يصل بنا الحديث عن الإخراج والجانب التقني والفني في أفلام عاطف الطيب، فمن
الملاحظ بأن هناك تبايناً واضحاً في أسلوب الطيب الإخراجي وفي المستوى
الفني والتقني لأفلامه.. مما يوحي بأن الطيب لم يتبنى رؤية سينمائية فنية
محددة وواضحة يحمِّلها جميع أفلامه، فيلماً بعد فيلم. هذا بالرغم من أن
الطيب ـ كمخرج حرفي ـ قدم مستويات فنية تقنية جيدة، في كثير من الأحيان..
خصوصاً وأنه ـ في تعاونه مع فريق العمل الفني ـ قد كرر في أفلامه أسماء
معروفة كل في مجاله. فمثلاً في مجال التصوير تعامل مع سعيد شيمي في 8
أفلام، ومع عبد المنعم بهنسي في 3 أفلام، ومع محسن نصر وهشام سري في فيلمين
لكل منهما. وفي مجال المونتاج تعامل مع نادية شكري في 10 أفلام، ومع أحمد
متولي في 5 أفلام، ومع سلوى بكير في 4 أفلام. وفي مجال الموسيقى التصويرية
تعامل مع مودي الإمام في 5 أفلام، ومع عمار الشريعي في 3 أفلام، ومع محمد
هلال في 3 أفلام. أما في التمثيل، فقد تعاون مع ألمع النجوم.. فمع نور
الشريف قدم 9 أفلام، ومع أحمد زكي قدم 5 أفلام، وقدم لكل من: محمود عبد
العزيز، نبيلة عبيد، ليلى علوي، ممدوح عبد العليم، ثلاثة أفلام. ومع
كل هؤلاء الفنيين والفنانين، قدم عاطف الطيب مستويات فنية راقية، خصوصاً في
مجال الأداء التمثيلي. إلا أن هذا لا ينفي بأن كل فيلم يقدمه يختلف عن
الفيلم الآخر في الأسلوب والرؤية الفنية.
وبالرجوع إلى الببلوغرافيا، سنجد ـ مثلاً ـ بأن أفلام الطيب ـ في غالبية
مشاهدها ـ تعتمد على التصوير خارج الأستوديو. ويأتي ذلك إما لأن التصوير
خارج الأستوديو أقل تكلفة إنتاجية، أو سعياً للوصول إلى الصدق الفني
وبالتالي الوصول إلى المتفرج بسهولة. ومهما يكن السبب في خروج الكاميرا من
الأستوديو، فقد جاء ذلك في صالح العمل الفني عموماً.. حيث كانت الكاميرا
تجوب الشوارع والأزقة بحركتها الحرة والملفتة، خصوصاً الكاميرا المحمولة
منها، والتي أضفت نوعاً من الحركة على المشاهد بشكل عام. ويتضح ذلك أكثر في
أفلام (سواق الأتوبيس ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ ملف في الآداب). أما بالنسبة
للإضاءة، فقد كانت في كثير من الأحيان إضاءة درامية معبرة ومساهمة في خلق
الجو الداخلي للمشهد (الغيرة القاتلة ـ سواق الأتوبيس ـ الزمار ـ البريء ـ
قلب الليل ـ الهروب). على العكس من أفلام (التخشيبة ـ كتيبة الإعدام)
مثلاً، حيث لم يكن للإضاءة دوراً مهماً وبارزاً في التعبير الدرامي، بل
يمكن أن نقول عنها بأنها كانت إضاءة تكميلية فقط.
نصل الآن للحديث عن تكوين الكادر الجمالي، واختيار زوايا التصوير وحجم
اللقطات، حيث نلاحظ بأن عاطف الطيب لم يكترث كثيراً بتكوينات كادراته
الجمالية والشكلية، إلا فيما ندر. وبما أن أداة التعبير في السينما أساساً
هي الصورة، فلا بد أن يكون هناك اهتمام واضح بهذه الصورة، والمقصود طبعاً
الصورة الدرامية المعبرة. ففي غالبية أفلام عاطف الطيب (التخشيبة ـ الحب
فوق هضبة الهرم ـ ملف في الآداب ـ كتيبة الإعدام ـ ضد الحكومة ـ دماء على
الإسفلت) كان الموضوع الجيد والجريء طاغياً على كل شيء، أقصد ذلك الموضوع
الذي أعتمد في الأساس على الحوار الكثيف والمباشر، وعلى عناصر أخرى غير
الصورة في التوصيل، مما أدى إلى التقليل من أهمية لغة الصورة المعبرة
وجعلها ضعيفة في كثير من الأحيان. بل أن في بعض أفلام الطيب كان من الصعوبة
بمكان الكشف عن أي ابتكار فني جمالي، يكفي لإفراز طاقات وإمكانيات فنية
جمالية للعمل الفني. وبالتالي اختفى ذلك الدور التعبيري للصورة. ويتضح ذلك
في أفلام (أبناء وقتلة ـ البدرون ـ الدنيا على جناح يمامة). وهذا الحديث ـ
بالطبع ـ لا ينطبق على أفلام قليلة مثل (سواق الأتوبيس ـ الزمار ـ البريء ـ
قلب الليل ـ الهروب ـ ناجي العلي ـ إنذار بالطاعة). ففي فيلم (سواق
الأتوبيس) مثلاً، كان هناك تصوير أخاذ، وزوايا تصوير مدروسة بعناية، وإضاءة
درامية موفقة غالباً. وفي (الزمار) كانت حركة الكاميرا وزوايا التصوير في
قمة تألقها، حيث وفق الطيب في إعطاء تكوينات جمالية للكادر في كثير من
الأحيان، هذا بالرغم من أنها كانت تكوينات مبعثرة في زوايا الفيلم، ولم تكن
تشكل أسلوباً واضحاً للإخراج. كذلك في (قلب الليل) حيث تميز التصوير
بتكوينات جمالية رائعة للكادر، واستخدام موفق للإضاءة داخل المشاهد، وهي
إضاءة درامية أعطت إيحاءً بالفترة التاريخية، وذلك باستخدام موفق للمرشحات
المختارة من قبل المخرج ومدير التصوير، مما أضفى على المشاهد شفافية معبرة.
إلا أن كل ذلك كان في النصف الأول من الفيلم، حيث افتقد النصف الثاني منه
لكل هذا الإبداع. وفي (ناجي العلي) هناك جهد ملحوظ وعالي المستوى في
التصوير، حيث الاختيار الموفق لحجم اللقطات وزوايا التصوير، إضافة إلى
الإضاءة الدرامية المعبرة، خصوصاً في المعارك الليلية التي اتسمت بالشاعرية
الواقعية. أما في فيلم (الهروب)، فقد حقق التصوير والإضاءة مستوى عالياً من
الحرفية، وخلقا الجو المتناسب مع الحدث الدرامي، كما نجحت الكاميرا في
التعبير عن ذلك التوتر الدرامي بحركتها الحرة في الأماكن المغلقة أو
بالاهتزاز المتوتر عند التصوير فوق سطح القطار مثلاً. وبالتالي تميز
التصوير بتكويناته الجمالية القوية والمعبرة.. حيث كان هناك حقاً اهتمام
بالجانب الجمالي في هذا الفيلم.
نأتي للحديث عن تجربة المونتاج في أفلام عاطف الطيب.. حيث أن لهذا العنصر
أهمية كبيرة في السينما، باعتباره عامل حاسم في المحافظة على الإيقاع العام
للفيلم، والتحكم في العلاقة بين التصاعد الدرامي للحدث وبين شخصيات الفيلم.
ففي أفلام الطيب، نلاحظ ذلك التفاوت الفني لدور المونتاج وأهميته.. كما أن
هناك تفاوتاً واضحاً في اعتماد عاطف الطيب على المونتاج من فيلم إلى آخر.
فمثلاً في بعض الأفلام التي قدمها الطيب (سواق الأتوبيس ـ التخشيبة ـ ملف
في الآداب ـ ضربة معلم ـ كتيبة الإعدام ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت)،
كان للمونتاج دور مهم في الحفاظ على إيقاع تصاعدي لاهث وتشويقي متناسب
والحدث الدرامي. وفي (ملف في الآداب)، نجد قطعاً سريعاً ولاهثاً يعتمد
المونتاج المتوازي في التعبير الدرامي . وفي (ضربة معلم) هناك مونتاج سريع
ولاهث، ويتناسب وأسلوب التشويق والحركة الذي اتخذه الفيلم. وفي أفلام (ناجي
العلي ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت ـ إنذار بالطاعة)، نلاحظ مونتاجاً
جيداً احتفظ بنبض الفيلم الدرامي وانفعالات الشخصيات. وفي المقابل هناك في
أفلام (الغيرة القاتلة ـ الزمار ـ البريء ـ أبناء وقتلة ـ البدرون ـ قلب
الليل) مثلاً، إخفاقات وتذبذب في مستوى المونتاج من مشهد إلى آخر، مما أدى
إلى عدم السيطرة على إيقاع الفيلم العام.
أما بالنسبة للموسيقى التصويرية في أفلام عاطف الطيب ، فهي ـ بشكل عام ـ
متوافقة مع الحدث وتعبر عنه. وعلى أقل تقدير، تكون ـ أحياناً ـ خلفية
للحدث، إن لم تعبر عنه. كما يلاحظ في موسيقى أفلام الطيب، بأنها تتميز
بالطابع الحزين المعبر، وتعتمد ـ غالباً ـ على نفخات الناي الحزينة أو آلة
أخرى مصاحبة (سواق الأتوبيس ـ التخشيبة ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ الزمار ـ
ملف في الآداب). وموسيقى أوركسترالية حزينة معبرة في أفلام (البريء ـ قلب
الليل ـ الهروب ـ ناجي العلي ـ إنذار بالطاعة). أما في فيلمي (أبناء وقتلة
ـ البدرون) فهناك استثناء، حيث كانت الموسيقى تقليدية صارخة، تتناسب
والطابع الميلودرامي الذي طرحه الفيلمان. أما موسيقى الفنان مودي الإمام،
والذي بدأ التعاون مع الطيب منذ فيلمه (قلب الليل) ومن بعدها في أفلام
(الهروب ـ ناجي العلي ـ ضد الحكومة ـ دماء على الإسفلت)، فهي موسيقى حديثة
جيدة وموحية، وتشكل نقلة في التعبير الدرامي للموسيقى في السينما المصرية
عموماً. ففي فيلم (الهروب) مثلاً، نجد موسيقى رائعة جداً، استطاعت أن تعمق
الكادر السينمائي، وكانت جزءاً أساسياً في تكوين الصورة وليست ظلاً لها
فحسب، خصوصاً في ذلك المؤثر الصوتي الجميل (صوت راعي الجمال) والمتناسب مع
الموقف الدرامي في تجسيد العلاقة بين البطل والصقور المحلقة.
والتمثيل ـ أيضاً ـ في أفلام عاطف الطيب، كان عنصراً هاماً، استخدمه الطيب
في توصيل ما يريده للمتفرج، مستفيداً في ذلك من قدرات ممثليه الذين اختارهم
بعناية شديدة. بل إنه في بعض أفلامه اعتمد ـ بشكل أساسي ـ على تلك القدرات
الأدائية للممثل في التوصيل، متناسياً الاهتمام ببقية العناصر الأخرى. كما
حدث فعلاً في فيلمه (البريء)، عندما كان أداء أحمد زكي هو الفيصل الحقيقي
الذي جعلنا نصدق سبع الليل، ونتابع معه خطوات مغامرته الكبيرة هذه.. إن
أحمد زكي، بهذا الصدق في الأداء قد جعل المتفرج يتعاطف مع الشخصية إلى درجة
التماهي، حيث أن المتفرج قد نسى أو تجاهل أن يفتش عن الأخطاء والسلبيات
التي احتواها الفيلم. بل إن هذا التماهي قد جعله لا يرى ما يمكن أن يخالف
المنطق أحياناً. وقد كان عاطف الطيب عموماً، حريصاً جداً في اختياره
لممثليه، بل ونجح ـ إلى حد كبير ـ في إدارتهم بشكل ملفت للنظر، مستفيداً من
قدرات أدائية كامنة فيهم ولم تستثمر قبل ذلك.. حيث كان الممثل في أغلب
أفلام الطيب، في أفضل حالاته. ولا يمكن للمتفرج أن ينسى مثلاً، أداء نور
الشريف في (سواق الأتوبيس)، أو أداء نبيلة عبيد في (التخشيبة)، أو أداء
مديحة كامل وصلاح السعدني في (ملف في الآداب)، ولا يمكن ـ أيضاً ـ نسيان كل
تلك الشخصيات الرائعة، التي أداها أحمد زكي في أفلام (التخشيبة ـ الحب فوق
هضبة الهرم ـ البريء ـ الهروب ـ ضد الحكومة).
وبعد أن تحدثنا عن التصوير والمونتاج والموسيقى والتمثيل في أفلام عاطف
الطيب، باعتبارها عناصر فنية تقنية هامة، تسخر لخدمة المخرج في صياغة رؤيته
الإخراجية للعمل الفني. يبقى أن نتحدث عن العملية الإخراجية نفسها، وقدرات
المخرج في السيطرة على مجمل هذه الأدوات الفنية والتقنية، للوصول بالفيلم
إلى أفضل مستوى فني.
وإذا استعرضنا أمثلة من الببلوغرافيا، تجسد مستوى الإخراج عند الطيب. فسنجد
مثلاً بأن الإخراج في فيلم (التخشيبة) كان موفقاً إلى حد ما في تنفيذه
للسيناريو، وليس هناك جديد فيه، هناك فقط إدارة جيدة للممثلين. كذلك
الإخراج في (الحب فوق هضبة الهرم) الذي كان تقليدياً، يشوبه بعض اللمحات
الفنية الجيدة، هذا بالرغم من أن هناك إدارة جيدة للممثل والكاميرا، خصوصاً
المحمولة منها. وفي فيلم (الزمار) نجد إيقاعاً منسجماً نوعاً ما في
الإخراج، مع وجود اهتمام بالكادر الجمالي للصورة، في أحيان كثيرة. ولا يمكن
نكران ذلك الجهد الفني المبذول من المخرج في فيلم (ملف في الآداب) في
الاحتفاظ بالنبض المتدفق والإيقاع السريع واللاهث للفيلم. كما أن المخرج
نجح في الموازنة بدقة بين الإيقاع البوليسي للفيلم، وبين إيقاعه كفيلم يحمل
هدفاً فكريا اجتماعيا. وفي فيلم (ضربة معلم) نجد إخراجاً جيداً حافظ على
عنصري التشويق والحركة حتى نهاية الفيلم، مما ساهم في انتشال الفيلم من
السقوط في السطحية. وكان خطأ الإخراج في فيلم (قلب الليل) هو أن المخرج كان
أميناً للعمل الروائي إلى درجة فقدانه للغته السينمائية، وارتباك هذه اللغة
في أحيان كثيرة، مما جعل الفيلم يتخبط في لهاثه وراء العمل الأدبي. هناك
سيطرة من المخرج في الجزء الأول على تنفيذ كادراته، هذا إضافة إلى الشفافية
التي ساهمت في جمالية المشاهد.. أما بقية الفيلم، فقد افتقد لكل تلك
التقنيات الإبداعية، بل وضاع وراء تجسيد سردية القص الروائي، لدرجة شعورنا
بأن الفيلم قام بإخراجه اثنان ـ يختلفان تماماً في الرؤية السينمائية. أما
في فيلم (الهروب) فنجد مستوى فنياً جيداً في الإخراج، وصل به مخرجه إلى
درجة كبيرة من الإتقان، حيث نجح في إدارة فريقه الفني من فنانين وفنيين.
فهناك، حقاً، إبداع أدائي من الممثلين، إن كان في الأدوار الرئيسية أو
الثانوية. وهناك أيضاً تمكن واضح من المخرج في السيطرة على أدواته الفنية
والتقنية. وهناك جهد واضح يحسب لصالح المخرج في فيلم (ناجي العلي) إن كان
في تجسيد المعارك أو في تحريك المجاميع. وهناك أيضاً سيطرة كاملة على
أدواته الفنية والتقنية كمخرج. وفيلم (إنذار بالطاعة) يتميز بإخراج جيد، ذو
إيقاع متناغم مع الأحداث والشخصيات، وهناك تكوينات جمالية للكادر في أغلب
المشاهد. إدارة موفقة من المخرج لأدواته الفنية والتقنية.
وختاماً نتوصل إلى إشكالية هامة بالنسبة لتجربة المخرج عاطف الطيب
السينمائية، وهي إن مشكلته كمخرج، تكمن في أسلوبه الإخراجي المبسط إلى درجة
كبيرة، وذلك باعتماده على الموضوع والموقف الجريء ـ بشكل أساسي ـ في
التوصيل.. هذا بالرغم من أن هناك في أفلامه كم كبير من الشعر والرمز
والموسيقى، إضافة إلى الأفكار والعناصر (الأدوات) التقنية.. إلا أنها
جميعاً تفتقد ـ في نفس الوقت ـ لتلك الرؤية الإخراجية الخاصة التي في
إمكانها توظيف كل تلك الإمكانيات التقنية والفنية للانطلاق بالعمل الفني
إلى آفاق فنية وإبداعية قد تثير الإعجاب، وترتقي بالمستوى الفني للفيلم..
فسينما اليوم لا بد أن تكون قادرة على الجمع ما بين الشكل والمضمون في إطار
متوازن ومحسوب. |