حاورته “القاهرة” قبل حصوله على جائزة أفضل مخرج
بمهرجان دبي السينمائي الدولي
أثار المخرج محمد حماد الجدل حينما دخل حقل السينما
عبر كتابته لفيلم «الجنيه الخامس» والذى أخرجه المخرج أحمد خالد
وذلك بسبب جرأة فكرة الفيلم واستمر حماد فى إثارة الجدل حينما أخرج
فيلميه القصيرين «سنترال» و«أحمر باهت» وذلك لجرأتهما فى كشف
المسكوت عنه فى مجتمعنا وأخيرا عاد حماد بعد غياب 7 سنوات لعادته
الأثيرة وهى إثارة الجدل لكن لسبب مختلف هذه المرة وذلك بعد اشتراك
فيلمه الأول والطويل فى مهرجان لوكارنو السينمائى بعد غياب السينما
المصرية عن المهرجان لمدة 17 عاما بالإضافة إلى مشاركته فى مهرجانى
«نامور» و«ستوكهولم» السينمائيين. عن فيلمه «أخضر يابس» وعن
مشاركته بالمهرجانات المختلفة والمشكلات التى واجهته أثناء صناعة
الفيلم دار الحوار التالي:
·
عرض فيلمك القصير الأول «سنترال» بعام 2006 وبعدها
بثلاث سنوات عرض فيلمك القصير الثانى «أحمر باهت» 2009 وأخيرا
فيلمك الطويل الأول «أخضر يابس» بعام 2016.. لماذا هذه القطيعة بين
كل فيلم وآخر خاصة بين فيلمك القصير الأخير وفيملك الطويل الأول؟
–
أعمل بالسينما بشكل مستقل وهو ما يعنى أننى أنتج أفلامى بنفسى وذلك
يتطلب وقتا طويلا لتدبير تكاليف الإنتاج اللازمة. لكن ومن ناحية
أخرى، أخرجت بالفعل فى هذه الفترة مجموعة من الأفلام التسجيلية
والدعائية وأيضا إعلانات ولكنى لا أعتبر هذه الأعمال ضمن مسيرتى
الفنية بل مجرد محاولات لتدبير تكاليف إنتاج فيلم «أخضر يابس».
وحينما استطعت – بشكل ما – تدبيرها تفرغت لصنع الفيلم وهو ما
استغرق ثلاث سنوات كاملة. وخلال هذه السنوات – بين محاولة تدبير
تكاليف الإنتاج وصنع الفيلم – أصبت بحالة من الاحباط جعلتنى أفكر
فى تغيير حياتى وعدم العمل بالسينما.
·
ما سبب هذا الاحباط؟
–
سببان؛ أولهما: الواقع السياسى والاجتماعى والاقتصادى فى البلاد
الذى لا يشجع على العمل والإنتاج خاصة بعد ثورة 25 يناير ففقدت
بذلك الرغبة فى التعبير وفضلت وقتها أن أعيش حالة من الهدوء
والسلام النفسى بعيدا عن كل شيء حتى السينما. ثانيا: حينما وافقت
على إخراج أفلام تجارية ولكننى تراجعت لأننى كنت أريد أن أقوم بما
أريد وقتما أريد. ولذلك عزمت على إنتاج فيلمى بنفسي. بالتأكيد
طريقة الإنتاج هذه صعبة للغاية بل تستغرق وقتا طويلا إلا أننى أحب
هذا النوع من المغامرة ولذلك تحمست لعمل الفيلم. وأعتقد أن
المغامرة والرهان على العمل هما اللذان يدفعان الفنان إلى صنع فن
متميز.
·
هل تعتبر السينما فنا أم فنا وصناعة؟
–
بالتأكيد فن وصناعة. لا تنس أننى أنتجت فيلم «أخضر يابس» بنفسى
وبالتعاون مع خلود سعد ومحمد الشرقاوى وهو ما يعنى أننى كنت أعمل
على الفيلم بروحين وبعينين عين على الفنيات وعين على نفقات
الإنتاج. وقد دفعنى هذا التركيب إلى البحث عن حلول بديلة «إبداعية
أو فنية» لصنع الفيلم والتى كانت فى أغلب الأوقات أفضل من الحلول
المعتادة.
·
ماذا عن الجمهور.. هل فيلمك مقدم لجمهور محدد؟
–
بالتأكيد. المخرج يجب أن يكون قادرا على الإجابة عن أربعة أسئلة
أساسية وهي: ماذا يريد أن يقول؟ ولماذا؟ وكيف؟ ولمن؟ إذا لم يستطع
المخرج الإجابة عن هذه الأسئلة فلن يكون العمل واضحا للجمهور. أؤمن
تماما أنه لا يوجد فيلم للجميع حتى فيلم
Titanic
الذى تخطت عائداته المليار دولار لم يجتمع عليه كل مشاهدى السينما
وذلك لأن لكل فيلم جمهوره حيث تجد مثلا جمهورا متعطشا لأفلام
المخرج الفنلندى آكى كوريسماكى أو أفلام المخرج الإيرانى أصغر
فرهادى خاصة فيلمه
A Separation
الذى تكلف نصف المليون دولار فقط إلا أنه لاقى نجاحا كبيرا فى
أوروبا وأمريكا وذلك مقارنة بميزانيته المحدودة.
·
كم استغرق تصوير فيلم «أخضر يابس»؟
–
استغرق 28 يوما متقطعة وذلك بسبب ظروف الانتاج.
·
ما نوع الكاميرا التى صورت بها الفيلم؟
–
كاميرا سونى ايه 7 اس. لكنى قمت بالتعاون مع مدير التصوير محمد
الشرقاوى بالعديد من التجارب للوصول إلى الصورة الموجودة فى
الفيلم. لكن التجربة الأهم بالنسبة لى هى استخدامنا عدسات شبه
أثرية – أى أن أحدا لم يستعملها منذ زمن طويل – وذلك لتوصيل
الدراما بالصورة عبر الكاميرا والعدسات وغيرها من العناصر البصرية
الأخرى.
·
هل تعمدت عدم استخدام ممثلين محترفين أم جاء ذلك
لأسباب إنتاجية؟
–
تعمدت ذلك تماما حيث كان بإمكانى الاستعانة بنجوم فالكثير من
النجوم يحبون هذه النوعية من المغامرات السينمائية والفنية إلا
أننى قررت أن استعين بممثلين غير محترفين.
·
لماذا؟ وكيف كان اختيارك لهم؟ وكيف تعاملت معهم؟
–
فى البداية فكرت فى الاستعانة بنجوم وممثلين محترفين ولكنى عدلت عن
الأمر وقررت أن يعتمد الفيلم بأكمله على غير المحترفين «أمام
الكاميرا وخلفها». وشعرت أن شرط وصول قصة الفيلم بصدق إلى المتلقى
يكمن فى ألا يكون لدى المتلقى أى انطباع مسبق عن هؤلاء الممثلين
الذين يشاهدهم على الشاشة. فأنا شخصيا – وهو أمر يمكن أن تعتبره
غريبا بالنسبة لصانع أفلام – استغرق وقتا طويلا حين أشاهد فيلما
حتى أستطيع أن أفصل بين شخصية الممثل فى الفيلم وشخصيته المحفورة
فى ذهنى ولذا قررت أن أتلافى أى لبس وأستعين بممثلين غير محترفين.
وكان الأمر فى غاية الأهمية ليس فقط لإيهام المتفرج لكن لإيهامى
أنا أيضا كصانع للفيلم وذلك حتى أستطيع أن أندمج فى الفيلم ومع
الشخصيات تمام الاندماج. ولهذا قمنا ببروفات طويلة أغلبها فى أماكن
التصوير «معايشة» وهو أمر صعب حيث يمثل فى الفيلم حوالى 15 ممثلا
رئيسيا والذين كانوا يقومون ببروفات شبه يومية ولمدة ثلاث ساعات فى
اليوم ولفترة طويلة فى الأماكن الحقيقية التى صورنا فيها.
·
هل دفعك ذلك لعمل تغييرات فى السيناريو أثناء
البروفات أو التصوير؟
–
أنا مقتنع تماما أنه يمكن تعديل السيناريو فى أى وقت خلال عملية
صنع الفيلم وأن المسودة الأخيرة للسيناريو هى النسخة الأولى للفيلم
بعد المونتاج. أنا أكتب سيناريو الفيلم ثم أعاين أماكن التصوير
فأعدل السيناريو حسبما وجدته ثم أختار ممثلين فأعدل فى السيناريو
ونقوم ببروفات فأعدل فى السيناريو والحوار حسب قدرات الممثلين وكل
هذه التعديلات تساعد على تطوير السيناريو وهذه التعديلات اعتبرها
نضوجا ليس فقط للفيلم بل لى أنا شخصيا.
·
من أى جهة بالتحديد؟
–
من الناحية المهنية والإنسانية. فى بداية حياتى المهنية كنت أميل
إلى صنع أفلام زاعقة مثل «سنترال» وخفت ذلك بداية من «أحمر باهت».
لكنى الآن أختار اللحظة الأكثر هشاشة بحياة الشخصية التى أصنع عنها
الفيلم. وهى لحظة صادقة تكشف الشخصية وهى نفسها اللحظة التى تدفعنى
لصنع الفيلم خاصة علاقة الشخصية بالزمن وما يفعله الزمن بالناس
بشكل عام.
·
هل هذا له علاقة بعنوان الفيلم؟
–
بالتأكيد. التيبس له علاقة بالزمن فتغير الفصول هو سريان للزمن حيث
يتغير الزرع من الاخضرار إلى التيبس. وهذه الأشياء هى التى تهمنى
فى هذه الفترة لا القضايا الكبرى. فالفارق بالنسبة لى بين الفيلم
الطويل والقصير هو أن القصير يعتمد على موقف أو لحظة يتم رصدها
وتقديمها للمتفرج بينما الفيلم الطويل هو رحلة شعورية للبطل عبر
مواقف مختلفة وكيفية تعامل الشخصية مع هذه المواقف.
·
ما الذى جذبك فى الممثلة هبة على لتختارها لتكون
بطلة فيلمك؟
–
ما دفعنى للإيمان بهبة كممثلة هو إحساس داخلى أن بداخلها ممثلة
متميزة تشبه كثيرا شخصية بطلة فيلمى وفى رأيى ان أى شخص يمكن أن
يكون ممثلا.
·
لكن ألا يعنى ذلك بذل مجهود مضاعف من قبلك مع
الممثلين؟
–
بالتأكيد. لكن يوجد ما يعوض هذا المجهود وهو هذه التلقائية التى
يتميز بها الممثلون غير المحترفين وعلى المخرج أن يقتنص هذه
التلقائية فى الأداء. أيضا على المخرج أن يبنى علاقة إنسانية مع
الممثلين لكسر الحاجز بينهما وهو جزء ممتع جدا فى صناعة الأفلام
وعلى أن أؤكد لك أننى أصنع أفلاما لأنى أستمتع بذلك.
·
تظهر أفلامك اهتماما كبيرا بقضايا المرأة. أفلامك
الثلاثة أبطالها امرأة حيث تتناول مشكلاتها فى المجتمع.. ألا تعتبر
قضايا المرأة من ضمن القضايا الكبرى فى المجتمع؟
–
اهتمامى بالمرأة ينبع من أنها أكثر درامية من الرجل فهى أكثر تحملا
للضغوط من الرجل رغم شيوع العكس. فهى تواجه تغيرات داخلية
«فسيولوجية» وخارجية «مجتمعية» أكثر من الرجل. ومن ناحية أخرى لقد
تربيت فى وسط نساء ببيت جدتى ومع أمى بالإضافة إلى أخواتى البنات
بل فى فترة من فترات حياتى كنت أعمل فى مصنع حيث كل العاملات فيه
من النساء وقد أثر ذلك على وعلى تفكيرى وخبراتى وتكوينى وأيضا زاد
من اهتمامى بتفاصيل الأشياء.
·
هل تهتم بكتابة هذه التفاصيل فى السيناريو أم
تبرزها أثناء إخراجك للفيلم فقط؟
–
أبرزها فى كل مراحل صنع الفيلم. ما يشغلنى فى الأساس هو الدافع
الدرامى خاصة الدافع الدرامى للمرأة والذى أراه ينحصر فى الشعور
بالأمان. وهو ما يمكن تعميمه على المجتمع ككل حيث يبحث أفراده الآن
عن الأمان وهو ما يعكس أيضا حالة الشك التى تكتنف أفراده حيث يشك
الجميع فى الجميع ولا يآمن أحد لأحد. والشك حالة أثيرة لدى صناع
السينما وذلك لتوليدها دراما متصاعدة قادرة على جذب المشاهد وهو ما
نجده مثلا فى أفلام المخرج الأمريكى مارتن سكورسيزى مثل
Goodfellas
وCasino.
·
بدأت العمل على الفيلم منذ عام 2013 أى بعد ثورة 25
يناير بعامين ليستمر صنع الفيلم أثناء اندلاع ثورة جديدة وهى 30
يونيو.. هل أثرت هذه الأحداث السياسية وما صاحبها من تغيرات فى
مناح شتى على عملية صنع الفيلم؟
–
بالتأكيد. لكن أريد أن أؤكد لك أن صناعة أى فيلم تتطلب أحيانا
الابتعاد عن العالم الخارجى وأحيانا أخرى الانخراط الكامل فى هذا
العالم. لكن وبشكل عام أفضل العزلة والابتعاد عن وسائل التعبير
كالصحافة والإعلام وحتى مواقع التواصل الاجتماعى وذلك كى أستطيع
التعبير أفضل عبر الوسيلة التى أحبها وهى السينما التى أعتبرها
بوابة من بوابات الخلود.
·
ماذا عن تجربة مشاركة الفيلم فى مهرجانى «لوكارنو»
و«نامور»؟
–
أهمية المهرجانات بالنسبة لى تكمن فى عرض فيلمى على الموزعين
القادمين من دول مختلفة لفتح سوق جديدة خاصة أن سوق مصر مغلقة على
نوعية معينة بسبب الموزعين وأصحاب دور العرض الذين يفرضون ذوقهم
على السينما. وبالتالى يجب على صناع السينما فى مصر أن يجدوا
متنفسا فى السوق الخارجية بعيدا عن الموزعين المصريين الذين
أعتبرهم مثل جماعة الإخوان المسلمين التى ترى أن حكمها هو الحكم
الوحيد الصائب وأن أى رأى آخر هو رأس خاطئ بالضرورة.
·
ماذا عن الصورة فى فيلمك التى نجد فيها اختيارا
لألوان وإضاءة وحركة كاميرا وممثلين ذات أسلوب متميز ومختلف؟
–
حاولت فى فيلمى صنع فيلم واقعى بنكهة شاعرية وذلك عبر عدة عوامل
كاستخدام ممثلين غير محترفين وعدم وجود حوارات كثيرة وذلك لأنى
أفضل ما يمكن أن أطلق عليه السينما المتقشفة فأنا أكره البهرجة
والاستعراض وما يمكن تسميته بالمحسنات البديعية وأراها مجرد مراهقة
سينمائية.
·
كيف نفذت ذلك فى فيلمك؟
–
أولا عبر بروفات المعيشة التى تحدثنا عنها من قبل. وهو ما يجعل
الممثلين والفنيين يعيشون الحالة ويصنعون فيلما واقعيا عبر
اندماجهم فى واقع حكاية الفيلم بشخوصها وأماكنها.. الخ. وهو ما
يجعل إيقاع الفيلم نفسه واقعيا وإيقاع الفيلم هو أهم شيء فى الفيلم
وفى السينما بشكل عام ولذلك فالشعر أقرب الفنون فى رأيى إلى
السينما. ومن ناحية أخرى أهتم كثيرا بشريط الصوت وذلك لتأكيد إيقاع
الفيلم. وجدير بالذكر أننى كنت أذهب إلى أماكن التصوير وأمكث فيها
لفترات طويلة حتى أستوعب البيئة الصوتية لهذه الأماكن. ولا تنس أن
الإيقاع يتعلق تمام التعلق بالزمن والزمن فى حد ذاته هو فكرة
أساسية فى الفيلم. فالشخصية الرئيسية فى الفيلم «إيمان» لا تعيش فى
الحاضر بل ربما تعيش فى المستقبل أو فى الماضى أى أنها مصابة بنوع
من القلق الوجودي. ولذلك استخدمت عدسات لا يستخدمها صناع السينما
الآن حتى أصل إلى الصورة الموجودة فى الفيلم والتى تحاول أن تجعل
الزمن أمرا مبهما.
·
لماذا قررت استخدام هذه العدسات ولم تقرر أن تصنع
هذه المؤثرات البصرية المطلوبة فى مرحلة ما بعد التصوير؟
–
لأنى أحب الطرق التقليدية وأقدرها. بل اننى كنت أفكر فى تصور
الفيلم بكاميرا 16 ملى وهو ما يتوافق مع فكرة الواقعية التى أسعى
إليها باستمرار.
·
أخيرا.. هل تعتبر نفسك ضمن تيار السينما المستقلة
فى مصر؟
–
أفضل مصطلح تمويل ذاتى على سينما مستقلة لأنه توجد أفلام ضخمة
الإنتاج ومستقلة. لقد قررت تمويل الفيلم ذاتيا حتى أكون متحكما
تمام التحكم فى موضوع الفيلم وطريقة صنعه وتوقيت عرضه. وبالتأكيد
واجهتنى الكثير من الصعوبات والتى أتمنى تلافيها فى أفلامى القادمة
إذا ما وجدت شخصا أو مؤسسة مستعدة لتمول فيلمى بهذه الشروط.
####
مهرجان دبي السينمائي ..
ودرس في اختيار فيلم الافتتاح
مجدي الطيب
*باستثناء «ناجي العلي» و«الطريق إلى إيلات»لا تعرف
مهرجاناتنا السينمائية فيلم الافتتاح الذي يتبنى «إستراتيجية» أو
يمرر رسالة !
يخضع قرار اختيار فيلم الافتتاح، في بعض المهرجانات
السينمائية العربية، إلى شيء من العشوائية؛ والكثير من الارتجالية،
التي تُفصح عن نفسها في اختيار «اللحظة الأخيرة» أو «الوقت
الضائع»، وغالباً ما تلعب «المجاملة»، وربما «البزنس»، دوراً
كبيراً في الاختيار، ومن ثم يأتي الفيلم بمثابة «سد خانة»، ودائماً
ما يكون من دون طعم أو لون، وتفوح منه رائحة ما، نظراً لأن الكل
يتعامل مع فيلم الافتتاح بوصفه عبئاً ثقيلاً ينبغي التخلص منه !
مرات قليلة تلك التي خرجت فيها مهرجاناتنا عن
«تخبطها»، واختارت فيلم الافتتاح، بناء على «استراتيجية»، وجرياً
وراء رسالة ما تسعى إلى تمريرها؛ مثلما حدث في الدورة الخامسة عشرة
لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، التي افتتحت في 2 ديسمبر عام
1991 بفيلم «ناجي العلي» تأليف بشير الديك وإخراج عاطف الطيب،
وفيلم «الطريق إلى إيلات» تأليف فايز غالي وإخراج أنعام محمد علي،
الذي اختير ليكون فيلم افتتاح الدورة الثامنة عشرة، وفي الواقعتين
نلاحظ أن قرار الاختيار كان يقف وراءه «رئيس مهرجان» هو في الحقيقة
«رجل دولة»، وسياسي من طراز رفيع هو الكاتب الكبير سعد الدين وهبة،
وفي ما عدا ذلك ظل «فيلم الافتتاح» مجرد حلية تُرصع أول ليالي
مهرجاناتنا، وفقرة في مراسم الافتتاح ليس أكثر !
توقفت عند هذه الظاهرة، وأنا أتابع أحداث فيلم «الآنسة سلون»Miss
Sloane،
الذي اختير ليكون فيلم افتتاح «مهرجان دبي السينمائي الدولي» في
دورته الثالثة عشرة (7 – 14 ديسمبر 2016)، وأدركت أن الخلل الذي
أشرت إليه؛ في ما يتصل بافتقار مهرجاناتنا السينمائية العربية إلى
الفيلم / الرسالة، قد جرى تجاوزه في أكثر من دورة من دورات «مهرجان
دبي السينمائي الدولي» على امتداد تاريخه؛ فعلى سبيل المثال تم
افتتاح الدورة العاشرة ( 6 – 14 ديسمبر 2013) بالفيلم الفلسطيني
«عمر»، الذي ندد بالدور القذر لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، في
ما يتعلق بممارسة أشكال شتى من الضغوطات النفسية والجسدية لإجبار
الشباب الفلسطيني على الخضوع لها، ووضعهم أمام خيارين كلاهما مر :
السجن أو الخيانة. ومع انطلاق الدورة الحادية عشرة (10 – 17 ديسمبر
2014) اختير فيلم «نظرية كل شيء» ليكون فيلم الافتتاح، في احتفاء
واضح من إدارة المهرجان بالعلم والعلماء (السيرة الذاتية لحياة
عالم الفيزياء الفلكية ستيفن هوكينج، الذي يُنظر إليه بوصفه واحد
من أعظم العقول الإنساني الباقية على قيد الحياة) . وفي الدورة
الثانية عشرة (9 – 16 ديسمبر 2015) تجلى الهم الإنساني للمهرجان في
اختيار فيلم «غرفة» ليكون فيلم الافتتاح، ليس فقط لأنه مأخوذ عن
رواية تصدّرت قوائم المبيعات، بل لأنه قدم وثيقة مناهضة للقمع
والكبت والقهر وانحاز للحرية (أم معزولة في «غرفة» مع ابنها الذي
لم يعرف يوماً العالم الخارجي، وفجأة بات مُجبراً أن ينفتح عليه،
ويُصبح جزءاً منه) .
«الآنسة سلون»
يمكن القول، إذن، ومن دون مبالغة أن قرار اختيار
فيلم الافتتاح في «مهرجان دبي السينمائي الدولي»؛ لا يخضع لارتجال
أو عشوائية من أي نوع، بل تحكمه «إستراتيجية» صارمة، ورؤية
واسعة،وهو ما عبر عنه، بوضوح، اختيار فيلم «الآنسة سلون» (127
دقيقة)، ليفتتح أعمال الدورة الثالثة عشرة؛ فالفيلم الذي أخرجه
البريطاني جون مادن توغل في منطقة جديدة تماماً على السينما
العالمية، عندما اختار أن تكون بطلته «الآنسة سلون» - جسدت شخصيتها
الممثلة جيسيكا شاستين – عضو في إحدى جماعات الضغط، التي تضع نصب
عينيها الفوز بالضربة القاضية على منافسيها، والإطاحة بكل ما يقف
في طريقها، من تحديات، واستخدام قانون ودستور الولايات المتحدة
الأمريكية بالشكل الذي يكفل لها الوصول إلى مآربها الشخصية، تحت
مظلة الحرية والاقتصاد الحر، قبل أن تواجه بعقبة صعبة تكاد تهدد
حياتها، وليس مسيرتها وحلمها فقط، مع اكتشافها أن منظومة الفساد
أكبر من التخيل، وأن «حاميها حراميها»؛ سواء أكان «سيناتور» بارز
في «الكونجرس»، أو جماعات ضغط مناوئة تعمل لحساب أباطرة اقتصاد،
وتجار سلاح !
وضع كاتب السيناريو جوناتن بريرا يديه على جماعات
التأييد المعروفة باسم «جماعات الضغط» أو «اللوبي» وفي قول آخر
.«جماعة الحملات» أو «جماعات المصالح»، التي لا تتورع عن توظيف كل
أنواع الأسلحة لحشد الرأي العام، والتأثير عليه، من أجل تهيئته
لاستقبال قرار سياسي أو اقتصادي، وفيما تجاهل الفيلم «الجماعات»
التي تتكئ على مواقف عقائدية ركز جل اهتمامه على الدوافع السياسية
ذات الصلة بالنوازع الأخلاقية، ونجح من خلال الشخصية الرئيسة
مادلين إليزابيث سلون في تفكيك هذه الجماعات، التي تُحاكي «جماعات
الإسلام السياسي»، في دناءتها، وحقارتها، ووضاعة أساليبها، ونهجها
«البرجماتي»، الساعي إلى تحقيق مصالحها، من دون النظر إلى أي
اعتبارات إنسانية أو اجتماعية. وهناك أيضاً الاتهامات المتبادلة
بالتلاعب، وارتكاب جرائم فساد وغش ورشوة، وليس غريباً – والحال
هكذا – أن يُطلق على «جماعات الضغط»، التي تمثل تهديدًا على النظام
الاجتماعي، وصف «المتطرفون المحليون» !
الطفيليون الجدد
بالطبع سجل الفيلم أن «جماعات الضغط» تُعد جزءاً من
آلية العمل السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن صلاحياتها
وسلطاتها مكفولة، وفقاً للدستور، الذي يفصل بين السلطات والنظام
الفيدرالي، لكن ثمة إدانة وتعرية – في المقابل - للقوانين التي
مكنت هذه «الجماعات» من التلاعب بصناع القرار السياسي الأمريكي
طمعاً في تحقيق أهدافها، وهو ما يقدم الفيلم مثالاً بسيطاً له عبر
«الآنسة سلون»، التي كانت وسيطة لرشوة بين الحكومة الاندونيسية
وعضو في الكونجرس لإثنائه عن تمرير قرار يحظر إبرام صفقة زيت نخيل
أندونيسية، وغض الطرف عن فضح الصفقة حتى اللحظة التي واجهت فيها
«سلون» خطوات تمرير قانون يبيح حمل السلاح، وامتلاكه، لكل مواطن في
الولايات المتحدة، ووقتها حق عليها العقاب، والتهديد، الذي وصل إلى
التفتيش في حياتها الشخصية، التي لم تخل من زلات، كواحدة من البشر؛
فالفيلم لا يلقي الضوء على كواليس ما يجري في «الكابيتال هول»، من
سن قرارات تحتية، وتمرير مصالح شخصية، وإنما يكشف بشاعة «المجتمع
الرأسمالي»، وهشاشة المجتمع الأمريكي القائم على الخداع، والتآمر،
والألاعيب !
جرأة فيلم «الآنسة سلون» في تأكيده أن المجتمع
الأمريكي وصل إلى درجة من الاهتراء يستحيل معها أن تسود قيم
أخلاقية نبيلة، كالشرف والاحترام والمنافسة المشروعة، وقوله، من
دون مواربة، أن «من يريد العيش في مجتمع كهذا عليه أن يكون طفيلياً
ويتعامل معه بمقاييسه الانتهازية والتآمرية»، ونضج المعالجة تكمن
في تقديم بطلته كامرأة من لحم ودم، تخطيء وتصيب، وتخون وتتعاطف،
وتسلك طرقاً مشروعة وأخرى غاية في الانحطاط، وربما تبدو سوية في
مظهرها لكنها – في جانبها الخفي – شيطانة، وعاهرة إذا لزم الأمر،
لكنها تُساق إلى المقصلة، تحت شعار حماية المجتمع الأمريكي من
الفساد والمفسدين، وتُدرك بدورها «قانون اللعبة»، وتُحكم حبائلها
على رقاب «جلاديها»، وتُحقق انتصاراً جديداً تنقذ به رقبتها من
إعدام كان في انتظارها، وتم تخفيفه إلى حكم بالإيداع في إصلاحية
اجتماعية غادرتها بعد أن ردت للمجتمع حقه المغتصب ! |