“وين
صرنا؟”.. عائلة غزاوية تبحر في التيه وأسئلة الشتات
صالح سويسي
ما من شك أن عنوان أي أثر أدبي أو فني، يمثل إحدى عتبات
قراءته والدخول في تفاصيله، ولا ريب أن اختيار العناوين كان -وما زال- يمثل
إحدى أهم مراحل توضيب العمل، ويشكل أحيانا قلقا للمبدع.
فالعنوان إما أن يفتح شهية المتلقي لمواصلة التصفح أو
المشاهدة والاكتشاف والاستمتاع، أو أن يكون حاجزا يلغي فرضية التلقي، ويحرم
العمل من فرص المتابعة والتناول، إن سلبا أو إيجابا.
ولعل أول ما شدّنا في أول تجربة إخراجية وإنتاجية للمثلة
التونسية درة زورق هو العنوان، الذي بدا حمال أوجه وتأويلات.
يحيلنا فيلم “وين صرنا؟” نحو التساؤل حول ماهية الجملة، فهل
هي سؤال يبحث عن إجابة، أم نتيجة لفعل ما؟
وقد كان ضروريا أن نشاهد الفيلم مرتين، حتى يتبين أمامنا
الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وينقشع الضباب من أمام أعيننا.
أين صرنا بعد دمار بيوتنا وحرق تاريخنا، وسحق أحلامنا تحت
نعال الإبادة، التي لم تترك الأخضر ولا اليابس، واقتلعت الإنسان والأحجار
والأشجار، لتلقي بنا إما إلى الموت، وتلك نهاية واضحة ولا تتطلب أي تفسير
أو تفكير، أو إلى المجهول، ولا أحد يستطيع أن يخمن أو يرتب أوراقه، وآلة
القتل من حوله لا تبقي ولا تذر.
“كتُبنا
أصبحت وقودا لفرن الخبز”
حين تبكي طفلة صغيرة، وهي تتذكر مدرستها وفصلها وصديقاتها
وكراريسها وكتبها، وتقول في قهر “كتبنا أصبحت وقودا لفرن الخبز”، فاعلم أنك
في مخيمات الشتات الداخلي بغزة، على تخوم الجوع والضياع، لا شيء يمنع عنك
الموت إلا رحمة رب العالمين، فإما أن تصبح عددا في ملفات الموتى
والمفقودين، أو أن ترحل من دون أن تجد ثانية واحدة لوداع من تحب وما تحب.
يكشف الفيلم (90 دقيقة) وجها من وجوه المعاناة والألم، الذي
يرافق الإنسان الفلسطيني، ولا سيما ذاك الذي لا يجد حلا غير الرحيل القسري،
رحيل لم يختره ولكنه يقبله في كل مرة وإن تعددت الأسباب، فالنتيجة واحدة.
لم تأتِ المخرجة بجديد حين طرحت موضوع التهجير، ولا سيما
لسكان غزة بعد 7 أكتوبر 2023، ولكن طرحها كان من زاوية أخرى لا تتبنى
السردية التقليدية، التي تسعى دائما للحديث عن حلم العودة أو حق العودة، بل
ذهبت بعيدا نحو القطع تماما مع هذه الفكرة.
فالزوج الذي يلتحق بزوجته وأبنائه بعد رحلة من الخوف
والترقب والعجز، يصرّح بما لا يدع مجالا للتفكير أو الشك أنه لن يعود إلى
غزة مهما حدث.
ولم يكن هذا الموقف وليد الصدفة، بل كان نتيجة طبيعية لما
يمكن أن نسميه حالة من اليأس، ضربت عميقا في كثير من أبناء الشعب الذي مزق
الاحتلال أوصاله، وشتته في بلاد الله الواسعة.
من خلال مشاهد قد تبدو للوهلة الأولى طويلة أو ممططة، سلطت
المخرجة الضوء على حالات نفسية متنوعة، لكنها تصب جميعا في خانة الألم
والفقد والمعاناة التي تنتهي، زد على ذلك الشعور القاتل بالقهر والعجز
والانبتات.
مشاهد الفيلم الحقيقية.. عمل خالٍ من الرتوش والمساحيق
من البديهي أن يركز أي فيلم وثائقي على تصوير مشاهد حقيقية
بشكل مباشر، قد تكون مقلقة أحيانا، ولكنها في النهاية تحمل الحقيقة كما هي،
من غير رتوش ولا مساحيق، فهي ليست مشاهد مصطنعة أو خيالية.
ومن الطبيعي أن تنتصر السينما الوثائقية لقضايا المظلومين
والمعذبين في الأرض والمسحوقين وأصحاب الحق المسلوب، بل ربما من واجب صناع
الوثائقيات أن يكونوا منحازين بشكل من الأشكال إلى القضايا الإنسانية، من
دون أن ينسوا أنهم بصدد إنجاز سينما.
لم تشذّ المخرجة درة زروق عن هذه القاعدة، فقدمت عملا
لصيقا، وصورت معاناة أهل غزة كما هي، من دون لجوء إلى التجميل أو التعديل
من خلال هذه العائلة.
وفي فيلمها الأول “وين صرنا؟”، تابع الجمهور فيديوهات صُورت
بالهاتف في غزة، تمثل الدمار والشرخ العظيم الذي ضرب القطاع، وصورت
فيديوهات أخرى لحظات الوداع الأخيرة، وذلك تضمين محمود في نظرنا، بل مطلوب
أيضا ليكون قرينة حية لشهادات أفراد العائلة، التي اختارت أن تكون محور
الفيلم.
ولكن ما يثير الانتباه أن العائلة تبدو عليها علامات الراحة
والرفاه بعد أن نزحت إلى مصر، فهي تعيش في شقة واسعة فيها كل متطلبات
الحياة الكريمة، من دون أن توضح لنا المخرجة كيف لعائلة فقدت كل شيء في حرب
الإبادة أن تعيش في ذلك الرفاه بعد رحلة الهروب.
صناعة الصورة.. لمسات جمالية ترصد أعماق الشخصيات
قدم الفيلم صورة جميلة توغلت في تفاصيل اللحظة، واشتغلت
المخرجة على اللقطات القريبة والقريبة جدا، لإبراز تقاسيم الوجه وحركة
اليدين في أكثر من موضع، ولم يكن ذلك لمجرد تجميل المشاهد، بل سعيا لتمرير
الحالة النفسية التي تمر بها شخصيات الفيلم، ومدى تواصلها مع محيطها
وشركائها في المحنة والمعاناة.
ولا شك أن اختيار مدير التصوير يمثل جزءا هاما من صناعة أي
عمل سينمائي مهما كان نوعه، وفي هذا الفيلم اختارت المخرجة الاعتماد على
إحدى أمهر المبدعين في هذا المجال، ألا وهي نانسي عبد الفتاح، فتركت بصمة
واضحة في تفاصيل الفيلم.
كان جليا أن المخرجة لم تدخر جهدا في تشكيل صورة سينمائية
تنقل واقعا يعلمه الجميع، لكنها كانت أمينة إلى حد بعيد في إبراز ما رسخ في
باطن الشخصيات، من وجع وقهر ودمار داخلي، وهي أشياء لا يمكن تصويرها إلا عن
طريق الإحساس.
ومع ذلك، فإن بعض المشاهد كانت أطول مما ينبغي، وكان يمكن
تقليص مساحتها الزمنية، أو تعويضها بمشاهد ولقطات أخرى في ذات السياق، ولكن
من زوايا مختلفة.
كما أن بعض المشاهد حملت شهادات معادة، وإن بأسلوب مختلف
نوعا ما، ولكنها تصب في ذات الموضوع، مما جعل التكرار يتسرب إليها أحيانا،
إن بقصد أو عن غير قصد، لكن هذا لا ينفي جمالية الصورة في الفيلم.
رحلة من المنزل في غزة إلى المجهول
تدور قصة الفيلم حول أسرة غزاوية تخرج نحو المجهول، لم يختر
أي فرد منها أن يترك خلفه حياة بأكملها بحلوها ومرها، ولم يختر أحد منهم أن
يكون طرفا في إبادة لا أحد يدري متى تتوقف، لكنهم خرجوا.
ترتمي الأم الشابة نادين ورضيعاها ووالدتها وأخوها وأخواتها
في أحضان الطريق، التي قد تطول أو تقصر، تاركةً زوجها في بؤرة الدمار،
ينتظر فرصة للحاق بهم.
تستقر العائلة في مصر، ويطول انتظار الأم الشابة لزوجها،
وتتالى الأحداث وتتشابك، وتتراكم الهموم، وتتسارع التحولات في كيان الأسرة،
وتتباين المواقف، وتتنامى رغبة كل فرد في البحث عن هدف لنفسه، وهنا تبرز
جليا حالة التشتت أو الشتات التي بدأت تدب في نفوسهم.
وفي الأثناء، نتابع حكاية كل فرد من الأسرة، انطلاقا من
أصغرهم إلى أكبرهم، ولكل منهم حكاية مرتبطة بالمكان، ولكنها تختلف من حيث
العلاقة والارتباط.
فالبنت تشتاق لمدرستها، وتحدثنا عن صديقاتها وفصلها وكتبها
وكراريسها، التي أصبحت وقودا في رحلة الهروب من نار الموت، وهي تتفق مع
حكاية أختيها اللتين كانتا تمارسان كرة القدم، وكانتا تحلمان بالسفر
والعودة بعدها للديار وأحضان الأسرة المجتمعة، تحت سقف واحد آمن ودافئ،
ولكن لعنة الحرب تشاء عكس ذلك تماما.
في لحظة فارقة، ومن دون سابق إنذار أو استعداد، يحمل الجميع
ما خف وزنه، ثم ينطلقون في رحلة لا يعرف أحد مآلاتها
ولا نتائجها.
إحساس بشع يحتاج المرأة الشابة وأخواتها وهن يودعن غرفهن،
وهو ذات الإحساس الذي انتاب أمها أيضا، ولكن هل من حل آخر؟
الحلول معدومة وأسباب الحياة قليلة، وهنا إما أن تموت
فتوارى تحت التراب مع آخرين، أو أن تظل حبيس أنقاض بناية ما أياما، قبل أن
يستطيع أحد إنقاذك، أو أن تموت وتتعفن، ولا يسمع أحد أنينك إلا الحجارة
والتراب.
“وين
صرنا؟”.. أسئلة الغربة والشتات
هل هو سؤال “وين صرنا؟” مجرد سؤال أم نتيجة حتمية، أم أنه
مرحلة في طريق ما زال طويلا ومرا؟
ليس سهلا أن نقف عند فرضية واحدة، فكل الإمكانات واردة،
ويمكن أن يبقى السؤال معلقا بلا إجابة مقنعة أو مقبولة إلى وقت غير معلوم،
كما أن فكرة أنها نتيجة هي فكرة منطقية جدا.
فوصول العائلة إلى مصر، والتحاق الزوج بها، وإعلانه أمام
الجميع أنه لن يعود إلى غزة مهما حدث، يمكن أن يمثل نتيجة حتمية، ومصيرا
جديدا تنسج خيوطه الأيام.
ومن خلال قراءة عامة لسير الأحداث، يمكننا أن نقول إن مصر
مجرد مرحلة أو محطة، تليها محطة أو محطات أخرى كثيرة، لا سيما بعد سفر إحدى
البنات، لإتمام دراسة الطب في باكستان، ورغبة الصغيرات في العودة متى تسنى
لهن ذلك.
درة زروق.. أسلوب الصناعة في التجربة الأولى
في تجربتها الإخراجية الأولى، وضعتنا درة زروق أمام خيارات
محددة، مع أنها كثيرة ظاهريا، لكن الأمر يرتبط بعوامل نفسية واجتماعية
واقتصادية وسياسية أيضا، من شأنها أن تصنع منعرجا حاسما في حياة العائلة
بأكملها، أو لدى بعض أفرادها.
ولعلها تعمدت ذلك، فلم تترك لشخصيات العمل مساحة أخرى لبيان
توقعاتها أو تصوراتها للمراحل القادمة، كما يمكن أن نستشف أنها تركت الأمر
يسبح في يم من الخوف والتردد والتشتت الفكري والجسدي، تلعب به أمواج
الضبابية التي تلف حياة أبناء غزة في كل خطوة.
قد تكون المخرجة أصابت فنالت أجر الفكرة وأجر المغامرة، وإن
لم تصب فلها أجر المحاولة في تجربتها الأولى.
عُرض فيلم “وين صرنا؟” أول مرة على المسرح الكبير بدار
الأوبرا المصرية، ضمن فعاليات الدورة الـ45 من مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي. |