق المختلفة في بناء القصة وتأثرت بها منذ بداية عملي في عالم السينما»، مثل فيلم «راشومون – Rashomon» الذي يتناول حدث واحد لاغتصاب سيدة بثلاث روايات مختلفة يطرحها الأشخاص الذى شهدوا الحدث، وهو ما تأثر به سبايك لي في فيلمه «She’s Gotta Have It» إنتاج 1986 عن شخصية نولا وعشاقها الثلاثة والرؤي المختلفة لكل منهم عن طبيعة علاقته بها

أكد لي أنه يعتبر نفسه محظوظًا بالعمل في السينما، وكلما تقدم به العمر يفهم أكثر أن قدره أن يكون صانع أفلام و«هي نعمة كبيرة في الحياة عندما يكون الانسان قادرًا على كسب عيشه من العمل في الشيء الذي يحبه، ولكن في الوقت نفسه لا بد من الاجتهاد والجدية وعدم التعامل مع هذه النعمة على أنها مسلم بها».

وأضاف أنه يعمل بتدريس السينما منذ أكثر من 30 عاما، ويحرص دائما على إلقاء خطبة طويلة لطلابه في أول يوم دراسي ينبههم فيها إلى أن صانع الأفلام لا بد أن يلتزم بالجدية والاهتمام في العمل لا يستسهل ولا يغش، فصناعة الأفلام ليست مزحة أنه عمل جاد جدا، ويقول «إذا لم تكن جادا فانت تصعب الأمور على نفسك، يجب أن تمنح حياتك للسينما، ولا اعتبرها مبالغة إذا قلت يجب أن تمنح كيانك كله للسينما وكأن حياتك نفسها تعتمد عليها، تضع قصصك وأفكارك على الشاشة وتشاركها مع العالم، وهذا ليس أمرا سهلا ولا يجب أن تستلم أمام الصعوبات».

وأضاف لي أن صانع الأفلام أيضا لا يعمل منفردا لابد أن يحيط نفسه بفريق وزملاء متميزين، فهو لن يحقق النجاح وحده، قائلا «كنت محظوظا جدا عندما دخلت جامعة نيويورك، والتقيت بالعظيم إرنست آر. ديكرسون، كنا نشبه بعضنا البعض فهو درس في جامعة هوارد قبل مدرسة السينما وأنا كنت في مورهاوس في إطلنطا جورجيا، وكنا الأقلية من ذوي البشرة السمراء في الجامعة ومدرسة السينما، ومنذ البداية قررنا أن نحقق النجاح معا، فقام هو بتصوير كل أفلامي أثناء الدراسة في الجامعة وحصل أحد أفلامنا على جائزة اكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة للطلبة».

وأكد سبايك لي على أن السينما عمل جماعي، وأن النظام والفريق الجيد والأجواء الطيبة في موقع التصوير هي التي تصنع فيلما جيدا، ويشرح: «المخرج يجب أن يدرس العمل جيدا ويعرف ما الذي يريده بالتحديد حتى لا يرهق الفريق، لا بد أن يحضر فريق العمل لموقع التصوير بارتياح حتى يقدموا أفضل ما لديهم فهذا ما يضمن النجاح».

 

موقع "فاصلة" السعودي في

17.12.2024

 
 
 
 
 

مهرجان البحر الأحمر الرابع: محاولة لتكريس ثقافة السينما

هوفيك حبشيان/ المصدرالنهار

انتهت قبل أيام قليلة الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (5 - 14 الجاري). 121 فيلماً قصيراً وطويلاً من أصقاع الأرض كافة، عُرضت في هذا الحدث السينمائي الذي يواكب منذ مطلع العقد الحالي انفتاح السعودية على فنون الترفيه والاستعراض، بعدما كانت مستبعدة ومحظورة طوال عقود.

تتويجاً لمرحلة جديدة، وتعبيراً عن رغبة في جعل جذور السينما تضرب في الأرض، انتقل المهرجان إلى مقر جديد، "ميدان الثقافة"، في جدة التاريخية حيث عُقدت الدورة الأولى، وذلك بعد دورتين أقيمتا في فندق ريتز كارلتون الفخم. البقعة المستحدثة جاءت ببعض القطيعة مع مظاهر البهرجة والترف المبالغ فيها، من خلال موضعة الحدث في بيئة أكثر "تواضعاً"، تنتج علاقة عضوية مع الواقع، ولو ان الكثير من البهرجة والترف لا يزالان قائمين بحكم وجود السجّادة الحمراء التي تفرض تقاليدها أينما أُلقيت.  

المركز التجاري، "مول البحر الأحمر"، الذي كان مسرحاً للكثير من العروض ومحجّاً لكلّ مَن رغب في المشاهدة بعيداً من الصخب، أصبح هو أيضاً من الماضي. فالميدان أصبح يؤوي العروض كافة والعديد من النشاطات مثل الماستركلاسات التي استعانت هذا العام بقامات سينمائية كبيرة بعضها أضيف في اللحظة الأخيرة، في حين تولّى المخرج الأميركي سبايك لي رئاسة لجنة التحكيم (وأعطى درساً ثانياً بعد درس عام 2022). صالات بمواصفات عصرية ودقّة تقنية عالية، بالاضافة إلى أماكن تتيح التجمّع والجلوس، حولّت المكان إلى نقطة لقاء يومية متكررة بين الضيوف والمشاهدين والناس جميعهم. على بُعد خطوات من الميدان، حديقة للسهرات تصدح منها الموسيقى وسوق أفلام يدور فيها العديد من الصفقات. اللافت ان الصالات شهدت تزايداً ملموساً في عدد المشاهدين مقارنةً بالأعوام الثلاثة الماضية. هناك جهد يبذله المهرجان لجذب الشباب واطاحة المفاهيم التي ارتبطت طويلاً بالشاشة. مع ذلك، لا يزال المشوار طويلاً، وطويلاً جداً، لتكريس الثقافة السينمائية وجعلها جزءاً من ثقافة البلاد والناس. وهذا يحتاج إلى العمل الجدي وطول الأناة والاستمرارية

"ضي (سيرة أهل الضي)" للمخرج المصري كريم الشناوي، افتتح دورة كان فيها هذا العام العديد من الأفلام المصرية الواعدة. الفيلم عن طفل نوبي صاحب صوت جميل، يتعرض على الدوام للتمييز والتنمّر بسبب مظهره المختلف. بعد تخلّي والده عنه، لا يبقى أمامه سوى ان يحلم باقتفاء أثر المغنّي محمّد منير. ما ان يحصل ضي على فرصة للمشاركة في برنامج "ذا فويس"، حتى ينطلق هو وعائلته في رحلة محفوفة بالأخطار من أسوان إلى القاهرة، يتخلّلها العديد من التحديات والكفاح من أجل البقاء، بيد ان العزيمة الثابتة بالإضافة إلى صوت ضي، يدفعان بأفراد العائلة إلى الأمام.

عشرة أيام (اليومان الأخيران مخصّصان للجمهور فقط) من الاشتباك مع حكايات تأتينا من العالم أجمع، بالاضافة إلى الخروج الطوعي من المكان والزمان، انتهت بفوز الفيلم التونسي "الذراري الحمر" للطفي عاشور بجائزة أفضل فيلم (من بين 16 فيلماً تسابقت على الجوائز). يتحدّث الفيلم عن مراهق يرعى الغنم مع ابن عمّه في شمال تونس، ويتعين عليه فجأةً اعادة رأس هذا الأخير إلى عائلته، بعد أن يقطعه الإرهابيون. فيلم طرد المشاهدين من جنّة المهرجان إلى بشاعة العالم الذي نقيم فيه.  

مَن لا يرغب في الاطلاع على المزيد عن "البحر الأحمر"، فليتوقّف عند هذا الحد. الأسطر التي سبقت، ليست أكثر من مقدّمة على سبيل اجراء مسح شامل لتظاهرة سينمائية يمكن الكتابة عنها مطولات. المشكلة ان زحمة المهرجانات العربية المجتمعة في هذه الفترة من العام، تمنعنا من الخوض في المزيد من التفاصيل. وأعني بتلك المهرجانات: وهران والجونة والقاهرة و"أجيال" (الدوحة) ومراكش والبحر الأحمر (جدة) وقرطاج. كانت "النهار" حاضرة في معظم هذه المحافل الدولية طوال الأسابيع الماضية للكتابة عن كلّ ما التقطته فيها من مستجد ومثير

أما مَن يرغب في الولوج إلى بعض التفاصيل والملاحظات حول الدورة الرابعة، فسيجدها حتماً. يكفي التمعّن في العديد من الحوارات المفتوحة مع كبار أسماء الفنّ السابع، وفي هذا الشأن لدينا العديد من الملاحظات. الجمهور لا يزال، بلا شك، مستجيباً للقاء شخصيات سينمائية يأتون إلى المملكة، وبلغ عددها في هذه الدورة 23 اسماً على الأقل، وهذا عدد ربما لم يصل اليه أي مهرجان في السابق. مبادرة لا بد انها استهلكت الجزء الأكبر من الموازنة. أذكر هنا بعضاً من هؤلاء: ميشال يو، كاثرين زيتا جونز، سارا جسيكا باركر، براندن فرايزر، مايكل مان، جيريمي رينر، فيولا دايفس وغيرهم. هذا بالاضافة إلى نجوم من الهند وتركيا، وبعضنا ممّن يمارس النقد السينمائي منذ عقود لم يسمع عنهم قط. لكن السؤال الأساسي يبقى: هل تمت الاستفادة من حضور هؤلاء أفضل استفادة؟ وهل بدأ المعنيون يدركون انه بعد ذيوع صيت المهرجان دولياً إلى حد معين، ما عاد من المقبول ان تقتصر نشاطات النجوم على المرور فوق السجّادة الحمراء والتقاط الصور الترويجية؟

شأن آخر ينبغي مناقشته في ضوء مشاركة هذا الكم من الضيوف: تصريحات بعضهم لا تروي الظمأ في بعض الأحيان، اذ نشعر ان الحذر الشديد سيد الموقف عند بعضهم، حذر الانوجاد في بلد لا يعرفون فيه ما هو السقف التعبيري المسموح به. أما عملياً، فصالة "أوديتوريوم" الضخمة التي استضافت بعض الماستركلاسات (دوغلاس وفرايزر) كان فيها الكثير من الكراسي الشاغرة، وحال حجم المكان الضخم دون توفير جو حميمي بين الفنّان والجمهور. في العامين الماضيين، يوم كانت هذه اللقاءات تجري في قاعات المول الصغيرة، حدث تدافع وزحمة وفوضى، فساد جو من الحميمية جراء ذلك. لا يمكن ان أنسى مثلاً الدرس السينمائي الذي قدّمه جاكي تشان وسط هرج ومرج

مع ذلك، لا يمكن الا ان نقر بأن الإتيان بكلّ هذه الأسماء، مع ما تمر به المنطقة من خضّات أمنية متسارعة (سقط نظام الأسد خلال انعقاد الدورة)، أشبه بضربة معلّم، لكن هذا يجب ألا ينسينا ان درس مايكل مان السينمائي كان أشبه بفضيحة، لأن الرجل بدلاً من التحدّث عن مسيرته في مجملها، أصر على الترويج وبطريقة فجّة لموقع إلكتروني أنشأه يحتوي على أرشيف فيلمه الأخير "فيراري" الذي شارك صندوق المهرجان في دعمه. حتى عندما انتقل من المونولوغ الى الحوار، ظلّ يركّز في حديثه على "فيراري"، مع التفاتة خجولة إلى أفلامه الأخرى. ولكن، ماذا لو انوجد من بين الحضور مَن لم يشاهد هذا الفيلم أصلاً؟ ولماذا، بدلاً من "حرارة"، أشهر أفلامه الذي لم يتناوله المخرج في حديثه إلا بشكل عرضي، لم يخطر في بال المنظّمين عرض "فيراري"، كي يصبح الحديث عنه ذا معنى وفائدة.      

على مستوى تشكيلة الأفلام المختارة، هناك كلام كثير يُقال في هذا الشأن، مع التأكيد ان هامشاً من سوء الفهم والوقوع في فخ التنظير، قد يحدث، خصوصاً عندما يتحدّث الناقد من دون ان يكون قد شاهد مجمل الأفلام المعروضة، وهي مهمّة مستحيلة

توزّعت الأفلام التي عُرضت في هذه الدورة على أقسام وفقرات عدة. في المقدّمة، نجد المسابقة التي تُعتبر واجهة المهرجان، ثم يأتي "اختيارات عالمية" (تسمية عجيبة وكأن الأفلام الأخرى "محلية" مثلاً، مع التذكير بتفاهة تسميات مثل "محلية" و"عالمية"). بالاضافة إلى قسمين ثالث ورابع يحملان عنواني "روائع عربية" و"روائع عالمية"، وذلك رغم ان بعض الأفلام المعروضة في هذين القسمين لا يمت إلى الروائع بصلة. أضف أيضاً: مسابقة الأفلام القصيرة، والسينما السعودية الجديدة في شقيها القصير والطويل، المسلسلات، رؤى البحر الأحمر، السينما العائلية، وأخيراً كنوز البحر الأحمر. كلّ قسم من هذه الأقسام من المفترض انه يحمل خصوصية معينة، ولو ان الخصوصيات هذه قابلة للانصهار في ما بينها.

اذا أعفينا تشكيلة الأفلام العربية المختارة من أي قراءة نقدية لمستواها وجدواها، وذلك لكونها خاضعة لمبدأ المحدودية والشحّ، فلا يمكن في المقابل التعامل مع الأفلام التي تأتي من خارج العالم العربي، بالمنطق عينه. فهناك كمّ هائل من الأعمال تخرج من المصنع السينمائي كلّ عام، ومن حق المشاهدين ان "يحاسبوا" المبرمجين على خياراتهم. صحيح ان مجمل البرنامج لا يفتقر في بعض فقراته إلى ما هو جميل ومهم ومختلف ومميز، لكن يسود انطباع عام عند المشاهدين منذ دورات سابقة، بأن العناوين متشابهة إلى حدّ كبير، وكأنها تنهل من الينبوع نفسه، كما لو كان المبرمجون يريدون فرض ذوق أوحد إنطلاقاً من فهم متعنّت للسينما وماهيتها، من دون أي اعتبار للتنوع الذي يُعتبَر من أساسيات أي تظاهرة سينمائية

معظم أفلام المهرجان مصدره آسيا وأفريقيا والمنطقة العربية، وذلك في تجاهل شبه تام لسينمات غربية (أوروبية وأميركية) كثيرة. العام الماضي، صرّح كليم أفتاب (المسؤول عن البرمجة الدولية)، بأنه يعرف متطلّبات الجمهور السعودي، وهو الانطباع الذي يخرج به مَن يعاين تشكيلة الأفلام المختارة. هناك احساس بأن المبرمج يختار نيابةً عن المُشاهد السعودي، متماهياً مع رغباته أو ما يعتقدها رغباته. النتيجة: موجة من الأفلام لسينمائيين جدد غير معروفين، لا يزالون في تجاربهم الأولى أو الثانية، سينما قضايا تمتد بشكل خاص من أقصى آسيا إلى مجاهل أفريقيا مروراً بالشرق الأوسط، وهذا كله يأتي على حساب سينمات ينتظرها المشاهدون السعوديون، وتشكّل أحياناً أولوية لديهم

ليست هناك في مهرجان البحر الأحمر، كما في كلّ المهرجانات، قدرة على مشاهدة أكثر من عدد محدود من الأفلام، خصوصاً ان معظم العروض جرياً للعادة في الخليح تنطلق بين بعد الظهر والعصر. ولأن أفلام المسابقة غير "مضمونة"، يتّجه كثر من المشاهدين إلى أفلام سمعوا وقرأوا عنها عقب مشاركتها في مهرجانات كبيرة ككانّ والبندقية. وهكذا تفرّغ الواحد منّا إلى مشاهدة "كلب أسود" لغوان هو، الفيلم الصيني الفائز بجائزة "نظرة ما" في مهرجان كانّ الأخير، وهو عن حبّ الكلاب وانقاذها (اذا جاز اختصاره هكذا)، يتبلور في سياق عمل مشغول بإتقان يضمن الحركة والتوتر المتواصلين. صحيح، نحتاج إلى شيء من الجهد لمواكبته بمستوى الحماسة نفسه الذي عند الشخصيات، لكن كلّ شيء في الفيلم يشير إلى ان مخرجه، سيكون أحد الأسماء البارزة في السينما الصينية. فيلم آخر من أفلام كانّ، كان له وقع معين على البعض منّا: "سانتوش" للمخرجة البريطانية الهندية سانديا سوري (رشّحته الهند لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي). عن أرملة تضطر إلى استلام وظيفة زوجها في الشرطة، بعد موته، وذلك كي لا تخسر منزلها، لكن المشاكل الكثيرة التي تتعرض لها، ستغدو مناسبة لنكتشف تلك الهند التي لا نراها في أفلام بوليوود

فيلم الختام استعاره "البحر الأحمر" من مهرجان سان سيباستيان السينمائي: "مودي، ثلاثة أيام على حافة الجنون" لجوني ديب، عن جزء من حياة الرسّام الإيطالي الشهير أميديو موديلياني، خلال فترة البوهيمية التي عاشها في باريس. يظهر الفيلم كيف انه لم ينل التقدير المستحق الا بعد رحيله. جوني ديب الذي لا تزال تداعيات الدعوى القضائية التي رفعتها عليه زوجته السابقة تلاحقه، كان شارك بهذا الفيلم في المهرجان الإسباني الشهير، غير ان أصداءه لم تكن إيجابية. لكن هذا لم يمنع المهرجان من استضافته والاحتفاء به، بحضور جوني ديب. للأسف، توقيت العرض المتعارض مع ترتيبات رحيلي من جدة، حال دون مشاهدتي له.

أخيراً، أضحى المهرجان طوال الدورات الأربع الماضية، منبراً للسينما السعودية. مجدداً، فإن تسمية الفقرة بـ"السينما السعودية الجديدة" غير موفّقة، ذلك انها تشير إلى ان هناك سينما سعودية قديمة ويأتي الأحدث ليجددها أو يدفع بها إلى الأمام، كما في حال الموجة الفرنسية الجديدة أو الواقعية الإيطالية الجديدة، الخ. أياً يكن، 22 فيلماً قصيراً و4 أفلام طويلة، هي المحصلة التي خرجت بها السينما المحلية من هذا المهرجان، وهي سينما، كثر يعقدون عليها آمالهم.

 

النهار اللبنانية في

18.12.2024

 
 
 
 
 

مرزاق علواش لـ«الشرق الأوسط»: اقتبست فيلم «الصف الأول» من «السوشيال ميديا»

المخرج الجزائري قال إن أعماله الأخيرة تقدم تشخيصاً للواقع

جدةانتصار دردير

في أحدث أفلامه «الصف الأول» يخوض المخرج الجزائري الكبير مرزاق علواش تجربة سينمائية مغايرة، عبر قصة بسيطة أبهرت الحضور، وأثارت الضحك أثناء عرضها في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، وتكشف عن أزمات يعيشها المجتمع الجزائري، أراد المخرج تسليط الضوء عليها على غرار «هجرة الشباب».

الفيلم الذي شارك بقسم «روائع عربية» بالمهرجان تدور أحداثه في أجواء عائلية كوميدية لأسرة متوسطة تستيقظ مبكراً لقضاء أول يوم في صيف الجزائر على الشاطئ، ترصدهم الكاميرا والأطفال في جلبة لحمل أمتعتهم وملابس البحر، والابنة الشابة تجمع ما سوف تحتاجه لتُعد لهم الطعام طوال اليوم، فيما تستعجل الأم الجميع للوصول للشاطئ مبكراً لحجز أول صف في مواجهة البحر، وحين يصلون ويضعون أمتعتهم تستقر العائلة في مواجهة البحر توقعاً ليوم مثالي ينتظرها بعيداً عن حرارة الجو.

إلا أن الأحوال تتبدل بوصول عائلة ثانية للشاطئ وتقع أزمة كبيرة حول من له أحقية الجلوس في الصف الأول الذي تحاول الأسرة القادمة الاستيلاء عليه، الأمر الذي يقود إلى أحداث غير متوقعة ومواجهات صاخبة بين العائلتين.

الفيلم كتبه مرزاق علواش وتم تصويره كاملاً في الجزائر، ويقوم ببطولته نبيل عصلي، وفتيحة أووارد، وهناء منصور، وبشرى روي، وهشام بن مصباح، إضافة لعدد من الوجوه الجديدة التي يقدمها علواش، حيث حصل الفيلم على دعم من صندوق البحر الأحمر السينمائي وشهد عرضه العالمي الأول مهرجان «تورونتو» خلال دورته الماضية.

المخرج علواش تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن فكرة الفيلم وكيف جاءته، قائلاً: «رغم إقامتي في فرنسا منذ سنوات طويلة، فإني أذهب كثيراً للجزائر لأن أفلامي كلها ترتبط بالمجتمع الجزائري، وأنا مهتم بشكل خاص بقصص الشباب وطريقة تفكيرهم هناك».

وأضاف أنه في أوقات الفراغ يطالع مواقع التواصل الاجتماعي، وقد صادف أن قرأ عن امرأة ذهبت للبحر ودفعت أموالاً لتجلس في الصف الأول، ثم حضرت عائلة أخرى لتجلس في المكان نفسه، مما أوجد إشكالاً بينهما، وأثار جدلاً على مواقع «السوشيال ميديا»، ومنها انطلقت فكرة فيلمه الذي أراد أن يُضفي عليه لمحة كوميدية.

لا ينشغل علواش بتحميل أفلامه الأخيرة رسائل سياسية على غرار بعض أفلامه الأخرى، عن ذلك يقول: «اخترت الحديث عن مشكلات مجتمعية مع وجود مخاوف تتعلق بمشهد العنف بين المرأتين في الفيلم، ورغم أنه مشهد ضاحك لكنه يطرح إشكالية متعلقة بالمرأة، كما تكشف قصة حب شاب وفتاة قضية الهجرة التي تشمل شباب المغرب العربي كله، لذا لا أبعث برسائل بل أقدم تشخيصاً للواقع».

ويطرح الفيلم نموذجاً لفتاة شابة تنشغل طوال الوقت بخدمة أشقائها وعمل الطعام لهم طوال اليوم، وفي سؤاله عن وضع المرأة الجزائرية يقول علواش: «أنا مخرج ولست اختصاصياً اجتماعياً، وليست مهمتي أن أقوم بالتحقيق حول هذه المشكلات، لكنني أصنع أفلاماً ترتبط بالواقع».

وحول اختياره للممثلين في أفلامه، يقول علواش: «لا أفكر في الممثلين أثناء فترة كتابتي للسيناريو ولا أكتب دوراً خصيصاً لممثل محدد، بل أنهي الكتابة وأقوم ببناء الشخصيات أولاً ثم أختار الفنان الملائم بعد أن تصبح الصورة واضحة أمامي».

ويستعد المخرج الجزائري للمشاركة بفيلمه في مهرجان «قرطاج السينمائي» بتونس، ويتحدث عن المهرجان قائلاً: «لقد حضرت إلى هذا المهرجان عدة مرات وفزت من خلاله بجائزتي (التانيت الذهبي) و(التانيت الفضي)، ويسعدني أن أشارك هذا العام بأحدث أفلامي (الصف الأول) كما أقدم (مستر كلاس) لأتحدث مع الشباب التونسي عن السينما، وقد شاركت في عضوية تحكيم قرطاج مرات عدة، ولدي أصدقاء كُثر في تونس، لكن من هم من جيلي أغلبهم توفوا، لكنني سعدت باختيار المخرج فريد بوغدير مديراً لأيام قرطاج السينمائية ويعجبني أنه بصفته سينمائياً يلجأ إلى السخرية كثيراً في أفلامه».

يشار إلى أن المخرج مرزاق علواش يعد أحد كبار مخرجي السينما الجزائرية والعربية منذ انطلقت مسيرته منتصف سبعينات القرن الماضي عبر فيلم «عمر قتلاتو» الذي أثار اهتماماً كبيراً، وتوالت أفلامه، ومن بينها: «مغامرات بطل»، و«حب في باريس»، و«السطوح»، و«مرحباً ابن العم»، و«حراقة»، و«ريح رباني»، كما أخرج أفلاماً وثائقية على غرار «وما بعد الثورة»، و«صوت رمضان».

 

الشرق الأوسط في

18.12.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004