شخصيات على درجة من الحيوية، تتبدد بسخاء في فلم »حكاية بحرينية«. وبقدر ما تتسم
تلك الشخصيات بخاصية درامية كثيفة، تبدو كذلك حبيسة داخل مواقف صوتية وبصرية، كما
تفترض الواقعية الجديدة، إذ تجد نفسها مقتلعة من حاضنها المكاني بالقدر الذي تحاول
التشبث به، بل ان الأمكنة ذاتها تبدو خاوية وموحشة، أو طاردة - بمعنى أدق - لناسها
المحكومين بلعنات الترحال والانخلاع من منابتهم، مهما بدى المشهد الحياتي ثرياً
بحيوات كثيفة ودائمة الحركة، فأغلب الشخصيات الفاعلة في »الفلم/ الحكاية/ الحياة«
مقهورة بقدر الموت انتحاراً »فاطمة« أو الموت استشهاداً »سلمان« أو الرحيل انكساراً
»حمد« أو الفرار هرباً »محمود ومنيرة« فيما يبدو إعلاء من شأن طقسية الجسد الشعائري
مقابل ابتذالية الجسد اليومي، كما تمثل في يعقوب وعبدالله وجمعة، بمعنى استبدال
السببية السردية بمفاصل شعرية، كما يقترح تاركوفسكي من الوجهة التأثيرية.
ثمة تأكيد صريح على المكوّن الرومانسي في »حكاية بحرينية« بما هو سمة من سمات
الواقعية الجديدة، التي لا تكتفي بتصعيد المفارقة في الوقائع الحياتية، ومعالجة
المضامين الاجتماعية وحسب، بل تتجاوز حتى حالة عدم الثبات في المكان إلى تجسيد حالة
من الاضطراب الشامل والمزعزع الذي سماه بازين »الزوغان« بما هو قيمة محرّكة وفاعلة
إيحائياً، تشير إلى زمن ضيّع مسالكه وخرج عن أطواره، تقترفه ذات لا متموضعة، إذ لا
تقدر تلك الشخصيات على الانوجاد إلا داخل مسافة الحركة، فهي مغلولة للوثيقة
التاريخية، ومهجوسة في الآن نفسه بفكرة الكشف عن قانون التطور الاجتماعي داخل
الجدلية التاريخية، بعد أن أكسبها فريد رمضان حساً قدرياً، وترجم ذلك بسّام الذوادي
إلى قوة استبصارية تعويضاً عما فقدته من إمكانية الفعل على أرض الواقع، والسبب يعود
إلى أن مثل هذه الطرازات الفارطة في الواقعية تكون في أقوى حالاتها عندما يتم
ترحيلها من الواقع إلى مدارات العمل الابداعي.
يتوضح ذلك الاضطراب مثلاً من خلال شخصية الطفل »خليفة« الذي عمل بمثابة العين
الديكوباجية المتلصصة لبسّام الذوادي، حين يتأمل بها النسوة في خلواتهن، أو يراقب
والده بمسقط رأسي من سطح منزلهم، أو حين يطلق لبصره العنان قبالة الشاطئ، أو هكذا
تموضع أيضاً من الوجهة الشعورية في مكمن الرائي، ولم يعد بمقدوره تعزية نفسه إلا
بمصاحبة صديقه »سالم« الذي يشاركه طفولة هواماته الجنسية، وهواية تربية الحمام،
والشرود الدائم، أو مراقبة حالة التفسخ المستشرية دون قدرة على استيعاب المغزى من
وراء الانطفاء الدائم لشخصيات أسلمت نفسها لابتذالية لا مبررة بشكل لا يطاق، وهو ما
يعني أن بمقدور هذا النمط من الواقعية الصادمة التأكيد على أن العالم يمكن أن يتبدى
كفلم سيئ، بغض النظر عن الكيفية التي يتم بها استعراضه.
هكذا قدم بسّام الذوادي عرضاً ينوب عن التاريخ، ليؤفلم ما فرضه سرد فريد رمضان من
واقعية الحكاية، دون أن يعاند أي منهما الوثيقة التاريخية الثقافية، لحقبة زمنية
تمتد ما بين هزيمة حزيران ٧٦٩١ ووفاة الزعيم جمال عبدالناصر ٠٧٩١، حيث كانت البحرين
ممثلة في بيت عبدالله »والد خليفة« كصورة سائلة، بالمعنى الفني للجماليات البصرية،
تتداعى تحت رمادية صورته الصلبة، المعلقة على جدار مهترئ لتحكي سيرة أنوات بحرينية
صغيرة، محروسة بوهم »أنا تاريخية هائلة«. وقد تمت ترجمة تلك الوقائع بصرياً بشكل
تصعيدي فيما يبدو محاولة لتخليق ما هو أبلغ من الواقع شكلياً ومادياً، وإن لم تصل
إلى حد اختلاق واقع جديد، بالنظر إلى أن السينما ليست لغة، بقدر ما هي منظومة تقوم
على تكامل الصورة بالحركة، ولو في قالب سينمائي حكائي، كما تبدت في اللقطة كوحدة
بنائية تقوم مقام العبارة المنطوقة.
إذاً، ثمة تجاذب خلاق بين خطابين جماليين، قوامه رؤية الكاتب مقابل منطق السرد
السينمائي المعضّد بالميزانسين، بما هو مخطط المخرج المؤسس على وحدة تعبير شكلية
يتم بموجبها توزيع الممثلين مع بعضهم وإدخالهم في علاقة متناسقة بالمحيط، للتعبير
عن معنى ما يحدث، فمهمة المخرج، برأي روجر أيبرت، أن يخرج فلماً جميلاً لا أن يكون
مخلصاً للكتاب وملزما به، أو هكذا أراد بسّام الذوادي من قصة فريد رمضان أن تكف عن
كونها حكاية لتتحول إلى مواقف صوتية بصرية، وعليه فقد اجتهد لئلا يقدّم واقعاً
مصوراً كما هو، أو منسوخاً، بالاعتماد على تقنية اللقطة الطويلة، أو ما يعرف
باللقطة المرحلة، أو »الصورة الواقعة« كما تعرف في القاموس الأدائي للواقعية
الاجتماعية، حيث أكد على تحريك شخصيات واقعية، داخل زمن مرتج، وفضاء مشتت إضماري
مبهم، تسوده علاقات مفككة، وأحداث صاخبة، تنكشف خباياه بانكشاف أكذوبة الحلم العربي
الأكبر، أو انهياره، وتشرد شخصيات تلك النواة الاجتماعية الصغيرة، على إيقاع هزيمة
الرمز، أو هكذا يفسر السرد/ الفلم غموض تلك العلاقات المبهمة والواهية.
لا يخلو الفلم من حنين عاطفي للماضي، غايته افتكاك أصلانية الكمون في الصورة
الذكرى، بما هي حالة سيكولوجية شعورية على درجة من التقلب داخل الزمن، ففي النهاية
يبدو فلم »حكاية بحرينية« من الأفلام التي تتعامل مع الذاكرة بأقصى وساعاتها
وأعماقها الزمكانية، إذ تتحول الذاكرة إلى أداة للبحث والتقصي، ولكن رؤاه الجمالية
تستبطن ملمحاً من النقد الموضوعي أيضاً، لدرجة أن بعض الشخصيات تبدو أحياناً
مقموعة، أو ممنوعة من دفق احساسها داخل الفعل للإبقاء على الفكرة، وبدل الالتفات
البصري إلى الماضي، واسترجاع أحداثه بآلية، استطاع بسّام الذوادي تحويل حكايات فريد
رمضان البانورامية الصغيرة إلى لوحات بصرية وصوتية، أشبه بصورة تحدث في الحاضر،
وتأخذ شكل التعاقب البسيط أقرب إلى الآنات الحاضرة، فالماضي كصورة يتعايش مع ظلال
الحاضر من خلال شخصيات منفلتة من حس »التحبيك« ولكنها مشدودة بخيط سردي رهيف داخل
زمن متخثر، كما بدى من الاسقاطات التي بدت مقحمة لتشكيل هوية قوامها الحاضر، بما
فيه من رغبة للتسالم الاجتماعي، والتعايش على أرضية وجدانية ومادية مشتركة، وكأن
الفلم يهجس بفكرة العودة الى يوتوبيا الشكل الأول للفضاء الاجتماعي.
ذلك هو ما يفسر النبرة الخطابية في عبارة عبدالله لحظة طرده خطيب ابنته »ما بقى إلا
أزوج بنتي لشيعي« كما يفضح عبارات الأسى المصطنعة، أو المصعّدة بنبرة ميلودرامية
لليهودي البحريني »صحيح إني يهودي لكني بحريني وعربي« وهو ما يعني الإخلال بمصداقية
الفعل والتقليل من عمق وجمال الصور، بما هي تعميق لمعنى الكلام بشكل ما من الأشكال،
فالخلل كما يبدو من الوجهة الخطابية والفنية أيضاً تأتى من إحلال المنطوق مكان
الصورة، الأمر الذي أعطاها مظهراً مزيفاً، وانتزع منها خاصيتها الأكثر أصالة وهي
الحركة، بحيث أصبحت مجرد لسان، ربما لأن بسّام الذوادي بالغ في التعامل مع الزمن
بوصفه حالة انشقاقية دائمة لا تحتمل الانفصام، حسب التصور البرجسوني، ولكنه في الآن
نفسه داخل زمن واحد عصي على الانقسام بمنظور تاركوفسكي، إذ لا يتشكل حاضر تلك
الحيوات المقهورة بحركة تعاقبية مع ماضيها، بقدر ما يدخل الماضي مع الحاضر بوجه عام
في حالة انشطارية دائمة، بحيث تتأكد بموجب ذلك الانشقاق المتواتر في حركة تكرارية
إلى الأمام السمة الذاتية لديمومة الزمن، وإمكانية انبجاس الحياة داخل صورة تفرض
أصالة طابعها الزمني، ووفرة إشاراته، على اعتبار أن الزمن شرط لوجود الذات.
هكذا جسد بسّام الذوادي الزمن، فجعله فعلاً بصرياً صوتياً، باستثمار الطاقة الوصفية
للصورة، وموضعة الحواس في علاقة مباشرة مع الزمن، لتشكيل مجس حواسي النزعة،
مستعرضاً العادات والسلوك والشعائر وما اندثر من مظاهر الحياة الروحية والمادية، في
شريط بصري تتفسر بموجبه النوازع الشخصية والطموحات والخيبات، فالزمن هو الملاء، كما
يحلله جيل دولوز، ويعني به الشكل الثابت، الذي لا يتبدل، والمترع بالتبدلات في آن،
أو هو المستودع البصري للأحداث في دقتها، فالوسادات الموشاة بالتطريزات، والجدران
المزخرفة، والكاسات المعدنية، والأواني الملونة، والنعال البسيط، كلها طبيعات ميتة،
أو مهملات مهجورة تمتلك الطاقة والقدرة للإخبار عن الكيفية التي عاش بها أولئك، وقد
قدمها بسّام الذوادي، لا باعتبارها جملة من العلامات المرئية المحيلة إلى عفة زمن
آفل وحسب، بل لأنه يجد لذة في استدعائها وتوصيفها.
إذاً، استطاع بسّام الذوادي تحريك الأزمنة الميتة، واستثمار كل تلك الذخيرة من
الذكريات كفنان وليس كمؤرخ مهموم بالتسجيل، ثم استعراضها في شريط من الصور التي
تحيل بشكل مكثف إلى الزمن، بما هو تصوير اجتماعي لكثافة الحياة وحركيتها، كما تعكس
في الآن نفسه أقصى دلالاته الروحية والمادية، بنفس القدر الذي استثمر بموجبه حفلات
الفرح، وطقوس دفن الموتى، فيما يبدو رغبة تسجيلية مستبطنة في روح الفلم، تخلع عن
الأشياء والوقائع والناس سمتها التذكارية، لتهبها روحاً حية، بمعنى تصعيد كل تلك
الميتات للتعبير عما يراد له أن يظل حياً ومشعاً ومؤثراً، وإن بشكل فلكلوري أحياناً
يتعاضد فيه الشكل العمراني والملابس وروح التخاطب عبر قاموس وثيق الصلة باللحظة
لتوليد ضرورة جمالية من ضرورات الإحساس بالقديم، وهذا هو السر الأخلاقي للواقعية
الجديدة من حيث اتكائها على ضمير جمالي تتكثف في مجراه العميق آلية الحركة
الاجتماعية.
ولأنه يدرك أن الصورة البصرية الصوتية لا تبلغ فاعليتها التأثيرية إلا عندما يتم
إرفاقها بقوى ذهنية، وتعزيمها بحدس استبصاري، استدعى الصورة كمعادل للذكرى بما فيها
من ثقل الماضي وعفته المتوهمة، واحتقانه بالمكّون العاطفي أو الأيدلوجي، أو حتى
اعتماد الحركة البطيئة في أكثر من مفصل، خصوصاً حين يتعلق الأمر بمشهد عنفي، وذلك
لعرض الحركة داخل اللقطة ببطء لتتحرر الحركة ذاتها من المتحرك من الوجهة التقنية،
بحيث تتبدد المواقف الحسية لصالح المواقف البصرية الصوتية، أو لتنتظم ذاتية الصورة
الذهنية في مشهد بعد تحويرها بصرياً، وإحالتها إلى موضوع.
يبدو ذلك واضحا حد المباشرة في تصفّح »منيرة« لرواية »النظارة السوداء« وتقليب
»حمد« لكتاب »رأس المال« واحتشاد الجماهير عند دكان »أبو جمال« لسماع خطاب
عبدالناصر، وتواطؤ »خليفة وسالم« على التحديق بشبق طفولي في صور الممثلات والعرايا،
بما يعني تعريض الماضي كصورة لحزمة فائضة من الضوء، ولكن دون التسليم بالطبيعة
الانغلاقية لتلك الصورة الذكرى، فقد حاول تشعيبها زمنياً، دون القفز على الأصل
الحكائي لنص فريد رمضان حتى في داخل الطقس التمثيلي الذي أعدته شروف الزرقة عند
تزويج ابنتها »سمرة« بجذع نخلة إيفاء بنذرها، وكأنه يحاول أن يجعل من فلم »حكاية
بحرينية« مثالاً للأعمال السينمائية المرآوية.
الحكاية البحرينية تلك إذاً، هي سيرة كائنات أدمنت اللهاث وراء الأحلام لمقاومة
أقدارها. إنها حكاية مكتوبة بدموع »فاطمة« وهي تؤدي طقس انتحارها الفاجع - حرقاً -
على مرأى من زوجها »يعقوب« المسكون بشرٍ انطولوجي موروث، وعلى ايقاع زغرودات وضحكات
شروف الزرقة. إنها سيرة الذات الخائبة كما تتكدس بهشاشة عاطفية في عيون »لطيفة«
وأخيها إثر وفاة عبدالناصر. إنها الحلم بالحرية كما يطلقه »خليفة« على أجنحة الحمام
في فضاء يمتزج فيه صراخ المتظاهرين بدوي الطلقات التي اخترقت جسد »سلمان« وهتافات
تلك الذات الضالة »الله.. الوطن.. طيران الخليج«. إنها سيرة الحب المغدور، كما
دونّتها »منيرة« برومانسية قلمها الصغير رسائل لحبيبها »محمود« وكما حفرتها عصا
»جمعة« ولطمات »عبدالله« كدمات على أجساد مقهورة.
هذا التضاد الدرامي الصاخب بين الحيوات المحقونة بالمواقف والأفكار والمشاعر، هو ما
ولّد الأثر الجمالي، فكل ذات استدعاها فريد رمضان لتمثل في »حكاية بحرينية« هي حركة
ضمن مجموعة من الحركات التكرارية يتشكل بموجبها الزمن بما هو المعادل للتاريخ، حيث
يتأسس نمو السرد السينمائي للفلم عبر تعارض المبادئ. وقد أحالها بسّام الذوادي إلى
لقطات حية في سرد سينمائي يقوم على إنتاج صورة ذات ايقاع، وثيقة الصلة بالعاطفة
والفكرة والغريزة. وبالتأكيد تمثل كل ذات قوة ناتجة عن ظرف موضوعي، مقابل فكرة أشبه
بمحاولة لتحريك صرامة الواقع، أو تحريره من مرجعيته كحدث.
ذلك التقابل الحاد والمرسل في سردية الفلم هو ما عزّز من الطابع الثوري للمجابهة
بين القوى، أو ربما أبان عن مغزى وجود قوى متضادة داخل المجتمع، تتصارع حول جدوى
ومعنى ممكن للحرية، كما تجسد ذلك عبر ذوات مقطوعة من امتداداتها، مختبرة داخل زمن
رجراج، بدا أقل وطأة وأكثر قابلية للمعايشة بوجود »شروف الزرقة« فقد شكلت عازلاً
درامياً بين قوى كادت أن توقع الفلم برمته في حالة صراعية تنتصر لحدة الذاتي مقابل
وساعات الموضوعي.
هكذا صمم بسّام الذوادي »حكاية بحرينية« كحالة من حالات التفكير عبر دراما الصور
الشعرية، للتقليل من سطوة تعاقبات التاريخ الاكرونولوجية، حيث تم تعطيل الاتصال مع
الواقعة ومع واقعية الزمن من خلال ما يعرف بالسينما الشعرية، كما يقترح تاركوفسكي،
وعليه تحول كمخرج إلى نحّات داخل الزمن، يأخذ من كتلته ما يحتاجه ويرمي ما لا
يحتاجه باعتماده الصورة الحركية، الأمر الذي أعطى للفلم حيويته، فبمقدور هذه الصورة
تخليق صورة زمن. وقد أراد بذلك الاتكاء على المنطوق السينمائي - كمخرج - انتزاع
النص من ركيزته المكتوبة كما سردها فريد رمضان، أي إبداء بعض المقاومة للنص مع
التأكيد على احترامه كوثيقة ومخيال وتاريخ.
الأيام البحرينية
في 10 مارس 2007 |