الشيخ جاكسون وقبلة الأوسكار
د. وليد سيف
وقع الإختيار على فيلم (الشيخ جاكسون) للمخرج عمرو سلامة ليكون
ممثلا للسينما المصرية فى الترشح لمسابقة الأوسكار فى فرع الفيلم
الناطق بلغة غير الإنجليزية، وحقا لم تكن المنافسة بالقوة الكافية
حيث أن حصاد العام الحالى من الأفلام التى عرضت جماهيريا حتى الآن
كان هزيلا، فتنافس مع جاكسون فقط فيلمى (مولانا) و(على معزة) وفاز
جاكسون بأغلبية ساحقة.
ولكن هل ستكون منافسته مع أفلام مرشجة من محتلف دول العالم على
الجائزة ذاتها بنفس القدر من السهولة، بالطبع لا، وعلى أى حال أتاح
إختيار الشيخ جاكسون لتمثيل مصر فى المهرجان الأمريكى الأشهر دعاية
مجانية قبل عرضه بأيام قليلة ولكنها دعاية تحمل الفيلم مسئولية
كبيرة وتضعه فى مواجهة مشاهد يتصور أنه سوف يرى من خلاله تحفة
فنية، فهل سيكون الترشح للأوسكار قبلة الحياة أم الوداع للفيلم؟،
وهل سينجح فى تحقيق آمال ملايين المصريين بالأوسكار وقد ارتفع سقف
طموحهم بعد نجاح منتخب كرة القدم المصرى مؤخرا فى التأهل للصعود
إلى نهائيات كأس العالم لكرة القدم؟.
صرح مخرج الفيلم عمرو سلامة بأن الفيلم مستوحى من حياته الشخصية
وذكريات الطفولة، وهى مصادر ملهمة ومهمة جدا لصناعة الأفلام
والقصص، ، فمخزون الذكريات وقود قوى لأى عمل درامى لما يذخر به من
تفاصيل ومشاعر وشخصيات حقيقية وصور راسخة فى ذهن المبدع، ولكنها فى
النهاية مجرد مصادر أو مادة خام على الفنان أن يعيد صياغتها ويضعها
فى القالب الذى يحقق رؤاه ويخدم أسلوبيته وطبقا لكاتبنا نجيب
محفوظ: "الفن ليس تجسيدا للواقع بل تعبير عن شيء في ذات المبدع
ياخذه من الواقع".
وفى ظنى أن عمرو سلامة يعبر فى السيناريو مع شريكه فى الكتابة عمر
خالد عن فهمه العميق لهذه المسألة فمن المستحيل أن يكون الفيلم
مطابقا أو حتى مشابها بقوة لذكريات الفنان الشخصية، ويمكن أن ندرك
هذا بسهولة من فكرة الفيلم التى يمكن استخلاصها فى أنها حكاية إمام
مسجد مهموم بأحلام الصبا والشباب المبكر التى لم تتحقق فى أن يكون
فنانا على غرار مايكل جاكسون، بل وفى تحوله إلى شخص آخر على النقيض
ملتزم دينيا إلى حد التشدد والتزمت، إنه رجل تائه بين هويتين تلك
التى يعيش بها حاليا والأخرى هى التى كان يعيشها فى الماضى، وكأنه
مشدود دون أن يشعر بين عالمين.
من خلال هذه الحكاية يعبر الفيلم عن التناقض الذى نعيشه فى مجتمعنا
بين حب الحياة والتشبث بها وبرغباتها وبين المفهوم الرجعى السائد
للدين الذى لا يرى فيها سوى ممر قصير قبل الموت على الإنسان أن
يعمل خلاله من أجل آخرته فقط ونتناسى المفهوم الدينى البسيط للحياة
الذى يتلخص فى مقولة:" إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأعمل لآخرتك
كأنك تموت غدا".
يعتمد السيناريو فى بنائه على أسلوب التداعى فالشيخ جاكسون فى
جلساته مع الطبيبة النفسية يجتر ذكرياته ويستعيد ماضيه من أجل أن
يصل إلى ما يعتبره مرضا أصابه بسبب عجزه المفاجىء والمستمر عن
البكاء كإمام أثناء الصلاة، فنتعرف على معاناة البطل فى شبابه من
أب قاسى، أداه ببراعة ماجد الكدوانى، اعتبر التشبه بمايكل جاكسون
نوعا من الخلاعة والتخنث ومن خال متشدد لا يرى فى الدين سوى نهى
وترهيب ولا يستوعب مافيه من سماحة ويسر.
ويتيح أسلوب تداعى الذكريات قدرا كبيرا من التحرر من التتابع
التقليدى ويمنح الفيلم القدرة على القفز من منطقة لأخرى وفق
مقتضيات الدراما فيضفى حيوية على الأحداث، ولكن سيناريو عمرو سلامة
كان فى حاجة إلى قدر أكبر من التنوع فى تفاصيل كل حكاية وألا تسير
كلها على نفس النهج حتى يضفى على أحداثه قدرا من الجاذبية
والمفاجأة ويكسر توقعات المشاهد من حين لآخر لما يراه فى الماضى
وكأنه فى كل مرة يقدم مذكرة تفسيرية لحالة المريض.
ولكن سلامة مخرجا يستطيع أن يفرض إيقاعه وأن يمنح مشاهده الروح
والحياة بتفاصيل الصورة المعبرة بالإضاءة والألوان وانفعال الممثل،
فيتسرب للمشاهد الشعور والتأثير وتتكثف الحالة النفسية والوجدانية
للشخصيات بلغة سينمائية متطورة، وهو يتمكن أيضا من أن يفرض أسلوبية
أدائية موحدة على غالبية الممثلين تجعلك لا تشعر أبدا مثلا بأن من
يؤدى شخصية جاكسون بمرحلتيها ممثلان هما أحمد الفيشاوى وأحمد مالك.
وعلى الرغم من ثبات الحالة للشخصية التى يلعبها أحمد الفيشاوى فى
معظم مشاهده إلا أنه أصبح هو الممثل القادر على التلون بمساحات
عريضة من الشخصيات والقادر على معايشتها وسبر أغوارها والقدرة على
رسم بورتريه مناسب لها ومعبر عنها وحتى لو كانت الشخصية لا تحمل أى
تحولات فهو قادر على التلوين داخل المساحات ورسم التفاصيل التى
تضيف لها فى كل مشهد أو لقطة، فلا يقتلك الملل من ثباتها دراميا.
أما أحمد مالك فى دور جاكسون شابا فهو فى مواجهة إختبار صعب فى دور
يحمل الكثير من المشاعر ويواجه المواقف المتنوعة ويعانى من الصراع
الداخلى بصورة تنعكس على المواقف والأحداث، ولكن مالك يؤدى الشخصية
بإجادة وعفوية فهو الوجه الشاب المتمكن والذى ينضج بسرعة الصاروخ
وهو الأقدر على تمثيل جيله من الشباب إلى الآن وحتى إشعار آخر.
وكانت بسمة رغم مساحات ظهورها القليلة قادرة على التعبير عن
الشخصية وبإدراك واع لأن الممثل فرد فى فريق العمل يجرى توظيفه حسب
رؤية المخرج، والممثل الجيد هو الذى يدرك حدود دوره ومساحته داخلها
ولا يقبل العمل بالفيلم مشروطا بمساحات معينة أو بمراحل لبناء
الشخصية ولكن الممثل هو الذى يدرك السياق الذى يعمل خلاله وبأن
قيمة وجوده تكمن فى مشاركته فى عمل فنى جيد جدير بالإحترام، وعلى
نفس الدرب سارت أمينة خليل التى تتقدم بقوة وثقة، ولم يخرج عن هذه
المنظومة سوى الممثلة درة التى تعاملت مع الشخصية من السطح فشاب
أداؤها التقليدية.
على جانب اخر طغت على الفيلم الصور الخانقة وضعف المجال الذى لم
يتم توظيف عمقه الا نادرا حتى فى مشاهد تحمل القا واحتفالا بالحياة
وهى مشاهد لم يتم توظيف الموسيقى فيها ايضا باسلوب كان بامكانه ان
يكشف الجانب الاخر المفعم بالروح والحركة ، وإن كنت لست من عشاق
مايكل جاكسون، ولكن وعلى الرغم من إجتهاد هانى عادل فى وضع موسيقاه
إلا أنه تعامل مع موسيقى مايكل جاكسون بشكلها الخارجى دون أن يتعمق
فى روحها الداخلية وحركتها النابضة بالحياة فبدت موسيقاه أقرب
لتمصير متواضع لألحان مازالت راسخة فى الأذهان، وهى تشكل جزءا
أساسيا من العمل كانت بحاجة إلى مزيد من الصدق لتكتسب المصداقية
لدى المشاهد وهى نقطة لن تكون فى الغالب فى صالح التصويت للفيلم
على جائزة الأوسكار.
وعلى الرغم من هذا فعمرو سلامة مخرج حداثى محترف بامتياز، محترف
بالمعنى الراقى لكلمة الإحتراف حيث يمتلك ادواته ويستطيع تحقيق
رؤيته بمهارة، وحداثى أيضا ليس بالمعنى العلمى الدقيق وإنما بمعنى
الاطلاع ومواكبة واستيعاب كل ما هو حديث من أساليب الفن المتطورة.
وهو يمتلك المزيج السحرى لصناعة الفيلم مثل أى مخرج كبير ومميز فهو
يحتفظ بطابعه الخاص الذى يجعلك تدرك أن هذا الفيلم من اخراجه حتى
لو لم تقرأ إسمه على العناوين ومهما تنوعت المواضيع والأساليب التى
ينتهجها، والشيخ جاكسون هو خطوة متقدمة بالنسبة له بعد تجربته
المتميزة والناضجة فى فيلم (لامؤاخذة) وفى تأكيد ملامحه المميزة فى
التجديد فى الشكل السينمائى أو فى تبنى قضايا شائكة وملحة وجديرة
بأن نتصدى لها بأساليب فنية متطورة وجذابة.
وفى النهاية تجدر الإشارة إلى أنه لم يسبق لنا الفوز بجائزة
الأوسكار أبدا بل ولم نقترب منها أصلا ونصل إلى القائمة القصيرة،
أو حتى الطويلة للأفلام المرشحة للفوز فى الترشيحات النهائية، وذلك
على الرغم من الحكاية المتداولة التى يرددها البعض عن خسارة فيلم
(باب الحديد) ليوسف شاهين بفارق ربع درجة وأعتقد أن مصدرها مخرجنا
الراحل هشام أبو النصر الذى كان يدرس هناك وقتها وأخبرنا أن أحد
أساتذته صرح له بهذا، والعهدة على الراوى.
وعلى أى حال سواء فاز فيلمنا أو لم يفز وهو الإحتمال الأقرب بدون
تشاءم، فإن مجرد مشاركة فيلم جاكسون فى مسابقة الأوسكار هو شرف،
وليعلم جمهور السينما فى مصر أن الفن ليس مثل كرة القدم فوز أو
هزيمة وإنما هو تبادل للثقافات والرؤى وحوار بين الشعوب يستفيد كل
منها من الآخر ويتعرف عليه عن قرب من أجل إحياء قيم الإنسانية
والحضارة والنظر للمستقبل.
وفى النهاية دعونا نتأمل سويا هذا المشهد حين يخلع البطل جاكسون
الكبير جلبابه ويلتقى بحبيبته القديمة بملابس عصرية ساعيا إلى
الحصول على القبلة التى تأخرت كثيرا، فهل نحن أيضا نستحق هذه
القبلة وهل سننالها؟ |