“أبو
زعبل 89”.. حكاية الغياب المحملة بأثقال عائلية وسياسية
إسلام السيد
في ظل تراجع المجال السياسي، وتفعيل سياسات اقتصادية مهلكة
في مصر، وتتابع الأزمات العالمية من كوارث وحروب وإبادة، يعاصر المجتمع
المصري مرحلة تتفكك فيها تعريفات الجماعة والرفقة والقدرة على التكاتف،
وتسود مركزية السعي الفردي، الذي يتجه إلى علاقة انفصالية مع التاريخ،
ويجعل الحدث السياسي حركة سائلة، يتفتت معها ببطء الشعور بالمكان.
هنا تحضر قيمة الاستدعاء المرتكز على المكاشفة القائمة على
تتبع الأثر، من دون الوقوع في فخ الحنين، الميال إلى قطب البطولة المطلقة
أو الشيطنة.
ويعتمد تتبع الأثر على تقدير الزمن، وما به من تجارب تعكس
خبرة على المستوى العام، وفضاء للمكاشفة على المستوى الخاص، حيث تتولد
الرغبة بتجميع جوانب الزمن الثلاثة في قطب واحد، يتيح للمتتبع أن يتقبل
خطوة ظنية تقوم على المجازفة والإيمان الخطير بالخطوات المرتكزة على مساءلة
الذاكرة، التي تجعل علامات رحلة التتبع وجها محتملا للوصول، وآخر للتيه
الذي يمنع العودة إلى نقطة البدء.
يرتكز فيلم “أبو زعبل 89” على أساسي الكشف وتقفي الأثر، من
خلال استعادة المخرج بسام مرتضى حدث اعتقال والده محمود مرتضى، بسبب تضامنه
مع إضراب مصنع الحديد والصلب في 1989.
حصد الفيلم جائزة أفضل فيلم وثائقي بمهرجان القاهرة 2024،
وهو لا يتوقف عند الرغبة بتوثيق حدث الاعتقال أو تشريحه في إطار المناخ
السياسي، بل يخلق لغة تواصل تجاه الحدث وانعكاساته، وتجاه المشكلات السلبية
على مستوى شخصي، وهي تحيلنا إلى تعرية ثنائية الأبوة والبنوة، بشكل شديد
الخصوصية.
“لا
أستطيع أن أرى يدي أمامي”
عندما تولى حسني مبارك رئاسة الجمهورية عام 1981، شارك
سلفَه الخوفَ من الحركة الطلابية، وأصدر قرارا بإدخال الأمن إلى الحرم
الجامعي، ليمارس نشاطا أخلاقيا وسياسيا قائما على تحييد النشاط الطلابي.
وخلال ذلك العقد، كانت المطالب العمالية ما زالت قائمة على
اختلاف القضايا المطلبية. ففي عام 1986 طالب عمال شركة “إسكو” بتلقي أجور
أيام الراحات، وفي العام نفسه طالب عمال السكة الحديد بكادر خاص للسائقين.
وفي صيف 1989، طالب عمال “الحديد والصلب” برفع الحوافز
الشهرية والسنوية، وتضامن معهم مجموعة من المثقفين اليساريين، فنشروا بيانا
يطالب بالاستجابة لمطالب العمال، ولم تكتفِ حينها أجهزة الأمن باقتحام
الاعتصام، والقبض على 52 مثقفا مصريا تضامنوا مع العمال، بل لفقت لهم تهمة
“تأسيس وإدارة تنظيم سري لقلب نظام الحكم”.
بقليل من البحث، تجد على موقع “بوابة الاشتراكي” تقارير
وقصصا صحفية عن حيثيات هذا الإضراب.
وفي كتاب “أبو زعبل 1989” لفاروق عبد الجواد الذي كان من
المعتقلين، يستعيد الكاتب الظرف الداخلي للسجن، فيقول: المكان مظلم تماما،
فلا أستطيع أن أرى يدي أمامي. رائحة البول والبراز تزكم الأنوف، وأسفل قدمي
أشياء تتحرك وتقفز، دون أن أستطيع تحديد ماهيتها، وفوق رأسي مباشرة حشرة
بشعة تطير، ويسبب أزيزها الرهبة والخوف، أخذت أطاردها بيدي في الظلام دون
جدوى، أتوجه إلى حيث الصوت، فيصطدم رأسي بالحائط. أقفز من هنا وهناك في
محاولة لتجنب الفئران التي تجري بين قدمي. بدأت قدماي تنهار ولا تقوى على
حملي.
مناخ الحدث.. بعث الصورة من غياهب الذاكرة
يدرك الفيلم منذ بدايته ماهية اللغة، وأدوات الاشتباك التي
يمكنها أن تخلق بعدا جديدا للحدث، لذلك ينأى عن الانتهاء عند أساس الهم
التوثيقي، ويضع مكانه تنويعات فنية وحكائية، تستعرض التجربة من خلال أطراف
متعددة، عاشت جميعا ذلك الزمن من جهات شتى.
يمكن إدراك أساس “الاعتقال” بإشارات واضحة وسريعة، لكن ما
يستحق التتبع هو الدواخل الخافتة التي أحاطت مناخ الحدث، وخلقت صورة للمحة
تاريخية معنية بالمجتمع، وأخرى خاصة لتاريخ عائلي طويل.
مثلت بداية الفيلم أساسا واضحا لمتن حدث السجن، الذي سيتحول
من مركز حقيقي إلى آخر وهمي في منتصف الفيلم، فالشخصيات الماثلة أمامنا
تدرك غياب شيء ما، لكنها لا تدرك كُنهه، وهي أقرب إلى الخوف من المكاشفة
والقدرة على السير تجاهها.
لذلك يبدأ الفيلم بسحب الحدث إلى عالم الشاشة، فيتحول من
صورة في الذاكرة إلى لحظة راهنة في الحاضر.
قدرة الذاكرة على الانفكاك من سلطة الحدث
ينطلق الفيلم من مشهد تحضير وجبة سمك للوالد الجالس، وهي
مشاهد ضيقة في المطبخ مبهمة ومشوشة، ترى بعين الاستدعاء، وتؤسس لحركة
متأرجحة تخلق جسرا بين زمنين.
من زمن الحاضر، يدخل الفيلم إلى الحكاية من تفريعة جانبية،
عبر سؤال يظهر بين بسام ووالديه، ألا وهو: هل كان نائما حين اقتحام المنزل
والقبض على الوالد؟
وبهذا السؤال، تتعاظم قدرة الفيلم على تفعيل شكل جديد من
الحرية، وهو اختبار قدرة الذاكرة على الانفكاك من سلطة الحدث، كأن فعل
الاعتقال حين يبدأ من الطرق العنيف على الباب، وينتهي بالخروج من السجن،
يدخل في هوة داخلية تنحبس خلالها الذاكرة، وينزع معها فعل الاعتراف.
لذلك، تتحقق القدرة على الحكي تدريجيا، تبدأ من الأسئلة
الجانبية، ثم تتحرك إلى المركز، وخلال هذه الحركة التي تنطوي على مقاومة
ما، وسعي إلى الكشف ضد الرغبة في التستر، تتكون الحكاية بأبعاد جديدة، تنفي
عن الفعل محدوديته في كونه حكاية فردية، وتصبح الحكاية متعددة، بما فيها من
حكاية سياسية وعائلية، وفي الأساس هي حكاية خاضها كل فرد حسب معطياته
الشخصية.
علاقة تنافرية بين جيلين يحملان أثقال الهزيمة
خلال نشاط الحركة حول أساس الحكاية وملاحقتها من شتى
الجوانب، لتحرير الذاكرة وإعطائها قدرة على التدفق، يظهر عائق يخلق علاقة
تنافرية، بسبب الفوارق الجيلية بين الشخصيات.
كان جيل محمود مرتضى وزملائه آخر الأجيال الفاعلة في المجال
العام بمصر، فعقب ذلك دفع النظام السياسي المجتمع المصري إلى السعي الفردي،
وأما الجيل الآخر المتمثل في بسام مرتضى وأصدقائه، فقد خاض تجربة ثورة
يناير 2011 وفشل فيها تماما.
يضع مشترك الهزيمة نزعة هروبية، تقوم على الانفصال، الذي
يخلق قطيعة عدائية مع ما هو سابق من التاريخ، كما يخلق عطبا في الانتماء
العائلي، وتصبح معه تعريفات ذاتية معنية بالأبناء والآباء، قائمة على
الوقوف العاجز أمام انطباع مشترك من الفراغ.
تناول الفيلم هذا الانفصال الجيلي بفهمه أولا، وذلك بذكاء
يقوم على فهم ضرورة التكاتف البشري، القائم على التقبل والاحتضان، وخلال
محاولة دؤوبة للحركة، لتحقيق إمكانية النظر للحكاية من داخلها ومن خارجها،
لكسر الجانب الكتيم من الاعتراف المتبادل.
كذلك لا يقوم أساس الفهم على الانسحاق العاطفي تجاه نموذج
“الأب”، لأن هناك تحديقا في دواخل الحكاية، يقوم على الندّية واللوم الواضح
والودود، الذي يصاغ بنضج في نهاية الفيلم إلى قبول للتجربة ومآلاتها.
فردوس.. أم وزوجة وناشطة تجسد بديل الحكي
تأتي ممارسة تبادل الفهم وحضور الندية في آن، من داخل
العائلة لا من خارجها، فحين تقهر إرادة الوالد في السجن ويخرج، نجد بديل
الحكي حاضرا بخصوبة وتدفق لدى زوجته فردوس، وهي والدة بسام.
تقف فردوس على حدود الحكاية من أكثر من جهة، بصفتها أما
وزوجة وناشطة سياسية، وتتعاطى مع هذا الوجود المركب، بقدرة على التحديق في
واقع تاريخها العائلي، فتكسبها حضورا متكلما، حين لا يبدو للجميع أن هناك
شيئا يمكنهم أن يقولوه.
حين تشتبك الحكايات أكثر ما بين داخل السجن وخارجه، وداخل
العائلة وخارجها، يأخذ الاستدعاء والتعاطي الحر مع الذاكرة بعدا وظيفيا،
وتكتسب المشاهد الكثيرة اليومية والعادية بين بسام ووالده جانبا حميميا،
لأنهما يحاولان التفكير في تجربتهما، وقد ارتكزت أساسا على الغياب، الذي
يضع متطلبات ذاتية، تذيب القطب الجيلي ومشتركات الهزيمة السياسية.
“النسور
الصغيرة”.. صور أخرى من الغياب
يتحرك فيلم “النسور الصغيرة” للمخرج المصري محمد رشاد من
نقاط مقاربة لفيلم “أبو زعبل”، فالغياب يحمل هاجسا مماثلا، لكنه يتعاظم بين
رشاد ووالده، ويترك آثارا مختلفة.
لم يحظ رشاد بمناخ سياسي من خلال والده، لكن تأثيرات
السياسة تكمن في قلب حياته، فقد ظل الوالد يعمل في وظيفتين بالقطاع الخاص،
وعندما تقاعد افتتح محلا لكي الملابس، لذلك لم يكن غائبا فقط، بل كان غائبا
عن العائلة وحيدا بلا أصدقاء.
تعمل التعريفات التقليدية المعممة في إطار الطبقة الوسطى،
على خلق صيغة جديدة، يحاول رشاد إدراكها من خلال الفيلم، عبر مجاورة حياته
بالحياة العائلية لصديقيه بسام وسلمى، اللذين يمثلان عصب فيلم “أبو زعبل”.
في النسور الصغيرة يتحدث محمود مرتضى عن داخل السجن أكثر،
فيتأثر ويبكي، لكن مساحة التورط والحرج في “أبو زعبل” تجعله يبدأ من التشوش
والحذر، لأنها حكاية هو مركز أساسي فيها، حتى وإن كان مركزا غائبا في أوقات
كثيرة.
هذا التباين الحاصل بين الأب الذي يتحرك فرديا على الهامش،
وبين الآخر الذي حظي بفاعلية سياسية ومجال عام، وكلاهما انتهى إلى فراغ
أبوي وشكل مستقل من الغياب، يحيل إلى التفكير في مادتي الفيلم بوصفهما
أدوات كاشفة، ترتكز على جانب مفقود في السينما المصرية منذ زمن، ألا وهو
البدء بالحكاية الذاتية من نقطة النظر إلى ما هو سياسي وما هي تأثيراته،
وكيف يمكننا أن نفهم علاقتنا بذواتنا وبالآخرين من خلال هذه التأثيرات؟
“أبو
زعبل”.. تطويع أدوات السينما لخدمة السرد
ينتمي فيلم “أبو زعبل” إلى نوع “الدكيودراما”، وهو نوع يوظف
الجانب السينمائي والأدائي لصالح الأساس الواقعي للحكاية، ويقوم أساسا على
أدوات التتبع المعتادة في الفيلم الوثائقي.
عادة ما يظهر المتخيل في الأفلام الوثائقية على نحو وظيفي،
فيتسيّد الواقع لغة الفيلم، وتنحصر الخبرة الجمالية المرتبطة بالجانب
السينمائي في مساحة جانبية، تتجه لإبراز مزيد من الحيثيات الواقعية للحكاية.
حافظ المخرج بسام مرتضى منذ بداية الفيلم على خلق مساحة
مستقلة للجانب السينمائي، بتأسيس رؤى متعددة يمكن أن نرى بها الفيلم، لذلك
برز الجانب السينمائي تحت ضرورة خلق مساحة من الفراغ بين المشاهد والفيلم،
تجعل المشاهدة قائمة على معايشة الزمن الفائت، بدلا من النظر إليه بصفته
تاريخا.
عين الكاميرا.. تشكيل صورة بشرية للذاكرة
تأتي مشاهد تحضير وجبة سمك لمحمود مرتضى وزملائه في السجن،
لتكون افتتاحا مشهديا لعالم معايشة الزمن الماضي، كي تسحبنا بسرعة إلى عالم
الشاشة، ولننظر إلى الحدث من جانب الطفولة البعيد، الذي يتعذر عليه فهم
الأحداث، لكنه يستطيع أن يشعر به.
ولأن هذه اللحظة تحتاج كثافة شعورية، وتأسيسا تقنيا يرتبط
زمنيا بالحدث، فقد صُورت مشاهد الاستدعاء بشريط خام 35 مم، وعملت على
الارتكاز على لقطات ضيقة وثنائية، استطاعت تقديم صورة “بشرية” للذاكرة،
فالكاميرا ليست ساردا مستقلا، بل هي عين قاصرة تنظر في حدود التجربة
البشرية.
يتحرك بسام زمنيا من موقعه إلى موقع زمن الفيلم، ويسحب معه
امتدادات الحدث بداخله، من الأمام إلى الخلف، يستبدل والده أحيانا، ويتجرد
من هويته الابن، ويحاول التحرك منفردا في أحيان أخرى، وهذا ما يكوّن تغذية
جمالية للفيلم عن طريق الجانب البصري، الذي أسهم فيه مدير التصوير ماجد
نادر بشكل شديد التميز والتماهي.
إعادة الحكاية والمعايشة الآنية.. حصار بالصورة والسرد
في أحد مشاهد الفيلم، نرى مشهدا يتجاور فيه سرد الأب محمود
ومعايشة الابن بسام لذات الحدث، حين يستسلم بسام في حوض استحمام ممتلئ
بمياه عكرة، فيتكون بعد جديد للصورة القائمة على المعايشة والتأثير العاطفي
المضمر، ويصبح تأثير الحدث هو المركز، بعيدا عن ماهية من عاشه، وكأن هذه
التجربة تجربة مجتمع، وبداخلنا صدى غير واع، يجعلنا نفزع منها بسهولة.
وخلال نشاط ملاحقة الذاكرة بالجانبين التوثيقي والبصري،
نعايش تنويعات مختلفة جذريا في آليات الاستعادة، منها المونودراما (نص
مسرحي لممثل واحد) التي أداها الممثل سيد رجب، من خلال تجربته مع نفس حدث
الاعتقال.
تعطي مشاهد المسرحية انطباعا جيدا عن الحكاية، لأنها تقوم
على أساس الاعتراف المباشر من خلال الحكي، كذلك يمكن استعادة حضور فردوس
مرة أخرى، لكون حديثها المباشر الحاد أداة ذات موقع فني من أطراف الحكاية،
يتحقق أيضا عن طريق وفرة الاعتراف.
وعلى مستوى داخلي، تتمثل المشاهد العادية المعاشة، مثل
إقامة عيد ميلاد بسيط لأحد أصدقاء محمود مرتضى والتجمعات الليلية في مركب
على النيل والغناء، بوصفها مواد تشير إلى عدم قصدية الحكي، فهذه ليست
شخصيات خارقة، بل لديها خوف من المواجهة، وشعور تجاهها بالتردد والحرج،
تبحث عن اللجوء الجماعي والرفقة.
تكاتف الشخصيات والتقنيات الفيلمية
عبر التعاطي الحساس مع الحكاية، نأتي عند نصف الفيلم محملين
بأبعاد بشرية للتجربة، تبدأ من التردد والهروب والخوف والتوتر، ثم يتكون
فعل “الرفقة” بوصفه قيمة إنسانية وفنية، حضرت في تكاتف تقنيات الفيلم،
وكذلك تكاتف الشخصيات وتصادمها المتكرر، الذي يتجه في النهاية إلى تكوين
رؤى مشتركة لذات الحكاية.
ولكي لا يستهلك الحدث العام، ويحاول استحقاق القيمة لمجرد
أنه شيء من التاريخ، يعود الحدث الأساسي إلى الخلفية، ويوضع في إطار مسببات
غياب الوالد عن ابنه.
ومن خلال هذا التطور، يسحب بسام مفردة “الغياب” معه، لينفرد
فيما بقي من الفيلم بحكايته هو ووالده، هذا الغياب هو ما شكل غلاف الحكاية
منذ بدايتها، فظهر في الرسائل والأشرطة المسجلة من محمود إلى بسام، في غياب
القدرة على التواصل الجيلي، إضافة إلى البعد الصلب الذي شكله الغياب الأول
بسبب الاعتقال.
مقاومة الغياب.. بديل التواصل مع سلطة تجهيل التاريخ
يتمحور الفيلم حول مقاومة الغياب، أولا من خلال فهم كل بعد
له في سياقه، وثانيا من خلال التحديق في رماديته، عبر الاشتباك الذي يحاول
التحديق في صلب الحكاية.
لذلك تطلب الأمر مدلول بداية جديدة حقيقية في أرض جديدة،
استنادا إلى مبدأ عام يصوغ الخبرة البشرية، وهو أن مسار الحياة يبدأ من
الرغبة في الخروج من البيت، وخلال رحلة العودة إليه تتشكل التجربة.
يذهب محمود وبسام إلى أرض في المكان الأول، هي مكان
العائلة، وفيها تتلاشى المشاهد الهروبية التي نراها للوالد والابن وهما
يتحركان حول الحدث بصمت، ويحضر الحوار المباشر وتبادل النبش في الذاكرة
العائلية والشخصية.
يعيدنا فيلم “أبو زعبل 89” إلى صياغة مباشرة للجانب السياسي
والقدرة السينمائية على توظيفه لأجل فهم الواقع، أمام الانغماس في دواخل
تجربة ما، أساسها سياسي، ليس على المشاهد أن يتخذ مقعد التنظير كي يفهم،
لأن الوسيط الفني يخلق جسرا تواصليا، يقوم على الفهم بدلا من هشاشة
الاشتباك النظري.
ومن جهة عامة، يخلق الفيلم بديلا للتواصل مع سلطة تجهيل
التاريخ، فالحاضر يفرض مسارا عالميا قائما على الانغماس في الآنية، والهوس
بالذات، عبر ملاحقة ما هو جديد في كل شيء. |