27 قضية و65 بيان إدانة والعداد جارٍ... ما الذي
فعله واينستين لم يفعله سواه؟
«الشرق الأوسط» في موسم الجوائز (2)
بالم سبرينغز (كاليفورنيا): محمد رُضا
ليس معروفاً بعد عدد النساء اللواتي تعرضن للتحرش الجنسي، أو لما
هو أكثر من ذلك، من قِبل المنتج هارفي واينستين. البعض يقول إن
هناك على الأقل 15 قضية ثابتة، والبعض الآخر يؤكد أن العدد هو ضعف
ذلك إن لم يكن أكثر. فالهاوية التي سقط فيها واينستين لم يحفرها
منذ سنوات قريبة، بل هي نتيجة عادة مارسها بتفانٍ منذ سنوات بعيدة.
ميول نفسية وعقد جنسية لا بد أنها ألمّت به منذ عقود ولو أنه من
المحتمل أن تكون ازدادت في السنوات العشر الأخيرة.
لكن إذا ما كان ذلك هو الحال بالفعل، كيف تسنى لهذا السينمائي (65
سنة) الذي بزغ، مع أخيه بوب، كأحد أهم منتجي السينما الأميركية
المستقلين؟ وهل للسن المتقدمة نسبياً سبب في فلتان حالته
وانتشارها؟
لن ينفع البحث عن أسباب «عقلانية» لمثل هذا التصرف (إذا ما جدت)
ولا النبش في الدوافع النفسية (إذا ما كان ذلك ضرورياً)، ما دامت
الأخبار تتوالى على نحو متواصل لتكشف سراً وراء آخر أو لتعكس وضعاً
هو في الواقع مأسوي داكن يجد هارفي نفسه فيه من دون ستار يفصله عن
سباق النيل منه هذه الأيام.
يدان من مقص
اسمه هارفي واينستين ولقبه، من دون مزاح، من قبل الفضيحة التي
يعيشها ليل نهار حالياً كان «هارفي سيزرهاندز» (Harvey
Scissorhands)
وهو تعبير مستعار من فيلم تيم بيرتون «إدوارد سيزرهاندز» الذي دار
حول شاب (جوني دب) كان لديه مقصان عوض اليدين استخدمهما في قص
الشعر والعمل كبستاني. الفارق أن واينستين استخدمهما لبتر الأفلام
التي كان ينتجها إذا لم تعجبه قرارات المخرجين الفنية.
لقب
آخر اشتهر به هو «المعاقب» (The
Punisher)
الذي يكشف عن سطوته وبطشه. بعض هذه السطوة مارسه للهيمنة على
القرار وفرض العقود التي ترضيه. بعضها الآخر كانت جذب الممثلات إلى
خيوط عنكبوته في الفنادق التي كان يأوي إليها خلال زيارات العمل أو
المهرجانات.
مالك العقاد، ابن المخرج والمنتج الراحل مصطفى العقاد، أخبر «الشرق
الأوسط»، في ربيع هذه السنة، أنه استطاع (أخيراً) الخلاص من قبضتي
واينستين على سلسلة «هالووين» التي كان والده أنتجها منذ منتصف
الثمانينات. قال لي في لقاء طويل:«أمسك هارفي بمصير هذا المسلسل
السينمائي على نحو من يقبض عملياً على الرقاب. الفيلم الجديد من
السلسلة كان لا بد من التوجه إليه مجدداً لأنه هو من يدفع فواتير
العمل وميزانيته، وهذا ما منحه في كل معاملاته مركز القوة. يعلم أن
شركات الإنتاج المستقلة تحتاج إليه، لذلك هو من يقرر لها المشروع
الذي سينتجه وعلى أي أساس وبأي ميزانية وهي دائماً أقل كثيراً مما
يجب».
مالك العقاد قاوم طويلاً يدي المنتج القابضتين حتى إذا ما سنحت له
الفرصة سحب شريط الكهرباء من جدار واينستين وأولاه جهة أخرى. ما هي
إلا أسابيع قليلة حتى وجد للفيلم المقبل دار تمويل جديدة تتبنى
العمل بأسره. هاتان القبضتان على مفاصل العمل السينمائي كانتا
اللتين تمسكان بكتفي الممثلات لتطويعهن أو تتحرشان (علناً أحيانا)
لمساً ووخزاً. خلف الجدران كان جدول الأعمال يشمل استدعاء الممثلات
إلى شقته في الفندق بداعي العمل، ثم التحرش بهن.
إنها الهيمنة ذاتها التي كان يمارسها في عمله جامعاً بين فعل
الإنتاج وفعل تلبية حاجاته النفسية المريضة. ولو أن المسألة توقفت
عند حد معين أو أن ما حدث كان نتاج نزعة غمرته ثم غادرته، لما وجد
الإعلام مجالاً واسعاً للخوض في بحر علاقاته؛ فالكم الكبير من هذه
الحالات مذهل كذلك طول المدة الزمنية التي مارس فيها هارفي هذه
الاعتداءات.
مطاردة في الشقة
الممثلات من كل حجم ومكانة تسابقن للكشف على أنهن كن عرضة
لاعتداءاته. آخرهن غوينيث بالترو وأنجلينا جولي وميرا سورفينو
وجسيكا شستين التي قالت إنها لاحظت وفهمت مداركه منذ البداية،
وإنها استمعت إلى تحذير البعض لها منه.
شستين كانت ذكية فابتعدت عن مساره، لكن ميرا سورفينو لم تكن محظوظة
مثلها. ما حدث معها جدير بالقراءة حيث نشر على صفحات مجلة «ذا
نيويوركر» قبل ثلاثة أيام. وملخص تجربتها أنها لبت دعوة المنتج
خلال عرض فيلم قام بإنتاجه وقامت هي ببطولته عنوانه «أفرودايت
القوية» (سنة 1995). حاول التحرش بها ففرت من شقته. بعد أيام لاحقة
اتصل بها ليلاً وأخبرها أنه في طريقة لزيارتها في شقتها لبحث مشروع
فيلم جديد: «قال ذلك وأغلق السماعة مباشرة. شعرت بخوف حقيقي وما
لبث أن دق الباب». عندما دخل أخبرته سورفينو بأن صديقها في طريقه
وسيصل قريباً «حينها استدار هارفي وانصرف».
بعد عامين وجدت الممثلة الإيطالية آسيا أرجنتو نفسها في ورطة
مماثلة. كانت في الحادية والعشرين من عمرها عندما قادها مدير مكتب
شركة «ميراماكس» (التي كانت ملكاً للأخوين واينستين) فابريزيو
لومباردي لفندق «أوتيل دو كاب - إيدن روك» الفرنسي خلال دورة
مهرجان «كان» في ذلك العام. وهي لبّت الدعوة على أساس أن هناك حفلة
ساهرة لكن آسيا فوجئت بأن الشقة الفندقية الواسعة التي قيدت إليها
بلا مدعوين: «لم يكن هناك سوى واينستين. أما لومباردي فقد خرج
سريعاً».
هارفي ليس طويل القامة (التقيت به وبطارق بن عمّار في مهرجان
«فينيسيا» كما خلال «مقابلات جمعية مراسلي هوليوود») لكنه بدين،
ومن الممكن أن يثير ذعر الفتيات فيهربن أو يستجبن. لا أحد من
الممثلات اللواتي تعرضن لاعتداءاته نفت شعورها بالهيمنة البدنية
التي يفرضها والموازية لهيمنته السلوكية أيضاً.
هيمنة المنصب
مثل هذه التصرفات لا تترك كثيراً من التخمينات. البوليس البريطاني
باشر، يوم أول من أمس، تحرياته بعدما تسلم من قسم شرطة في بلدة
ميرسايد شكوى اعتداء جنسي ضد واينستين. وفي نيويورك صدر بيان من
بوليس المدينة وفيه أن البوليس يبحث في شأن ما تم نشره من تهم
ليقرر إذا ما كان سيرفع دعوى مدنية بحق هارفي.
الشكوى البريطانية قد تكون تلك التي رفعتها الممثلة روز مكغوان
التي أعلنت فيها أنها تعرضت للاغتصاب. وبذلك تنضم، وسورفينو، إلى
قائمة تتسع قليلاً كل يوم وشملت حتى الآن الممثلة الفلبينية أمبرا
غواتريز والممثلة الأميركية روزانا أركيت كذلك رومالا غاراي
وكاثرين كندل وآشلي جد وعارضة الأزياء (لسنوات خلت) زاو بروك.
وهناك سواهن من اللواتي تقدمن بحكاياتهن. المجموع، كما يحسب من كم
التحقيقات المختلفة التي تسود صفحات المواقع يبلغ (حتى 24 ساعة
مضت) 27 امرأة، معظمهن من الممثلات اللواتي كن في بداية خطواتهن في
السينما، وبعضهن من عارضات الأزياء..
ولكل منهن حكاية مشابهة للآخر تكشف عن رجل يعمد إلى الأسلوب الواحد
الذي لا يتغير: دعوة عمل ثم دعوة تدليك ثم هجوم. معظمهن كن يركضن
في أرجاء الشقة وهو وراءهن. السلوك ذاته لا يكشف فقط عن نفسية
مصابة بمرض عضال، بل أيضاً عن الحدود الأدنى من القدرة على تغيير
قواعد اللعبة. هذا رجل لا يحسن التواصل إلا عبر استخدام شعوره
بالسيادة والسلطة.
مرض هوليوودي
استغلال المنصب لأغراض جنسية ليس أمراً حديث الوقوع أو هو ينتمي
إلى عقود قريبة. هو منتشر طولاً وعرضاً في مختلف أرجاء العالم، لكن
هوليوود هي المكان الناضج دوماً للتفاعل مع مثل هذه الحالات لأكثر
من سبب، بينها أن المعتدي والمعتدى عليها هما غالباً من بين نجوم
هوليوود المعروفين، أو على الأقل، على قدر كبير من الشهرة.
إنه مجتمع كثيراً ما يبحث عن مقابل لقاء دفع عجلة النجاح أمام
ممثلة مبتدئة (أو كما في حالة الراحل روك هدسون، أمام ممثل مبتدئ).
وسط سينمائي معين في العجينة الصناعية العملاقة التي تتألف منها
هوليوود، يفرض المقابل مباشرة على نحو متبادل.
في العدد الصادر في شهر يوليو (تموز) سنة 1923 من مجلة «سكرينلاند»
مقال عن مثل تلك العلاقات المبنية على المنفعة الجنسية. في عدد من
مجلة «موشن بيكتشر» صدر بعد عام واحد، مذكرات كتبتها ممثلة كانت
تبحث عن فرص نجاح عندما واجهت مثل تلك التحرشات والمطالب الجنسية
شرطاً لكي تصل إلى ما تبتغيه. والحال أن المعترضات كثيراً ما يؤدي
اعتراضهن إلى تغييبهن وفشلهن أو البقاء في مطلع سلالم الشهرة،
بينما المستجيبات قد يجدن أنفسهن في مصاعد نجاح كهربائية سريعة.
ثلاث حالات
على الرغم من كل ذلك، فإن ما يحدث اليوم مختلف حجماً وزمناً.
بكلمات أخرى، في العشرينات من القرن الماضي وما بعد، كان كل شيء
جديد، والمرأة لم تكن تملك الحقوق ذاتها التي تملكها اليوم حتى في
الولايات المتحدة. أكثر من ذلك الظروف الاجتماعية التي أنجبتها
سنوات من استقلالية وتحرر المرأة جعلت من الصعب تورية مثل هذه
المسائل العسيرة، ولو أنها لم تضع حداً لها بالطبع.
ومن المثير ما حدث خلال السنتين الماضيتين في حالات متناقضة:
الأولى عندما اتهم الممثل كايسي أفلك بالتحرش الجنسي لكن لا شيء تم
في هذا الصدد ربما لأن الحالات كانت محدودة.
الثانية هي في إطار الفضيحة التي كشفت عن عصابة من ممتهني اغتصاب
الأولاد دون سن الرشد التي هرب بعض أفرادها (من منتجين) إلى أوروبا
حيث ما زالوا فيها. لكن أحد الذين كشفت التحريات عنهم المخرج
برايان سينجر الذي كان «رجال إكس» أحد أفلامه الكثيرة الناجحة.
الفضيحة (شملت دعوة رفعها شاب ضده ثم سحبها) جعلته يتوارى في منزله
لبضعة أشهر قبل أن يعود في العام الماضي مخرجاً لحلقة أخرى من
«رجال إكس» عنوانها «X
- Men:
Apocalypse».
الحالة الثالثة هي معاكسة في بعض جوانبها. في العام الماضي تعرض
المخرج الأميركي نيت باركر إلى هجوم حاد قبيل عرض فيلمه الجيد
«مولد أمّة» بعدما اتهم بأنه كان أحد ثلاثة أشخاص قاموا باغتصاب
فتاة قبل نحو عشر سنوات، عبثاً حاول المخرج الدفاع عن نفسه مستنداً
إلى قرار المحكمة الذي برأه من التهمة، لكن فيلمه الذي تحدث الجميع
حول احتمالات فوزه بالأوسكار سقط أرضاً بالضربة القاضية.
قضية هارفي واينستين مرشحة للتفاعل أكثر وأكثر. بيانات الإدانة
تتوالى وهي وصلت حالياً إلى 65 بياناً بدأت بالممثلة ميريل ستريب
ولم تنتهِ بعد بدخول ليوناردو ديكابريو وجورج كلوني وكيت ونسلت
وغلن كلوز وتشارليز ثيرون وكايت بلانشيت ومارك روفالو ونيكول كيدمن
وغيرهم من النجوم الذين علقوا على الأمر.
المخرج أوليفر ستون أعلن توقفه عن العمل على مشروع من إنتاج
واينستن والمخرج كونتين تارنتينو، الذي كان بينه وبين المنتج
المذكور بضعة مشاريع، عبر عن دهشته.
أكثر من ذلك توالت بيانات إدانة من مؤسسات سينمائية كبرى بينها
أربع من أكبر مهرجانات السينما. فقد أعلن مهرجان «كان» قبل يومين،
وبلسان مديره العام تييري فريمو عن استيائه مما قام به المنتج
الأميركي المعروف واصفاً ذلك بأنه «أمر مرعب».
ولم يتأخر رئيس مهرجان برلين دييتر كوزليك عن إدانة مماثلة قائلاً
في تصريح قبل يومين: «إن المهرجان يدين سلوك هارفي واينستين»،
وأضاف: «إنه شأن فاضح أنه تم التستر على أفعاله لسنوات».
وتبع هذه الإدانة موقف مماثل من رئيس مهرجان فنيسيا الذي وصف
تصرفات واينستين بـ«المعيبة وغير المقبولة».
ولم يتأخر مهرجان تورنتو عن الإدانة ذاتها، وبذلك بدا وكأن
المهرجانات وجدت لها دوراً جديداً فوق كل ما تقوم به من أدوار. لكن
بعض اعتداءات واينستين تمّت في بعض هذه المهرجانات كما تتكشف
المعلومات الأخيرة. وقبل يومين نشرت مجلة «ذا نيويوركر» تحقيقات
جديدة حول انتهاكات المنتج أتت فيها على مقابلة مع الممثل ميرا
سورفينو التي قالت أنها تعرضت لتحرش واينستين في أحد فنادق تورنتو،
وذلك خلال مهرجانها سنة 1995.
وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن المؤسسات السينمائية المختلفة تنظر
حالياً في إلغاء عضوية واينستين ومنها أكاديمية الفنون السينمائية
والتلفزيونية البريطانية (بافتا) و«نقابة المنتجين الأميركيين».
كذلك أكدت أكاديمية العلوم والفنون السينمائية عزمها على تنحيته. |