كل فيلم جديد للمخرج داود عبدالسيد، يمثل تظاهرة سينمائية استثنائية.. ترى
لماذا..؟! هل لأنه يقدم فيلماً كل خمس أو أربع سنوات.. أو لأنه يبقى في بحث
دائم ودراسة متأنية لما سيقدمه في عمله التالي.. أو لنقل بأنه لا يجد
المنتج الجريء والمؤمن به كفنان صاحب رؤية سينمائية وفكرية..؟! كلها أسئلة
تنتظر الإجابة، لمن لا يعرف هذا الفنان المتميز، ولم يتعرف على مجموع
أفلامه التي قدمها على مدى ربع قرن.
* * * *
منذ المشاهدة الأولى لفيلم (الصعاليك - 1984) باكورة أعماله الروائية
الطويلة، يتضح جلياً بأننا أمام مخرج فنان ومفكر، يحاول تقديم فيلم ذو
مضمون فكري وفني متميز.. فنان يبحث عن أسلوب مختلف في الطرح والأسلوب..
وتأكد ذلك مع أفلامه اللاحقة، حيث كان كل فيلم جديد له، بمثابة بحث متواصل
عن العلافات الإنسانية المتشابكلة، بحث عن مكنون الإنسان النفسي
والإجتماعي..!! فالمخرج عبدالسيد، بالرغم من قلة أعماله (8 أفلام في 25
عام)، إلا أننا نلاحظ هذا التأني والدقة المتناهية في الإختيار، من أجل
تقديم سينما ذات مضمون فني وفكري متميز.. سينما حملها رؤية وأسلوب خاص.
نحن إذن.. أمام مخرج يحاول دوماً الخروج على السائد والتقليدي، والتحرر من
أسر تلك السينما التقليدية العتيقة.. يصنع السينما التي يريدها، مهما كلف
الأمر، حتى ولو بقى بعيداً عن صناعة السينما التي يحب أعوام وأعوام.
بدأ عبد السيد حياته العملية بالعمل كمساعد مخرج في بعض الأفلام، أهمها
(الأرض) ليوسف شاهين، (الرجل الذي فقد ظله) لكمال الشيخ، (أوهام الحب)
لممدوح شكري. ثم بعد ذلك توقف عبد السيد عن مزاولة هذا العمل..
(...لم أحب مهنة المساعد، كنت تعساً جداً وزهقان
أوي.. لم أحبها، إنها تتطلب تركيزاً أفتقده.. أنا غير قادر على التركيز إلا
فيما يهمني جداً.. عدا ذلك، ليس لدي أي تركيز...). ولهذا السبب، قرر
أن يحمل الكاميرا وينطلق بها في شوارع القاهرة، يرصد الحزن والألم في عيون
الناس، ويصنع أفلاماً تسجيلية إجتماعية عنهم. حيث قدم العديد من الأفلام
التسجيلية، أهمها (وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم - 1976)، (العمل
في الحقل - 1979)، (عن الناس والأنبياء والفنانين - 1980). وهي بالطبع
أفلام قد حققت لعبد السيد فرصة للإحتكاك المباشر مع الناس، ومعرفة أوسع
وأعمق بالمجتمع المصري بكافة طبقاته، إضافة الى أنها أكسبته الإحساس بنبض
الحياة المتدفق.
(...لم يكن ضمن طموحي في الطفولة أن أصبح مخرجاً سينمائياً، ربما أردت
أن أكون صحفياً.. إلا أن ما غير حياتي هو إبن خالتي، وكان يعشق مشاهدة
الرسوم المتحركة. وتطور معه الأمر لشراء كاميرا، وعمل بعض المحاولات في
المنزل. وتدريجياً تعددت علاقاته بالعاملين في مجال السينما. وأذكر، وكنا
آنذاك في السادسة عشر، أن أخذني لأستوديو جلال، وهو القريب من سكننا بمصر
الجديدة، وكانوا يصورون فيلماً من إخراج أحمد ضياء الدين، الذي كنت أعرفه
بحكم زمالتي وإبنه في المدرسة. ما حدث يومها أني إنبهرت بالسينما بصورة
مذهلة. وهذا الأمر أفشل تماماً في تفسيره حتى الآن، المؤكد إنه ليس النجوم
وليس الإخراج وليس التكنولوجيا، بل شيء آخر غامض حقاً.. قررت بعدها دخول
معهد السينما...).
* * * *
على مدى خمسة عشر عاماً، ظل داود عبد السيد يصنع بأفلامه حواراً من طرف
واحد.. حواراً مفرداته الصورة لا الكلمة، يصنع الحوار الصامت بالكاميرا.
لكن عبد السيد لم يستطع الإستمرار في هذا الصمت.. شعر بضياع جهده، حيث لا
يصل الى جمهوره الحقيقي. فكان قراره بأن يكتب ويخرج فيلماً روائياً، ليخرج
من دائرة الأفلام التسجيلية المغلقة، ويلتقي بالطرف الآخر.. الجمهور..
(...عشت أحلم بهذه اللحظة، وللأسف رحلتي مع
الأفلام التسجيلية لم تحقق أي شيء، لأنه لا يوجد من يهتم بها.. وطالما
نادينا بعرضها في دور السينما فبل الفيلم الروائي. من هنا وجدت أنه لا يمكن
الوصول لعقل المشاهد إلا من خلال الفيلم الروائي الطويل...).
(...الفيلم التسجيلي يتيح لك حرية التجريب بدون خوف من الخسارة المادية
مثلاً.. أقصد بالتجريب هو أن تعبر عن المضمون الذي لديك بصورة متحررة ..
وحين تعبر فقد صار في إمكانك التجريب، ولو نجح التجريب فستكسب الثقة فيه
وتجد القدرة على المزيد منه...).
ولا ننسى الإشارة الى أن جانباً من أسباب تأخر تجربة عبد السيد في مجال
الفيلم الروائي الطويل، تعود الى أنه قد رفض الإستمرار بالعمل كمساعد مخرج،
وكان دخوله المجال الروائي من ميدان خارجي، ومظلوم إعلامياً، هو مجال
الفيلم التسجيلي، الذي هيئه حقيقة لخوض المجال الآخر..
(...تخلصت من بعض الخوف من الكاميرا، وشعرت أنني
قادر على تجسيد فكرة في شكل سينمائي.. هذا أعطاني ثقة في أني قادر على
تجسيد فكرة، لا تكون مجرد ورق.. والجزء الأساسي في التعليم هو من كتابة
السيناريو. فلا أرى أن هناك إخراجاً وهناك كتابة سيناريو.. عندما تتعلم
كتابة سيناريو تتعلم الإخراج.. والأساسي الذي تتعلمه كيفية أن توصل
فكرة...).
وخلال هذه الرحلة مع الفيلم التسجيلي لم ينسى حلمه، وهو إخراج فيلم روائي.
لهذا كان يكتب القصص والسيناريوهات، حيث بدأ في كتابة أول سيناريو له بعد
بضعة أشهر فقط من تخرجه من معهد السينما. البدايات كانت محاولات غير ناضجة،
حتى كتب سيناريوهات (كفاح رجال الأعمال + الوباء + الصعاليك + بيت الست
حياة).
ويقول عبد السيد: (...إن المحاولات الأولى لم تكن
ناضجة بما يكفي، لكي تقنعني بمحاولة إخراجها للنور.. ولكن بمجرد إنتهائي من
أول أعمالي الناضجة (كفاح رجال الأعمال)، لم أتردد لحظة واحدة (...)
وبالفعل تعاقدت على إخراج هذا العمل سنة 1980.. ولكن للأسف ولأسباب تخص
المنتج، لم أتمكن من تنفيذ الفكرة...).
هنا لابد لنا من الحديث عن مجموعة من المميزات والخصائص التي اتسم بها
أسلوب داود عبدالسيد، باعتباره واحداً من الفنانين المتمردون على السائد،
في بحثهم عن سينما مختلفة تحمل رؤية فنية وفكرية..!!
* * * *
يؤكد عبد السيد في أحد تصريحاته الصحفية، بأن السينما الجديدة هي نتاج
للسينما القديمة وتراثها. وأن السينما الجديدة ليست سينما مختلفة، وإنما
لها طابعاً شخصياً. فذاتية المخرج تظهر في العمل بشكل واضح.. وهو هنا يؤكد
دائماً على السينما الذاتية.. (...أنا أقدم
الموضوعات التي أشعر بها وأتفاعل معها، دون النظر لأي ظروف أخرى. والحمد
لله فقد إستطعت أن أقدم جزءاً يسيراً من أحلامي، وأتمنى بأن أوفق في تقديم
الكثير من هذه الطموحات...).
ولتحقيق طموحاته في السينما التي يصنعها عبد السيد، فهو يكتب بنفسه
سيناريوهات أفلامه.. أي أنه يتبنى مفهوم "سينما المؤلف". وهذا بالطبع يجعله
في حرية فنية، يستطيع بها تجسيد ما يريده هو من رؤى فنية وفكرية، يصبح
مسئولاً عنها مسئولية كاملة.. (...أكتب لأنني أريد
أن أخرج أفلامي. والحقيقة أنني أحب الكتابة، فهي مهنة صعبة ومتعبة، ولكني
في الأساس مخرج أحاول أن أبحث عن كاتب يجسد رؤيتي على الورق، فلا أجده
بسهولة...).
والكتابة - كما يقول عبد السيد - مهمة صعبة، بإعتبار أن الكاتب يعمل على
ورق أبيض، أي على فراغ، أما المخرج فعنده جسم يحققه. لذلك فتحقيق الرؤية في
الكتابة، بالنسبة لعبد السيد، أصعب من تحقيقها في الإخراج. فعبد السيد لا
يمانع في إخراج سيناريو لكاتب آخر، ولكن المشكلة كما يقول هي أنه لا يجد
الكاتب الذي يشاركه نفس الهدف في العمل. لذلك فهو لا يرحب بإخراج
سيناريوهات الآخرين.. (...أقوم بكتابة أفلامي
لأنني مؤمن بأنه يجب أن يكون هناك تفاهم كامل بين كاتب السيناريو والمخرج .
ومن هنا فأنا لا أفكر لحظة واحدة في إخراج أعمال من تأليف الآخرين ، مهما
إستهوتني الأفكار التي تطرحها...).
الحائط الرابع:
ثم أن هناك خاصية أخرى تميز سينما عبد السيد، تتعلق بأماكن التصوير. فهو
يفضل التصوير في الأستوديو على الأماكن الطبيعية، حيث يقول:
(...لا أكره التصوير في الأستوديو، بالعكس أفضله،
وهذه هي السينما. أن تكون لك الحرية في فتح الحائط الرابع للديكور، وأن
تعيد الواقع في شكل قد يكون أقوى إكتمالاً من الواقع...). وهو بذلك
مقتنع بأن الأستوديو والديكورات هي ما يوفر الإمكانيات المثلى للتصوير.
وهذا بالطبع لا يمنعه من اللجوء أحياناً الى الواقع والأماكن الطبيعية إذا
لزم الأمر.. (...لو كان في إمكاني بناء الميناء في
الصعاليك، لما ترددت...).
ومن الواضح جداً بأن عبد السيد دقيق وحذر في إختياره لأماكن التصوير
والديكور والإكسسوارات، وحريص أكثر على مطابقتها للواقع.. وذلك لإضفاء
مصداقية وواقعية على كادراته، لتكون أكثر قرباً وإقناعاً للمتفرج. وعبد
السيد، كما سبق وأشرنا، قد صور في الأستوديو وفي الأماكن الطبيعية، ولكن لا
أحد يستطيع التفريق بين الإثنين، ولا يمكن أن ننسى - على سبيل المثال لا
الحصر - بأنه قد توصل الى أعلى درجات الإيهام بالتماثل مع الواقع في فيلم
(الكيت كات).
* * * *
بالنسبة لقضية التوصيل والتواصل مع الجمهور، فهي قضية هامة تشغل عبد السيد،
هذا لأنه فنان تهمه قضايا ومشاكل واقعه، بل وحريص على مخاطبة أكبر عدد من
الناس. كما أنه في نفس الوقت يريد أن يكون راضياً عن عمله، ويحقق من خلال
العملية الإبداعية نضجاً فنياً. إنها طبعاً معادلة صعبة، لكنه مصر على
تحقيقها، بل ونجح فعلاً في تحقيقها، وأفلامه تشهد له بذلك. فهو يتحدث في
هذا الصدد، ويقول: (...أريد فيلمي فيه الحد الأدنى
من الجاذبية.. أحد أهدافي المهمة جداً هو الإتصال، وداخل هذا الإطار في
الوصول، يقف الواحد ويقول: عايز أعمل اللي أنا عايزه، داخل إطار أن هناك
مبدئياً جسراً بينك وبين الناس...).
سينما الشخصيات:
يهتم عبد السيد كثيراً بشخصياته أكثر من إهتمامه بالقضية المطروحة كقضية،
مقتنعاً تماماً بأن أية قضية إنما تبرز عندما تتألق الشخصية وتعبر عن
أحلامها وطموحاتها بصدق. وهو بذلك لا يبحث إطلاقاً عن حكاية تقليدية، وإنما
يبحث عن نماذج وحالات نمطية تعيشها شخصياته. ثم أنه يقدم هذه الشخصيات
ويتركها تعيش واقعها وتتصرف بتلقائية حتى ولو أدى ذلك الى تصرفات لا
أخلاقية.. إنه يتابعها فقط، ويقدمها كما هي.. لا يدينها بل ينظر إليها
برحمة ويتلمس لها الأعذار والدوافع، ويتفهم حاجات النفس والجسد..
(...عندما أكتب أفلامي أكون في حالة خاصة ولا
أتدخل في تطور الشخصيات، بل أتركها كما هي، تأخذ إمتدادها الطبيعي...).
نهايات متعددة:
ويتميز عبد السيد بتقديم نهايات مختلفة عن التقليد في أفلامه. فبناء
النهاية عنده يشكل أسلوباً خاصاً، حيث تبدو الأفلام متعددة النهايات. ففي
مشهد من (الكيت كات)، عندما يظهر الشيخ حسني متوجهاً الى عمق الكادر وهو
يجر العربة التي تحكل جثمان عم مجاهد، يعتقد المتفرج بأن هذا المشهد،
المؤثر والمليء بالحزن والأسى، هو النهاية.. إلا أن عبد السيد يتجاوز كل
هذا الحزن، ليدفع بنا الى أكثر مشاهد الفيلم مرارة وسخرية، وهو مشهد حديث
الشيخ حسني في الميكروفون.. وبالرغم من عبثية هذا المشهد وجماليته كنهاية
طبيعية للفيلم، إلا أنه لا يحقق لعبد السيد هدفه ورؤيته، ليعود الى يوسف -
بعد أن تخلص من عجزه - وهو منطلق مع والده في شوارع القاهرة في مغامرة
مجنونة على الدراجة، لينتهي بهما المطاف في نهر النيل، مع إشراقة الصباح
الرائعة، ليخرجان بثياب مبللة تجمعهما ضحكات صافية وساخرة، معلنة إنهزام
اليأس والإحباط والعجز. هذا ما أراد عبد السيد الوصول إليه في فيلم (الكيت
كات).
الفرسان الجدد والسينما المختلفة:
يحاول مخرجنا داود عبد السيد - مع قلة من زملائه المخرجين - المغامرة
بأفلام مختلفة، والخروج على التقاليد السائدة للسينما المصرية. ويجمع هؤلاء
المغامرين شيء رئسي واحد، وهو أن السينما بالنسبة لهم ليست وسيلة لأكل
العيش فقط.. يقول عبد السيد: (...الترفيه جزء مهم
لا ينكره أحد، والأهم هو كون السينما وسيلة تعبير، وهو ما لا نجده في
السينما التقليدية. إن السينما من وجهة نظري شخصية.. وأعتقد بأن هذا هو ما
يجمعني بمحمد خان وخيري بشارة وعلي بدر خان، مع إختلاف كبير جداً في
الإساليب وفي الأفكار الفنية والسياسية وغيرها.. إننا مهتمون بالسينما
كفن...). |