“حالة
عشق”..
طبيب في غزة يرمّم وجه الدمار بمساحيق حب الحياة
خالد عبد العزيز
غسان أبو ستة طبيب بريطاني الموطن فلسطيني الدماء والنشأة،
إذا نقرنا حروف اسمه بالإنجليزية على محركات البحث العنكبوتية، فستطالعنا
إنجازاته المهنية في طب التجميل، أما إذا كُتب اسمه بالعربية، فما سيظهر
لنا مغاير تماما عما سبق، فما قدمه لإنقاذ ما لا يعد ولا يحصى من جرحى
الحروب الإسرائيلية على غزة، يمثل النسبة الكبرى من فيض المعلومات
الإلكترونية المتدفقة أمامنا على الشاشة.
تشكل تلك الحالة الملتبسة محور أحدث أفلام المخرجة
اللبنانية الفلسطينية المرموقة كارول منصور، في أحدث أفلامها الوثائقية
“حالة عشق: غسان أبو ستة”، وقد اشتركت في كتابته وإخراجه مع رفيقتها منى
خالدي، وحصد بجدارة جائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ45 من مهرجان
القاهرة السينمائي الدولي.
في هذا الفيلم، تستكمل كارول مصفوفة الأفكار ذات الأبعاد
الشائكة الحساسة، والمهمومة على الدوام والاستمرار بطرق دروبها المتشعبة
عبر أفلامها، كقضايا اللاجئيين، وحقوق الإنسان، وغيرها من الاحتكاكات
الفكرية، وإن كان أهم ما يؤرق هذه المسيرة، هو رؤيتها نحو الزمن والذاكرة،
وإشكاليات الهوية.
لا تخرج أفكار الفيلم عن تلك الدائرة، فاستعراض سيرة ذاتية
ثرية المحتوى -كسردية غسان أبو ستة بأوجهها المتباينة- تقع تحت طائلة
التوثيق والحفاظ على الذاكرة والهوية بكل تأكيد، ومن ثم يمكن حصر مضمون
الفيلم بين سياقات تقديم حكاية هذا الطبيب.
خلق الحياة من رحم الموت.. وجوه إنسانية متعددة
لا حدود لشهرة الطبيب غسان أبو ستة عالميا في مجال التجميل،
وترميم جروح ضحايا الانتهاكات الإسرائيلية على حد السواء، ويبدو الفيلم
معنيا بالنفاذ نحو ما يكمن وراء هذه سيرته من روايات مطمورة، عما يدور في
جهنم الحرب الإسرائيلية على غزة، وما يواجه القطاع الصحي في الأراضي
المحتلة، إنها معضلة خلق الحياة من رحم الموت.
بهدوء وسلاسة يقتحم الفيلم (نحو 90 دقيقة) حياة غسان أبو
ستة، فيزيح الستار عن وجوهه الإنسانية المتعددة، ولا يكتفي بالإفصاح عما
يدور خلف كواليس الهجمات العدوانية الإسرائيلية، من محاولات استعادية
للحياة وترميم الجروح بما تيسر من مرافق طبية.
بل يضيف إلى جانب هذه الرؤية الثاقبة أخرى متلصصة على ما
خفي من حياة الطبيب، المدثرة بغطاء ثقيل من الغموض، فهو إنسان في النهاية
ذو حياة بلا شك، حتى إن خرجت من أسر اعتياديتها المألوفة، إلى رحاب
المغامرة.
مزج الخاص بالعام.. خطوط الحكاية المتوازية
يبدأ الفيلم مشاهده الأولى بلقطة مقربة على شاشة حاسوب، ثم
تتوالد الحروف وراء بعضها، مشكلة اسم غسان أبو ستة، ثم يطالعنا منجزه
العلمي والمهني في مجال إجراءات تجميل الشفاه، ثم تلي هذه اللقطات أخرى
كاشفة عن جانب آخر من شخصيته.
فتطفو على الشاشة مشاهد لتفجير مستشفى المعمداني في غزة،
ومن هذا المقطع تتكاثر صور ومشاهد عدة، تكشف توابع الحرب، وما خلفته من
دمار وجرحى لا حصر لعددهم.
وهكذا تتوالى مقدمة الفيلم الأشبه بالتمهيد أو المدخل لما
سنراه لاحقا، فقد غزل الفيلم نسيجه السردي متكئا على جناحين، كل منهما يحمل
ما قدر له من كتلة حكائية، ستتصل فيما بعد مع ما يقابلها، ليبدو الهيكل
العام يدور في فلك المزج بين العام والخاص، وبهذا الاندماج بين العالمين،
يكشف عن شخصية غسان.
تواؤم المتابعة الدؤوبة والرؤوس الناطقة
اعتمد السيناريو على تقديم شذرة من العام، وأخرى من الخاص،
أو بمعنى أكثر دقة، قطعة من تاريخ غسان النضالي في فلسطين، مع ملحقات خاصة
عنه، وإن كان التركيز الأكبر يقع بين جدران السياق العام، حيث استعراض
بطولاته، وتقديم أجواء كفاح القطاع الطبي القابع بداخل أسوار قطاع غزة.
ولتوليف هذه السردية، يلجأ السيناريو لخلق التوازن بين
الأسلوب التقليدي للفيلم الوثائقي، حيث المساحات الأكبر للقاءات المصورة
مباشرة مع ضيوف العمل، وبين الأسلوب الحداثي، حيث المتابعة الدؤوبة
للشخصيات، وكأننا أمام فيلم روائي الهيئة والمظهر.
وبذلك ينصهر الأسلوبان في ثوب واحد، أسهم فيه التداعي الحر،
والاسترسال المتدفق للعواطف والمشاعر الإنسانية، لخلق صورة مقربة وحميمية
لهذا البطل.
فالفيلم رحلة توثيقية لشخصية استثنائية، ولتكتمل معالمها،
فلا بد أن تقام محطات للتنقل من هنا إلى هناك، وتصحبنا خيوط الحكاية من هذه
البلدة إلى تلك، وفي كل منها قطعة تكمل ما جاورها وما بعدها، حتى تلتئم
معالم اللوحة كاملة.
رحلة غزة.. فرحة طفولية بالذهاب إلى قلب المعركة
تبدأ صافرة بداية رحلتنا من لندن، وهي موطن غسان الحالي،
ومنها يصحبنا إلى غزة، ولا سيما بعد مجزرة مستشفى المعمداني، التي جرت
وقائعها منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ثم يعرج على العاصمة الأردنية
عمان، لزيارة الأهل والوالدة، ثم يعود إلى الكويت، حيث مهد الصبا
والمراهقة، وبعد ذلك يرتد مرة أخرى إلى فلسطين.
هكذا يقدم الفيلم دعائم الحكاية، مستندا على الترحال الدائم
الذي يغلف سيرة بطله، فقد شهدت حياته تنقلات عدة، من هذا الغلاف المكاني
إلى غيره، لكن الصفة المشتركة في الرحلة هي العودة إلى الجذور، والبذل من
أجل الوطن، من دون انتظار مردود مقابل.
تصاحب الكاميرا غسان إلى شوارع الكويت، وعندها يخبرنا بصوته
الهادئ عن فراسة والده، التي استبشرت بمستقبله الإنساني والمهني كذلك، وفي
تلك الأثناء يعود السرد الفيلمي إلى غزة، فيطالعنا شريط الصورة بمشاهد وصور
من الدمار الهائل، ونرى بطلنا وهو يرمم جروح الضحايا.
ثم يعود الفيلم إلى زوجته ديما، فتفصح عن فرحة غسان
الطفولية عند الذهاب إلى غزة، وكأنه ذاهب -بحسب قولها- إلى مدينة “ديزني
لاند”، لا ميدان معركة ما تزال نيرانها مستعرة.
“حالة
عشق”.. مريد متصوف في حب المكان
يمكن أن نلاحظ أن هذا التنقل المكاني، ليس إلا تعبيرا
متضمنا عن فكرة الفيلم، الكاشفة عن جانب بطلنا الإنساني والمهني، وبذلك
يتوغل السرد في مسار الشخصية، فهي على حلّها وترحالها الدائم، لا همّ لها
ولا حب يضاهي عندها محبة فلسطين.
وحينها يمكننا الوصول إلى مدلول عنوان الفيلم، إنها “حالة
عشق” كبيرة وطاغية لهذا المكان، وعندئذ يبدو غسان كالمريد، الذي يستجيب
لنداءات شيخه الدائمة والمتكررة، فالفيلم يرصد تلك الحالة الشفافة من الحب
والحنين العميق لفلسطين، الأقرب إلى الحالة الوجدانية الصوفية، أو بمعنى
أكثر رحابة، الفناء في ذات المحبوب.
تُرى هل يستحق هذا المحبوب كل هذا القدر الذي لا يتناهى من
المحبة؟
تكمن إجابة السؤال بين جدران المقاطع المتناثرة على طول
الشريط الفيلمي، التي يطالعنا فيها غسان خلال مراحل عمره المتباينة، شابا
كان أو كهلا.
ففي كل هذه المشاهد يقدم على بذل مزيد من الجهد، لإنقاذ ما
تيسر من ضحايا العدوان الإسرائيلي، فكلما انطلقت شرارة قذائف الحرب يصبح
أول المتطوعين في القطاع الطبي الفلسطيني، معبرا عن شخصية فاعلة ومؤثرة
داخل معادلات الصراع، لا مفعول بها.
استعراض بطولات الأطباء الخفية.. لب الفيلم
يصحبنا الفيلم إلى لب جوهره وموطن مضمونه، حيث استعراض
بطولات الأطباء المستترة في ترميم الجروح، ومحاولة بعث الحياة من ركام
الموت، الذي تتفشى رائحته في الأجواء.
فينطلق شريط الصورة بالتوازي مع تعليق غسان الصوتي، كاشفا
عن ما خفي من تفاصيل، لا ما جرى في أروقة المستشفيات والمراكز الطبية، بل
يمتد الحكي إلى سرد وقائع الإبادة الإسرائيلية الممنهجة لكل معالم الحياة
في غزة.
فقد ساهم المونتاج الخلاق في إيصال المعنى المراد بحساسية
وذكاء، فيستعرض ذاكرة الأماكن المدمرة قبل الحرب وبعدها، ومن ثم يمكن حينها
بيان مدى فداحة تلك الحرب، التي تنوعت ضحاياها من البشر إلى العمران.
وبذلك تصبح رسالة الفيلم جلية واضحة لا غبار عليها، فإزاحة
هذا الستار الكثيف سينمائيا عن هذا الخراب، يسهم في الإبلاغ المباشر عما
يدور في الداخل، وقد لا ترصده كاميرات وكالات الأنباء.
ومن ثم يثقل الشريط الفيلمي ومضمونه، ويضفي عليه قيمة
مضاعفة، سيزداد تأثيرها طرديا مع مرور الزمن، ليصبح الفيلم وثيقة بصرية عن
هذه الإبادة العرقية، التي تحمل بين طياتها أكثر من مغزى، ويتضح أنها ليست
حربا انتقامية فحسب.
ما وراء الإبادة.. حس فلسفي بين ثنايا الفيلم
يطالعنا وجه غسان وهو يسرد قبسات متناثرة من ذكرياته، كل
منها مطعّم بتنويعة مختلفة من الألم، يبدأ مسار الحكي من التفجيرات المنظمة
المقصودة للمستشفيات والمراكز الصحية، فنرى منهجية تدمير كل ما يتعلق
بالصحة، أو بمعنى أكثر رحابة باستعادة الحياة، فالواقع أن العدو يرى هذه
الصروح الطبية نوعا من المقاومة وندية الموت.
ومع توغلنا على نحو أكثر بين طيات السرد، نجد أن شيفرات
الفيلم تكمن في فهم المغزى فيما وراء هذه العمليات الحربية المتوالية، فيصف
غسان إسرائيل بالقاتل المتسلسل، الذي يتتبع ضحاياه بنهم وشراسة تخلو من
الرحمة.
وهكذا يرسم الكيان الصهيوني بأفعاله غير المبررة صورة ذهنية
مقصودة تمام القصد والتأكيد، بأن القوة الغاشمة هي اللغة الوحيدة المعتمدة
للتواصل والفهم، وأن ما يقبع خلف هذه الإبادة، ليس الرغبة في إزاحة الطرف
المقابل من المشهد فحسب، بل بث تلك الهالة المدججة بادعاءات الغطرسة وما
يرافقها من تعالي وكبر، لكن الحقيقة هي أن البنيان ذاته يعاني من الارتخاء
والهشاشة.
ومن ثم يبدو الفيلم محملا بحس فلسفي تأملي، يفصح قدر
استطاعته عما يجري، لكنه بجانب هذا البوح يمارس دوره المضاف إليه، في تقديم
رؤية ثاقبة المحتوى عن لغز استمرارية آلة الحرب، من غير إشارة مرتقبة توحي
حتى بالوقوف المؤقت.
رجل العائلة.. إنسان يحمل بداخله مشاعر مستعرة
مع المشاهد الأولى من الفيلم، نتابع مخرجتي العمل كارول
منصور ومنى خالدي، أثناء زيارتهما لمنزل العائلة في عمان، ومع تقدمنا في
الحكي، نرى غسان في حوارته المباشرة والعفوية أمام الكاميرا، ثم نتنقل معه
إلى الكويت، ثم نعود إلى لندن، وفي كل تلك المشاهد تفصح الشخصية عن ذاتها.
وكلما توالى السرد إلى الأمام، تحرر بطلنا من ذاته على نحو
أكثر حرية، وبذلك ينكشف الوجه الآخر المتواري خلف تلك الروح الفدائية،
فالعلاقة الإنسانية الشديدة الخصوصية بينه وبين أفراد أسرته، تكشف عن زوج
وأب ناجح من الطراز الأول، فلم تؤثر روحه المتوثبة نحو التنقل والترحال من
مكان إلى آخر، على أدائه الأسري.
ترافق الكاميرا العائلة داخل المنزل، فتسجل وتقتنص كل خلجات
يومهم، نرى خلالها إطار العلاقة بين الأب وأبنائه من ناحية، والزوج وزوجته
من ناحية أخرى.
ومن ثم يمكن الإمساك بتلابيب الشخصية وفق صورتها الكاملة،
بكافة سياقاتها المهنية والأسرية، التي إن كشفت عن شيء، فلا أعمق من أننا
أمام إنسان، يحمل بداخله جمرة مستعرة من المشاعر، يفيض بها من دون شح ولا
بخل.
شعب لا يجد من أدوات الحرب إلا الصمود
بما أن السينما الوثائقية دوما ما تملك الوجه الناصع من
الحقيقة، فإن فيلمنا يقدم حقائقه مجردة بعيدة عن أي رتوش تجميلية، وإن كانت
الملحقات الذاتية والأسرية لشخصية غسان، قد أسهمت -ولو بقدر يسير- في تخفيف
وطأة مشاهد جرحى الحرب الإسرائيلية وضحاياها.
لذلك بدا إيقاع الفيلم وهيكله العام متوازنا بدرجة كبيرة،
وقد أضفى هذا التوازن على النسيج السردي حساسية وشفافية، جعلت الفيلم وثيقة
تأملية، لا تخلو من الجاذبية الفنية، ولا من المباشرة السياسية المطلوبة
أحيانا.
وفي هذا السياق، نذكر مصطلح “جماليات الجوع”، الذي أطلقه
المخرج الوثائقي البرازيلي “جلوبير روشا”، بعد أن صعدت -في الستينيات- موجة
الأفلام الوثائقية، التي تفصح عدسات كاميراتها عما يدور في البرازيل، من
تطورات وظروف اقتصادية بالغة الصعوبة.
والحقيقة أن هذه المقولة تبدو قريبة بدرجة أو بأخرى من
فيلمنا، فالجماليات المرصودة هنا لا علاقة لها قطعا بالجوع أو النهم البشري
إلى الطعام، بل جمال بزوغ الصورة الواقعية الحقيقية، الكاشفة بجلاء لا يقبل
الشك أو التأويل، عن معاناة شعب لا يجد من أدوات الحرب إلا القدرة على
الصمود بحب الحياة.
وما الحياة إلا سلسلة متصلة من العقبات، ولكل عقبة منفذ آمن
للخروج. |