في مهرجان كان السينمائي الـ77، عُرض فيلمان بينهما قاسم
مشترك في الأقسام الأخرى خارج المسابقة، أولهما الفيلم المغربي “الجميع يحب
تودا” للمخرج نبيل عيوش، والثاني الفيلم السعودي “نورا”، وهو أول الأفلام
الروائية الطويلة للمخرج السعودي توفيق الزيدي، بعد عدد من الأفلام القصيرة.
فالمرأة وحلمها بالحرية هما محور الفيلمين، فكلاهما يصور
بطريقته عذاب المرأة ورغبتها في التحرر والبحث عن حياة أفضل، بعيدا عن
السيطرة الذكورية، وخارج سجن التقاليد والعادات المتوارثة، وكلا المرأتين
في الفيلمين تنشدان التحرر عن طريق الفن، الأولى بالغناء، والثانية بالرسم.
“الجميع
يحب تودا”.. نظرة ذكورية تلاحق مغنية الملاهي
عُرض الفيلم المغربي “الجميع يحب تودا” في العروض الأولى
بمهرجان كان 2024، وهو يحمل في طيات عنوانه دلالة ساخرة، فهو يتلاعب بحقيقة
أن بطلة الفيلم تودا تعاني “من كل هذا الحب”، أو تحديدا من النظرة الذكورية
التقليدية المتخلفة التي لا تراها أكثر من هدف جنسي.
فيريد كل من تقابلهم من الرجال استغلالها والعبث بجسدها، من
غير أن يعبؤوا بمشاعرها ورغباتها، وتكمن مشكلتها في جاذبيتها وقدرتها على
التعبير عن نفسها بالغناء، وفي ثقتها بنفسها وشموخها وتعاليها على الواقع.
في أول مشاهد الفيلم وبعد حفل ساهر صاخب، نرى رجالا يطاردون
تودا ثم يغتصبونها، في مشهد يكثف بكل قسوة عذابها، وحقيقة ما يحيط بها من
مجتمع يسيطر عليه الذئاب، من غير أن تستطيع الإفلات منه، وهو ما ستؤكده
المواقف التالية عبر الفيلم.
غناء العيطة.. فن حزين محمل بالروحانيات والتصوف
لا يعني ولع تودا بالغناء أنها تميل إلى الغناء الشعبي
الراقص الحديث، فهي إنما تؤديه لكي تكسب عيشها، لكن ولعها الأساسي هو بنوع
من الغناء الكلاسيكي القديم شبه المنقرض في المغرب، ويسمى العيطة، وتسمى من
تغنيه الشيخة.
لكن الزمان لم يعد على حاله، لذا فإن إصرار تودا على غناء
العيطة التي تتميز بالحزن والشجن المرتبط بالروحانيات والمعاني الصوفية، لا
يجلب لها سوى المتاعب، ويزيد من شعورها بالاغتراب.
إنها امرأة مطلقة، تعول طفلا أصمّ في عامه التاسع، ويسخر
منه زملاؤه في المدرسة، وتقيم معه في غرفة ضيقة خانقة، تستأجرها في إحدى
قرى جبال أطلس، وهي تترك ابنها عند جارتها، وتذهب للغناء في الحفلات
والحانات الرخيصة، لكنها تحلم بالذهاب إلى المدينة الكبيرة، أي الدار
البيضاء، والغناء في أكبر الملاهي والمسارح هناك.
وربما يمكنها أن تصل إلى التليفزيون، فتحقق شهرة وتجني ثروة
تتيح لها تعليم ابنها على مستوى يكفل له مستقبلا أفضل، لم تحققه هي لنفسها،
فقد حرمت من التعليم، وهي الآن أمية لا تقرأ ولا تكتب، وإنما تحفظ أغاني
العيطة بالسماع من تسجيلات قديمة على هاتفها.
الزواج الفاشل.. بقية أسى كامن يبحث عن متنفس
ما السر في ميل تودا إلى غناء العيطة تحديدا؟ هل لأنه يكفل
لها التعبير عن شعورها الكامن بالحزن والرثاء للذات بعد تجربتها الفاشلة في
الزواج وطموحها الذي تعجز عن تحقيقه؟
لا تجد تودا من يحنو عليها غير أمها وأبيها، عندما تذهب
لزيارتهما في قريتها، وكانت قد هجرتها منذ سنوات، وأخذت تنتقل من مكان إلى
مكان آخر، وتقول الأم إن زواجها كان خطأ، وأما أبوها فهو يرحب بها، لكن
أخاها يشعر بالعار مما انتهت إليه، فهو كغيره من الشباب يرى عمل المرأة
خطيئة.
لا يهتم المخرج نبيل عيوش بالشرح والتوضيح، فاهتمامه ينصب
على متابعة رحلة هذه المرأة الوحيدة الموهوبة، ذات الصوت القوي البديع
والشخصية الطاغية القوية، وما ينالها من أذى الرجال أينما حلت.
الدار البيضاء.. غربة في جمهور يرفض غناء العيطة
تحزم تودا أمرها، وتترك ابنها في رعاية أمها، وتذهب إلى
الدار البيضاء، وهناك تجد عملا في ملهى رخيص، لكن صاحبه يطالبها بتطعيم
الغناء بالرقص المبتذل، ويبدأ بعض الزبائن يطاردونها يريدون العبث معها،
لكنها ترفض ذلك، وتسعى لأن يُعترف بأنها فنانة حقيقية، لا راقصة تتستر
بالغناء، تعرض جسدا في الملاهي.
ومع ذلك فقد كانت النتيجة دائما طردها من العمل، لكنها تجد
البديل، وهناك تنشأ علاقة بديعة مع عازف كمان عجوز مخضرم، يتفهم ولعها
بغناء العيطة، ويتولى تدريبها عليه، بحيث تتعايش مع الكلمات، وتذوب مع
الموسيقى والأغاني التي تعبر عن الرغبة في التحرر.
ولكن يظل رفض الجميع هو المشكلة التي تشعرها بالإحباط، سواء
أصحاب الأماكن التي تغني فيها، أو رفض الجمهور نفسه لهذا النوع من الغناء
الشعبي الأصيل، فهم لا يريدون الشعور بالأسى الذي تولده هذه الأغاني، ويزيد
رفضهم وإعراضهم شعور تودا بالوحدة والغربة.
نسرين الراضي.. أداء آسر يمنح الفيلم رونقا وتماسكا
قامت ببطولة الفيلم الممثلة المغنية نسرين الراضي، فأدت
أداء آسرا ساحرا، مما جعل الفيلم متماسكا، يحقق متعة المشاهدة، لا سيما في
المشاهد التي تمسك فيها تودا بالبوق، وتنطلق في الغناء وسط الأضواء، ومن
خلال حركة كاميرا شديد الحيوية والرونق.
إنها تعيش الشخصية من الداخل، تضيف إليها من ذاتها ومن
مشاعرها الشخصية، بحيث تكثف عذابها في وحدتها، حتى أثناء وجودها وسط حشود
من البشر، كما تعكس محنتها في مجتمع لا يريد أن يعترف بها، أو يتيح لها
الفرصة للتعبير عن نفسها بالغناء الذي تحبه.
في منتصف التسعينيات، وفي قرية صحراوية نائية خاضعة لشيخ
قبيلة يدعى أبو سالم، تدور أحداث فيلم “نورة”
“نورة”..
أول مشاركة للسعودية في مهرجان كان
عُرض الفيلم السعودي “نورة” في تظاهرة “نظرة ما” بمهرجان
كان، ويمثل أول مشاركة سعودية في هذا المهرجان السينمائي الكبير.
تبدو الفتاة الحالمة نورة عاجزة عن الخروج من سجن النظرة
الذكورية للمرأة، مثلها مثل تودا في الفيلم المغربي، وإن على مستوى آخر،
ومن خلال حبكة أخرى.
تدور أحداث الفيلم في منتصف التسعينيات، في قرية صحراوية
نائية خاضعة لشيخ قبيلة يدعى أبو سالم، أي قبل التغيرات الجديدة التي
شهدتها السعودية في السنوات الماضية.
ذو النظارات والملابس الأوروبية.. مدرس يصل إلى القرية
ذات يوم، يصل إلى القرية مدرّس يدعى نادر، أوفدته الحكومة
لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، فيأتي بسيارته مرتديا الملابس الأوروبية،
ويضع نظارات كبيرة سوداء على عينيه، فيبدو مثل نجوم “البوب”.
تبدو القرية مفتقدة تماما لكل معالم الحداثة، ومع أن الشيخ
أبو سالم يرحب بالمدرس ويدعوه على العشاء في بيته، ويرحب بتعليم الفتية،
فإن بعض أكابر القرية لا يعترفون إلا بالتعليم الديني، ويفرضون على النساء
البقاء داخل المنازل.
حتى أنهم يرفضون وجود التليفزيون، ويحظرون المذياع، بل
ينظرون بالريبة إلى اعتزام الحكومة إدخال الكهرباء. فكل ذلك عندهم من
المظاهر التي يمكن أن تحرف المرء عن دينه وقيمه المتوارثة البدوية.
تعليم الرسم.. فكرة متحررة تتسلل إلى عالم الصبية
يبدو المدرس نادر منفتحا جدا على الوسائل الجديدة في
التعليم، وسرعان ما يبدأ شيئا يراه أهالي القرية من علامات السقوط والتدني،
حين يبدأ بتعليم الصبية الرسم، ويشرح لهم أهمية اتخاذ الفن وسيلة للتعبير،
ودوره الكبير في تغيير حياة الإنسان والرقي بها.
يجذب ذلك الاهتمام بالرسم نورة، بعد أن تطّلع من أخيها
الصغير نوفل على رسم خطه له المدرّس نادر بقلم الرصاص، فتهيمن عليها فكرة
الحصول على رسم لنفسها.
لا سيما أنها تذهب بين حين وآخر إلى دكان القرية الوحيد،
ويديره رجل هندي يتكلم العربية بلهجته، فتشتري المجلات المصورة سرا، لكي
تستمتع بمشاهدة صور النجوم وأهل الفن.
دكان الهندي.. لقاء سري لرسم ملامح امرأة منقبة
تحمل فكرة الفن -والرسم تحديدا- معنى رمزيا في الفيلم،
وتلعب دورا بديلا عن التعبير المباشر عن العواطف والمشاعر، فهي تؤدي لبروز
علاقة غير مباشرة بين نادر ونورة، فبعد أن تفتنها الصورة التي رسمها لأخيها
نايف، تسعى لأن يرسمها نادر في صورة بالألوان.
فتتفق مع صاحب الدكان على ترتيب لقاء مع المدرس الشاب في
الجزء الخلفي من الدكان، لكي يرسمها، وهو ما سيحدث، ولكن مع المحافظة على
وجود مسافة بينهما، ومع احتفاظها بالنقاب الذي تستر به وجهها، فهي تريده أن
يرسمها من خياله، من الملامح العامة لتكوين وجهها كما يبدو من الجنب، من
غير أن تنزع النقاب الأسود.
وبطبيعة الحال لا يبقى أمر تردد نورة على دكان الهندي
ولقائها بالمدرس سرا، بل يتطور الأمر ويكاد أن يفجر العنف، لكنه ينتهي بعد
أن يُجبَر نادر على مغادرة القرية، ويكون قد كبر حلم نورة بمغادرة الحياة
الخانقة في تلك القرية والذهاب إلى عمها في المدينة، وكبر معه أيضا الحلم
بالفن، والإحساس بقيمة الفن وجماله، خلافا للتصورات السائدة.
مغادرة القرية.. هروب تحت تهديد السلاح والاضطهاد
يلعب الفيلم على وتر العلاقة بين الإنسان والفن والحرية،
ولكن بسياق سرد حذر، بحيث لا يخدش ما هو مستقر من أعراف وتقاليد، فنورة
مثلا لا تكشف وجهها للرجل الغريب، ومع إعجابها الواضح بوسامته وشبابه
وتحرره، فإن الفيلم لا يوحي بولادة علاقة غرامية بينهما.
وحتى عندما تقرر الهرب معه في سيارته، فإنها كانت تود
الذهاب إلى المدينة للالتحاق بجدها المتحرر، وذلك لكي تفلت مما تفرضه عليها
عمتها من قيود منذ مصرع والديها في حادث سيارة.
ترفض نورة الرضوخ لعمتها، فهي تريد إجبارها على الزواج من
شاب آخر متزمت جامد أمّي من أهل القرية، وهذا الرجل لا يفتأ يراقب
تحركاتها، ويهدد نادر، ثم يجبره على مغادرة القرية تحت تهديد السلاح.
لكن الفيلم يشير إلى أن نادر استطاع زرع بذرة جديدة في نفوس
الفتية الصغار، وكانوا قبل وصوله محرومين من المعرفة، أو الإلمام بتاريخ
الفن ومغزاه وفائدته.
صناعة الصورة.. أداء واقعي وإضاءة ترسم أعماق الشخصيات
السياق السينمائي بسيط، والشخصيات واضحة وبسيطة، والفيلم لا
يحتاج إلى شروح لفهم المغزى الذي تكشف عنه صوره ولقطاته في حرص ورصانة، ومن
خلال أداء واقعي شديد الصدق في التعبير عن الحالة الذهنية والنفسية
للشخصيات، وأداء ماريا بحراوي دور نورة، ويعقوب الفرحان دور نادر، وعبد
الله السدحان دور الشيخ أبو سالم.
أما التصوير فقد أداره المصور “شون لي”، وهو يحيط بالبيئة
المحلية في تلك المنطقة الجافة، ويبرز تفاصيل المكان، ويعكس الحالة
الكابوسية السائدة بإضاءته الخافتة في المشاهد الداخلية، ويكثف عزلة
الشخصيات عن بعضها، وخواء المحيط وجفاف البيئة بشكل عام.
فيلم “نورة” بداية جيدة للمخرج توفيق الزايدي، فقد سيطر على
المكان والشخصيات، ودفع تطور الأحداث بهدوء وسلاسة، من خلال التحكم في زمن
اللقطات وطول المشاهد والانتقالات بين المشاهد المختلفة، وبين الداخل
والخارج، وذلك بمساعدة المونتاج البارع الذي قام به المونتير التونسي منير
السوسي. |