بينما يتشاجر الشاب الفلسطيني القادم من بولندا مع سائق
التاكسي العجوز بعد احتجازهما على أحد المعابر الإسرائيلية، وبينما يسكبان
الماء على بعضهما ويتناحران كطفلين في باص مدرسي، يقف جندي إسرائيلي يحمل
بعض المؤن والأطعمة، ينظر لهما من خلف زجاج التاكسي المغلق عليهما دون أن
يتدخل، كأنه لا يعنيه شجارهما طالما لم يغادرا السيارة، أو طالما كانا
فلسطينيين.
يمكن اعتبار هذا المشهد مفتاح قراءة للفيلم الفلسطيني
القصير «برتقالة من يافا» للمخرج الشاب محمد المغني، الذي يعرض ضمن برنامج
مسابقة الأفلام القصيرة في الدورة السابعة لمهرجان الجونة السينمائي المقام
خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر الجاري.
الهوية بين جيلين
لا يملك الشاب سوى إقامة في دولة أوروبية لا تعد من الدول
الكبرى ولا يحمل جنسيتها حتى، كما لا يملك هوية إسرائيلية ولا تصريح للتحرك
في الأراضي المحتلة؛ وهذا سبب كاف لاحتجازه عند المعبر صحبة سائق التاكسي
العجوز- المخضرم كامل الباشا- والذي تعاطف مع رجاء الشاب له لإيصاله
للمعبر، رغم ما في ذلك من خطورة التعرض للتوقيف.
اختيار الإقامة الأوربية اختيار ذكي دراميًّا وتأويليًّا،
أولا هذا سبب كاف للتوقيف وبالتالي إتاحة مساحة للتفاعل بين الشاب وسائق
التاكسي، وفي نفس الوقت هو تأكيد على فكرة أن الشاب – الذي نعرف أنه من
قطاع غزة بالأساس- لم يحصل على أي جنسية أخرى، هو فلسطيني مقيم في الخارج،
لا هو أوروبي ولا حامل جواز سفر دولة مكتملة السيادة، ولا يحمل حتى تصريح
من دولة الاحتلال التي تسيطر على أرضه وتنفي حقه فيها، يتيح له الحركة في
بلده المنكوب بجيش عنصري.
كان من الممكن أن يختار المخرج أي سبب – من اسباب الاحتلال
الكثيرة في توقيف الفلسطينين داخل أرضهم، إلا أنه اختار السبب الذي يبرز
القسوة والعنصرية، ويعكس كيف يعاني الشاب (الفلسطينيون) من وضعهم الذي فُرض
عليهم قسرًا بأن يحملوا هوية ملتبسة. أما الإشارة لأصوله الغزاوية فهي
بالطبع كافية لأن يتم توقيفه ربما في كل مكان بالعالم وليس في الأرض
المحتلة فقط مع الأسف.
أما سائق التاكسي؛ فقد اختار المخرج – وهو نفسه كاتب
السيناريو- أن يأتي به في شريحة عمرية تعكس أجيال لم تترك الأرض – ربما هو
الشاب في مستقبله لو أنه عاد إلى فلسطين واستمر في العيش فيها حتى مع نكبة
الاحتلال الذي لا يدري أحد متى تنجلي.
اختيار الشريحة العمرية التي تجعل الشاب حفيدًا للعجوز –
وليس ابنا له حتى- هو اختيار آخر يستحق التأمل. لدينا جيلين من الفلسطينين،
جيل الأجداد الذي ربما ولد في عام النكبة أو بعده بقليل، وجيل الأحفاد
الذين يرغبون في العودة أيا كانت أسبابهم، أو حتى الزيارة المستحقة. ولكن
أي لغة مشتركة يمكن أن تجمع الجيلين، وأي أسلوب أو طريقة هو الأنسب في
التعامل مع أزمة معتادة وسخيفة مثل أزمة التوقيف على المعابر؟
العجوز يفهم العبرية ويتحدثها بشكل جيد – بحكم كونه نشأ تحل
ظل الاحتلال- والحفيد لا يجيدها، هو غزاوي ومقيم بالخارج، وهو تأكيد آخر
على طبيعة هويته.
الشاب تنتظره امه المتعبة من مشقة عبور الحاجز – لديها
تصريح- والعجوز ينتظره عمل مهم يكفل له استمرار الحياة في أبسط صورها (عامل
قلب مفتوح ومقدرش اشتغل غير سواق تاكسي)
هكذا يصارح الشاب بعد شجارهم الطفولي في التاكسي، عندما
يلوم العجوز نفسه على اصطحابه رغم علمه بأحتمالية ان يتم توقيفهم.
يقودنا هذا للمشهد الذي أشرنا له في البداية، مشهد الشجار
الذي يراقبه الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح والمحمل بالمؤون؛ هل هي
قراءة من المخرج الشباب لواقع معاش بالفعل أو طبيعة العلاقة ما بين الأجيال
القديمة والأجيال الأكثر شبابًا في فلسطين؟
في فيلم عمر للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، ينتهي الفيلم
بإحدى الشخصيات التي تعرضت لتجربة قاسية وشديدة العنف بأن يطلق النار على
الضابط الإسرائيلي الذي حرضه على أن يقتل صاحبه بحجة الشرف والخيانة، وكأن
أبو أسعد يقول إن الأزمة ليست بين الفلسطينين ولكن السبب فيها هو هذا
المحتل المدنسة إنسانيته.
هنا أيضًا نجد أن الأمر لم يتغير كثيرًا، هذا الجندي الواقف
خلف زجاج السيارة، بسلاحه ومؤونه -المسروق من صاحب الأرض بلا شك- هو نفسه
السبب في هذا الشجار، وهذه الأزمة، وهذا الأذى النفسي والمعنوي والجسدي
الذي يتعرض له الجميع
السائق العجوز الذي انهك الأحتلال قلبه أجرى عملية حساسة
ومهمة – دلالة القلب واضحة بالطبع- لكنه لم يغادر.
والشاب العائد مع أمه لكي يصطحبها لمقابلة خطيبته،
الفلسطينية التي تسكن الأرض المحتلة وليست أي فتاة أجنبية كان من الممكن أن
تمنحه جنسية براقة تحميه من ذل المعابر.
كلاهما، الجد والحفيد، هما ضحية هذا الجندي الذي ينظر
إليهما نظرة مستغربة بلهاء. والشجار نفسه له دلالاته الهامة التي لا يجب أن
تفوتنا دون أن نتساءل عما ورائه.
لماذا يتشاجر أهل البلد الواحد ويشتبكون مع بعضهم في نزاعات
خرقاء بدلًا من أن يوجهوا طاقتهم لأي نوع من أنواع المقاومة ضد المحتل؟ وهل
يصح أن تكون المصالح المعطلة، أو لقمة العيش، أو الزواج المنتظر، أو أي سبب
أخر تبريرًا لأن يشتبك العجوز والشاب في خناقة بين جيلين مختلفين لكن
معاناتهما واحدة؟!
برتقالة يافا
في مقابل مكالمات الشاب لأمه خلال عذاب التوقيف وعصبيتها
بشأن الزيارة والرحلة وانتظارها عند المعبر وخوفها على ابنها من كونه لا
يحمل تصريح حركة ولا جنسية، نجد المكالمة العصبية بين الضابط الإسرائيلي
وأمه التي تبدو قاسية سخيفة كما نكتشف من ردوده عليها. وعلى ما يبدو انه
لولا مكالمة الأم للضابط لما قرر – عشية السبت- أن يفرج عن التاكسي وسائقه
وزبونه المريب القادم كي يجتاز معبرًا بعيدًا عن البلدة المتوجة إليها.
في هذا التضاد قدر من الطرافة وفي نفس الوقت سبب معقول
نسبيا للإفراج عن الشاب، فالضابط منهك من أثر مكالمات أمه اللحوحة
المتتالية، والشاب منهك من أثر عصبية أمه التي ترفض المشوار كله من أوله.
لكن الأهم هو خروج التاكسي والعجوز والشاب من المعبر
وتصالحهما أثناء تقشير برتقالة جميلة وتقاسمها بينما يقول العجوز بفخر وفهم
وحميمية وود وأمل أن هذا برتقال يافا.
برتقالة
يافا هو ذروة فيلم محمد المغني؛ تلك العلامة التاريخية الأشهر التي يجب أن
يجتمع عليها الجميع؛ الأجداد والأحفاد، حتى لو اختلفوا. البرتقالة المقتسمة
بينهما هي التاريخ الطويل وهم المستقبل وفداحة الحاضر المهين والعنصري.
في لقطة سريعة يرى الشاب أثناء توقيفه عائلة من المستوطنين
تمر بسهولة ويسر وحفاوة من المعبر بينما هو محتجز في مساحة ضيقة رغم رحابة
وطنه الجميل.
يقودنا الحديث عن المساحة الضيقة الرغبة التي صاغها المخرج
في أن تكون النسبة الأكبر من الفيلم مصورة داخل التاكسي، بكل ما تحمله هذه
المساحة من دلالة الاختناق والحصار والتموضع في شق نفسي ضيق بالأجبار
والقسر والتهديد.
يبدأ الفيلم بلقطة أولى لجندي اسرائيلي يحرس نقطة مراقبة
عند جدار الفصل العنصري العالي والمشين، وهي لقطة يمكن في كل لحظة ان
نستعيدها أثناء الفيلم لنجد أنها تحمل جيناته، وتتصل عضويًا بكل ما يريد
المخرج أن يشير إليه أو يتساءل عنه أو يطرحه للتساؤل والألم.
وبينما يبدأ الفيلم في أول النهار حيث أزمة الشاب بكل
سخافتها وعنفها المبطن، ينتهي والتاكسي يمر صاعدا الطريق نحو الأعلى في
الليل المحتل لفلسطين الجميلة، والذي تهون ظلمته ضحكة العجوز بعد أن تلذذ
بنصف برتقالة يافا، ملكة البرتقال.
يمكن
اعتبار فيلم «برتقالة من يافا» أحد أهم التجارب التي شهدتها مسابقة الأفلام
القصيرة لمهرجان الجونة هذا العام، وهي تجربة لا تأتي أهميتها فقط من كونها
تتماس مع لحظة آنية مشبعة بالدم ولا لحظة تاريخية لا تندمل جراحها، ولكن
لكونها أولا تطرح اسئلة الحاضر بشكل عميق وبلا ادعاء، وثانيا لأنها تمثل
محاولة الأجيال الجديدة من صناع السينما الفلسطينية أن يضعوا قدمًا على أرض
القضية التي لن تموت، طالما ظل هناك من يرسمها أو يغني لها أو يصنع أفلاما
عنها. |