القضاء انتقل من المحاكم إلى مواقع التواصل
الاجتماعي التي أصبحت الحاكم والجلاد
لوس أنجليس – «القدس العربي»: عادة في موسم جوائز هوليوود، تهيمن
الأفلام المتنافسة على الحديث والنقاشات في الحفلات والمناسبات،
فضلا عن تصدرها لعناوين أخبار السينما، ولكن هذا الموسم انقلبت
الأمور رأسا على عقب. فبدلا عن الحديث عن الأفلام، أجد نفسي في هذه
الحفلات أناقش اتهامات التحرش الجنسي الموجهة إلى صانعيها ونجومها
وكأن أخلاقياتهم أصبحت المعيار الوحيد لتكريم أعمالهم الفنية وليست
مواهبهم. والأكثر غرابة أن الكثير من النجوم المتنافسين صاروا يتم
تفاديهم، كما حدث مؤخرا لفائزي جوائز «الغولدن غلوب» جيمس فرانكو
وعزيز أنصاري.
عندما صعد جيمس فرانكو إلى المنصة لتسلم جائزة «الغلودن غلوب»
لأفضل ممثل في عمل كوميدي أو موسيقي، كانت ممثلاته وتمليذاته بين
الملايين، الذي كانوا يشاهدونه يرتدي رمز التضامن على صدره مع
ضحايا الاعتداءات الجنسية «كفاية».
وبينما كان يلقي خطاب استلام الجائزة، كانت تلك الممثلات تبث
ادعاءات عنه على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تتهمه بتصرفات
بذيئة تجاههن خلال العمل معه على مشاريع أفلام. وفي الأيام
اللاحقة، قضى فرانكو وقته يدافع عن نفسه في برامج «التوكشوا» بدلا
من الاحتفاء بجائزته.
كما أنه تفادى لاحقا حضور حفل توزيع جوائز النقاء السينمائيين، حيث
فاز بجائزة أفضل ممثل مرة أخرى، وقد وضع أكاديمية فنون وعلوم الصور
المتحركة في أزمة لأن الترشيح لجوائز الأوسكار أُغلق قبل ظهور
الاتهامات ضده، ومن المتوقع أن يرشح في فئة أفضل ممثل. فهل ستدعوه
الأكاديمية إلى حفل توزيع جوائز الأوسكار؟ وإذا حضر كيف سيواجه
الإعلام؟
هذا السؤال تواجهه الأكاديمية في خصوص دعوة نجم آخر، وهو كيسي
أفليك لتقديم جائزة أفضل ممثل، التي فاز بها العام الماضي عن دوره
في فيلم «مانشستر باي ذي سي.» أفليك أيضا يواجه اتهامات تحرش جنسي
من قبل بعض النساء، اللواتي ما زلن يطالبن هوليوود بمقاطعته. تخيّل
كيف سيكون رد الجماهير على مواقع التواصل الاجتماعي إذا فاز فرانكو
بجائزة أفضل ممثل وقدمها له أفليك؟
البريطاني غاري أولدمان المرشح الأفضل للأوسكار
المرشح الأقوى للفوز في أوسكار أفضل ممثل ليس فرانكو وإنما
البريطاني غاري أولدمان عن أداء دور وينستون تشرشل في «أكثر
الساعات ظلمة». لكن هذا الأمر لن ينجد الأكاديمية من أزمتها. فمثل
فرانكو، فوز أولدمان بغولدن غلوب أفضل ممثل في عمل درامي أثار غضب
بعض النساء لأنه كان أيضا متهما بالاعتداء على زوجته عام 2001.
فيبدو أن الأكاديمية في مأزق صعب لا مخرج منه.
أنصاري هو أيضا صنع تاريخا الأسبوع الماضي عندما أصبح أول مسلم
يفوز بجائزة أفضل ممثل في عمل تلفزيوني كوميدي. ولكن بدلا من
الاحتقاء بتحقيقه التاريخي، كان عليه أن يتصدى لاتهمات فتاة ادّعت
أنه أكرهها على مضاجعته في بيته في نيويورك العام الماضي.
اتهامات التحرش الجنسي اندلعت منذ فضح المنتج الهوليوودي العملاق
هارفي واينستين بداية شهر اوكتوبر/تشرين الأول الماضي في مقال
نشرته جريدة «نيويورك تايمز».
ومنذ ذلك الحين أسفرت هذه الاتهامات، التي لم تُثبت في محاكم
قضائية، إلى انهيار بعض ابرز نجوم ومسؤولي هوليوود وسقوطهم من
مناصبهم على غرار الممثل كيفين سبيسي والمخرج بريت راتنر ومؤسس
شركة «بيكسار» للصور المتحركة ومدير شركة «ديزني» جون لاسيتر. بعض
الاتهامات جدية مثل إكراه الضحايا على ممارسة جنسية أو حتى اغتصاب،
ولكن عددا كبيرا منها تبدو تصرفات عادية تمارس في الحياة اليومية
في المجتمعات الغربية، مثل عادة لاساير معانقة النساء. الحقيقة هي
أنه كان يعانق النساء والرجال. وكان يعانقني كلما التقيت به وكنت
أشاهده يعانق الجميع بدون تمييز ولم أشعر إن كانت نيته سيئة، ولكن
ذلك لم يحميه من هجوم شرس ضده على صفحات التواصل الاجتماعي واضطر
إلى ترك منصبه.
حركة «أنا أيضا»، التي تشجع النساء على فضح كل من تحرش بهن أو
اعتدى عليهم في حياتهن، أصبحت سيلا عارما تجرف كل ما يقف أمامها
وتسحقه. فعندما حاول مات ديمون، الشهر الماضي، أن يحذر من الافراط
والتهور في نشر هذه الاتهامات، التي أسفرت عن تدمير أشخاص ابرياء،
بدون فحص صحتها ودقتها، انقلبت الحركة ضده وهاجمته بالاستنكار
واتهمته بالجهل وعدم الحساسية، رغم أنه كان واحدا من أشد مناصريها.
كما واجهت النجمة الفرنسية، كاثرين دينوف، هجوما شرسا عندما قامت
هي ومئة امرأة فرنسية بنشر تصريح تستنكر العداء تجاه الرجال وتقر
حقهم في مغازلة النساء.
الاتهامات الأخيرة ضد أنصاري وفرانكو كانت تافهة لدرجة أن بعض
مناصري حركة «أنا أيضا» تراجعوا أمام استـهتار الجـمهور بها على
مواقـع التـواصل الاجتمـاعي. فرانكو وانصاري لم يعتديا على أحد.
الأول طلب من الممثـلات أن يخـلعن ملابـسهن في مشـهد جنسـي في
فيـلم كنّ على علم سابق بفحواه وهذا أمر عـادي في صـنع الأفلام،
والثاني كان في بداية علاقة رومانسية مع متهمته، التي ذهبت إلى
بيته برضاها ولم يكرهها على مضاجعته. فإذا كان تصرف فرانكو وأنصاري
غير أخلاقي أو اجرامي فهذا يعني أن الحضارة الغربية، التي تفتخر
بالحرية الجنسية، هي غير أخلاقية واجرامية.
وسائل التواصل تحاكم النجوم
قبل فضيحة واينستين، كان نجوم ومسؤولو هوليوود يستأجرون طواقم من
المحامين ويلجأون إلى المحاكم لإسكات متهمينهم. ولكن الآن لم يعد
القانون فعالا في حمايتهم والدفاع عنهم إذ أن القضاء انتقل من
المحاكم إلى مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت الحاكم والجلاد
بدون أن تخضع لاي قوانين او نظام، مما أثار الرعب في قلوب نجوم
ومسؤولي هوليوود، الذين لم يبقى أمامهم إلا الاختباء والابتعاد عن
الانظار. وهذا ما لاحظته في حفلات «الغولدن غلوب»، إذ أن غالبية
النجوم اختفوا بعد استلام جوائزهم بدلا من الاحتفاء بفوزهم حتى
ساعات الصباح كما كان يفعلون في الاعوام السابقة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف أثرّت كل هذه التطورات على الأفلام
المتنافسة؟
موسم الجوائز ينطلق في شهر أيلول/ سبتمبر بعد مهرجانات «فينيسيا»
الايطالي و»تورنتو» الكندي، حيث يبرز فيلم واحد أو فيلمان يتصدران
المنافسة حتى وصولهما إلى جوائز الأوسكار. هذا العام لم يلمع فيلم
واحد وكانت المنافسة مفتوحة بين عدة أفلام. ولكن يبدو أن احداث
التحرشات الجنسية سوف تقرر مصير الأفلام المتنافسة وليس قيمها
الفنية، كما شاهدنا في جوائز «الغولدن غلوب» قبل أسبوعين، حيث
هيمنت أفلام نسائية عليها على غرار فيلم «ثلاثة لوحات اعلانية في
ايبينغ ميزوري»، الذي حصد خمس جوائز ويدور حول أم تطالب الشرطة
بالتحقيق في اغتصاب ومقتل ابنتها.
النساء السود يفرضون أنفسهم
كما يتعرض مصوتو الأوسكار للضغط من أجل تكريم فيلم غريتا غيرويغ
«لادي بيرد»، فيلم نسائي من إخراج امرأة ويتناول نضوج فتاة مراهقة
وعلاقتها مع أمها. وهناك حملة تقارنه بفيلم «مونلايت» الذي فاز
العام الماضي بأوسكار أفضل فيلم ويدور حول نضوج شاب أسود.
التركيز على قضايا النساء همّش هذا العام قضايا السود والتمييز
العرقي، التي كانت تُثار في مواسم الجوائز السابقة والتي اجبرت
لاحقا الأكاديمية على القيام بتغييرات جذرية في عملية ترشيحها
للافلام من خلال دعوة مئات من اعراق غير بيضاء للانضمام اليها
ومنحهم حق التصويت، التي كان يحتكره الرجال البيض، مما أدّى العام
الماضي إلى ترشيح عدد قـياسي من الفـنانين الملـونين.
بلا شك أن الأكاديمية تدرك أن تجاهل أفلام السود سوف يخلق أزمة
أخرى لها، لهذا يُتوقع أن يتم ترشيح فيلم المخرج الأسـود جوناثان
بيل «أخـرج»، الذي يسخر من نفاق وعداء اللـيبراليين للـسود، في عدة
فـئات، وتكريم فيـلم المـخرجة السوداء دي ريس «مادباوند»، الذي
يتناول بشـاعة العنصرية تجاه السود خلال وبعد الحرب العالمية
الثانـية.
الأفلام المتنافسة الأخرى تضم فيلم المكسيكي غييرمو ديل تورو «شكل
الماء» وفيلم ستيفين سبيلبرغ «بوست»، كلاهما يتمحور حول شخصية
انثوية قوية. الأول يحكي قصة منظفة بكماء تنقذ كائن مائي من مختبر
المخابرات الأمريكية المركزية أبان الحرب الباردة وتقع في حبه
والثاني يقدم مالكة جريدة واشنطن بوست، كاثرين غراهام، التي قررت
نشر أوراق البنتاغون السرية عام 1971 رغم تهديدات ادارة الرئيس
الأمريكي آنذاك ريتشارد نيكسون.
أنا لا أنكر أن الأفلام المذكورة أعلاه تتسم بجودة فنية راقية
ولكني لا اعتقد أن المعيار وراء تكريمها سوف يكون قيمها الفنية بل
مضامينها، التي تعكس الاحداث والواقع في هوليوود وخارجها. وهذا ليس
سابقا بل تغييرا في نهج تكريم الأفلام. ففي الماضي معظم الأفلام
التي كان تحظى بجوائز الأوسكار كانت تعالج محرقة اليهود في الحرب
العالمية الثانية ولكن تعزز نفوذ السود والأعراق الأخرى حطّ شيئا
ما من هيمنة اليهود في هوليوود وساهم في تسليط الضوء على مواضيع
اخـرى تستـحق أيضا التكـريم.
هذه الأيام تمر هوليوود في حالة ترقب شديد لما سيحدث بعد اعلان
ترشيحات الأوسكار التي سوف يُعلن عنها غدا. الأكاديمية بين المطرقة
والسندان، وتدرك أن لا يمكنها إرضاء الجميع وبغض النظر عن تركيبة
أو نوعية الترشيحات فسوف تتعرض للانتقادات من جهة أو أخرى. والسؤال
الذي تواجهه هو: هل هي مؤسسة لتكريم الفن السينمائي طبقا للمعايير
المهنية أم أصبحت جسدا شعبيا يلبي طلبات حملات متابعي مواقع
التواصل الالكتروني؟
####
«آخر
الرجال في حلب» و«قمر بعبّ الغيم»…
حكاية مدينة قمر بعب الغيم
آية الاتاسي*
«قمر بعبّ الغيم» يستوقفك عنوان محاضرة الشاعر فؤاد م. فؤاد في
بيروت، فتخالها قصيدة جديدة، ولكن خلافاً لكل توقعاتك ستعثر على
«قمر بعب الغيم» في قلب المطبخ الحلبي، فالشاعر كما مدينته حلب،
كما حجارتها، كما قدودها، يقرضون الشعر، وإن تحدثوا عن المطبخ.
ولن تقتصر رحلتك مع الشاعر إلى المائدة الحلبية والكبب التي تزيد
أنواعها عن الـ59 نوعاً، بل سيأخذك عبر التاريخ عابراً مدينة ضاقت
حدود الولاية العثمانية بطموحاتها الواسعة، بعدما حولها طريق
الحرير إلى محطة مهمة لالتقاء البضائع والأجناس واللغات.
وفي ما يتعلق باللغات تحديداً سيسهب فؤاد م. فؤاد في شرح تداخلها
باللهجة الحلبية، كما في السريانية التي تركت أثرها في الألف
الوسطى التي تلفظ مائلة كما في «جيمع» أي «جامع»، أو التركية الذي
تظهر من خلال اللاحقة «جي» التي تضاف إلى الاسم لتعطي معنى صاحب
المهنة «كعكجي» مثلاً، بدون إغفال التأثير الفارسي كما في «الجنتر
حفا»، والفرنسي كما في «جبونة»، والإيطالي كما «الفرتيكة»، بل حتى
السنسكريتي كما في «الورس». وأنا أستمع للشاعر يشرح بلهجته الحلبية
أصول المفردة الحلبية، لم أستطع أن أمنع نفسي من الشرود، متذكرة
عبارات حلبية صارت رمزاً في الثورة السورية، عندما نطق بها أطفال
المدينة مثل: «سامحني يوب»، «هلق بشار ليش عم يقتلنا، إحنا اش
ساوينا»، الخ. عبارات باللهجة التي اتُهمت بالخشونة، لكن خشونتها
تشبه حجارة المدينة الشهباء، يكفي النقر عليها لسماع صوتها الرنان.
وكأن للحجارة حنية في حلب، كما للروح عذوبة وقُبل «أبوس روحك»،
وللحب وردة تتعلم العطش ويسقيها القلب لا مياه حلب المقطوعة «عيشة
لا حب فيها، جدول لا ماء فيه»، وكما للفستق الحلبي قمر يطقطق على
ضوئه ويطرب السهارى، هذا بعض من الشعر الذي يتسلل إلى عبارات أهل
حلب وأغانيهم وطعامهم.
وبالعودة إلى محاضرة فؤاد. م. فؤاد الذي بعد أن اصطحبنا في جولة
سريعة على خانات حلب والقيسريات والأسواق، وشرح أسرار الحجارة
الكلسية لواجهات الأبنية، التي صمدت أكثر من 600 عام رغم سبعة
زلازل مدمرة، لكن البراميل المتفجرة التي سقطت مؤخراً على المدينة،
هدمت ما لم تستطعه عوامل التاريخ والطبيعة مجتمعة. وختم محاضرته مع
صوت المنشد الحلبي أحمد حبوش، وهو يغني:
«إني على جور الزمان صبور»…
ومحال هنا ألا يأخذك صوت المنشد المشروخ إلى الطرب في مدينة حلب،
حيث للموسيقى موشح وقد وقامة، كما كتب فؤاد. م. فؤاد في ديوانه
«حدث ذات يوم في حلب»:
«لا يحتاج الحلبي إلى تهديد بأم المعارك
ولا إلى براميل متفجرة
نسقط صرعى بقدٍ وموشح»
لكن يبدو أنه في الزمن الأسدي حدث أن سقطت المدينة كما أهلها، صرعى
برميل متفجر وقذيفة.
«آخر الرجال في حلب» ولا آخر للحزن
المحاضرة التي أخذتنا إلى حلب الماضي، انتهت عند مشهد دمار
المدينة، وتركت الأجوبة مفتوحة عما حدث لسكان المدينة. وربما ليست
صدفة أن أشاهد بعد أيام معدودة، وضمن فعاليات مهرجان دبي
السينمائي، الفيلم السوري «آخر الرجال في حلب»، وكأن الزمن الذي
توقفت عنده المحاضرة جاء الفيلم ليكمله، حيث صور بين عامي
2015-2016 قبل سقوط أحياء حلب الشرقية في قبضة النظام. في ما يشبه
التوثيق ليوميات الحصار من خلال متطوعي الدفاع المدني، أو» أصحاب
القبعات البيضاء»، ممن اختاروا الانحياز للحياة في معركة مصيرية مع
الموت لا يحملون فيها سلاحاً إلا أيديهم العارية التي ينتشلون بها
الضحايا من تحت الأنقاض، ولكن كمن يعثر على كنز صغير مخبأ كانوا هم
أيضاً يعثرون على ناجين، وهذا وحده كان كفيلاً بمنحهم القدرة على
الاستمرار في مقارعة الموت، والتعامل معه «كحدث غير عادي» مهما
اعتاده البشر. وتحت شعار (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)
يختار القلب القبعة البيضاء لإنقاذ روح بدلاً من السلاح الذي يزهق
الروح في زمن تستباح فيه أرواح المدن التي تحتضر وتموت كسكانها.
الاستثنائي في الفيلم هو تصويره لشخوصه كبشر عاديين لا كأبطال
أسطوريين، أو كإرهابيين كما حاول إعلام النظام إظهارهم، فهم مدنيون
حولتهم الحرب وهول المعاناة البشرية إلى منقبين عن الحياة في وسط
الخراب والدمار. وقد اختار المخرج فراس فياض شخصيتين محوريتين من
«أصحاب القبعات البيضاء» هما محمود وخالد، وتم تصويرهما ما يقارب
الـ300 ساعة، اختصرت في ما بعد إلى 100 دقيقة، هي طول مدة عرض
الفيلم، أما التصوير فكان يقوم به مصورون غير محترفين تحولوا بمحض
المأساة إلى موثقين للجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب بحق السكان.
محمود
شاب عازب يعمل مع شقيقه الأصغر أحمد ضمن فريق الخوذ البيضاء… أجمل
اللحظات التي يعيشها محمود في الفيلم، هي لقاؤه بالطفل الصغير الذي
أنقذه من تحت الأنقاض، حين يزوره مع بقية المتطوعين للاطمئنان
عليه. هنا تلتقط الكاميرا بحياء حواراً جانبياً حميمياً يدور بين
الطفل ومحمود، بينما الآخرون منشغلون بأحاديث شائكة، وعندما ينهض
محمود للذهاب يتمسك الطفل به ويدعوه لفنجان قهوة آخر، وكأنه يخاف
إن ذهب مسعفه أن يعود الموت من جديد. حياء الكاميرا في تصوير
المشهد يشبه حياء الشاب وهو يروي في ما بعد حرجه من تصويره كبطل،
في حين أن ما قام به يمليه واجبه الإنساني والأخلاقي بالدرجة
الأولى. أما اللحظة الأصعب بالنسبة لمحمود فهي عندما يصاب شقيقه
أحمد على بعد أمتار منه، وهو في مهمة إنقاذ، فتسقط القذيفة التالية
في موقع الانفجار الأول، هنا تهتز الكاميرا التي تسقط من يد المصور
الذي أصيب أيضاً وتهتز الصورة على الشاشة، ويبدو كل شيء مقلوباً
رأساً على عقب في عالم مقلوب، المسعف والمصور والمصاب والشهيد
يتساقطون فيه واحداً قرب الآخر، على أرض مزروعة بالألغام وتحت سماء
صارت جحيماً يلفظ النار والموت في كل مكان.
خالد
لا تستطيع إلا أن تحب خالد، فهو من صنف البشر الذين يدخلون القلب
بلا استئذان…
خالد هو أب لطفلتين بتول وإسراء، وهما محور حياته ومصدر سعادته
وقلقه أيضاً،
الفيديو الذي يظهر فيه خالد محتضناً طفلاً رضيعاً، بعد انتشاله
حياً من تحت الأنقاض، كان قد جال العالم بدون أن ينتبه أحد لوجه
المنقذ، أما اسراء وبتول فنراهما في الفيلم لا تتوقفان عن مشاهدة
الفيديو بحثاً عن وجه والدهما. «بابا اشتقت لك متى ستأتي»،»بابا
احك معي لا تروح».. تتكرر هذه العبارات كثيراً في محادثة الصغيرتين
الهاتفية مع والدهما الغائب في مهمة مستحيلة، مهمة انتشال جثث
أطفال في عمر بنتيه، وتجميع أشلاء مبعثرة، وكأن الحياة الناقصة
تنتهي بجثث ناقصة لا تكتمل.
حياة… فموت… فحياة…هكذا يقاوم خالد، يخرج لينصب شباك مرمى كرة
القدم ويصد الكرة وكأنه يصد الموت، الذي سرق قبل لحظات ثلاثة من
زملائه… يغني مع زملائه بين قصف وآخر الموشحات الحلبية، وكأنك لا
تستطيع إلا الغناء في حلب وإن أضحت رماداً. يصطحب طفلتيه إلى
الحديقة، ليتذكر الطفل المنسي في داخله ويسابقهم الركض والتزحلق،
قبل أن يقطع صوت الطائرات أهازيج اللعب، ويقطع طفولته العائدة صوت
طفلته الخائفة:
«بابا بدي أرجع على البيت هلأ». حب خالد لبنتيه لا يضاهيه ربما إلا
حبه لمدينته حلب، التي يشعر أنه مثل السمك يموت إن هو غادرها.
وربما من أجمل مشاهد الفيلم، مشهده وهو يشتري السمك ليضعه في بركة
صغيرة في باحة المركز، بركة من حجارة حلب التي تبدو رغم الدمار
الذي يحيط بها وكأنها تنشد:
«العب بالمية لعبك يعجبني يا سمك بني» …
صراع خالد الذي يعيشه بين خوفه على بنتيه وخوفه من الابتعاد عن
حلب، سيحسمه في النهاية عندما يقول لزميله: «يموتوا هنا أمامي ولا
يطلعوا لبرا ويصير معهم شيء وأنا بعيد، عندها سأبكي دما عليهم».
وينتهي الفيلم على تلاوات قرآنية وجسد مسجى، تقترب الكاميرا رويداً
رويداً، لنكتشف أنه الوجه الذي لم تمل إسراء وبتول من مشاهدته ينقذ
«الطفل المعجزة»… إنه وجه «خالد»، الذي أنقذ حيوات الكثيرين تحت
الأنقاض، وقد فقد حياته هناك أيضاً. هكذا يفاجئ الواقع السينما،
ويتجاوز بقسوته الخيال، بل يتجاوز معنى الفيلم الوثائقي والروائي،
ليصبح العين الثالثة التي تنقل الحقيقة بكل قسوتها، وشاهد حق
لتاريخ ربما يذكر اسم القاتل ولكن سينسى غالباً اسم القتيل… قد
يكون السمك الذي رباه خالد بلا ذاكرة، ولكن هذا الفيلم هو الذاكرة
والحكاية السورية بكل مأساتها.
٭ كاتبة سورية |