في 'أحلك الساعات' تشرشل يقود بريطانيا إلى النصر
العرب/ أمير
العمري
ظاهرة سينمائية تكشف عن احتياج واضح للعودة إلى تسليط الأضواء على
حياة وإنجازات شخصية قيادية قوية مثل شخصية تشرشل.
خلال العامين الأخيرين فقط، ظهرت ثلاثة أفلام تدور حول شخصية
الزعيم السياسي البريطاني وينستون تشرشل (1874 - 1965) الذي يعتبره
معظم البريطانيين الشخصية الأكثر تأثيرا في القرن العشرين. وهي
ظاهرة سينمائية تكشف عن احتياج واضح للعودة إلى تسليط الأضواء على
-والاستلهام من- حياة وإنجازات شخصية قيادية قوية مثل شخصية تشرشل،
تتمتع بـ”كاريزما” مميزة، خاصة بعد أن أصبح الجمهور يقبل على
مشاهدة هذا النوع من الأفلام، ويشجع على إنتاجها، ويتبارى في أداء
الدور الرئيسي فيها كبار الممثلين.
الفيلم الأول هو فيلم “سر تشرشل” (2016) من إخراج تشارلز ستريدج،
الذي يدور حول تعرض تشرشل -الذي عاد إلى منصب رئيس الحكومة
البريطانية عام 1952- لجلطة دماغية (وكان وقتها في الثامنة
والسبعين من عمره) أقعدته عن العمل، لكن زوجته تمكنت من إخفاء
الأمر تماما عن المجتمع السياسي، إلى أن تمكن الرجل من هزيمة
المؤامرات التي كانت تحاك في أوساط ويستمنستر لاستبداله، وتمكن من
التعافي بمساعدة ممرضة وهبت نفسها من أجل أن يستعيد صحته. وفي هذا
الفيلم تألق الممثل الكبير مايكل غامبون في دور تشرشل.
أما الفيلم الثاني فهو “تشرشل” (2017) الذي قام ببطولته بريان
كوكس، وأخرجه الأسترالي جوناثان تيبليتزكي، ويصور الفيلم الأزمة
النفسية التي انتابت الزعيم البريطاني بعد أن بدأ العد التنازلي
لعملية الإنزال العسكرية الكبرى بفرنسا وبدء تحرير أوروبا من
القوات الألمانية عام 1944. والفيلم بأكمله تصوير متخيل، لما يمكن
أن يكون قد دار في ذهن الزعيم السياسي المحنك، وما كان يؤرقه في
الواقع، لعدة أشهر قبل بدء العملية.
الفيلم الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا هو الفيلم الثالث وهو فيلم
“أحلك الساعات” (Darkest
Hour)
الذي أخرجه البريطاني جو وايت، وقام بدور تشرشل فيه غاري أولدمان
(حصل عن دوره هذا على جائزة أحسن ممثل في مسابقة الكرة الذهبية
غولدن غلوب مؤخرا). والفيلم دون شك، أفضل الأفلام الثلاثة، وواحد
من أفضل الأفلام التي ظهرت عن الزعيم البريطاني الذي لا يزال يثير
الجدل حتى بعد وفاته بأكثر من خمسين عاما.
ومعروف أن الأفلام التي تناولت على نحو أو آخر شخصية تشرشل بلغت
نحو ستين فيلما. وعلى الرغم من كثرة الحوار واعتماد التصوير على
أماكن محدودة إلا أن “أحلك الساعات” يتميز بأسلوبية سينمائية رفيعة
المستوى من حيث الصورة، والإيقاع، والابتكار في زوايا التصوير،
والإخلاص الشديد لطبيعة وأجواء الفترة الزمانية من جميع الجوانب؛
الملابس، السيارات، الأشكال، الديكورات، والإضاءة التي تلقي ظلالا
على الصورة بحيث تضفي أجواء القلق والترقب على مشاهد الاستعداد
للحرب، ومداولات البرلمان البريطاني القريبة من الواقع، إلخ.
الفكرة الأساسية في فيلم "أحلك الساعات" هي كيف يتولى زعيم سياسي
مسؤولية قيادة بلاده، في أحلك الساعات التي تواجهها الأمة
البريطانية في تاريخها الطويل، أمام تهديدات هتلر بغزو البلاد
وإخضاعها، وكيف يتخبط هذا السياسي المخضرم، ما بين الشك واليقين،
وينتقل من انعدام الثقة، إلى اكتساب القوة، ومن الشعور بالذنب
والأرق، إلى الاستقرار على ضرورة الصمود والقتال مهما كلف الأمر
بين الشك واليقين
الفكرة الأساسية في فيلم "أحلك الساعات" هي كيف يتولى زعيم سياسي
مسؤولية قيادة بلاده، في أحلك الساعات التي تواجهها الأمة
البريطانية في تاريخها الطويل، أمام تهديدات هتلر بغزو البلاد
وإخضاعها، وكيف يتخبط هذا السياسي المخضرم، ما بين الشك واليقين،
وينتقل من انعدام الثقة، إلى اكتساب القوة، ومن الشعور بالذنب
والأرق كلما ذكره الآخرون بقراراته الخاطئة التي تسببت في كارثة
عسكرية لجيش بلاده في معركة "غاليبولي" قبيل نهاية الحرب العالمية
الأولى، إلى الاستقرار على ضرورة الصمود والقتال مهما كلف الأمر،
لكي يصبح قائدا يثبت التاريخ أن موقفه كان صائبا، وأن الأمم التي
تستسلم تسقط حقا من التاريخ.
يدور الفيلم داخل ديكورات تضاهي الأماكن الحقيقية؛ قاعة مجلس
العموم البريطاني، وزارة الحرب، الأقبية والممرات والغرف السرية
الكائنة تحت الأرض في منطقة الحكومة بويستمنستر التي شهدت اجتماعات
وزارة الحرب التي شكلها تشرشل بعد أن تولى رئاسة الحكومة عام 1940
وبعد الإطاحة بسلفه تشامبرلين الذي ضحك عليه هتلر وأقنعه بأنه
سيجنح للسلام ثم قامت قواته بغزو بولندا، وكذلك غرف مقر رئيس
الوزراء في 10 داوننغ ستريت، مع بعض المشاهد الخارجية المحدودة.
ولعل مما يلفت النظر في الفيلم الذي يتناول الأسابيع الأولى من
فترة رئاسة تشرشل لحكومة الحرب، ابتعاد الفيلم كثيرا، إلا فيما ندر
ومن خلال مشاهد مقتضبة، عن التركيز على مشاهد الجنود البريطانيين
أو الانسحاب البريطاني الكبير في دنكرك، فالمخرج حرص على عدم تكرار
ما يمكن أن يذكرنا بفيلم “دنكرك” لكريستوفر نولان الذي يعدّ الأكثر
اكتمالا في معالجة وتصوير هذا الموضوع، كما حرص سيناريو أنتوني
مكارتن (صاحب “نظرية كل شيء”) على عدم تكرار ما سبق أن شاهدناه في
فيلم “تشرشل”، وحرص المخرج على تجاوز جمود الفيلم السابق وطابعه
الذي جعله أقرب ما يكون إلى مسرح الشخصية الواحدة.
يتميز “أحلك الساعات” بالإيقاع السريع، وبمشاهده المبتكرة المتخيلة
التي تضيف الكثير إلى الشخصية وتدعمها من ناحية التكوين النفسي،
كما يستفيد بشكل كبير من شخصية السكرتيرة الشابة إليزابيث التي
استعان بها تشرشل لكتابة خطاباته ورسائله، والتي تؤدي دورها في
الفيلم ببساطة آسرة، الممثلة الشابة الصاعدة ليلي جيمس (التي تألقت
في فيلم “بيبي درايفر”).
يجسد الفيلم علاقة ذات طبيعة خاصة بين إليزابيث اليافعة البريئة
التي لا تعرف شيئا عن دهاليز السياسة وتبدو مندفعة في أداء عملها
بإتقان وإخلاص، إحساسا منها بخطورة اللحظة التاريخية، لكنها تشعر
أيضا بالاضطراب أمام هذه الشخصية العملاقة غريبة الأطوار، أي تشرشل
العجوز الذي يعاني من هجوم الأفكار المتضاربة المتناقضة عليه.
ينصت باهتمام حينا إلى نصائح وزير خارجيته اللورد هاليفاكس الذي
يلح عليه بضرورة التفاوض مع هتلر للتوصل إلى تسوية وعدم المغامرة
بتدمير الجيش البريطاني وتعريض البلاد لخطر الغزو، ولكنه يميل أكثر
إلى ضرورة الصمود والمقاومة مرددا لزملائه “أنت لا يمكن أن تناور
مع النمر طالما أن رأسك داخل فمه”.
يطير تشرشل في مشهد بديع لكي يطلع بنفسه -مذعورا- على مأساة
اللاجئين وهم يفرون من مدنهم وقراهم مع زحف قوات هتلر نحو فرنسا.
كاميرا مدير التصوير الفرنسي برونو ديلبونيل تميل للهبوط التدريجي
السريع إلى الأرض قبل أن تعود لترتفع مجددا نحو السماء، أي نحو
تشرشل وهو داخل الطائرة حيث يتأمل ما يحدث في الأسفل.
وفي مشاهد التفجيرات الناتجة عن قصف الطيران الألماني للقوة
البريطانية الباقية في ميناء كاليه الفرنسي، تبدأ الكاميرا من
الأرض، من قائد القوة وهو يتحدث تليفونيا ثم وهو يسير خارجا من مقر
القيادة حيث نرى العشرات من الجنود منتشرين، ثم ترتفع الكاميرا
ارتفاعا عموديا نحو السماء لنرى تساقط القنابل من الطائرات
الألمانية المحلقة. كان هذا هو الثمن الذي قبل به تشرشل، أي
التضحية بأربعة آلاف جندي في كاليه مقابل إنقاذ 300 ألف جندي كانوا
يتجهون إلى دنكرك.
الإنصات للشعب
في خضم حيرة تشرشل ما بين القبول بالتفاوض، ورغبته في الصمود
والمواجهة، يستغل تشرشل توقف سيارته في إشارة ضوئية وسط لندن عندما
كان في طريقه إلى البرلمان لإلقاء كلمة يوضح فيها موقفه النهائي
وكأنه كان سيقبل بالتفاوض، لكنه يغادر السيارة ويهبط ليختفي بين
الجموع، ثم يهبط إلى إحدى محطات قطارات الأنفاق.
هنا يبرع كل من مدير التصوير ومصمم الديكور والمخرج، في تقديم مشهد
رمزي شديد التأثير. تشرشل يستقل عربة أحد القطارات حيث يتعرف عليه
الركاب. يسأل طفلة صغيرة عن كيفية الوصول إلى محطة ويستمنستر، ثم
يشعل سيجاره المميز الذي لا يفارقه أبدا، ويبدأ في عمل استطلاع رأي
بين الركاب الذين يمثلون طبقات المجتمع المختلفة “هل نستسلم أم
نقاتل؟”، يؤكد الجميع بحماس على ضرورة المقاومة والقتال حتى في
الشوارع لو اقتضى الأمر.
في النصف الأول من الفيلم يبدو تشرشل كما لو كان عجوزا أحمق، فهو
كسول يتناول فطوره في الفراش، لا يفارقه كأس الخمر، صاحب مزاج حادّ
متقلب، يميل للعدوانية، لكن زوجته كليمنتين (التي تقوم بدورها في
الفيلم كريستين سكوت توماس) وهي أقرب منها أيضا إلى أمّ، هي
الشخصية الوحيدة القادرة على كبح جماحه.
إنه يبدو أمامها كطفل صغير. يحاول أولا إبداء رغبته في أن يتمرد
ويغضب ويتملص ثم يستمع، لكنه يقبل بالنصيحة؛ إنها تحبه وتؤمن به
وتريده أن يبرز الجانب القوي في شخصيته. وهي تتمكن أيضا من إيقافه
عن تجاوزاته التي تعكس توتره النفسي الحاد، مع سكرتيرته الشابة
إليزابيث التي تخفي معاناة شخصية، بعد أن فقدت شقيقها في فرنسا.
الشجاعة
في أحد أجمل مشاهد الفيلم تتوقف إليزابيث عن كتابة الأمر الذي
يمليه عليها تشرشل والموجه إلى قائد القوة المتمركزة في كاليه
ويقضي بالمقاومة رغم الفارق الكبير في القوة مع الألمان. اللقطة
عامّة؛ تجلس إليزابيث في مقدمة الكادر، في منتصف الصورة تماما.
الإضاءة شاحبة في الغرفة، لكن هناك مصباحا جانبيا في الخلفية، وإلى
أعلى هناك ثريا بسيطة يلمع الضوء الساقط منها أبيض ضعيفا. يجلس
تشرشل على الجانب الأيمن في الظلام تقريبا باستثناء ضوء خفيف يشعّ
من مصباح جانبي إلى يمينه. تتوقف إليزابيث عند عبارة معيّنة يمليها
عليها لا يمكنها أن تطبعها على الآلة الكاتبة ثم تتجه بنظرها إليه
ربما للمرة الأولى.
اللقطة الآن متوسطة؛ هي تجلس في المقدمة تشيع ملامح التأثر على
وجهها، وهو يقف في الخلفية على يسار الكادر غير قادر على التطلّع
إليها. ثم نراه في لقطة قريبة حيث نشاهد وجهه من الجانب، يبدو في
الكادر الداكن بفعل الظلام المحدق، ينفث الدخان “ما الذي تريدين
معرفته”، عندئذ توجه له السؤال الحرج بينما تترقرق الدموع في
عينيها “كم رجلا سينجو؟” يصمت ثم ينهض ويطلب أن تتبعه عبر الممرات
السرية وصولا إلى غرفة القيادة لكنها تحجم قائلة إنه ليس مسموحا
لها بدخول هذه الغرفة، فيجيبها “مسموح لك الآن”.
في الداخل يشير إلى خارطة معلقة على الجدار. يشرح لها الموقف
العسكري، ويقول إنه يقبل بصمود القوة في كاليه على أمل إنقاذ القوة
البريطانية الضخمة من دنكرك، وإن كان لا يأمل في نجاة أكثر من عشرة
بالمئة من الرجال.. مضيفا “لكن الشجاعة مطلوبة”. وعندما تشتد أزمته
ويصبح في حالة انعدام الوزن يختلي بنفسه فوق سطح المبنى ليفكر
ويتطلع نحو السماء ثم ترتفع الكاميرا وترتفع لتتركه في الأرض صغيرا
ضائعا خاصة مع تصاعد موسيقى البيانو الحائرة التي تسيطر على الفيلم
من البداية، ثم ننتقل إلى لقطة أخرى مع حركة أمامية للكاميرا نحو
رجلين نراهما من الخلف، يتطلعان عبر شرفة؛ إنه الملك جورج السادس
يتحدث إلى مستشاره. الملك نفسه يفكر في النجاة بعائلته إلى كندا.
بعد زيارة الملك الذي يؤكد تأييده لتشرشل، ينتقل الفيلم إلى وجهة
أخرى وتصبح موسيقى الإيطالي داريو ماريانيللي أكثر تفاؤلا ومرحا
وسرعة في إيقاعاتها. وفي لقطة عامة مع كاميرا متحركة من أحد
الزوارق إلى الأمام نشاهد المئات من القوارب والزوارق التجارية
المدنية التي تنقل الجنود من دنكرك، ولكن من دون لقطة واحدة قريبة
للجنود، فهذا هو فيلم تشرشل وحده، على العكس من فيلم “دنكرك” الذي
لم يظهر فيه تشرشل سوى كصورة على الصفحة الأولى من جريدة.
أداء كبير
يرتفع أداء غاري أولدمان بالفيلم كثيرا ليثبت أنه أفضل من تصدّى
لأداء شخصية تشرشل. إنه لا يحاكي ولا يقلد، لا في الصوت ولا حتى في
الشكل، لكنه يتقمص كأفضل ما يكون التقمص؛ يتقمص الروح والشخصية،
الضعف والتردد والاضطراب واللجوء إلى الخمر والتشبث بالسيجار، ثم
المعاناة أمام من يمارسون عليه الضغوط من أعضاء حكومته وحزبه، ثم
كيف يجد الدعم من زوجته ثم من إليزابيث ومن الملك ثم من الجمهور
العام في قطار الأنفاق.
تشرشل- أولدمان، يبكي تأثرا عند سماع موت أحد الجنود، تطارده
أفكاره الخاصة بما تسبب فيه في غاليبولي، يفقد أعصابه حينا، ويتأمل
وجه سكرتيرته الجميلة يستمدّ منها الشعور بنبض الحياة حينا آخر.
وغاري أولدمان يعيش الشخصية ويعبّر عنها من خلال نبرات صوته ونظرات
عينيه، بل وفي لحظات الصمت الطويل أيضا، ربما أكثر من لحظات التدفق
في الحديث. ولكن تشرشل كان أيضا خطيبا عظيما يمتلك كاريزما خاصة
تلهب مشاعر أعضاء البرلمان وهو ما يبدو في اللقطة الختامية من
الفيلم كنقيض للقطات الأولى المليئة بالغضب والفوضى على سلفه.
ناقد سينمائي من مصر |