“عطلة
في فلسطين”.. تساؤلات فلسفية في رحلة العودة من المنفى إلى القرية
حسام الخولي
كانت المفاجأة الأولى من بين مفاجآت فلسطينية عدة في مهرجان
القاهرة السينمائي الـ45، ظهور فرقة دبكة فلسطينية، تفاعل معها الحضور في
حفل الافتتاح وتأثر بها. وبعدها مباشرة يشاهد الجمهور فيلم الافتتاح
الفلسطيني “أحلام عابرة”، وعددا من الأفلام الفلسطينية، التي تطرح خطابات
وأفكارا متنوعة عن فلسطين في لحظة صعبة.
يدخل البلد عامه الثاني في حرب لا تحتمل، وسط صمت عالمي
ربما تحرّكه تلك الخطابات الفنية التي تظهر مدى وتأثير الإجرام الصهيوني.
وبينما تُطرح تلك الأعمال للحديث عن الداخل الفلسطيني اليوم، كان أكثر تلك
الأعمال السينمائية الوثائقية جرأة ومخاطرة تلك التي طرحها فيلم “عطلة في
فلسطين”.
هذا الفيلم هو وثائقي عن ناشط سياسي شاب يدعى شادي، يعود
لفلسطين بعد أن عاش أكثر من 10 سنوات هناك وأصبح فرنسي الجنسية، وقد جاء
بحثا عن الأمل، مع أنه نال فرصا هناك. فماذا يفعل، وفي أي اتجاه يتحرك،
أيظل في فرنسا بعيدا عن المأساة، أم يعود ويصلّح من الداخل؟
يطرح الفيلم أسئلة الهجرة والتساؤل عن جدوى الاستمرار في
الداخل، وتلك طريق وعرة اختار الفيلم طرح خطابه بها، فيمشي في مسار سؤال
صعب، تزداد صعوبته مع الحرب الدائرة -أثناء عرضه- على بعد عدة كيلومترات في
الداخل الفلسطيني. الفيلم من إخراج “مكسيم ليندون” وإنتاج “عودة فيلم”
للمنتجة مي عودة.
يأتي المخرج إلى مصر أول مرة، وأثناء حوار الجزيرة
الوثائقية معه كانت نقطته الأولى تأكيده أهمية القضية، والمساحة الشخصية
التي برر بها كونه متزوجا من فلسطينية، وهي أخت منتجته مي عودة.
كل تلك التفاصيل الشخصية ربما كانت بداية لكسر التوتر، وقد
كان أكثر ما يخيفه الفهم الخطأ للفيلم أثناء عرضه عربيا، وربما المقارنة
التي تُطرح بين خطاب الفيلم والأفلام الأخرى تجاه فلسطين.
حكايات فلسطين في العوالم الروائية
قبل عرض الفيلم بقليل، خرجت القائمة القصيرة لجائزة
“البوكر” الأدبية العربية، وكانت من الكتب الستة في القائمة روايتان
فلسطينيتان أحدثتا زخما وتساؤلا، وهما “قناع بلون السماء” للكاتب باسم
خندقجي.
يطرح بطل الرواية نور مونولوغا يمحور جزءا من خطاب الرواية
الأصيل، إذ يقول: أنا لا أرتدي قناعا، أنا أرتدي مسخا، بل أنا هو المسخ
الذي ولد من رحم النكبة والأزقة والحيرة والغربة والصمت، وُلدت من رحم
التهميش والتصنيف، أنا المسخ يا صديقي، فهل من رحم تلدني مرة أخرى إنسانا؟
قدمت الرواية سردية جديدة، في اختيارها معركة “خطابية”
تتجاوز البكائيات الفلسطينية، وتعيد التساؤل عن البطولة الفلسطينية؛ هل
تبدو بطولة أساسا؟ هل ما يقدمه الرجل الفلسطيني اليوم بطولة أم انتحار؟
وربما هو التساؤل ذاته الذي يطرحه خطاب فيلم “عطلة في فلسطين”.
أما الرواية الثانية فهي رواية “سماء القدس السابعة” للكاتب
أسامة العيسة، وهي غاضبة أكثر، ويبدو الخطاب الذي تنتجه في لحظة ثقيلة
صادما نوعا ما، يمكن النظر فيه ومن خلاله إلى ناس فلسطين بعين غير معتادة.
فالكاتب ينظر فيه من مسافة بعيدة، ربما من السماء، فيراهم بشرا ضعفاء،
ويرفض تصديق بطولاتهم الخارقة، التي يتحاكى بها الخطاب المعتاد في أي حديث
عن فلسطين.
واليوم، حتى ونحن نراهم كل يوم يموتون بالآلاف من دون شفقة،
نعيد النظر في ضعفهم وضعفنا جميعا أمام هذا الجنون. وفي النقطة التي تظن
أنها تتلاقى مع الرواية الأخرى، يهرب أسامة العيسة بأسئلة تدين تلك النظرة
ولا تتعاطف معها، وربما في ذلك ما يدعو لإعادة اختبار كلا النظرتين، ومدى
اتساق إحداهما عن الأخرى، لا سيما في تلك اللحظة المصيرية.
هذا تحديدا ما يعيده الخطاب الفيلمي في فيلم “عطلة في
فلسطين”، فيتساءل عن البطولة في لحظة صعبة، والمواجهة المبنية على التخطيط
أكثر من الفدائية، يعيد التساؤلات إلى الواجهة لطرحها ومناقشتها.
“الفيلم
خطاب عن المنفى”
يقول “مكسيم ليندون” مخرج الفيلم: ركزتْ ردود أفعال الجمهور
العربي على أصولي اليهودية، وأسباب اهتمامي بالنضال الفلسطيني، فكانت فرصة
لدي لمناقشة الارتباك المتزايد الذي يحدث في أوروبا، بين معاداة الصهيونية
ومعاداة السامية، إنها ظاهرة مقلقة تهمني شخصيا.
يحاول “مكسيم” كسر الجليد بالتأييد المباشر للقضية،
والتفرقة بين كونه يهوديا، وكونه في الوقت ذاته مؤيدا للقضية في مواجهة
الاحتلال الصهيوني. لذلك كانت النقطة المؤسسة للرجل دعمه الكامل للقضية، بل
إن الخطاب في جوهره إدانة لقتل الحياة الذي تفعله إسرائيل يوميا في فلسطين.
يسعى “مكسيم” بكل الطرق إلى قفل الفكرة الأحادية التي تخوّن
تساؤل البطل عن البقاء في فلسطين، أو الرجوع إلى فرنسا.
ويستكمل “مكسيم” حواره قائلا: الفيلم خطاب عن المنفى، وأنا
-بصفتي مخرجا- أضع نفسي في وجهة نظر أبناء الشتات الفلسطيني الفرنسي، وهو
مجتمع أعيش بالقرب منه منذ 15 عاما. فإذا كان ممكنا على المستوى الجيوسياسي
أن يضطهد شعب ما شعبا آخر، فلا أظن ثنائية البطل/ الضحية موجودة على
المستوى الفردي. وهنا على وجه التحديد أرى أن السينما يمكن أن تدعو نفسها
إلى عقول المشاهدين، لتشهد على تفرد التناقضات التي تحركنا.
لقاء الأخ السجين.. تناقضات حوار يعكس الخلفيات
في بداية النصف الثاني من الفيلم، نشاهد مشهدا رئيسيا بين
البطل وأخيه الأكبر الذي سُجن سنوات. وتبدو المواجهة بينهما حميمية ومساحة
تأمل كبير، فالسجين يرى أن الخروج من الأرض لا يعنيه إطلاقا، في مقابل
تساؤل الشاب القادم من فرنسا عن محاولة الاشتباك السياسي البنّاء، وعدم
الصدام الذي ينتج العقاب بالسجن.
بدا ذلك المشهد الطويل الثابت أكثر المشاهد جرأة، فهو يضع
البطل في مواجهة ذاته وماضيه وحياته التي باتت على المحك، وربما بات عليه
أن يحسم قراره تجاهها بلا تراجع ولا مهادنة.
ويفصل المخرج كل المنغصات عن المشهد، فينزع منه الموسيقى،
ويتوقف عن اللعب بحركة الكاميرا، في مشهد ثابت يتابع أخوين يتعاتبان في
خلفية مدنية، قضية انقسمت أمامها الآراء، لا سيما بعد طوفان الأقصى.
وفق الرؤية التي يطرحها المخرج، قد تجسّد رحلة العودة
التوتر المرتبط باقتلاع بطله شادي، الذي أراد التحدث عنه في الفيلم، فخلال
إجازته نكتشف شتى وجهات النظر التي قدمتها مجتمعاته حول اختياره، وآثار
ماضيها السياسي وعلاقتها الحميمة بالأرض الفلسطينية.
إن المشهد الفيلمي الأخير الذي نراه في فرنسا، إنما هو
خاتمة تفتح رهانات المعركة المستقبلية، أي فرحة الأبوة ضد معاناة المنفي
الذي لا يتركه. ويمكن أن تكون الخاتمة نقطة البداية لفيلم آخر، وربما يبدو
هذا المشهد والمشهد الذي يقابل فيه الأخ هما المرتكز الذي تُطرح خلاله
الأسئلة كلها.
“سرد
الدعاية الإسرائيلية إنما هو انعكاس للإمبريالية”
يحكي لنا “مكسيم” أن الهجرة صعبة الفهم لدى الأحباء الذين
تركوهم وراءهم، ثم لدى المجتمعات المضيفة أينما كانوا، وهذا من الموضوعات
الرئيسية للفيلم. ويحلل ذلك بقوله: وجهة نظري هي أن البشر يغيرون مصيرهم
لمليارات الأسباب، وفي هذه الحالات، فإن المغادرة هي خيار اقتصادي في
الغالب، وعمل من أعمال الشجاعة.
ثم يقول: إن سرد مشاعر الشتات الفلسطيني هو أيضا تذكير بأن
المنفى يشكل تمزيقا للروح ومخاطرة لا يمكن حسابها لمن يتخذونه، على أمل
الوصول إلى حياة أفضل تعود بالنفع على الأجيال القادمة. ففي أوروبا حاليا
لا يُعد الاستماعُ إليك -وأنت يهودي مناهض للاستعمار ومعادٍ للصهيونية-
يهوديةً جديدة، بل هو بيان سياسي.
ويتحدث عن نفسه قائلا: في حالتي، فإن توضيح يهوديتي في سياق
الفيلم لا يهم، إلا لأنه يروي تفكيكا للفكر. فمنذ أن خضت تجربة الذهاب إلى
فلسطين، كان عليّ أن أتحدى السرد والمعتقدات الراسخة في الذات، التي تأتي
من تراث ثقافي وعائلي.
ثم يختتم تلك النقطة قائلا بوضوح ودقة: بوصفي مخرجا
سينمائيا، فإن الحديث عن آليات القمع الاستعماري الإسرائيلي في الريف
الفلسطيني، هو أيضا وسيلة للتساؤل حول تاريخ الدول الغربية السياسي
ومستقبلها. دعونا لا ننسى أن سرد الدعاية الإسرائيلية إنما هو انعكاس
للإمبريالية، كما تفهمها الدول الغربية غالبا.
رحلة صناعة الفيلم
يتحدث المخرج “مكسيم ليندون” عن الطريقة التي اتبعها في
الفيلم والوقت الذي احتاجه ليصنعه، فيقول: بعد التصوير في عام 2017،
استغرقتُ 5 سنوات من الإنتاج الذاتي لترجمة 120 ساعة من اللقطات باللهجة
الخليلية الفلسطينية إلى اللغة الفرنسية.
في هذه المرحلة سجل الفيلم إجازته، وكانت هذه المرة مصحوبة
بتبادلات مستمرة مع شادي الذي أصبح في الوقت نفسه أبا، واختار البقاء
الدائم في فرنسا. وتمكنتُ بذلك من إضفاء شكل سينمائي للقضايا المعقدة
والخفية في لقطاتي، وسمح لي التصوير النهائي في فرنسا والكتابة الصوتية
المشتركة مع شادي بإضفاء طابع زمني جديد على القصة، وبناء شخصيته من خلال
ذكريات إجازته.
هكذا استطاع الفيلم سرد رحلته بصفته ناشطا وشابا على مدى ما
يقرب من 10 سنوات.
“عطلة
في فلسطين”.. معجزة إنتاج ذاتي استغرق أعواما
يمزج فيلم “عطلة في فلسطين” بين الذاتي الحميمي والعام
السياسي. ويقول المخرج إن سيعمل على ذلك الخط حتى في أعماله المستقبلية،
وإن الفيلم لم يكن ليخرج لولا الفريق الذي لازمه وسانده للعمل على فكرته
الأثيرة.
ويقول: الفيلم معجزة إنتاج ذاتي، كان برفقتي “جوليان
داراس”، وهو مدير التصوير ومؤلف مشارك ثم منتج منفذ، ومعي روان عودة، وهي
المستشارة الفنية والمترجمة وشريكتي في الحياة، ثم شادي الفواغرة الذي لم
يخيب ظني أبدا، مع أنه قضى وقتا صعبا أيضا.
وقد سمح لنا دخول منتجين مشاركين عالميين عام 2023 بنيل
منحة من مؤسسة الدوحة للأفلام، فاستطعنا تشكيل فريق رفيع المستوى لاستكمال
مرحلة ما بعد الإنتاج في مرسيليا، المدينة التي أعيش فيها. هكذا يبرر توازي
العام مع الخاص.
“أسعى
لكشف الآليات الخفية للسياسة الاستعمارية”
يختم المخرج “مكسيم ليندون” حواره قائلا: دعونا لا ننسى أن
الدعاية الصهيونية التي تبرر استعمار فلسطين إنما هي انعكاس للإمبريالية
الهمجية، كما مارستها الدول الغربية قرونا. فمن خلال قصة شادي وقرية وادي
رحال التي سحقتها المستوطنة المجاورة عسكريا واقتصاديا، أسعى للكشف عن
الآليات الخفية للسياسة الاستعمارية الإسرائيلية.
في النهاية يطرح “عطلة في فلسطين” بورتريها بصريا لحياة
أسرة فلسطينية شتتها الحرب. وقد أحكم الفيلم كل عناصره لإظهار ذلك الشتات،
فطرح حلولا بديلة تفكر في المقاومة السياسية البطيئة، واستخدام الفلسطيني
الموجود في الخارج لأدوات أخرى غير الحرب المباشرة لمواجهة إسرائيل.
هذه الرؤية قد يراها بعض الناس هروبا، لكن الفيلم يطرحها
نقطة قوة ومقاومة يحتاجها كل فلسطيني. |