ملفات خاصة

 
 
 

"العام الجديد الذي لن يأتٍ أبداً":

عن سقوط ديكتاتور

محمد صبحي

القاهرة السينمائي الدولي

الدورة الخامسة والأربعون

   
 
 
 
 
 
 

في لقاء معه عام 2019، بمناسبة عرض فيلمه القصير "هدية عيد الميلاد" في الدورة الـ31 (1 ـ 9 فبراير/شباط) للمسابقة الدولية في "مهرجان كليرمون فيران للفيلم القصير"، قال الروماني بوغدان موريشانو بوضوح شديد إنّ الأفلام التي يحبّ إنجازها تنطوي على مواضيع جادّة للغاية، وإنْ تناولها بكثيرٍ من الفُكاهة السوداء.

في فيلمٍ قصير له بعنوان Tuns Ras Si Frezat ("حلق مطحون" ترجمة حرفية للأصل الروماني، 2013)، يلتقي حلّاقٌ بمعذّبه السابق الذي يدخل إلى محلّه ليحلق ذقنه. الآن، يروي قصّة عائلة كان عليها، عشية عطلة عيد الميلاد، أنْ تتعامل مع زندقة ابنها الصغير، الذي طلب في رسالته إلى سانتا كلوز أنْ يموت العم نيكولاي، كما تمنّى والده. بعد إدراك والد الطفل أنّ هذه الرسالة البريئة ستقرؤها الشرطة السرية، خطّط لـ"سرقة" صندوق البريد الذي وضع فيه الصبي رسالته المشؤومة.

هذه القصة والفيلم القصير يمثّلان اللبنة الأولى لـ"العام الجديد الذي لم يأتِ أبداً" (2024)، أول روائي طويل لموريشانو، الذي أضاف شخصيات أخرى عدّة إلى الظاهرة سابقاً. يتعيّن على الجميع التعامل مع ديكتاتورية نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا، قبل أيامٍ على نهاية العام، في شوارع مضطربة تشهد بشائر ثورة. ستّ حيوات/مقاطع تختلف بشكل ملحوظ في النبرة والبنية (شخصيات منتقاة يُفترض بها أنْ تعكس سقوط النظام من منظور طبقات اجتماعية مختلفة)، وتتكثّف في 24 ساعة قبل سقوط 20 ديسمبر/كانون الأول 1989، بهدف الجمع بين صورة معاصرة وبانوراما سياسية.

"العام الجديد..."، الفائز بجائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم في الدورة الـ45 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي"، بعد فوزه بجائزة أفضل فيلم في مسابقة "آفاق"، في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا"، يبدأ بفريق تلفزيوني في حالة ذعر. يجب إعادة تصوير برنامج عيد الميلاد الاحتفالي الذي سجّلوه، لأنّ الممثلة الرئيسية هربت من البلد، والسلطات تطالب بإعادة إنتاج العرض. في هذه الظروف، يبحث ستيفان (ميهاي كالين)، منتج البرنامج ومخرجه، الذي يطمح ابنه لورينتيو (أندريه ميركوري) أيضاً إلى مغادرة البلد، عن امرأة تشبه الممثلة التي صوَّرها، فيعثر عليها في فرقة مسرحية. لكنْ، هناك مشكلة: هذه الممثلة، فلورينا (نيكوليتا هانكو)، ليست من محبّي تشاوشيسكو أيضاً، ما يُصعِّب إكمالها مهمّة، تتضمّن قراءتها نصّاً يمدح شخصية الديكتاتور، ويصفه بأنّه "ابن الشعب المحبوب".

تظهر شخصيات أخرى، كمارغريتا (إميليا دوبرين) التي سيُهدم منزلها مع بقية منازل الحيّ، في فيلمٍ يختار حجم 4:3 لتأطير كادراته، مُستحضراً شاشة البثّ التلفزيوني في ذلك الوقت، وأيضاً لإحاطة الشخصيات جمالياً بالطبقات المختلفة للقمع، التي يشعرون بها في حياتهم اليومية. استخدام موريشانو للألوان يُمتِّن هذا الارتباط بالماضي، بينما الموسيقى والتوجيه الفني يُعيدان المُشاهدين إلى أوقات الشعور بأنّ الديكتاتورية الشيوعية تلفظ أنفاسها الأخيرة.

كما في أفلامه القصيرة السابقة، يُنجز بوغدان موريشانو عملاً رائعاً في جمعه بين الدراما والتوتّر والفكاهة: "عشتُ هذه الأشياء. كنتُ صغيراً جداً، لكنْ لديّ ذكريات. أما عندي، فكان كلّ شيء عبثياً وغير مفهوم. خاصة خوف الكبار. كانت رومانيا بلد الهمسات، ولم أفهم السبب في ذلك الوقت"، بحسب ما قاله في لقاء 2019 . كلمات يُمكن تكرارها بسهولة في فيلمه هذا، الذي بلغ ذروته بالثورة والصورة الشهيرة لتشاوشيسكو، والأخير، رغم دعوته إلى مظاهراتٍ لدعمه، انتهى به الأمر إلى أنِ ابتلعه حشد الثائرين، قبل إعدامه مع زوجته إيلينا، يوم عيد الميلاد عام 1989.

في القاهرة، التي لم تخرج بعد من نفقها وتبحث عن ثورة خلاص، لم تكد تظهر تترات نهاية "العام الجديد الذي لم يأتِ أبداً" على الشاشة حتّى ضجّت صالة العرض الكبيرة بدار الأوبرا المصرية بالتصفيق لصُوَر بداية الانتفاضة الرومانية. كانت هناك دموع، تماماً كدموع فلورينا. دموع تلخّص عقوداً من القمع وتطردها. كلّ هذا مدفوع بموسيقى "بوليرو" موريس رافيل، مع مونتاج يربط بين الشخصيات والقصص، ويخاطب العواطف والحواس.

يقدّم موريشانو فيلماً جميلاً، من شأنه أنْ يثير في بلدان كمصر التي تعيش إحدى أسوأ فترات تاريخها، ردود فعل عاطفية، ويعيد تأكيد تشابه الديكتاتوريات، وتكرار التاريخ لنفسه.

 

العربي الجديد اللندنية في

11.12.2024

 
 
 
 
 

السوريون.. ولغة الفن: من الحدود و أيام الخوف إلى «التغريبة الفلسطينية»

بقلم ماجدة موريس

منذ ما يسمى بثورات الربيع العربى تعثر الانتاج الفنى السورى الكبير، والثري، فى العقد الأخير لدرجة لا تقارن بما قبل سنوات (الربيع العربي) من انتاج لاعمال كبيرة ومهمة وقوية، صحيح ان انتاج الأفلام السينمائية قل، خاصة الأفلام الروائية الطويلة، ولكنها مع ذلك كانت دائما معبرة عن الأوضاع السورية اقتصاديا وإنسانيا، وهو ما رأيناه عبر مهرجانات السينما المصرية، خاصة مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط الذى كان يحتفى دائماً بالفيلم السوري، ويكرم صناعه، وفيه قدم الفنان الكبير دريد لحام عدداً من أهم افلامه مثل (الحدود) و(التقرير) وكان آخرها (دمشق حلب) عام 2018 الذى قدم من خلاله احداث الحرب فى دمشق فى أيام الربيع العربى من خلال قصة أب يعيش وحيدا منعزلا فى بيت يمتلكه فى منطقة ريفية بينما تعانى ابنته الوحيدة من وجودها فى مدينة حلب المحاصرة، وحين ينتهى الحصار يجرى لزيارتها لنرى من خلاله ماذا حدث للمدينة الجميلة، وكيف حولها الحصار إلى شبه مدينة يعانى سكانها كثيرا فى البحث عن الأمان، وعن الغذاء، وعن من تغيب منهم ولم يعد إلى عائلته، فيلم مهم ومؤثر أخرجه مخرج قدير هو (باسل الخطيب) الذى رأينا له ايضا افلاماً اخرى مهمة منها (حارس القدس) عن المطران ايلاريون كبوتشى الذى اعتقلته اسرائيل لدفاعه عن حقوق الفلسطينيين وافلام (السوريون) و(الاب)، (الاعتراف) ومسلسل عن حياة الرئيس عبدالناصر عام 2008 (ناصر) للكاتب الكبير الراحل يسرى الجندى ومن المدهش هنا ان مخرجا سوريا كبيرا ايضا هو (أنور قوادري) اخرج فيلما ايضا عن حياة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1999 قام بكتابته وكتب له الحوار عادل الميهي، وانه بعدها اتجه إلى المسلسلات ومنها مسلسل مهم عن حياة العرب الذين تركوا بلدهم وأقاموا فى بلاد اخرى وهو مسلسل (عن عرب لندن).

بفيلمه (نسيم الروح) بدأت معرفتنا بالمخرج السورى الكبير عبداللطيف عبدالحميد لتتوالى أفلامه الرائعة فى مهرجانات مصر، وفى مهرجان دمشق السينمائى الدولى الذى كان مهرجانا مهما لصناع السينما العرب وللنقاد ايضا، ولنتابع أعمالاً مهمة كتبها وأخرجها مثل (ما يطلبه المستمعون) و(ليالى ابن آوي) و(رسائل شفهية) وغيرها من افلام قدمت الحياة فى سوريا بأسلوب بارع مزج بين الشخصى والعام ببراعة، وقبل هؤلاء رأينا افلام المخرج الرائد محمد ملص بدءاً من (أحلام المدينة) والمخرج عمر أميرالاى وأفلامه الوثائقية ومنها (الحياة اليومية فى قرية سورية).

لعل الكثيرين من المصريين والعرب يعرفون جيدا الدراما السورية التى ازدهرت كثيرا فى حقبة الثمانينات وما بعدها، واصبحت المنافس الاول للدراما المصرية، بل ان الدراما السورية استطاعت التفوق فى تقديم المسلسلات التاريخية لاسباب عديدة منها الانتاج الكبير وأماكن التصوير والثراء الدرامي، وغير الاعمال التاريخية قدمت الدراما السورية اعمالاً اجتماعية ووطنية مهمة مثل مسلسلات: (أهل المدينة) (وعصى الدمع) (ورياح الخماسين )، (وغزلان فى غابة الذئاب)، كما قدمت أهم مسلسل عن القضية الفلسطينية وهو(التغريبة الفلسطينية) الذى قدم عام 2004 رؤية مهمة لما حدث فى فلسطين قبل عام النكبة وقت الاحتلال الإنجليزى تحت اسم الانتداب، وتبدأ احداثه من الثلاثينات من خلال اسرة ريفية فلسطينية فوجئت بمن يهاجمها ويطردها من بيتها حين سهلت انجلترا لليهود الدخول إلى فلسطين وطرد أهلها ليذهبوا إلى المخيمات. وهو ما تتبعه كاتب المسلسل وليد سيف لسنوات طويلة حتى يوثقه فى احداث درامية، ويعرض بعد ستة عشر عاما باخراج حاتم علي، ليحصل عام 2005 على أهم جوائز مهرجان القاهرة للإذاعة والتليفزيون للكتابة والإخراج والتمثيل للرجال (جمال سليمان) والنساء (چولييت عواد) حيث قالت حيثيات الجائزة انه الى جانب تقديمه القصة الحقيقية لما حدث فى الثلاثينات من القرن الماضى فقد تتبع مصائر المطرودين من الارض وكيف كافح الفلسطينيون للبقاء على قيد الحياة فى ظل الانتداب البريطانى من الثلاثينات، ثم النكبة وقيام دولة اسرائيل إلى النكسة فى الستينيات، ومن المؤكد اننا نحتاج لجزء ثان من المسلسل ليطرح ما حدث ويحدث لأهل غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، وحتى الآن.

 

الجمهورية المصرية في

12.12.2024

 
 
 
 
 

غزة التي تطل على البحر”.. وثيقة سينمائية لحياة دمرتها إسرائيل

حسام الخولي

ثمة تصوّر ديني وأدبي، يتناقله المهتمون بتأصيل الحكايات الفلسطينية المتنوعة، يقول إن الزيتون الموجود في القدس كان مذاقه حلوا، لكنه اكتسب مرارته في الليلة التي بكى فيها المسيح وقت وحدته.

فقد امتصت أشجار الزيتون أوجاعه، وأكسبته تلك المرارة إلى الأبد، فصار الزيتون في معادلة عكسية صنعها هذا البكاء، من الحلاوة إلى المرارة القاسية.

وعلى ما لتلك القصة من بعد أسطوري، فإنها تصلح مجازيا للتعبير عن التغير الجذري، الذي ستعيشه القضية الفلسطينية لاحقا، أو ربما تعبيرا عن الوضع الذي يعيشه أهلها، الذين يهدفون السلام وينشرونه، في حين تلاحقهم آلة القتل بكل مكان. تماما كما حدث في فيلم “غزة التي تطل على البحر”.

ففي مقابل عدد غير قليل من الأفلام الفلسطينية التي عرضت في الدورة المنصرمة من مهرجان القاهرة السينمائي، جاء الوثائقي الطويل “غزة التي تطل على البحر” للمخرج محمود نبيل أحمد، ليقدّم خطابا مغايرا تماما بشكل ما.

احتفى المهرجان هذا العام بالمقاومة في كل زاوية وفاعلية، وقدّم عددا كبيرا من الأفلام التي تتحدث عن القضية الفلسطينية، قبل عدوان السابع من أكتوبر المستمر حتى الآن وبعده، سواء كانت أعمال طويلة أو قصيرة، روائية أو وثائقية.

هذا الحماس تجاه الأفلام الفلسطينية وصل إلى ذروته ربما. يقول مبرمج الأفلام العربية للمهرجان محمد نبيل، إنه فيلم الافتتاح الفلسطيني “أحلام عابرة” كان داخل المسابقة، وذلك شيء مختلف عن المعتاد للمهرجان، فقد كان يجعل فيلم الافتتاح خارج المسابقة.

يوميات غزة قبل حرب الإبادة

عرضت أغلب الأفلام المأساة التي تعيشها غزة وفلسطين، وكلها نتيجة الإجرام الصهيوني، وجاءت في سياق قصص متنوعة، لكن فيلم “غزة التي تطل على البحر” اختار نقل الحياة الطبيعية في غزة قبيل الحرب، حيث الحياة العادية التي كان يعيشها الناس، قبل أن تأتيهم الإبادة الجماعية في كل مكان، حتى في المخيمات والمستشفيات وغيرها.

يدور الفيلم حول 4 رجال يعيشون في قلب القطاع، يسيرون جميعا في مسارات متباينة، بحثا عن تعريفاتهم الذاتية للوجود، وتتداخل مصائرهم وسط تعقيدات الحياة والحب والبقاء.

يقدم الفيلم حياتهم في أمان تام، فينزع صورة الدمار من الشاشة، ويعيد وضع الحياة في غزة ما قبيل الحرب، ليسرق خيالات أحداث كانت مستمرة حتى أوقفتها إسرائيل.

الاستثنائي في العمل أنه وثق هدوء ما قبل العاصفة

بدا الفيلم سينماتوغرافيا صامتة عن حياة الناس الطبيعية هناك، من المشهد الأول الذي يركّز على طفل يتجهّز للذهاب إلى مدرسته، بمصاحبة كلمات المعلِّقة الصوتية التي تقول: هذا الفيلم يحكي عن غزة.. متخافش، ركز مع الشاشة واتخيل حالك هناك.

فهي تنقل صورة لم تعد تقريبا في الأذهان، بعدما تراكمت صورة الدمار القادمة من هناك، التي لم يعد الإعلام يستطيع توثيقها كلها حتى.

يبدو هذا الطرح البصري اللافت للأنظار واقعيا، وقد عكس واقعا حقيقيا، لكنه لم يعد معاشا على الإطلاق اليوم، وربما كانت تلك النقطة منطلق التأمل في المادة نفسها، التي يقدّمها الفيلم على مستويات شتى، لا سيما إذا رأيناها وثيقة خرجت من تلك اللحظة الصعبة.

يقول المخرج محمد أحمد في حوار مع الجزيرة الوثائقية: في ذلك الوقت لم نوثق الموت، بل وثقنا الحياة اليومية البسيطة، التي يعيشها الإنسان الغزي، وقد لا يعرف عنها العالم شيئا، وإنما يرى الحلقة الأخيرة من حياتنا، التي تتلخص في قتلنا.

ثم يقول: بعد عام من تصوير هذا العمل، قتل الاحتلال الحياة البسيطة التي كنا نعيشها، لأن هذا العالم استكثر علينا تلك الحياة. وكان الاستثنائي في هذا العمل أنه وثق هدوء ما قبل العاصفة، هدوء 17 عاما من الحصار والقصف والقتل المتواصل، ومع ذلك فقد خلق المجتمع الغزي جميع أنواع الحياة التي يستطيع الإنسان تصورها، وخلق جمالا داخل ذلك المحيط الضيق.

صورة النصر هي غزة خالية من السكان

ما الذي يبدو مهما في فيلم مثل “غزة التي تطل على البحر”؟

ربما إعادة تخيُّل وضع ينبغي أن يعود مرة أخرى. فلو كانت الدعايات التي تحدث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” بأن “صورة النصر هي غزة خالية من السكان”، فلربما تبدو تلك المشاهد في الفيلم وثيقة حربية خطابية، تقول إن صورة النصر الحقيقية في حياة سكان البلد الحقيقيين.

لم يستطع المخرج الوصول إلى موطنه غزة، طوال زمن الدراسة للماجستير، التي استمرت 6 سنوات متواصلة في تونس، لكن حين أتيحت له الفرصة، بدأ بإطلاق ورشات سينمائية لمحبي صناعة الأفلام، وكان ذلك نواة فيلم “غزة التي تطل على البحر”، الذي يكشف أمنيات سكان غزة بالحرية.

يضيّق الفيلم قصته على غزة، فتظهر مدينة معزولة عن كل شيء حولها، قادرة على ابتلاع الجميع بسحرها.

يشرح المخرج وجهة نظره، قائلا: إن الخطاب في هذا الفيلم يتماشى مع الأعمال الفلسطينية، التي تدعم سرديتنا في مجابهة سردية المحتل، فمنها ما يظهر الصمود، ومنها ما يظهر الحب، ومنها ما يظهر المقاومة، ومنها ما يظهر الحياة العادية، وفي تلك الزاوية أرى أن هذا العمل سيضيء مصباحا صغيرا على نوع من أنواع الحياة، التي يعيشها الفلسطيني في يومه، وهو أنه ليس ميتا على الدوام، بل أحيانا يعيش.

جميع الأماكن التي صورناها قد دُمرت

في كل مساحة من الحوار، نحاول معرفة السبب الفني، الذي جعل المخرج يختار عدم توثيق الدمار، حتى على سبيل تسجيله في نهاية الفيلم، ويحكي أنه لو أراد إعادة التوثيق، فسيكون ذلك عائقا فنيا أمامه نوعا ما.

يقول: لن نرى سوى الدمار، لأن جميع الأماكن التي صورناها قد دُمرت، وجميع من شاركوا في توثيق هذا العمل قد دمرت منازلهم، ونزحوا من بناية تلو أخرى، وبعضهم قد استُشهدوا. لذلك إن أردنا إعادة التوثيق، فسنرى الغبار والركام الذي بقي من ذكرياتنا.

يضع الفيلم خطابه من خلال 4 أبطال مختلفين تماما في العمر والصفات؛ فعجوز متقاعد خفيف الظل مع زوجته، وحارس شاطئ على البحر، وصاحب إسطبل خيل، ومدرّب موسيقي تبدو أصوله غير فلسطينية، لكنه يقيم هناك.

إنهم فضل سرور، وعبد العزيز جاد الحق، وعبد العزيز صبيح، وحمدي الغرة، 4 رجال يعيشون بحرية تامة، وتجاهل تام للدمار والحرب.

 متنفس البحر.. بطل يكسر أسوار سجن غزة

لا يتحرك الفيلم كثيرا على مستوى الأحداث أو الحبكة، بل يبدو بلا حبكة، فنراه يتابع أو يتأمل حياة أناس يمارسون حياة طبيعية، وسط أخطار ستتضاعف بعد أيام من التصوير. تبدو تلك القصة بذاتها محفّزة للمخرج، كي توثّق من قريب.

ويبدو البحر هو البطل الذي تتحرك حوله الشخصيات كلها، فهو الجامع الأكبر لهم؛ من الرجل الذي يعمل حارسا له ويراه يوميا، إلى الرجل المسنّ الذي تتقاطع حكاياته مع البحر.

ربما بنفس القدر من الأهمية، يبدو البحر لكل أهل غزة مرتكز الحوار والتنفّس، ويوسّع وجوده مساحة غزة ذاتها، التي يسجنها احتلال لا يترك أهلها يتحركون، فيفتح البحر مساحة للتخييل والتفكير في مدى متجاوز للواقع الأسير، الذي يحتاج للتحرر دائما.

حميمية تعطيها الحرب معاني كبرى

كل المشاهد التي تراها في الفيلم تبدو عادية، إلى أن تعيد تخيل وجودها في مدينة تعيش حربا دائمة، وتعيش الآن في إبادة شاملة منذ أكثر من عام، فتحولت من عادية إلى أحداث أشبه بمعجزة.

فكيف تستمر ضحكات هؤلاء وحياتهم، في حين أن الموت اليومي يتربص بهم. توثّق المشاهد الحياة بعيدا عن صورة الموت المستمر.

يعرض الفيلم مشاهد حميمية تعطيها الحرب معاني أوسع وأكثر تأملا، منها حضور أحد الأفراح، وتفكير أحد الآباء بشراء هاتف جديد لابنه، ورجل يتخيل الحب أمام البحر.

لكن التساؤل الكبير الذي يطرحه الفيلم هو: ما الذي يجعل بعض الناس في غزة يتحدثون عن حياة لم تعد موجودة؟

لو عاد بي الزمن لوثقت منزلي وشارعي وحارتي 100 مرة

في ختام حديثه يقول المخرج محمود نبيل أحمد: من وجهة نظري، فإن المسار الفني الفلسطيني في المستقبل يجب أن يتسم بالوضوح تجاه هذا العالم، الذي ينظر لنا بعين الاحتقار والعنصرية، وألا نضع مساحيق تجميل على أعمالنا الفنية لتتناسق مع معاييرهم الكاذبة، بل نروي سرديتنا بالطريقة التي نراها، والتي تعبر عن حياتنا التي نعيشها، وإن لم يكترثوا، فما الفرق ففي كلتا الحالتين؟ إنهم يشاركون في قتلنا ويتفرجون أيضا.

ثم تحدث عن رغبته بتوثيق الأماكن قائلا: لو كنتُ أعلم ما يخبئه المستقبل لنا، لصورت كل زاوية في قطاع غزة. ولصورت مدينتي التي أنا منها، وتسمى الزهراء، وهي مجاورة لمحور نتساريم العسكري، ولكنها دُمرت بالكامل. وكانت أول بناية تدمر فيها هي البناية التي تقطنها أسرتي، لذلك فلو عاد بي الزمن، لوثقت منزلي وشارعي وحارتي 100 مرة، ولكن الآن لا نستطيع، هي فقط ذكرى مكومة على الأرض من ركام وإسمنت.

وثيقة تؤرخ للحياة التي سُرقت أمام أعيننا

في النهاية، لا يبدو الفيلم -على أي صعيد- متجاهلا تماما للدمار، بل يقف خطابا ضديا للحياة التي سُرقت أمام أعين الجميع، بل إن صنّاعه أنفسهم قد مات بعضهم أثناء عرض الفيلم في القاهرة، وهم في داخل الإبادة التي واجهت كل فلسطيني في الداخل.

وربما يكون ذلك هو ما يجعل الكتابة عن الفيلم تبدو شديدة الأهمية، فهي تعطي صورة أوسع، ووثيقة تاريخية لاحقة للظروف التي خرج فيها ذلك الفيلم، بقصته البسيطة الآمنة، في لحظة لم تراع أي شيء لأي فلسطيني.

فيلم “غزة التي تطل على البحر” مع هدوئه وبساطته الشديدة التي جعلته بمنزلة الحلم، هو إدانة غير مباشرة للدمار المستمر الذي يحدث للبلد، وسط صمت عالمي، ويشرح بخفّة فائقة ما كانت عليه حياة الناس، قبل أن يسحقها الصهيوني في كل سياقاتها.

 

الجزيرة الوثائقية في

12.12.2024

 
 
 
 
 

الفائز بجائرة الهرم الذهبي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الـ 45

الفيلم الروماني العام الجديد الذي لن يأتي أبداً ـ للمخرج بوجدان موريشانو

The New Year That Never Came

كاظم مرشد السلوم

التاريخ 1989، قرب انتهاء حقبة حكم نيكولاي تشاويشسكو،  بدء انتفاضة مدينة تيميشوار، بوخارست العاصمة بعيدة عن الاحداث، لكن التوتر والخوف يسيطر على الناس، مع قوة البطش الذي تمارسه القوى الأمنية.

العنوان

العام الجديد الذي لن يأتي أبداً هو عنوان يشير الى ان هذه العام قد لا يشهده تشاوشيسكو، وقد يشهد قمع واغتيالات بسبب الاحداث المناوئة لحكومة الدكتاتور، أو ان الشعب لن يشهد هذا العيد بأمان، أذن ما الذي سيشهده العام الجديد فيما لو جاء؟

الحكاية

ستة أشخاص يعيشون في العاصمة الرومانية بوخارست، لا يجمعهم سوا الخوف الذي يسيطر على البلاد من قبل الأجهزة الأمنية التي تحمي النظام، يحاولون جاهدين تجنب التعرض له ولشخص رئيسه تشاوشيسكو، لكن الاحداث تضعهم في دوامة من الخوف والترقب والقلق الذي يشعر فيه أي مواطن يعيش في ظل حكم شمولي.

ممثلة مسرحية لم تتوقع ان ترسل المخابرات اليها طلباً بأن تؤدي دور مطربة انشقت عن النظام بعد ان سجلت نشيداً يشيد بالدكتاتور وهي المعارضة للنظام ولا تطيقه، فتعيش مع صديقها حالات من القلق الكبير.

مخرج تلفزيوني لا يستطيع كبح جماح أبنه الراغب بالهروب الى خارج البلاد، فكيف يتصرف ورجال المخابرات يقفون على رأسه ليتمم اخراج وتسجيل النشيد الرئاسي.

عامل يعيش مع زوجته وأبنه الصغير الذي يضعه في ورطة تتمثل بإرسال رسالة عبر صندوق البريد طالباً من بابا نوئيل بعض امنيات راجياً ان يحققها له ، قطار له، وحقيبة يد لأمه، وتحقق أمنية أبيه بأن يموت العم نيكو، لأنه سمع أباه يقول ذلك غير عارف ان المقصود هو الدكتاتور نيكولاي تشاشوشيسكو.

امرأة عجوز يجب ان ترحل من بيتها لانه من ضمن الدور التي قررت الحكومة هدمها ، فتعيش حالة من الاغتراب غير مصدقة ما سيحصل لبيتها، ورغم انها تذهب لبيت ابنها الا انها تعود الى بيتها مقررة المبيت في كأخر ليلة لها فيه.

الاشتغال

عبر مونتاج متوازي يتنقل المخرج بوجدان موريشانو بين شخصيات فلمه مظهراً تداعيات الأحداث عليهم، الممثلة مع صديقها تنتقل من حالة الحب والرومانسية التي تعيشها الى حالة القلق والخوف والترقب، لتحاول جاهدة ان لا تقوم بدور أو تؤدي أغنية تمجد الدكتاتور وهي التي تشتمه كل يوم.

المخرج يعيش حالة قلق مع اخبار زوجته له بأن أبنه يبدو ان انطلق في رحلة الهروب من البلاد.

العامل وزوجته لا يعكر صفو الطمأنينة النسبي الذي يعيشون سوى رسالة ابنهم التي وضعها في صندوق البريد مع كامل أسمه وعنوان شقتهم.

الشاب ابن المخرج مع قلق وخوف من انه قد لا يتمكن من عبور الحدود.

تحاول الممثلة المسرحية ان تفعل كل شيء حتى لا تؤدي النشيد المطلوب، تضرب وجهها بمضرب يسبب لها كدمات، تأكل قطع الثلج حتى تلتهب حنجرتها.

العامل وزوجته يفكران في الطريقة التي يمكن ان يمنعا وصول الرسالة الى ايدي رجال المخابرات الذي يفرغون صناديق البريد كل يوم.

كل هذه الاحداث تجري في ليلة واحدة، وفي الصباح يجب ان تكون الحلول قد وضعت وسيتحملون وزرها أو نتائجها سلباً أو إيجاباً.

تتوصل زوجة العامل الى حل وهو ان يضع زوجها سائل منظف في صندوق البريد كون هذا السائل يتلف الحبر الذي كتب به أبنهم رسالته، وفعلا يقوم بذلك خفية، لكن قلقه لا ينتهي عند هذا الحد، فيعود يفكر ان هناك صندوقان للبريد الأول في طريق ابنه عند عودته من المدرسة والثاني في طريق الذهاب القريب من البيت.

الحلول

يمسك ابن المخرج وزميله من قبل حرس الحدود ويتعرض للتعذيب دون علم المخرج بذلك وهو المشغول بإعادة تسجيل النشيد الرئاسي.

في الصباح الممثلة تحضر للأستوديو وقد بح صوتها وثمة كدمة على خدها، فيثور رجل المخابرات الموجود في الاستوديو، لكن المخرج يخبره انهم سيعالجون الكدمة من خلال المكياج، ويقترح هو ان تشرب زيت الزيتون لمعالجة صوتها.

العامل يخرج صباحا الى مظاهرة تم حشد الألوف من العمال لتاييد الدكتاتور الذي يقف في شرفة القصر، احد العمال يخرج من جيبه قطعة العاب نارية صغيرة فيشعلها وتنفجر لتحدث فوضى كبير في التظاهرة، ويهتف العمال بسقوط تشاوشيسكو.

التلفزيون الذي ينقل التظاهرة بصورة مباشرة يشاهده من هم في الاستوديو، الممثلة، المخرج ، رجل المخابرات، المحققون الذين يحققون مع الابن يشاهدون الاحداث كذلك.

المرأة العجوز في بيتها الذي لم يتعرض للهدم .

على ضوء ذلك ينهار النظام ويتخلص الجميع من خوفهم لتبدأ رومانيا حقبة جديدة بعد انتهاء حقبة الدكتاتورية.

تأويل النص المرئي

كل من عاش هكذا مرحلة من مراحل الدكتاتورية والقمع في أي زمان ومكان يعرف معن ان يكون الانسان خائفاً متوتراً دائما،  من أمكانية الاعتقال والتعذيب والتنكيل لسبب أو دون سبب، وربما الأخذ بجريرة الأخر الذي قد يكون من عائلتك أو اقاربك أو حتى صديقك.

الفلم أراد ان يكشف كيف كان الناس يعيشون في تلك الفترة، رغم انهم لم يكونوا بالمعارضين الحقيقيين أو الثائرين على النظام.

الخوف والقلق صفات انسانية لا يمكن السيطرة عليها، متشابهة لدى الناس جميعاً، ولكن بنسب متفاوتة وأشدها الخوف من الأنظمة الشمولية القامعة لشعوبها والتي تذيقهم مر العيش وصولا الى سلب كرامة الكثير منهم، وسوقهم لموت مجاني غير مبرر.

كذلك يمكن للفلم ان يبين مدى هشاشة هذه الأنظمة التي وان حكمت الناس بالحديد والنار لعقود لكنها تتهاوى بلحظات وكأنها لم تكن تلك الأنظمة القابعة على صدور الناس الحارمة لحرياتهم.

 

الحقيقة العراقية في

12.12.2024

 
 
 
 
 

حالة عشق”..

طبيب في غزة يرمّم وجه الدمار بمساحيق حب الحياة

خالد عبد العزيز

غسان أبو ستة طبيب بريطاني الموطن فلسطيني الدماء والنشأة، إذا نقرنا حروف اسمه بالإنجليزية على محركات البحث العنكبوتية، فستطالعنا إنجازاته المهنية في طب التجميل، أما إذا كُتب اسمه بالعربية، فما سيظهر لنا مغاير تماما عما سبق، فما قدمه لإنقاذ ما لا يعد ولا يحصى من جرحى الحروب الإسرائيلية على غزة، يمثل النسبة الكبرى من فيض المعلومات الإلكترونية المتدفقة أمامنا على الشاشة.

تشكل تلك الحالة الملتبسة محور أحدث أفلام المخرجة اللبنانية الفلسطينية المرموقة كارول منصور، في أحدث أفلامها الوثائقية “حالة عشق: غسان أبو ستة”، وقد اشتركت في كتابته وإخراجه مع رفيقتها منى خالدي، وحصد بجدارة جائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ45 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.

في هذا الفيلم، تستكمل كارول مصفوفة الأفكار ذات الأبعاد الشائكة الحساسة، والمهمومة على الدوام والاستمرار بطرق دروبها المتشعبة عبر أفلامها، كقضايا اللاجئيين، وحقوق الإنسان، وغيرها من الاحتكاكات الفكرية، وإن كان أهم ما يؤرق هذه المسيرة، هو رؤيتها نحو الزمن والذاكرة، وإشكاليات الهوية.

لا تخرج أفكار الفيلم عن تلك الدائرة، فاستعراض سيرة ذاتية ثرية المحتوى -كسردية غسان أبو ستة بأوجهها المتباينة- تقع تحت طائلة التوثيق والحفاظ على الذاكرة والهوية بكل تأكيد، ومن ثم يمكن حصر مضمون الفيلم بين سياقات تقديم حكاية هذا الطبيب.

خلق الحياة من رحم الموت.. وجوه إنسانية متعددة

لا حدود لشهرة الطبيب غسان أبو ستة عالميا في مجال التجميل، وترميم جروح ضحايا الانتهاكات الإسرائيلية على حد السواء، ويبدو الفيلم معنيا بالنفاذ نحو ما يكمن وراء هذه سيرته من روايات مطمورة، عما يدور في جهنم الحرب الإسرائيلية على غزة، وما يواجه القطاع الصحي في الأراضي المحتلة، إنها معضلة خلق الحياة من رحم الموت.

بهدوء وسلاسة يقتحم الفيلم (نحو 90 دقيقة) حياة غسان أبو ستة، فيزيح الستار عن وجوهه الإنسانية المتعددة، ولا يكتفي بالإفصاح عما يدور خلف كواليس الهجمات العدوانية الإسرائيلية، من محاولات استعادية للحياة وترميم الجروح بما تيسر من مرافق طبية.

بل يضيف إلى جانب هذه الرؤية الثاقبة أخرى متلصصة على ما خفي من حياة الطبيب، المدثرة بغطاء ثقيل من الغموض، فهو إنسان في النهاية ذو حياة بلا شك، حتى إن خرجت من أسر اعتياديتها المألوفة، إلى رحاب المغامرة.

مزج الخاص بالعام.. خطوط الحكاية المتوازية

يبدأ الفيلم مشاهده الأولى بلقطة مقربة على شاشة حاسوب، ثم تتوالد الحروف وراء بعضها، مشكلة اسم غسان أبو ستة، ثم يطالعنا منجزه العلمي والمهني في مجال إجراءات تجميل الشفاه، ثم تلي هذه اللقطات أخرى كاشفة عن جانب آخر من شخصيته.

فتطفو على الشاشة مشاهد لتفجير مستشفى المعمداني في غزة، ومن هذا المقطع تتكاثر صور ومشاهد عدة، تكشف توابع الحرب، وما خلفته من دمار وجرحى لا حصر لعددهم.

وهكذا تتوالى مقدمة الفيلم الأشبه بالتمهيد أو المدخل لما سنراه لاحقا، فقد غزل الفيلم نسيجه السردي متكئا على جناحين، كل منهما يحمل ما قدر له من كتلة حكائية، ستتصل فيما بعد مع ما يقابلها، ليبدو الهيكل العام يدور في فلك المزج بين العام والخاص، وبهذا الاندماج بين العالمين، يكشف عن شخصية غسان.

تواؤم المتابعة الدؤوبة والرؤوس الناطقة

اعتمد السيناريو على تقديم شذرة من العام، وأخرى من الخاص، أو بمعنى أكثر دقة، قطعة من تاريخ غسان النضالي في فلسطين، مع ملحقات خاصة عنه، وإن كان التركيز الأكبر يقع بين جدران السياق العام، حيث استعراض بطولاته، وتقديم أجواء كفاح القطاع الطبي القابع بداخل أسوار قطاع غزة.

ولتوليف هذه السردية، يلجأ السيناريو لخلق التوازن بين الأسلوب التقليدي للفيلم الوثائقي، حيث المساحات الأكبر للقاءات المصورة مباشرة مع ضيوف العمل، وبين الأسلوب الحداثي، حيث المتابعة الدؤوبة للشخصيات، وكأننا أمام فيلم روائي الهيئة والمظهر.

وبذلك ينصهر الأسلوبان في ثوب واحد، أسهم فيه التداعي الحر، والاسترسال المتدفق للعواطف والمشاعر الإنسانية، لخلق صورة مقربة وحميمية لهذا البطل.

فالفيلم رحلة توثيقية لشخصية استثنائية، ولتكتمل معالمها، فلا بد أن تقام محطات للتنقل من هنا إلى هناك، وتصحبنا خيوط الحكاية من هذه البلدة إلى تلك، وفي كل منها قطعة تكمل ما جاورها وما بعدها، حتى تلتئم معالم اللوحة كاملة.

رحلة غزة.. فرحة طفولية بالذهاب إلى قلب المعركة

تبدأ صافرة بداية رحلتنا من لندن، وهي موطن غسان الحالي، ومنها يصحبنا إلى غزة، ولا سيما بعد مجزرة مستشفى المعمداني، التي جرت وقائعها منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ثم يعرج على العاصمة الأردنية عمان، لزيارة الأهل والوالدة، ثم يعود إلى الكويت، حيث مهد الصبا والمراهقة، وبعد ذلك يرتد مرة أخرى إلى فلسطين.

هكذا يقدم الفيلم دعائم الحكاية، مستندا على الترحال الدائم الذي يغلف سيرة بطله، فقد شهدت حياته تنقلات عدة، من هذا الغلاف المكاني إلى غيره، لكن الصفة المشتركة في الرحلة هي العودة إلى الجذور، والبذل من أجل الوطن، من دون انتظار مردود مقابل.

تصاحب الكاميرا غسان إلى شوارع الكويت، وعندها يخبرنا بصوته الهادئ عن فراسة والده، التي استبشرت بمستقبله الإنساني والمهني كذلك، وفي تلك الأثناء يعود السرد الفيلمي إلى غزة، فيطالعنا شريط الصورة بمشاهد وصور من الدمار الهائل، ونرى بطلنا وهو يرمم جروح الضحايا.

ثم يعود الفيلم إلى زوجته ديما، فتفصح عن فرحة غسان الطفولية عند الذهاب إلى غزة، وكأنه ذاهب -بحسب قولها- إلى مدينة “ديزني لاند”، لا ميدان معركة ما تزال نيرانها مستعرة.

حالة عشق”.. مريد متصوف في حب المكان

يمكن أن نلاحظ أن هذا التنقل المكاني، ليس إلا تعبيرا متضمنا عن فكرة الفيلم، الكاشفة عن جانب بطلنا الإنساني والمهني، وبذلك يتوغل السرد في مسار الشخصية، فهي على حلّها وترحالها الدائم، لا همّ لها ولا حب يضاهي عندها محبة فلسطين.

وحينها يمكننا الوصول إلى مدلول عنوان الفيلم، إنها “حالة عشق” كبيرة وطاغية لهذا المكان، وعندئذ يبدو غسان كالمريد، الذي يستجيب لنداءات شيخه الدائمة والمتكررة، فالفيلم يرصد تلك الحالة الشفافة من الحب والحنين العميق لفلسطين، الأقرب إلى الحالة الوجدانية الصوفية، أو بمعنى أكثر رحابة، الفناء في ذات المحبوب.

تُرى هل يستحق هذا المحبوب كل هذا القدر الذي لا يتناهى من المحبة؟

تكمن إجابة السؤال بين جدران المقاطع المتناثرة على طول الشريط الفيلمي، التي يطالعنا فيها غسان خلال مراحل عمره المتباينة، شابا كان أو كهلا.

ففي كل هذه المشاهد يقدم على بذل مزيد من الجهد، لإنقاذ ما تيسر من ضحايا العدوان الإسرائيلي، فكلما انطلقت شرارة قذائف الحرب يصبح أول المتطوعين في القطاع الطبي الفلسطيني، معبرا عن شخصية فاعلة ومؤثرة داخل معادلات الصراع، لا مفعول بها.

استعراض بطولات الأطباء الخفية.. لب الفيلم

يصحبنا الفيلم إلى لب جوهره وموطن مضمونه، حيث استعراض بطولات الأطباء المستترة في ترميم الجروح، ومحاولة بعث الحياة من ركام الموت، الذي تتفشى رائحته في الأجواء.

فينطلق شريط الصورة بالتوازي مع تعليق غسان الصوتي، كاشفا عن ما خفي من تفاصيل، لا ما جرى في أروقة المستشفيات والمراكز الطبية، بل يمتد الحكي إلى سرد وقائع الإبادة الإسرائيلية الممنهجة لكل معالم الحياة في غزة.

فقد ساهم المونتاج الخلاق في إيصال المعنى المراد بحساسية وذكاء، فيستعرض ذاكرة الأماكن المدمرة قبل الحرب وبعدها، ومن ثم يمكن حينها بيان مدى فداحة تلك الحرب، التي تنوعت ضحاياها من البشر إلى العمران.

وبذلك تصبح رسالة الفيلم جلية واضحة لا غبار عليها، فإزاحة هذا الستار الكثيف سينمائيا عن هذا الخراب، يسهم في الإبلاغ المباشر عما يدور في الداخل، وقد لا ترصده كاميرات وكالات الأنباء.

ومن ثم يثقل الشريط الفيلمي ومضمونه، ويضفي عليه قيمة مضاعفة، سيزداد تأثيرها طرديا مع مرور الزمن، ليصبح الفيلم وثيقة بصرية عن هذه الإبادة العرقية، التي تحمل بين طياتها أكثر من مغزى، ويتضح أنها ليست حربا انتقامية فحسب.

ما وراء الإبادة.. حس فلسفي بين ثنايا الفيلم

يطالعنا وجه غسان وهو يسرد قبسات متناثرة من ذكرياته، كل منها مطعّم بتنويعة مختلفة من الألم، يبدأ مسار الحكي من التفجيرات المنظمة المقصودة للمستشفيات والمراكز الصحية، فنرى منهجية تدمير كل ما يتعلق بالصحة، أو بمعنى أكثر رحابة باستعادة الحياة، فالواقع أن العدو يرى هذه الصروح الطبية نوعا من المقاومة وندية الموت.

ومع توغلنا على نحو أكثر بين طيات السرد، نجد أن شيفرات الفيلم تكمن في فهم المغزى فيما وراء هذه العمليات الحربية المتوالية، فيصف غسان إسرائيل بالقاتل المتسلسل، الذي يتتبع ضحاياه بنهم وشراسة تخلو من الرحمة.

وهكذا يرسم الكيان الصهيوني بأفعاله غير المبررة صورة ذهنية مقصودة تمام القصد والتأكيد، بأن القوة الغاشمة هي اللغة الوحيدة المعتمدة للتواصل والفهم، وأن ما يقبع خلف هذه الإبادة، ليس الرغبة في إزاحة الطرف المقابل من المشهد فحسب، بل بث تلك الهالة المدججة بادعاءات الغطرسة وما يرافقها من تعالي وكبر، لكن الحقيقة هي أن البنيان ذاته يعاني من الارتخاء والهشاشة.

ومن ثم يبدو الفيلم محملا بحس فلسفي تأملي، يفصح قدر استطاعته عما يجري، لكنه بجانب هذا البوح يمارس دوره المضاف إليه، في تقديم رؤية ثاقبة المحتوى عن لغز استمرارية آلة الحرب، من غير إشارة مرتقبة توحي حتى بالوقوف المؤقت.

رجل العائلة.. إنسان يحمل بداخله مشاعر مستعرة

مع المشاهد الأولى من الفيلم، نتابع مخرجتي العمل كارول منصور ومنى خالدي، أثناء زيارتهما لمنزل العائلة في عمان، ومع تقدمنا في الحكي، نرى غسان في حوارته المباشرة والعفوية أمام الكاميرا، ثم نتنقل معه إلى الكويت، ثم نعود إلى لندن، وفي كل تلك المشاهد تفصح الشخصية عن ذاتها.

وكلما توالى السرد إلى الأمام، تحرر بطلنا من ذاته على نحو أكثر حرية، وبذلك ينكشف الوجه الآخر المتواري خلف تلك الروح الفدائية، فالعلاقة الإنسانية الشديدة الخصوصية بينه وبين أفراد أسرته، تكشف عن زوج وأب ناجح من الطراز الأول، فلم تؤثر روحه المتوثبة نحو التنقل والترحال من مكان إلى آخر، على أدائه الأسري.

ترافق الكاميرا العائلة داخل المنزل، فتسجل وتقتنص كل خلجات يومهم، نرى خلالها إطار العلاقة بين الأب وأبنائه من ناحية، والزوج وزوجته من ناحية أخرى.

ومن ثم يمكن الإمساك بتلابيب الشخصية وفق صورتها الكاملة، بكافة سياقاتها المهنية والأسرية، التي إن كشفت عن شيء، فلا أعمق من أننا أمام إنسان، يحمل بداخله جمرة مستعرة من المشاعر، يفيض بها من دون شح ولا بخل.

شعب لا يجد من أدوات الحرب إلا الصمود

بما أن السينما الوثائقية دوما ما تملك الوجه الناصع من الحقيقة، فإن فيلمنا يقدم حقائقه مجردة بعيدة عن أي رتوش تجميلية، وإن كانت الملحقات الذاتية والأسرية لشخصية غسان، قد أسهمت -ولو بقدر يسير- في تخفيف وطأة مشاهد جرحى الحرب الإسرائيلية وضحاياها.

لذلك بدا إيقاع الفيلم وهيكله العام متوازنا بدرجة كبيرة، وقد أضفى هذا التوازن على النسيج السردي حساسية وشفافية، جعلت الفيلم وثيقة تأملية، لا تخلو من الجاذبية الفنية، ولا من المباشرة السياسية المطلوبة أحيانا.

وفي هذا السياق، نذكر مصطلح “جماليات الجوع”، الذي أطلقه المخرج الوثائقي البرازيلي “جلوبير روشا”، بعد أن صعدت -في الستينيات- موجة الأفلام الوثائقية، التي تفصح عدسات كاميراتها عما يدور في البرازيل، من تطورات وظروف اقتصادية بالغة الصعوبة.

والحقيقة أن هذه المقولة تبدو قريبة بدرجة أو بأخرى من فيلمنا، فالجماليات المرصودة هنا لا علاقة لها قطعا بالجوع أو النهم البشري إلى الطعام، بل جمال بزوغ الصورة الواقعية الحقيقية، الكاشفة بجلاء لا يقبل الشك أو التأويل، عن معاناة شعب لا يجد من أدوات الحرب إلا القدرة على الصمود بحب الحياة.

وما الحياة إلا سلسلة متصلة من العقبات، ولكل عقبة منفذ آمن للخروج.

 

الجزيرة الوثائقية في

13.12.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004