من التحف السينمائية التي عرضها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في
دورته الـ33 الفيلم الفنلندي: "رسائل الأب يعقوب" للمخرج المبدع بحق "كلاوس
هارو".. الفيلم البسيط والأخاذ بسحره وعمقه وبساطته معا ينقل لمشاهديه حالة
إنسانية ودينية في معنى محبة الناس، ونتائج الغضب الذي إن استبد بالنفوس
سيجعلهم أناسا قساة، وسيعيشون لاحقا على تأنيب الضمير إلى أن يدخلهم النور.
إنه دراما إنسانية ومؤلمة مليئة بالترقب والتوجس والخوف والبراءة
والإيمان والتناقض معا دون افتعال أو تنميط؛ فالفيلم المتقشف في كل شيء
(ممثلين؛ حيث يدور الفيلم حول 3 شخصيات في مكان تصوير واحد... إلخ)، إلا من
الأفكار التي يبدع مخرجها في تحويلها لمشاعر إنسانية راقية ورقيقة تهز
المشاهد من داخله وتغير فيه الكثير.
يحكي الفيلم قصة "ليلا" السجينة التي تحصل على العفو بعد سجنها المؤبد
بفضل رسائل كان يكتبها "القس يعقوب" لإدارة السجن طالبا العفو عنها؛ وهو ما
توافق عليه إدارة السجن بشرط أن تذهب خادمة عند القس الأعمى.
نقيضان في مكان واحد
تطالعنا الكاميرا بحساسية عالية على ملامح هذه السجينة السمينة
والصارمة والقاسية التي تبدو كأن عالم المشاعر قد فارقها منذ زمن.. إنها
نموذج لشخصية طبعتها الحياة بكل صفات الوحشة والقسوة، لتبدأ العلاقة بينها
وبين "القس يعقوب" الأعمى والعجوز وهو نقيضها تماما؛ حيث الإحساس المرهف،
والتفاعل مع مشاعر وأحزان الذين يكتبون له طالبين الرحمة والمغفرة وقضاء
الحوائج حتى أتفهها من وجهة نظرنا.
إنهما نقيضان تماما يلتقيان في منزل معزول على أطراف إحدى القرى
الفنلندية حيث يعيش القس وحيدا يرد على الرسائل التي تصله من المتعبين
والكادحين.
"لا أقوم بأعمال المنزل".. كانت هذه الجملة الأولى التي نطقتها "ليلا"
في وجه "القس يعقوب" الذي مد يده للسلام فيما هي ترمقه بنظرات احتقار
وقسوة، فكان رده أنه لا يحتاجها إلا في قراءة الرسائل والرد عليها.
كاميرا تتحرك ببطء شديد بما يوازي حركة الثنائي "يعقوب" و"ليلا" فيما
يقدم لها القهوة التي تأخذها لتجلس بعيدا عنه، يكرمها على طريقته ومن خلال
قطع خبز وزبدة هي كل ما يمتلكه، ليبدأ معها في أول يوم في قراءة الرسائل
المتأخرة بعد أن توفيت جارته التي كانت تقوم بهذا العمل.
يجلسان في حديقة البيت البسيطة؛ هي تقرأ رسائل مواطنين بسطاء طالبين
الدعاء ووصول كلامهم ويرجون لله بصوت محايد وفاتر، فيما الكاميرا ترصد وجه
القس وحركة شفتيه وعينيه، واحمرار وجهه في تفاعله مع حزن السائلين، ليبدأ
بالدعاء وهي تراقبه بلا مبالاة واستغراب.
في اليوم التالي يصل ساعي البريد الذي يدخله الخوف لمجرد رؤية هذه
السجينة، وبعد أن يسلمها الرسائل برهبة يطلب منها أن لا تقتل القس؛ لأنه
رجل طيب، هو ذاته الخوف الذي يدفعه للقدوم في اليوم التالي ليلا عندما جاء
بالرسائل ولم يظهر يعقوب لتمسكه ليلا معتقدة أنه يريد أن يسرق نقود القس.
هكذا تبدأ العلاقة بين الأشخاص الثلاث في هذا المكان الصغير.. تنهض
ليلا صباحا لتقف على الباب وعندما يراها ساعي البريد يهرب خوفا، وهكذا طوال
3 أيام، وعندما يسأل "القس يعقوب" عن الرسائل ترد عليه: "لا توجد رسائل
اليوم"، فيرد برجفة خفيفة مطيبا خاطره وخوفه "أنه لا يفترض أن تصل الرسائل
كل يوم".
انكشاف أمام النفس
هنا يبدأ بطرح الأسئلة على نفسه؛ عن دوره، وما يقوم به، وعن الذي
سيفعله في حال توقفت الرسائل في ظل إيمانه العميق والشديد بدوره كحلقة وصل
تربط الناس بخالقهم، وتجعله كمؤمن يتقرب إلى الله من أجلهم، إنه دوره الذي
يعيش لأجله، ولا يجد فعلا آخر غيره.
في اليوم الرابع ينهض "يعقوب" مرتديا ملابسه مطالبا "ليلا" بترتيب
الفناجين على الطاولة؛ كون الضيوف في طريقهم للبيت، فيما هو يذهب مسرعا
للكنيسة كي يكلل عروسين يفترض وجودهما، تتبعه "ليلا" لتجد الكنيسة البعيدة
خالية من البشر، تنتظره في الخارج، ولا يأت العروسان ولا المصلون، وهناك
يدور حوار مقتضب بينهما، تقول له حقيقة الموقف وأنه يتلو القداس وحده، ولن
يأت العروسان، وبعد أن يطلب منها أن ترجعه للبيت ترفض ذلك، وتقول له: "إنها
لا تريد مغفرته ولا دعواته التي ترى أنها وسيلة لتحقيق ذاته كي يشعر
بالحياة.. لا أريد مغفرتك ولا عطفك"، وتصفق الباب بقوة.
تصل البيت وتقرر جمع أغراضها لترك البيت، وعندما تطلب سيارة تنقلها
للمدينة يسألها السائق عن المكان الذي ستتوجه إليه فتتوقف عن الكلام، وتبدو
عاجزة عنه، لتأخذ الكاميرا في التقاط تعابير وجهها، وعدم قدرتها على نطق
كلمة واحدة، إنها حالة من الضياع والعجز الإنساني في إيجاد شريك أو مكان
يذهب إليه الواحد، تنقل لنا الكاميرا تفاصيل وجهها دون كلمات.. حالة اليأس
تدفعها للنزول من السيارة لتحاول الانتحار الذي لا تجرؤ عليه، ليكون قدوم
يعقوب من الكنيسة مع تساقط المطر بداية لليل جديد آخر في هذا البيت.
نقف أمام عقدة أن الرسائل توقفت حقيقة، وحالة يعقوب الصحية بدأت
بالتدهور، فتجد "ليلا" الحل في أن تجبر ساعي البريد على القدوم كل صباح
لينادي عبارته اليومية: "رسائل إلى الأب يعقوب" كي يوهما القس أن الرسائل
ما زالت تصله ليقوم بما يعتقد أنه خلق من أجله.. كانت تلك بداية إحساسها
بالمسئولية تجاه القس وتعاطفها معه وتبدل مشاعرها.
وفعلا يأتي في الغد ويسلمها مجلة بدلا من الرسائل، الكاميرا تتركز على
جسد يعقوب الذي تدب به الحياة وهو الجسد الذي بدأ يهزل ويذوي، لكنه صوت
الساعي الذي يدفعه للنهوض والذهاب كطفل مؤدب إلى مكان جلستهما لقراءة
الرسائل الجديدة.
من القراءة للتأليف
تبدأ "ليلا" بتأليف نص رسالة.. تعجز.. تحاول وتفكر "فتفبرك" نص رسالة
تعجز من خلاله عن إقناع القس أن هذه رسالة حقيقة، هو ذات عجزها الذي يدفعها
لسرد قصتها هي والتي من خلالها نكتشف أنها كانت تعيش طفولة تعيسة؛ فوالدتها
كانت تضربها باستمرار، ولم تكن تجد من يدافع عنها إلا أختها الكبرى "ليسا"
التي كانت تشاركها ألمها وحزنها؛ ذلك الواقع الذي دفعها لتكون قوية وصلبة
فقررت أن تنشأ كالصبية، وعملت بالأعمال الشاقة لتكون قادرة على الدفاع عن
ذاتها كرد فعل لما كانت تعانيه وهي طفلة، وفي أثناء زيارتها لأختها الكبرى
التي تزوجت من رجل يسيء معاملتها وجدته يضربها بقوة وباستمرار، وأمام ذلك
تصاب بنوبة غضب تجعلها تحمل سكينا وتقتله لتدخل السجن بشعور الغضب من
نفسها؛ لكونها دمرت حياة أختها الزوجية؛ وهو ما جعلها ترفض استقبال أختها
التي تأتي لزيارتها أو تتسلم رسائلها.
يسأل يعقوب بعد سردها قصتها: "هل هناك توقيع على الرسالة؟" فتقول له:
"نعم.. هناك اسم"، فيرد يعقوب: "إنها رسالتك يا ليلا".
سنكتشف من يعقوب أن "ليسا" أخت "ليلا" هي التي كانت تكتب مرارا
وتكرارا إلى "القس يعقوب" كي يدعو لها، وتنقل له معاناتها ورغبتها في أن
تطمئن على أختها في السجن؛ وهو ما دفع القس للكتابة مرارا وتكرارا للسجن
مطالبا بالعفو عن "ليلا".
عند هذا الانكشاف يذهب يعقوب لجلب رسائل "ليسا" له، يطلب قراءتها على
مهل بينما يعد لها القهوة، وعند هذا الحد يبدو أن دور "يعقوب" قد انتهى،
لنجده ميتا بجانب الطاولة.
ينتهي الفيلم بلقطة عامة.. تغادر سيارة نقل الموتى بجثة "يعقوب"، فيما
"ليلا" تحمل بيدها حقيبتها ومجموعة الرسائل التي كتبتها أختها تتحسس اسم
أختها ورقم هاتفها وتبكي، وكأنها عرفت المكان الذي ستقصده الآن.
مسكون بالتفاصيل
ربما سردنا القصة كاملة أثناء الحكي عن هذا الفيلم، والسبب يعود إلى
أن في كل تفصيلة هناك ما يقف خلفها، وهناك أهمية لذكرها، إنه فيلم تفاصيل
وصور مع حوار مكثف ومختزل وقليل وقلة مفردات العمل البصرية.
لكننا إزاء مخرج يقف خلف كاميرا مسكونة بالتفاصيل الدقيقة التي تنقل
المشاعر البشرية بعمقها وهشاشتها وحالة ضعفها وقوتها، وكل ذلك بحساسية
عالية نجدها في كل لقطة نشاهد تعمل على إضافة عمق جديد في ليلا أو يعقوب؛
وهو ما يصل المشاهدين ببساطته وعمقه معا.
بمقدار ما يحسب للمخرج تلك الرؤية العميقة والبسيطة والمختلفة؛ فإن
الممثل الذي قام بدور القس يعقوب (هيكي نوسيانين) استطاع أن ينقل لنا كل
التفاصيل؛ ملامحه.. تعبيرات وجهه.. حركته البطيئة.. دموعه.. طريقة مشيته..
لهفته في انتظار الرسائل، وكذلك الممثلة التي قامت بدور "ليلا" (كارينا
هزارد)؛ حياد طاغ، وقسوة مرسومة بملامح الوجه، وحركة الجسد، ونظرات
العينين.
وبمقدار ما يعالج الفيلم قضية الضعف البشري وكيف تترك التربية العنيفة
أثرها على الأطفال، فإننا نلحظ حالة من رثاء الكنيسة في فنلندا؛ فالكنيسة
التي ذهب إليها "يعقوب" بدت فارغة وباردة الجدران لا دفء يكتنز جدرانها..
خالية من البشر والأثاث والروح.. سقفها يسرب قطرات المطر.. بعيدة ومنزوية
على تلة ما.
ناقد فني ومسئول صفحة ثقافة وفن بشبكة إسلام
أونلاين. نت
إسلام
أنلاين
في
16/11/2009 |